25 - 03 - 2023, 01:21 PM
|
|
|
† Admin Woman †
|
|
|
|
|
|
حديث رقيق لأصدقائه
فَقَالَ أَيُّوبُ: [1]
اِسْمَعُوا قَوْلِي سَمْعًا،
وَلْيَكُنْ هَذَا تَعْزِيَتَكُمْ [2].
يتوسل أيوب إلى أصحابه أن يسمعوا له بروح المحبة، وأن يضعوا في ذهنهم أن يدركوا مقاصده عوض الحكم عليه بتسرعٍ. يتكلم الآن بلغة الصداقة والهدوء، معتبرًا أن تعزيتهم له في وسط آلامه هي إنصاتهم له بروح طيبة. ولعله يقصد أيضًا أنهم إذ يستمعون له هكذا يستريح هو فيتعزون، وبتعزيته يتعزون هم ويستريحون. وكأن إنصاتهم هذا له منفعة مزدوجة له ولهم.
حقًا الإنصات إلى كلمات المتألمين فيه نفع للطرفين. فمن جانب يشعر المتألم بحنو إخوته ومشاركتهم له، ولو بمجرد الإنصات. ومن جانب آخر إذ يستريح المتألم يتعزَّى إخوته لراحته ولو إلى درجات معينة.
ويرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن الكنيسة المتألمة -في شخص أيوب- تدعو الهراطقة وأهل العالم أن يسمعوا لأقوالها، فإنها قادرة بمسيحها المصلوب أن تقدم لهم خلال الآلام بشكرٍ تعزيات إلهية فائقة. يوجه القديس بولس أنظار المتألمين إلى صليب رب المجد يسوع، لا ليمتلئوا بالتعزية فحسب، وإنما يصيرون مصدر تعزية للآخرين. يقول: "الذي يعزينا في كل ضيقتنا، حتى نستطيع أن نعزي الذين هم في كل ضيقة بالتعزية التي نتعزَّى بها من الله" (2 كو 1: 4)، وأيضًا: "كما أنتم شركاء في الآلام، هكذا في التعزية أيضًا" (2 كو 1: 7).
تتمثل الكنيسة المتألمة بمسيحنا المصلوب، إذ قد تألم مجرَبًا يقدر أن يعين المُجرَّبين (عب 2: 18). ونحن إذ نثبت فيه نتمتع بشركة آلامه، فنُصلب معه، لنصير به مصدر تعزيات لا تتوقف.
* يفرح بولس في آلامه، إذ يرى الثمار العجيبة التي تجلبها الآلام في الشعب مثل مسيحيي كورنثوس.
اِحْتَمِلُونِي وَأَنَا أَتَكَلَّمُ،
وَبَعْدَ كَلاَمِي اسْتَهْزِئُوا! [3]
سألهم ألا يقاطعوه في كلامه وأن يحتملوا حديثه، عندئذ إن أرادوا فليسخروا به كما يريدون. يقول هذا أملًا في أن إنصاتهم بنية صادقة يجعلهم يقبلون كلماته، ويقتنعون بحججه، فيغيرون لهجتهم.
لم يكن يشغل ذهن أيوب سخرية أصدقائه به، لكن ما يشغله أن يسمعوا له، ويحتملوا كلماته لأجل خلاصهم وبنيانهم وتعزيتهم. هكذا لا يشغل الكنيسة كرامتها الزمنية، ولا تبرير نفسها، وإنما ما يشغلها هو خلاص كل نفسٍ، حتى بالنسبة لمقاوميها ومضطهديها. فإن المحبة لا تطلب ما لنفسها، بل ما هو للغير.
* واضح أنه عندما ينصح أحد آخر وفي نفس الوقت يتألم أكثر من الذي يوبخه، يفعل هذا لا ليسبب حزنًا للغير، بل يقدم محبة عميقة له. بينما من ينتهر آخر بغير هذا الشعور فإنه في الواقع يطأ بقدميه على مشاعر أخيه .
* هنا (2 كو 1:4) يُظهر بولس أنه يتألم ليس بأقل من أولئك الذين أخطأوا، بل أكثر منهم. إنه يصعب عليه جدًا أن يحتمل آلام خطأ أهل كورنثوس الذي لحق به .
سمة الكنيسة كعريسها هي الحب الصادق العملي، حيث تشتهي إن أمكن أن يتمتع العالم كله بشركة المجد الأبدي.
لا تستطيع سخرية الناس أن تحطم المؤمن أو تؤذي الساخرين أنفسهم، ومع هذا فبروح التواضع يتكلم أيوب، سائلًا إياهم أن يحتملوه، لكي يكسبهم لله، فيرجعوا عن أذية أنفسهم.
لقد احتمل المرتل سخرية المتكبرين، هذه التي لم تستطع أن تهزّ أعماقه فيحيد عن شريعة الله، إذ يقول: "المتكبرون استهزأوا بي إلى الغاية، عن شريعتك لم أمل" (مز 119: 51). تصرخ الحكمة قائلة: "إلى متى أيها الجهال تحبون الجهل؟ والمستهزئون يسرون بالاستهزاء؟ والحمقى يبغضون العلم؟" (أم 1: 22). فضمَّت الجهلاء مع المستهزئين والحمقى في فئة واحدة، إذ جميعهم يقتنون لأنفسهم الدمار. هذا ويؤكد الحكيم: "إن كنت حكيمًا فأنت حكيم لنفسك، وإن استهزأت فأنت وحدك تتحمل" (أم 9: 12).
والعجيب أنه في وسط ثورتهم عليه يتكلم بروح الوداعة والتواضع، متوسلًا إليهم أن يحتملوا كلماته، فمن جانبه سيقبل كل سخرية تُوجه إليه، لكن لأجل نفع الطرفين يسألهم التزام الهدوء.
*كأنه يقول: "احسبوني شريرًا. لكنني لم أنتفع شيئًا من هذه الملاحظات، وأنا أعلم أنكم تسخرون بي. على أي الأحوال، لا استسلم". يقول: "لماذا؟ هل يسخر بي إنسان؟" هذا معناه أنه لا يقدر إنسان أن ينتهرني، فإنني لست أصارع مع إنسانٍ!
يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن توسل أيوب أمام أصحابه باحتمال كلماته إنما لأنه وهو يتكلم ينطق بما هو لنفعه كما لنفعهم لكنّهم إن أرادوا. إنه لا يتكلم من كرسي المعلم، لكن من وسط المزبلة، لعله يجد نفعًا له وهو يتكلم بروحٍ هادئة في جو من الهدوء!
*عندما ينطق الصالحون يلاحظون أمرين في حديثهم: أن يكون الحديث لنفعهم هم ولسامعيهم أو لنفعهم وحدهم إن لم يكن ممكنًا أن يكون لنفع السامعين. عندما تُسمع الأمور الصالحة التي ينطقون بها بهدفٍ صالحٍ، ينتفعون بها هم وسامعوهم، ولكن إن سخر بهم سامعوهم ينتفعون هم بها لأنهم تجنبوا خطية الصمت (على الخطأ)... وهكذا إن كان أصدقاؤه يرغبون في التعليم فليسمعوا، وإن كانوا مستعدين للسخرية فليحتملوا ما يُقال، فإن التعليم المقدم في تواضعٍ لذهنٍ متكبرٍ له وزنه الخطير والشاق.
* يقول: "أسالكم"، مظهرًا كيف يتكلم بتواضٍع، إذ يتوسل إلى أشخاصٍ يبتلعهم الكبرياء ضده، وذلك لكي يردهم إلى التفكير في تعليم الحق المُنقذ. القديسون الذين في حظيرة الكنيسة الجامعة مستعدون ليس فقط لتعليم ما هو حق، بل وأن يحتملوا ما يُمارس ضدهم ولا يخشون السخرية بهم.
البابا غريغوريوس (الكبير) * التواضع يجذب نعمة الله إلى النفس... وهذه تعتقها من هذين الألمين الخطيرين (الغضب على الغير أو غضب الغير علينا)، لأنه أي شيء أخطر من أن تغضب من أخيك أو تُغضبه؟! ولكن ماذا أقول: هل التواضع يحرر النفس من هذين الألمين فقط؟ لا بل ويحررها من كل ألمٍ (شهوة) وكل تجربةٍ.
عندما رأى القديس أنطونيوس شِبَاك الشيطان منصوبة، تنهد وسأل الله قائلًا: "من يقدر أن يهرب منها؟" فأجابه الله: "المتواضع يهرب منها... بل ولا تقدر أن تقترب إليه".
أرأيت قوة هذه الفضيلة؟! حقًا إنه لا يوجد أعظم من التواضع، لأنه لا يوجد شيء يقدر أن يغلبه. فإن حلّت بعض الأحزان بإنسانٍ متواضعٍ، للحال يلوم نفسه على أنه يستحقها، ولا يلوم غيره أو يوبخه. وهكذا فإنه يحتمل كل ما قد يحدق به بهدوءٍ كاملٍ، دون أن يضطرب أو يحزن. بهذا لا يغضب من أحدٍ ولا يُغضب أحدًا.
إن كان أيوب لم يشغله أن يسخروا منه، قائلًا: "وبعد كلامي استهزئوا"، فإن الرسول بولس رأى سيده قد قبل السخرية والاستهزاء بفرحٍ من أجل خلاص العالم (لو 23: 35؛ عب 13: 13). كما يقول عن موسى النبي: "بالإيمان موسى لما كبر أبَى أن يُدعى ابن ابنة فرعون... حاسبًا عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر" (عب 11: 24، 26). ويتحدث عن الرسل: "كأننا محكوم علينا بالموت، لأننا صرنا منظرًا للعالم، للملائكة والناس" (1 كو 4: 9). "يُفترى علينا فنعظ، صرنا كأقذار العالم ووسخ كل شيءٍ إلى الآن" (1 كو 4: 13).
* يأمرنا المسيح أن نحتمل الإهانات بوداعة، لكي ننمو في الفضيلة، ونجعل المقاومين في خزي (مت 5: 10-12). هذا الأمر يتحقق لا بتوبيخنا لهم، بل بالصمت.
* يقول بولس إن النقطة الرئيسية ليس أنه هو وزملاءه الرسل يتألمون، فإن هذا أمر عام بالنسبة للكل. لكن ما هو مزيد في الرسل أنهم يتألمون بلا يأسٍ ولا غضبٍ، بل على العكس هم مملوءون فرحًا، بهذا يؤكدون أن الشرور التي تحل بهم تتحول للخير .
* الذين يحبون المسيح ليسوا جهالًا كما يظنهم العالم (1 كو 4: 10).
أَمَّا أَنَا فَهَلْ شَكْوَايَ مِنْ إِنْسَانٍ.
وَإِنْ كَانَتْ، فَلِمَاذَا لاَ تَضِيقُ رُوحِي؟ [4]
يؤكد لهم أنه لا يقدم شكواه إلى إنسانٍ، لأن هذا غير مُجْدٍ. إنما يقدم شكواه لله، وإليه يستأنف الحكم. هو القاضي والديان، فاحص القلوب والكُلى، أمامه يقف كل بشرٍ على قدم المساواة، ينصت إلى الجميع، ويهتم بالكل.
يؤكد لهم لو أن شكواه مقدمة لإنسانٍ لانزعجت روحه في داخله، لأن الإنسان قد لا يبالي بأخيه، ولا يدرك ما في قلبه ونيته، فيصدر حكمًا غير عادلٍ. أما الله فطويل الأناة يسمع للإنسان، ويعامله بحنوٍ. فإلى الله يرفع المؤمن شكواه لا للنقمة من مقاوميه، وإنما لكي يرضي الله لا الناس. يقول داود النبي: "لتكن أقوال فمي وفكر قلبي مرضية أمامك يا رب، صخرتي ووليي" (مز 19: 14). ويقول الرسول بولس: أفأستعطف الآن الناس أم الله، أم أطلب أن أرضي الناس، فلو كنت بعد ارضي الناس لم أكن عبدًا للمسيح" (غل 1: 10).
* "أفأستعطف الآن الناس أم الله...؟ فلو كنت بعد أُرضي الناس لم أكن عبدًا للمسيح" (غل 1: 10)... ليتنا لا نظن أن الرسول يعلمنا خلال الاقتداء به الاستخفاف بأحكام الآخرين... لكن إن حدث أنه يمكننا إرضاء الآخرين والله، فلنرضي الآخرين... لكن بقوله: "الآن" أدرجت بصفة خاصة هنا ليُظهر أن الناس يرضون أو لا يرضون حسب الظروف (وليس حسب الحق).
* عندما يرضي أحد الآخرين من أجل الحق، فإنه الذي يُرضَى هو الحق لا الذي أعلنه.
يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن في عتابه لأصدقائه بأن الحوار معهم أحزن قلبه، فضاقت روحه، اعتراف ضمني بضعفه البشري. فمن يركز عينيه على الله لا يمكن للحزن أن يتسلل إلى قلبه، ولا الضيق إلى روحه. فالله مصدر الفرح يرفع القلب إلى ما فوق الأحزان أيَّا كان مصدرها، ويهب الروح اتساعًا.
*من يطلب أن يسر الله لا يكون لاستياء الإنسان منه أي أساس لحزنه. فإن كان في إرضاء الإنسان لا يرضي الله، أو يظن أنه لا يرضي كلًا من الله والإنسان معًا، فإن الحزن لا يحل عليه، لأنه قد أكد أنه غريب عن سمو الحكمة. الآن فإن الطوباوي أيوب يعترف أنه لم يرضِ الله في وسط ضرباته، ولهذا عاد بعقله إلى الحزن.
البابا غريغوريوس (الكبير)
تَفَرَّسُوا فِيَّ وَتَعَجَّبُوا،
وَضَعُوا الْيَدَ عَلَى الْفَمِ [5].
كلما كان أيوب يفكر في قضيته يقف في ذهولٍ ورعدةٍ. كلما تذكر الأحداث المتوالية بسرعة غير طبيعية، والضربات التي حلَّت به من كل جانب تنتابه رعدة. إنه حائر، غير قادر على تفسير ما حلّ به.
*تأملوا فيما أفعله، وتعجبوا مما أعانيه من الضربات. بعد ذلك يقول: "وضعوا أصبعكم على فمكم". وكأنه يقول بصراحة: إذ تعلمون الأمور الصالحة التي أمارسها، وتنظرون الآلام التي أسقط تحتها، تحفَّظوا من أن تخطئوا بالكلمات، بسبب ضرباتي، لكن لتخشوا من جراحاتكم... يليق الحذر بالأصابع. لذلك قيل بالمرتل: "مبارك الرب إلهي الذي يعلم يديّ القتال، وأصابعي الحرب" (مز 144: 1). يشير بالأيدي إلى العمل وبالأصابع إلى التعقل.
البابا غريغوريوس (الكبير) تطالب الكنيسة أهل العالم أن يتفرَّسوا فيها، فلا يحكموا عليها بتسرُّعٍ، بل يلزمهم أن يفكروا في روية وتعقُّلٍ. يرون وراء ضيق الكنيسة الشديد والاضطهادات المنصبًّة عليها سلام الله الفائق الذي يملأ كيانها، وخطة الله العجيبة من نحوها، وعمل الله خلال آلامها لتحقيق رسالتها وشهادتها لإنجيله المفرح. تطالب الكنيسة الذين في الخارج أن يضعوا أياديهم على أفواههم في تعجبٍ أمام الحقيقة المُدهشة: عمل الله الفائق في كنيسته المتألمة.
* يقول بولس: إذ أُسر بهذه الجراحات "أحمل في جسدي سمات المسيح" (راجع غل 6: 17). لقد خضع بطيب خاطرٍ لضعفاته في كل هذه المتاعب، حيث تكمل قوة المسيح في الفضيلة (راجع 2 كو 4: 10؛ 12: 9).
* جميلة هي قيود بولس!
* لقد تألم من أجل أعدائه. هذه هي التقدمة ذات الرائحة الزكية، الذبيحة المقبولة. وأنتم إن تألمتم من أجل أعدائكم كتقدمة زكية تصيرون ذبيحة مقبولة، حتى إن متُّم. هذا ما يعنيه بقوله تمثلوا بالله (أف 5: 1) .
أفاض الآباء في الحديث عن عمل احتمال الآلام والإهانات والسخرية بفرحٍ، ليس فقط في حياة المتألم، وإنما أيضًا في حياة الساخرين أنفسهم. وقد طبَّق القديس يوحنا الذهبي الفمذلك على علاقة الرجل بزوجته متى كانت تسبب له آلامًا، إذ يقول: [حتى إن التزم الأمر أن تقدم حياتك لأجلها فلا ترفض ذلك. وإن التزم الأمر أن تحل بك متاعب لا حصر لها من أجلها، وتعاني كل أنواع الآلام والمتاعب، لا ترفض. فإنك وإن احتملت كل هذا لاتزال لم تفعل ما صنعه المسيح لأجل الكنيسة... وإن رأيتها تتطلع إليك باستخفافٍ، دائمة الشكوى مع احتقارها لك فإنك تستطيع أن تكسبها بحبك العظيم وحنوَّك عليها.]
|