رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الموت يضع حدًا للشقاء الحاضر اُذْكُرْ أَنَّ حَيَاتِي إِنَّمَا هِيَ رِيحٌ، وَعَيْنِي لاَ تَعُودُ تَرَى خَيْرًا [7]. ربما لاحظ أيوب أن أصدقاءه وإن كانوا لم يقاطعوه في كلامه، لكنهم لم يعودوا يحتملون التطلع إليه في منظره البشع، ولا أن يسمعوا صوته، لذا تحول من الحديث معهم إلى الحديث مع الله، فهو وحده طويل الأناة، يصغي إلى القلوب المجروحة، ولا يستنكف من الأجسام المريضة مهما تشوهت صورتها. لقد صرخ نحو الله قائلًا: "أذكر أن حياتي إنما هي ريح". هكذا أراد أيوب أن يجلب حنو الله وعطفه بكونه مخلوقًا ضعيفًا للغاية، تعبر حياته سريعًا دون توقف كما تعبر الريح. وكما يقول المرتل: "أذكر أنهم بشر، ريح تذهب ولا تعود" (مز 78: 38-39). هكذا كان أيوب يضع نصب عينيه حقيقة واضحة عن قِصَرْ الحياة، وعن يقينه بموته وعدم الإفلات منه. هذه الحقيقة تجعلنا لا نضع رجاءنا في العالم، ولا نرتبط بالأمور المنظورة، ولا تسيطر علينا الأمور الحسية. فسعادتنا هنا تقوم على إدراكنا أننا غرباء يلزمنا أن نسلك بأمانة، وبروح متهلل حتى نعبر إلى مسكننا الدائم. * عين الميت لا تعود ترى خيرًا، إذ لا تعود تمارس النفس الأعمال الصالحة ما أن تجردت من الجسد. لهذا السبب فإن الغني الذي كان يهلك في نار جهنم عرف أنه لا يقدر أن يُصلح من أمره بأعمال صالحة، فإنه لا يعود ثانية لممارسة ما هو لخيره، إنما طلب لإخوته الذين تركهم: "أسألك إذا يا أبتِ إبراهيم أن ترسله إلى بيت أبي، لأن لي خمسة إخوة، حتى يشهد لهم لكيلا يأتوا هم أيضًا إلى موضع العذاب هنا" (لو 16: 27-28). البابا غريغوريوس (الكبير) لاَ تَرَانِي عَيْنُ نَاظِرِي. عَيْنَاكَ عَلَيَّ وَلَسْتُ أَنَا! [8] لاحظ أيوب أن أصدقاءه قد أحاطوا به وجلسوا حوله سبعة أيام لا ينطقون، لكن وهم ناظرون إليه كانوا كمن هم عميان لا يرون أيوب في حقيقته، أما عينا الله فتنظران إليه وسط محنته حتى وإن بدأ بسبب شدة الكوارث كمن هو غير موجود، أو كمن فقد حياته وكيانه! يحتاج الإنسان إلى نظرات الرب إليه، فهو وحده ينظر إلى القلب، وقادر على تعزيته، بل وتجديده. حينما تطلع ربنا يسوع وسط محاكمته إلى سمعان بطرس لم يحتمل عيني السيد، فخرج خارجًا يبكي بكاء مرًا حتى يلتقي به ثانية بعد قيامته فيقيمه من قبر جحوده، ويرده إلى عمله الرعوي! لقد أدرك أيوب المجٌَرب أنه ليس من طريق للشكوى فيما حلٌَ به بسماح من الله إلا أن يرفعها لله نفسه. سيعبر الزمن سريعًا ولا يرانا من ينظروننا الآن، "نذهب فلا نوجد" (مز 39: 13)، نترك ما هو منظور لنتمتع بغير المنظورات. بقوله "عيناك عليّ ولست أنا" يكشف البار أيوب أنه يثق في رعاية الله وعنايته به، وإنه سيرسله إلى الأبدية ليتمتع بها، لا عن فضل من جانب أيوب. لهذا يقول: "لست أنا"، فمن جهتي أموت لكن من يقيمني سواك؟ ومن يدخل بي إلى المجد إلا أنت؟ * "لا تراني عين إنسان" [8]. لأن "عين الإنسان" هو حنو المخلص، الذي يلين قسوة جفافنا عندما يتطلع إلينا. هكذا يشهد الإنجيل، قائلًا: "فالتفت الرب ونظر إلى بطرس، فتذكر بطرس كلام الرب... فخرج بطرس إلى خارج وبكى بكاء مرا" (لو 22: 61-62). لكن إذ تتجرد النفس من الجسد، لا تعود بعد تلتفت "عين الإنسان"، إذ لن تخَّلص إنسانًا بعد موته، إن كانت النعمة لم تهبه المغفرة قبل موته. لهذا يقول بولس: "هوذا الآن وقت مقبول. هوذا الآن يوم خلاص" (2 كو 6: 2). هكذا يقول المرتل: "لأن رحمته لحال الكائن الحالي" (راجع مز 118: 1). فمن لا تنقذه الرحمة الآن في الحال الحاضر، تسلمه العدالة وحدها للعقوبة. يقول سليمان: "وإذا وقعت الشجرة نحو الجنوب أو نحو الشمال، ففي الموضع حيث تقع الشجرة هناك تكون" (جا 11: 3). ففي لحظة سقوط الكائن البشري، يتقبل الروح القدس أو الروح الشرير النفس الراحلة من حجرات الجسد، فيحتفظ الروح بها إلى الأبد دون تغير. فإن كانت قد تمجدت لا تطرح في الويلات، ولا إن انطرحت في الويلات الأبدية تعود فتقوم لتجد وسيلة للهروب... بعد الحياة الحاضرة لا يعود الإنسان بعد "يرى بعين إنسان"، لذا يضيف في الحال: "عيناك علي، وأنا لست واقفًا!" وكأنه يقول بكلمات واضحة: عندما تأتي في صرامة للدينونة لا ترى لكي تخلص، بل ترى لكي تعاقب. فالشخص الذي لم تلتفت إليه في الوقت الحاضر بعنايتك المخلصة المترفقة تتطلع إليه فيما بعد بناموس العدل. البابا غريغوريوس (الكبير) السَّحَابُ يَضْمَحِلُّ وَيَزُولُ. هَكَذَا الَّذِي يَنْزِلُ إِلَى الْهَاوِيَةِ لاَ يَصْعَدُ [9]. في حديثه مع الله يعترف أيوب أنه ذاهب إلى مقره الأخير بلا عودة إلى هذا العالم، حياته هنا على الأرض أشبه بسحاب يتحرك ويضمحل بلا عودة. * إذا قيل: "ليس الأموات يسبحونك يا رب" (مز 115: 17). فهذا يُظهر أن هذه الحياة فقط هي الوقت المعين للندم والمغفرة. "والذي يهبط إلى الهاوية ولا يصعد" [9]، فالذين يسرون بهذه الحياة هم الذين سيُسبحون الله. أما الذين ماتوا في الخطايا، فلا يبقى لهم وقت أن يسبحوا بعد الموت كالمتمتعين بالبركات. إنما ينوحون على أنفسهم، لأن التسبيح لمن يشكر، والنحيب لمن هو تحت العقاب. لذلك يقوم الأتقياء بالتسبيح، أما الذين ماتوا في الخطايا فليس لهم وقت للاعتراف (الحمد) بعد ذلك. * بخصوص العبارة: "هكذا الذي ينزل إلى القبر ولا يصعد" (أي 7: 9). لاحظ ما جاء بعد ذلك "لا يرجع بعد إلى بيته"، ولما كان العالم كله سينتهي، وكل بيت سيخرب، كيف يرجع ثانية إلى بيته عندما تكون أرض جديدة مُغايرة؟ لكن كان يجب أن يسمعوا أيوب يقول: "لأن للشجرة رجاء، إن قطعت تُخلف أيضًا ولا تعدم خراعيبها. ولو قدم في الأرض أصلها ومات في التراب جذعها، فمن رائحة الماء تفرخ، وتنبت فروعًا كالغرس. أما الرجل فيموت ويبلى. الإنسان يسلم الروح، فأين هو؟ إنه يتكلم بعتاب ولوم! يقول إذا كانت الشجرة تقع ثم تحيا ثانية، ألا يحيا الإنسان مرة ثانية الذي من أجله وُجد الشجر كله؟ ولكي لا تتصور أنه ختم الكلمات اقرأ ما يتبع ذلك: "ويقول إن مات رجل فيحيا" (أي 14:14) ، وحالًا يضيف: "سأنتظر إلى أن أقوم". وفي موضع آخر: "بعد أن يفنى جلدي هذا وبدون جسدي أرى الله" (أي 26:19). وفي إشعياء: "تحيا أمواتك، تقوم الجثث" (أش 16:26). وفي حزقيال: "ها أنذا افتح قبوركم وأصعدكم من قبوركم" (حز 37: 12). وفي دانيال: "وكثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون، هؤلاء إلى الحياة الأبدية وهؤلاء إلى العار والازدراء الأبدي" (دا 2:12). القديس كيرلس الأورشليمي * بحق تُشبه قلوب اليائسين بالسحاب، إذ تصير مظلمة بضباب الخطأ، وكثيفة بالعديد من الخطايا، ولكن إذ تضمحل تزول، حيث يشرق عليها لهيب الدينونة الأخيرة فتتبدد بالرياح. البابا غريغوريوس (الكبير) لاَ يَرْجِعُ بَعْدُ إِلَى بَيْتِهِ، وَلاَ يَعْرِفُهُ مَكَانُهُ بَعْدُ [10]. يعلم أيوب تمامًا أن بموته لا يعود بعد إلى بيته في هذا العالم، لا يعود يمتلك شيئًا، ولا يتمتع بعد بالأرضيات، ولا يمارس أعماله الزمنية. إنه يترك كل شيءٍ لمن يأتي بعده ويحتل موضعه. "ولا يعرفه مكانه بعد": ليس فقط لا يعود أيوب بعد موته إلى موضعه، وإنما الموضع ومن يسكنون فيه لا يعرفون أين هو أيوب، إذ تنقطع الصلة تمامًا بين أيوب ومن يسكن في موضعه. * ما أن يُسلم إنسان إلى العقوبات الأبدية لا يُستدعى مرة أخرى من هناك، حيث يمكن أن يربط ذاته بالحب... البابا غريغوريوس (الكبير) * خُلق الإنسان ليتأمل خالقه، فيبقى دومًا يطلب أن يكون على مثاله، ويقطن في بهجة حبه. أما إذا طُرد خارجًا عن ذاته بالعصيان، يفقد أساس ذهنه. إذ يُترك خارجًا في الطرق المظلمة يجول بعيدًا عن مسكن النور الحقيقي. * "ولا يعرفه مكانه بعد"، فإن مكان الإنسان - ليس المكان المحلي - فقد صار الخالق نفسه، الذي خلقه لكي يكون فيه، كمكانٍ للإنسان. لكنه ترك المكان عندما أنصت لكلمات المخادع، متخليًا عن محبة الخالق... لكن يوجد كثيرون جدًا بعدما نالوا عون المخلص، انحدروا في ظلام اليأس وهلكوا مرة أخرى في يأسٍ شديدٍ، إذ يستخفون بأدوية الرحمة المقدمة لهم. وبحق قيل عمن يُحكم عليه بالهلاك الأبدي: "ولا يعرفه مكانه بعد". يلاحظ على وجه الخصوص أنه لا يقول: "ولا يعرف مكانه بعد"، بل يقول: "ولا يعرفه مكانه بعد". فان كلمة "يعرف" لا تنسب للشخص بل للمكان، هذا الذي في حزم يقول للقاطنين في الشر في النهاية: "لا أعرفكم من أين أنتم" (لو 13: 25). البابا غريغوريوس (الكبير) |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
لا للشقاء نعم للشفاء (مر 1: 43-45) |
تعجبت جدًا من كلمات قائد المئة الروماني |
أعطي الموت كعلاج إذ يضع حدًا للشرور |
قام لَعازَر من الموت وظل حيًا لعدة سنوات ثم مات |
لم يخلقك للشقاء |