14 - 01 - 2023, 01:45 PM | رقم المشاركة : ( 11 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير سفر يشوع
المؤامرة الكبرى إذ احتل يشوع المنطقتين الوسطى والجنوبية أرسل يابين ملك حاصور إلى الملوك المحيطين به، خاصة ملوك المنطقتين الشمالية والشرقية، ليخرج الكل معًا دفعة واحدة لمحاربة يشوع، فدفعهم الرب في يده وأعطاه كل أرضهم ميراثًا له. 1. يابين والمؤامرة الكبرى... إذ سمع يابين ملك حاصور بانتصارات يشوع أرسل إلى الملوك المحيطين به في الشمال والشرق، فاجتمعت الجيوش معًا شعبًا غفيرًا كالرمل على شاطئ البحر وبخيل ومركبات كثيرة جدًا لمحاربة يشوع ورجاله. كلمة "يابين" في رأي البعض هي لقب خاص بكل ملوك كنعان، مثل "فرعون" بالنسبة لملوك مصر، وأبيمالك في فلسطين، وحارث لملوك شمال بلاد العرب. أما معنى الكلمة بالكنعانية فتعني "الله يراقب"، وإن كان العلامة أوريجانوس يرى أنها تعني "أفكارًا" أو "مهارة". وبلدة "حاصور" تعني بالعبرية "حظيرة" وفي رأي العلامة أوريجانوستعني "قصر". ويعتقد البعض أن هذه المدينة كانت تقع على مياه ميروم، ولعلها هي تل القدح على بعد أربعة أميال غرب جسر بنات يعقوب، وقد اكتشفت بقايا المدينة من عصور الكنعانيين والعبرانيين. يرى العلامة أوريجانوسأن ما فعله يابين ملك حاصور إنما يرمز لما يفعله الشيطان أو الأفكار الشيطانية من إثارة للحروب الروحية في العالم كأنه قصره أو حظيرته، معطيًا مثلًا بهذه الأفكار التي ألقاها في قلب ملك بابل حين سقط في الكبرياء مصممًا أن يهدم حصون الشعوب وينهب كنوزهم، كما رأى في يابين رمزًا للحية أمكر حيوانات الأرض التي استطاعت أن تفسد حياة البشرية وتهدم سلامها وتفقدها الفردوس! إذًا فيابين بكونها تعني أفكارًا أو مهارة إنما تُشير إلى أفكار الشيطان المتعجرفة أو حيله ومهارته في خداع البشرية، أما "حاصور" أي "حظيرة أو "قصر"، فكما يقول العلامة: [الأرض كلها هي قصر هذا الملك الذي نال السلطان على الأرض كلها وكأنها قصره، إنه الشيطان...! مكتوب في الأناجيل أن القوي ينام في قصره في أمان حتى يأتي من هو أقوى منه فيكبله بالأغلال وينزع ممتلكاته. إذًا ملك القصر هو رئيس هذا العالم]. 2. حلفاء يابين... حرض يابين بقية الملوك على القتال وكأن الأفكار الشيطانية المتعجرفة والمملوءة خداعًا تثير كل طاقات الإنسان والظروف المحيطة به للعمل لحساب مملكته عوض العمل لحساب مملكة يشوع الحقيقي، من بين هؤلاء الملوك: أولًا: يوباب ملك مادون: "يوباب" بالعبرية تعني (صراخ)، أما "مادون" فبالكنعانية تعني (خصومة)، ويرجح أنها ضربة مادين بالقرب من حطين في الجليل. ويرى العلامة أوريجانوسأن "يوباب" يعني (عداوة)، و"مادون" يعني (مرارة). لذلك يقول: [يرسل الشيطان (يابين) إلى قوة أخرى معادية منتسبة بالطبع إلى الملائكة المتمردين، أي إلى ملك المرارة. فمن هذا الملك وأعماله تحلّ المرارة والصعوبات ببني البشر المساكين الزائلين. حقًا إن كل أنواع الخطايا مُرّة، فإنه ليس شيء أمر منها حتى وإن حملت في البداية شيئًا من الحلاوة وذلك كما كتب سليمان... وعلى النقيض فإن البر يبدو في البداية مرًا، لكن نهايته أحلى من العسل، وذلك عندما يقدم ثمار الفضيلة]. هكذا إذ يحمل إبليس طبيعة البغضة والكراهية خاصة ضد الإنسان الإناء الضعيف موضوع حب الله الذي يحتل مركز إبليس وجنوده قبل سقوطهم، لا يكف عن إثارة كل ما هو مرّ ضدهم حتى يفقدهم فرحهم في الرب ولذتهم الروحية وسلامهم الداخلي. ثانيًا: ملك شمورن: أما الملك الثاني فهو ملك "شمورن" وفي رأي العلامة أوريجانوسأن كلمة "شمورن" تعني (استماع)، مقارنًا بين شمورن وصموئيل، فإن الأخير ثمرة إِستماع الله لصوت الإنسان وصلواته (1 صم 1: 20)، أما الأول "شمرون" فيمثل" الاستماع لصوت إبليس ووصاياه". هكذا يسعى إبليس بكل طاقته أن يقيم له مملكة بين البشر، يخضعون لشريعته التي جوهرها الظلم والدنس! ثالثًا: ملك أكشاف: هذا هو الملك الثالث الذي يستدعيه يابين ملك حاصور. أما "أكشاف" ففي رأي العلامة أوريجانوسفتعني (ما أسرع زوال هذا!) كأن مملكة إبليس في الواقع تقوم على ما هو سريع الزوال، لكنه سيتخدم كل خداعاته ليجتذب البشرية إلى مملكته ليعطيهم ما هو زائل وسريع الفناء! إن كان شمرون يجتذب الإنسان ليسمع صوت إبليس، فإن ملك أكشاف يقدم من عندياته ما هو في الحقيقية لا شيء! يقول العلامة أوريجانوس: [هذا هو نص كلمات إبليس: "أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت ليّ" (مت 4: 10). فإن كنت تخدم يسوع تجاوبه هكذا: (إني أعبد سيدي وإلهي وليس آخر غيره). أما أعوان إبليس فيسمعون له كما فعل ملك شمرون الذي إِستمع ليابين وذهب لمحارية يشوع ]. لكن ماذا نال شمورن من سماعه لصوت يابين وإغراءاته سوى الهلاك والموت؟! ونحن أيضًا إذ ننصت لصوت العدو طالبين الملذات الأرضية، مقاومين عمل يسوعنا الحق، فماذا ننال؟! يقول العلامة أوريجانوس: [ما أسرع زوال الملذات، وما أقرب فنائها، هذه التي يظنها الخطاة دائمة!!]. رابعًا: الملوك الذين في الجبل شمالًا: كما تُشير إلى الجبال المقدسة إلى مملكة الله تقوم عليها مدينة الله التي لا يمكن إخفاؤها، وعليه يتجلى الرب أمام أنبياءه وتلاميذه، رجال العهدين القديم والجديد، والراقدين والأحياء، فقد عرفت الشياطين لها جبالًا تملك عليها، هي أفكار الكبرياء المتشامخة، حيث تنطلق بالنفوس إليها لكي تنحدر منها إلى الهاوية. خامسًا: ملك العربة جنوب كنروت: يرى العلامة أوريجانوس أن كلمة "عربة" تعني (خيانة)، وكلمة "كنروت" تعني (كالمصابيح)، وكأن إبليس يستخدم كل نوع من الالتواء لكي يخدعنا فيظهر مصباح منير أو ملاك نوراني مع أنه في حقيقته هو ظلمة! يقول العلامة: [إنه يدعو قوى الخيانة لا لتهاجم أرواح البشر صراحة إنما تفاجئها بطرق ملتوية... فإن كنا كبولس نقول: إننا لا نجهل حيله]. سادسًا: ملك دور غربًا، سواء في السهل أو في المرتفعات. ويرى العلامة أوريجانوس أن "دور" تعني "هداية" لكنها ليست هداية من الشر إلى الخير، إنما هداية يثيرها يابين لينحرف بالمؤمنين عن الحق تحت ستار الإنجيل كما حدث في غلاطية. يقول الرسول: "إن أتعجب أنكم تنتقلون هكذا سريعًا عن الذي دعاكم بنعمة المسيح إلى إنجيل آخر، ليس هو آخر، غير أنه يوجد قوم يزعجونكم ويريدون أن يحولوا إنجيل المسيح، لكن إن بشرناكم نحن أو ملاك من السماء بغير ما بشرناكم فليكن أناثيما" (غلا 1: 6- 8). هذا هو عمل سكان دور أن يحاربوا المؤمنين خفية خلال الإنجيل، بتقديم مفاهيم خاطئة منحرفة بعيدة عن روح الحق. سابعًا: الكنعانيون: يرسل يابين ملك حاصور إلى ملوك الكنعانيين لمهاجمة رجال يشوع. "الكنعانيون" تعني (الهياج) أي الذين يختلقون جوًا من الشغب والهياج في كل ظرف حتى يفقد المؤمنون سلامهم الداخلي، ويعيشون كمن في وسط الأمواج. ثامنًا: الأموريون: "الأموريون" تعني (يصبح مرًا)؛ عمل عدو الخير هو أن يمرر نفوس المؤمنين لكي يفقدهم كل عذوبة روحية في داخلهم، فيحطمهم باليأس والضجر. إذن بدعوة من يابين ملك حاصور إِجتمع بهؤلاء الملوك بجوشهم: "شعبًا غفيرًا كالرمل الذي على شاطئ البحر في الكثرة ومركبات كثيرة جدًا" [4]. فالحروب الروحية شديدة وعنيفة ومُرّة، لأن الأعداء كثيرون جدًا وعنفاء لهم خيولهم ومركباتهم المتنوعة، منهم من يتقدم في خصومة وعداوة ليمرر حياتنا كيوباب ملك مادون، ومنهم من يستخدم كل وسيلة لكي نستمع لصوت العدو كملك شمورن، ومنهم من يحرضنا بالأمور الزائلة كملك أكشاف، ومنهم من ينفخنا بأفكار المجد الباطل والكبرياء كالملوك الذين في الجبل، ومنهم من يخدعنا كسرج منيرة كملك عربة جنوت كنروت، ومنهم من يثير القلائل حولنا كالكنعانيين أو يمرر الظروف المحيطة بنا كالأموريين... ما أكثر حيل إبليس عدونا فإنه يستخدم كل وسيلة لتحطيمنا. لهذا يقول الرسول بطرس: "إصحوا وإِسهروا لأن إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمسًا من يبتلعه هو، فقاوموه راسخين في الإيمان" (1 بط 5: 8-9). 3. موقعة مياه ميروم... "فاجتمع جميع هؤلاء الملوك بميعاد، وجاءوا ونزلوا معًا على مياه ميروم لكي يحاربوا إسرائيل. فقال الرب ليشوع: لا تخفهم، لأنيّ غدًا في مثل هذا الوقت أدفعهم جميعًا قتلى أمام إسرائيل، فتعرقب خيلهم وتحرق مركباتهم بالنار" [5-6]. إن كان مع كل نصرة تهيج قوات الظلمة، فمع كل هياج لقوات الظلمة يؤكد الرب من جديد أنه يهب نصرة جديدة على مستوى أعظم... في الواقع أن سفر يشوع هو سلسلة من الحروب المتوالية، أو بمعنى أدق سلسلة من النصرات المتوالية، خلالها ينطلق المؤمن من مجد إلى مجد حتى يبلغ إلى قياس ملء قامة المسيح (أف 4: 13)، وتتجمل الكنيسة كلها وتتهيأ بالمجد للعرس الأبدي. يؤكد الرب ليشوع: "لا تخفهم"؛ فإن الله يريدنا في حربنا الروحية أن نكون مملؤين ثقة فيه أنه الغالب، وبه نغلب. يُريد أن يعمل بمؤمنيه وليس بعديمي الإيمان، يسند النفوس المتكئة عليه لا المرتبعة. لماذا يقول الرب: "لأنيّ غدًا في مثل هذا الوقت أدفعهم جميعًا قتلى..." [6]، لأنه غدًا تُشير إلى ما بعد هذا الدهر، فإننا وإن كنا ننال نصرات متوالية، وننعم بسلطان روحي على الظلمة يتزايد مه نمونا الروحي، لكننا نبقى في حرب لا تنتهي حتى يأتي الغد الذي فيه يُلقى إبليس في البحيرة المتقدة نارًا. يقول العلامة أوريجانوس: [إنه الموعد الذي فيه تهلك كل القوة المعادية، حيث تُهزم تمامًا. وذلك عندما ترى الذي عن اليسار يُقال لهم: "اذهبوا عني إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته" (مت 25: 41). إنه ذات الوقت الذي فيه نحن أيضًا إن كنا منتصرين، أي استطعنا نوال النصرة في تبعيتنا ليسوع رئيسنا، يكون لنا الملكوت الذي أعده لقديسيه الذين نفذوا تعاليم الرب وصنعوا البر، ننعم به من أيدي سيدنا يسوع المسيح له المجد والقوة إلى دهر الدهور، آمين]. "فجاء يشوع وجميع رجال الحرب معه عليهم عند مياه ميروم بغتة وسقطوا عليهم، فدفعهم الرب بيد إسرائيل فضربوهم وطردوهم إلى صيدون العظيمة وإلى مسرفوت مايم وإلى بقعة مصفاة شرقًا، فضربوهم حتى لم يبق لهم شارد" [7-8]. لقد تحققت الغلبة ليشوع ورجاله بضرب يابين وكل تابعيه حتى لم يبق لهم شارد، ويلاحظ في هذه المعركة الآتي: أولًا: كما اجتمع الملوك المعادين تحت قيادة يابين الملك حاصور، هكذا إِجتمع رجال الحرب مع يشوع تحت قيادته، فإن حربنا الروحية هي لحساب قائدنا الحقيقي، يسوع المسيح ربنا، إن نزلنا المعركة تحت قيادته نغلب وننتصر، لكننا إن اتكلنا على ذواتنا ومهارتنا وقدرتنا وأسلحتنا نسقط وننهزم. لنصرخ على الدوام إلى يشوعنا فهو وحده العارف حيل إبليس بكل تفاصيلها وله السلطان أن يهدمها تمامًا. ثانيًا: إن كانت هذه الحرب تُشير إلى الحرب الروحية القائمة في القلب، لكنها مع هذا فهي ليست حربًا فردية ضد كل واحد منا، إنما هي حرب مملكة إبليس ضد الكنيسة كلها بكونها مملكة الله. لهذا كما اجتمع جميع رجال الحرب مع يشوع، هكذا يليق بنا في جهادنا الروحي أن نحمل الروح الجماعية، ففي جهادي أطلب صلوات إخوتي المجاهدين مع آبائي وإخوتي الذين غلبوا وانطلقوا! إن كل نصرة تتحقق في أعماق نفسي إنما هي نصرة الكنيسة كلها خلالها يتحقق دخولها إلى كمال أعظم وجمال أروع، وعلى العكس كل ضعف أسقط فيه إنما هو على حساب الجماعة! ليتنا نجاهد بروح الجماعة، روح الوحدة والحب في المسيح يسوع ربنا. ثالثًا: قام يشوع ورجاله بحرب هجومية ضد يابين ورجاله فجاءوا عليهم بغتة وسقطوا عليهم، وكأن السيد المسيح يُريد منا لا أن نقف لننتظر الخطية، وعند هجومها علينا ندافع عن أنفسنا إنما يليق بنا أن نبدأ بكل طاقتنا بالهجوم أولًا على كل خطية قبل أن يكون لها موضع فينا، وتحمل سلطانًا علينا. فلا نقف موقف الخوف والضعيف أمام الخطية إنما موقف التشدد والقوة لنغلب وننتصر ونطردها إلى صيدون العظيمة، أي إلى موضع الصيد. نصطادها نحن قبل أن تصطادنا، ولا نترك فيها شارد يهرب إلى حواسنا أو قلبنا الداخلي بل نحطمها تمامًا. رابعًا: يقول الكتاب "طردوهم إلى صيدون العظيمة"، كلمة "صيدون" تعني (صيد)، لهذا فإن منطقة صيدون تُشير إلى الموقع الذي فيه يصطاد العدو نفوس المؤمنين، كقول المرتل: "هيأوا شبكة لخطواتي" (مز 57: 6). ولهذا سمح الله أن يتحقق طرد إبليس (يابين) وأتباعه إلى صيدون العظيمة، وكأنه يسقط في الفخاخ العظيمة التي نصبها المؤمنين. هو يقيم الفخ لنا، وهو الذي يسقط فيه. بالضربات التي يصوبها العدو ضدنا لإهلاكنا ننال كمؤمنين الغلبة والنصرة ونستحق الإكليل، أما هو فيمتلئ كأس شره ويسقط تحت الهلاك. 4. عرقبة خيلهم... "ففعل يشوع بهم كما قال له الرب، عرقب خيلهم واحرق مركباتهم بالنار" [9]. يتساءل العلامة أوريجانوس عن سبب الأمر الإلهي بعرقبة خيلهم، أي ضرب خيلهم عند العرقوب دون أن يأمر باغتنام الخيل، في حين أنه في أيام موسى حين غلبوا مديان، "نهبوا جميع بهائمهم وجميع مواشيهم وكل أملاكهم" (عد 31: 9)، وأحصيت الغنيمة فكان من بينها 61 ألفًا من الحمير (عد 31: 32-34) سمح لهم بسلبها لاستخدامهم الشخصي أما الخيل فقتلوها، لماذا؟ يرى القديس أمبروسيوسأن الإنسان بسقوطه تحت ثقل الخطايا صار كالأتن إذ يقول: [الحيوان حيوان كسول وغبي يمكن بسهول افتراسه... أي درس يفيدنا هذا الحيوان؟ إنه يليق بنا أن نكون أكثر حذرًا، ولا نعيش في غباء، في خمول الجسد والعقل! أليس بالحري يليق بنا أن نلجأ إلى الإيمان الذي يُخفف عنا أحمالنا الثقيلة؟!]. وفي نفس الوقت يُحذرنا ذات القديس من الامتثال بالخيل قائلًا: [لماذا تحرم نفسك من العقل الذي وهبك إياه الله...؟! هذه هي إرادة الله ألا نكون هكذا، إذ يقول: "لا تكونوا كفرس أو بغل بلا فهم" (مز 32: 9)]. يرى العلامة أوريجانوسأن الأتن يستخدمها الإنسان في حمل الأثقال والسفر لخدمته وتعزيته، أما الخيل فيستخدمها في الحرب لهلاكه، لهذا صارت الأتن تُشير إلى جنس البشر بينما الخيل إلى إبليس المتعجرف المهلك. ولهذا اهتم الناموس بالحمير دون الخيل: "إذ صادفت ثور عدوك أو حمار شاردًا ترده إليه، إذا رأيت حمار مبغضك واقعًا تحت حمله وعدلت عن حّله فلا بُد أن تحل معه" (خر23: 4-5). وفي سفر زكريا بينما يعلن عن دخول السيد المسيح ممتطيًا الأتان وجحش ابن أتان يؤكد إبادته المركبات الحربية والخيل علامة حلول السلام: "ابتهجي جدًا يا ابنة صهيون، اهتفي يا بنت أورشليم. هوذا ملكك يأتي إليك هو عادل ومنصور وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان، وأقطع المركبة من أفرايم والفرس من أورشليم وتُقطع قوس الحرب. ويتكلم بالسلام للأمم، وسلطانه من البحر إلى البحر، ومن النهر إلى أقاصي الأرض" (زك 9: 9-10). يقول العلامة: [أنظر فإنه حسب قول النبي أنه الذي يركب على الجحش قطع المركبة من أفرايم والفرس من أورشليم، لهذا أعتقد أن الأتان والجحش هنا يُشيران إلى المؤمنين الذي يجلس فيهم المسيح، وأن الخيل والفرس على العكس تمثل صورة للذين كانوا في السماء ونزلوا بسبب كبريائهم وتشامخهم... هؤلاء الذين تبعوا القائل: أصعد فوق مرتفعات الرب (السحاب)، أصير مثل العلي" (إش 14: 14). لهذا السبب على ما أظن يقول النبي: "بَاطِلٌ هُوَ الْفَرَسُ لأَجْلِ الْخَلاَصِ، وَبِشِدَّةِ قُوَّتِهِ لاَ يُنَجِّي" (مز 33: 17). هكذا أيضًا قيل عن الذين يثقون في الشيطان: "هؤلاء بالمركبات وهؤلاء بالخيل، أما نحن فاسم الرب إلهنا نذكر" (مز 20: 8). المقارنة هنا في الحقيقة ليست بين المركبات (الخيل) وبين الرب كأمرين نتضرع إليهما، إنما هنا يوضح أننا نطلب من الله الحقيقي أما هم فيتضرعون إلى المركبات والخيل أي الشيطان ]. إذن فالخيل التي يلتزم يشوع برجاله أن يعرقبها والمركبات التي يحرقها بالنار إنما تُشير إلى تحطيم قوى إبليس أي الخطية، خاصة شهوات الجسد المفسدة للروح. إننا ملتزمون أن نستل سيف الروح الذي هو كلمة الله (أف 6: 17) من غمده لنضرب به الشهوات الجسدية الشريرة كمن يعرقب الخيل. إن كان يابين، أي إبليس، يسعى وراءنا بخيله أي "الاهتمام بالجسد" الذي فيه عداوة لله (أف 8: 7)، مقدمًا لنا أفكاره المتعجرفة التي هي من قبيل الذهن الجسدي (كو 2: 8) فلنلجأ إلى يشوعنا الذي يقبلنا كجنود روحيين يحملون أسلحته التي تعرقب الخيول وتحرق المركبات الشريرة. في دراستنا للمركبة الشاروبيمية الحاملة للعرش الإلهي رأيناها تمثل "الحياة البشرية" المقدسة، التي صارت بالروح القدس الناري عرشًا لله وهيكلاُ مقدسًا له، كل ما ورد في المركبة من تفاصيل تطابق حياتنا التي تقدست في الرب، فإنه من الجانب الآخر فإن مركبات الشيطان هي القلوب الدنسة المصرة على شرها، والتي صارت عرشًا له، تحمل فكره وخداعاته وتعمل لحسابه... هذه التي تحترق معه بالنار المعدة لإبليس وجنوده! مادمنا في العالم يستطيع الله أن يحوّل قلوب الأشرار إلى هيكل مقدس له بروحه القدوس إن قبلت عمله الناري فيه قبل أن تطرد إلى نار أخرى لا تليق بالمؤمنين، ولم تُعد للبشر بل لإبليس وملائكته! 5. الإبادة التامة للشر... "ثم رجع يشوع في ذلك الوقت وأخذ حاصور، وضرب ملكها بالسيف، لأن حاصور كانت قبلًا رأس جميع تلك الممالك. وضربوا كل نفس بها بحد السيف. حرموهم، ولم يبق نسمة، وأحرق حاصو بالنار" [10-11]. لا يقف الأمر عند عرقبة خيل يابين وحرق مركباته بالنار، وإنما في جسارة وبقوة يرجع يشوع برجاله ليأخذ حاصور: يضرب ملكها بالسيف ويقتل كل نسمة بها، ويحرقها بالنار. إن كانت حاصور التي تعني (القصر) مركز مملكة يابين، فيلزمنا بعد أن نغلب شهوات الجسد الشريرة بيشوعنا الحقيقي ونحرق كل أثر لها، فإننا نعود بيسوعنا إلى حاصور، إلى حيث كان إبليس يملك ويسيطر... إلى حياتنا التي استخدمها العدو كقصر لمملكته، لكي نضرب إبليس بيسوع المسيح ربنا الغالب وحده. وكما يقول العلامة أوريجانوس: [لقد كنا تحت "ملك الخطية" (رو 6: 12)، تحت ملك الشهوات الردية، بمعنى أن الخطية بوجه عام تملك علينا، كقول الرسول: "إذًا الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله" (رو 3: 23). ففي كل واحد منا يوجد ملك خاص يسود علينا، ويسكن فينا، ففي إنسان يسكن البخل يشغل المملكة، آخر الغرور، وآخر الكذب، وآخر الشهوات الجسدية، وآخر الغضب، فيقول الرسول بولس: "إذًا لا تملكن الخطية في جسدكم المائت لكي تطيعوها في شهواته" (رو 6: 12). قبل أن يكون لنا الإيمان كان في كل منا مملكة للخطية، لكن بمجيء يسوع قُتل جميع الملوك الذين يسيطرون علينا... معلمًا إيانا كيف نقتلهم جميعًا ولا نترك أحدًا منهم يهرب. فإنه إن تركنا واحدًا يحيا لا يمكن أن نُحسب تابعين سيف يشوع. إن ملكت فيك خطية البخل أو الغرور أو الشهوات الجسدية فلا تكن من جنود إسرائيل ولا تكون قد إِتبعت الأمر الذي أعطاه الرب ليشوع]. لقد كان الأمر الإلهي هو إبادة الشر تمامًا، فلا يُترك له أثر حتى لا يعود فيملك على القلب ثاينة، ها هو الأمر الذي أطاعه يشوع، إذ قيل "لأنه كان من قبل الرب أن يشدد قلوبهم (الملوك) حتى يلاقوا إسرائيل للمحاربة، فُيحرموا، فلا تكون عليهم رأفة بل يُبادون كما أمر الرب موسى" [20]. يقول العلامة أوريجانوس: [لم يقل أن يشوع قد أمسك بواحد أثناء الحرب وترك الآخر، لكنه أمسك بالكل، أي أخذهم وقتلهم جميعًا، لأن الرب يسوع طهرنا من كل أنواع الخطايا وهدم جميعها. لقد كنا قبلًا في الحقيقية جميعنا "أغبياء، غير طائعين، ضالين، مستعبدين لشهوات ولذات مختلفة، عائشين في الخبث والحسد، ممقوتين، مبغضين بعضنا بعضًا" (تي 3: 3)، أي كانت فينا كل أنواع الخطايا التي توجد في الإنسان قبل الإيمان، لكن يشوع قتل كل الذين خرجوا للرب، فلا توجد خطية مهما كانت كبيرة لا يقدر الله أن يغفرها. إنه الكلمة وحكمة الله (1 كو 1: 24) الذي يغلب كل شيء. ألا تعتقد معي أنه قد رُفعت عنا الخطية بكل أنواعها في مياه المعمودية؟! هذا ما أراد الرسول بولس أن يقوله، إذ بعدما عدد كل أنواع الخطايا، أضاف: "وهكذا كان أُناس منكم، لكن إِغتسلتم بل تقدستم بل تبررتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا" (1 كو 6: 11) . مرة أخرى يقول العلامة أوريجانوس: [كيف يتحقق فينا كلام الكتاب إنه لم تبق نسمة (يش 11: 11)...؟ لنفرض أن إحساسًا بالغضب يرتفع في قلبي، يمكن لهذا الإحساس ألا يبلغ إلى العمل خشية العقاب العتيد، لكن هذا لا يكفي إنما حسب قول الكتب يجب أن أتصرف بحيث لا يبقى فيَّ أي حركة للغضب. فإن اضطربت النفس، حتى وإن لم يصل الفكر إلى حد العمل فإن هذا الاضطراب نفسه لا يليق بجندي المسيح. فجنود يشوع يجب عليهم أن يتصرفوا بحيث لا يتركوا شيئًا يتنغص في قلبهم. إن تُرك شيء ما سواء كان عادة أو مجرد فكرة خاطئة يمكن أن تنمو مع الزمن وتزداد وتتقوى وأخيرًا تقودنا إلى العودة للقيئ (أم 26: 11)، فتصير الأواخر أشر من الأوائل (لو 11: 26). هذا ما يقصده المزمور النبوي: "طوبى لمن يمسك أطفالك ويضرب بهم الصخرة" (مز 137: 9). فإنه يقصد بأطفال بابل هنا الأفكار الشريرة... هذه التي إن شعرنا أنها صغيرة وفي البداية يجب أن نمسكها ونقطعها ونضرب بها الصخرة، التي هي المسيح (1 كو 10: 4). يجب أن نقتلها حسب أمر الرب ولا نترك منها نسمة نتنسمها داخلنا. إذن طوبى لمن يمسك أطفال بابل الصغار ويضرب بهم الصخرة ويقتلها وهي بعد أفكار بدائية]. يقول الكتاب عن يشوع ورجاله أهم "ضربوا كل نفس بها بحد السيف؛ حرموهم، ولم يبق نسمة، وأحرق حاصور بالنار" [11]. لا يقف الأمر عند إبادة كل نسمة للشر حتى لا يتنسم داخلنا قط، وإنما أيضًا أحرق حاصور- قصر الملك يابين - بالنار. ما هذه النا التي يلقى بها يشوع على القصر إلاَّ نار الروح القدس الذي يحرق فينا كل الأشواك الخانقة للنفس، فلا تعود بعد حاصورنا قصرًا ليابين بل ليشوع، عوض مملكة إبليس تقوم مملكة يسوع ربنا بروحه الناري الذي يقدس أعماقنا الداخلية. أخيرًا فإنه من قبل الرب تشدد الملوك الأشرار لمحاربة شعب الله، بهذا يمتلئ كأس شر إبليس وجنوده فيتأهلوا للإبادة والسحق بجدارة، وفي نفس الوقت تتشدد قلوب أولاد الله للحرب الروحية فيتذكرون في عيني الله ويستحقون أكاليل النصرة هذا وإن تشديد قلب الملوك لا يعني أن الله يلقي فيها القسوة، إنما يرفع يده عنهم لتظهر قسوتهم التي كان الله يحجزها إلى حين لحماية شعبها، لكن في الوقت المناسب يتركهم يعملون سؤل قلبهم فيسقطون في ثمر عملهم. 6. إِستراحت الأرض... يقول العلامة أوريجانوس: [في أيام موسى لم يُقل ما قيل في أيام يشوع: "إِستراحت الأرض من الحرب" (يش 11: 23). فبالتأكيد هذه الأرض المملؤة صراعًا وحروبًا لن يمكن أن تستريح من الحرب إلاَّ بعطية الرب يسوع... ففينا يوجد مقر لكل قوم الرذائل العاملين في أرواحنا دون أن يتركوا لنا أي راحة. نعم ففي داخلنا الكنعانيون الفرزيون واليبوسيون الذين نطردهم بجهاد وسهر وصبر طويل، وفي النهاية تستريح أرضنا من الحرب ]. وفي موضع آخر يقول العلامة أوريجانوس: [كيف يؤكد لابن نون أن الأرض استراحت من الحرب مع أن الحرب لم تتوقف في عهده؟ لقد كمل هذا في الرب يسوع... فإن كنت تجد فيك "الجسد يشتهي ضد الروح والروح ضد الجسد" (غلا 5: 17) فإنك إذ تأتي ليسوع وتنال نعمة المعمودية لغفران الخطايا تستريح الأرض التي هي أنت من الحرب، بشرط أن تحمل في الجسد كل حين إماتة الرب يسوع لكي تظهر حياة يسوع أيضًا في جسدنا (2 كو 4: 10). بهذا تنتهي الحرب فيك، وتصير صانع سلام وتدعى ابن الله (مت 5: 9). نعم، يكون لك هذا عندما تنتهي الحرب وتنتصر على أعدائك، فتكون لك راحة في "كرمتك" التي هي يسوع المسيح وتحت التينة (ميخا 4: 4) التي هي الروح القدس، وعندئذ تشكر الله ضابط الكل في المسيح يسوع الذي له المجد والسلطان إلى أبد الأبد (1 بط 4: 11)]. |
||||
15 - 01 - 2023, 12:02 PM | رقم المشاركة : ( 12 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير سفر يشوع
حدود أرض الميراث بعد أن سجل لنا الكتاب المقدس الأرض التي استولى عليها الشعب تحت قيادة موسى قبل عبور الأردن، وأرض كنعان التي استولى عليها الشعب تحت قيادة يشوع بعد العبور، ختم هذا بتسجيل حدود الأرض غرب وشرق الأردن. 1. تحديد الأراضي شرق الأردن... في دراستنا لسفر العدد (ص 32)، رأينا أن طلب السبطين والنصف من موسى النبي الاستيلاء على أرض جلعاد شرقي الأردن لم يكن جذافًا، لكنه كشف عن نصيب كنيسة العهد القديم التي لم تتمتع بأردن المسيح، لكنها خلال الرموز والنبوات نالت نصيبًا مع كنيسة العهد الجديد (غرب الأردن) في الميراث الأبدي. إن نهر الأردن هو الفاصل الذي يميز بين الاثنين، أو بمعنى أصح بين النوعين من الأعضاء المنتمين لكنيسة واحدة تمتذ منذ آدم إلى آخر الدهور. لقد أراد الوحي الإلهي أن يضم الحديث عن الميراث شرقي وغربي الأردن معًا ليعلن وحدة الكنيسة؛ وإن كان أعضاؤها الأولون قد تمتعوا بالميراث خلال موسى (الناموس) الذي قادهم إلى الرجاء في مجيء يشوع الحقيقي، والأعضاء الآخرون تمتعوا بالميراث خلال يشوع نفسه. 2. تحديد الأراضي غرب الأردن... ذكر الكتاب المقدس المنطقة التي استولى عليها السبعة أسباط ونصف غرب الأردن وقد ذُكرت أسماء المدن وملوكها القدامى الذين غلبهم يشوع بن نون ليُسلمها للأسباط وكأن الوحي يؤكد أنه عند الآب منازل كثيرة لكي يكون لكل منا منزله المقدس أو موضع راحة وميراث خاص به في المسيح يسوع. لكي نرث إلى الأبد! كل مدينة لها معناها الرمزي الذي يُشير إلى ميرثنا الأبدي، وكل ملك باسمه له أيضًا معناه الرمزي الذي يُشير إلى خطية معينة أو شيطان معين يلزمنا أن نسحقه حتى لا يرث شيئًا فينا بل نسترد الميراث الذي لنا في المسيح يسوع ربنا. |
||||
15 - 01 - 2023, 12:15 PM | رقم المشاركة : ( 13 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير سفر يشوع
تقسيم الأرض التقسيم شرق الأردن ختم الوحي الإلهي الفصل السابق بتحديد الأراضي التي استولى عليها الشعب سواء تحت قيادة موسى أو يشوع، مظهرًا الملوك الذين طُردوا أو قتلوا لكي يحتل يشوع مواقعهم إشارة إلى تحول مملكة إبليس التي اغتصبها في قلوبنا إلى مملكة يشوع الحقيقي، والآن إذ شاخ يشوع بدأ يُقسم الأراضي على الأسباط، مبتدئًا بتقسيم شرق الأردن بين السبطين ونصف: 1. شيخوخة يشوع... "وشاخ يشوع، تقدم في الأيام، فقال له الرب: أنت قد شخت. تقدمت في الأيام" [1]. إن كان يشوع رمزًا ليسوع المسيح، فلماذا قيل عن يشوع أنه قد شاخ وتقدم في الأيام، مع أن رب المجد يسوع لم يشخ قط؟ يمكننا أن نفهم الشيخوخة من جانبين: أولًا: الشيخوخة بمعنى تقدمالأيام، ودخول الإنسان في حالة من القدم والضعف والعجز تنتهي بموته، هذه هي شيخوخة العجز التي لم تصب رب المجد يسوع، فإنه صعد وهو بعد رجل ناضج من جهة الجسد، حتى إِذ تتحد به كنيسته وتحمل سماته لا تحمل في داخلها شيخوخة روحية أو ضعفًا روحيًا. إنها كعريسها تحمل نضوجًا لا يشيخ، يُجدد مثل النسر شبابها. بمعنى آخر المسيحي الحق، وإن شاخ في الجسد وضعف لكنه يبقى في روحه وقلبه شابًا حيًا بلا ضعف في المسيح يسوع الذي لا يشيخ. ثانيًا: الشيخوخة بمعنى الحكمة... "حكمة الشيوخ"، وهي لا ترتبط بالسن وإنما بنضوج الفكر والروح. لقد عاش آدم سنين طويلة على الأرض، لكنه بسبب انحداره إلى انحداره إلى الخطية لم ينل لقب "شيخ" ولا قيل عنه أنه "متقدم في الأيام"، لأنه لم يستفد من أيامه وإنما خسرها. أول من تمتع بهذا اللقب هما إبراهيم وسارة زوجته، إذ قيل "وكان إبراهيم وسارة شيخين متقدمين في الأيام" (تك 18: 11) وذلك عندما استضافا كلمة الله والملاكين في خيمتهما، فصارت حياتهما سماء يقطن فيها الله وملائكته، تأهلا لينال الوعد بإسحق رمز المسيح يسوع. وكأن الإنسان يصير بحق شيخًا ومتقدمًا في الأيام حينما يحمل في داخله الطبيعة السماوية، يستضيف الله ليملك فيه وينفتح على السمائيين كأحباء له! هنا أيضًا إذ يبدأ أيضًا يشوع في تقسم أرض الميراث، وكأنه خلال الرمز يقدم الميراث السماوي للمؤمنين، عندئذٍ يُقال عنه أنه شيخ ومتقدم في الأيام. في هذا يرمز يشوع ليسوع المسيح، ليس كشيخ في عجز، إنما كحكمة الله الذي يهبنا فيه الميراث الأبدي. وللعلامة أوريجانوس تعليق جميل على عبارة "شاخ... وتقدم في الأيام"، إذ يقول: [هنا نجد الروح القدس هو الذي يعلن أن يشوع شيخ ومتقدم في الأيام... عبارة لا يمكن تطبيقها على خاطئ، لأن الخاطئ غير متقدم في الأيام، إذ لا يفعل هذا: ينسى ما هو وراء ويمتد إلى ما هو قدام (في 3: 13)، وإنما على الدوام ينظر إلى الوراء (لو 9: 62)، لهذا فهو لا يصلح لملكوت الله (لو 9: 62). على العكس إذ نمتد إلى قدام ساعين نحو الكمال نكون متقدمين في الأيام ]. إن هذا اللقب الذي أُعطي ليشوع بن نون من الرب نفسه إنما هو بمثابة شهادة تكريم له، علامة امتداده إلى قدام لا لينعم بالميراث فحسب وإنما ليقدم الميراث للآخرين. إنه ليس فقط يحمل الطبيعة السماوية إنما يقدمها لإخوته وأولاده. هذا ومن جانب آخر فإن يشوع صار متقدمًا في الأيام، لأنه كرمز ليسوع شمس البر، كان في كل تصرف تشرق الشمس عليه فتعطيه يومًا جديدًا مقدسًا مليئًا بالأعمال المجيدة، وكأنه يقتني هذه الأيام الروحية العاملة بالرب لتصير لحسابه، فيدعى بالمتقدم في الأيام. 2. الأرض الباقية للامتلاك... يقول الرب ليشوع: "قد بقيت أرض كثيرة جدًا للامتلاك" [1]. كيف يقول الكتاب: "استراحت الأرض من الحرب" (يش 11: 23)، ليعود فيقول: "بقيت أرض كثيرة جدًا للامتلاك"؟ الأرض التي وطأها يشوع بقدميه ملك عليها طاردًا المقاومين لتستريح من الحرب. إنها جماعة المؤمنين التي قبلت دخول السيد المسيح إلى حياتهم الروحية والجسدية، فغفر كل خطاياها، وأعطاها سلامًا مع الآب، بل وسلامًا مع بعضهم البعض، وسلامًا داخل الإنسان نفسه بين الروح والجسد بتقديس الكل! هذه هي الراحة الحقيقية التي صارت لكل مؤمن حقيقي في علاقته بالله أبيه وإِخوته البشريين بل وفي علاقته حتى بجسده ومشاعره وأحاسيسه الداخلية... إنه ينعم براحة فائقة في المسيح يسوع. أما الإعلان عن وجود أرض كثيرة جدًا للامتلاك، فهذا أمر طبيعي لأن أرض كثيرة لم يكن بعد قد دخلها يشوع... لا يزال حتى الآن يوجد ملحدون كثيرون لم ينعمون بدخول الرب إلى حياتهم ليملك فيهم. يؤكد المرتل أنه يجب أن يملك السيد المسيح، قائلًا: "كل الأمم تتعبد له" (مز 72: 11)، وأيضًا: "ويملك من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض، أمامه تجثو أهل البرية" (مز 72: 8-9). يمكننا أيضًا أن نقول أن السيد المسيح -يشوع الحقيقي- إذ ارتفع على الصليب دخل الجحيم ليملك على الذين ماتوا على الرجاء منطلقًا بهم إلى فردوسه، بهذا نفهم العبارة: "استراحت الأرض من الحرب". لقد غلب المسيح الرأس نيابة عن البشرية كلها بصليبه. لكن هذه الغلبة إنما هي الإمكانية التي قُدمت للكنيسة عبر الأجيال لكي بغلبته تغلب، وبنصرته تحطم الجحيم وتنطلق بكل نفس إلى الفردوس... بهذا نفهم العبارة الثانية: "قد بقيت أرض كثيرة جدًا للامتلاك". لقد ملك الرب حين كان بالجسد على الأرض، ولا يزال يملك وهو قائم وسط كنيسته عبر الأجيال مقدمًا النصرة للمؤمنين، فاتحًا باب الخلاص لكل الأجيال. 3. التقسيم بالقرعة... "إنما أقسمها بالقرعة لإسرائيل ملكًا كما أمرتك" [6]. اسْتُخْدِمَت القرعة في الكتاب المقدس في العهدين القديم والجديد، ولم تكن تُمارس كحظ يُصيب الإنسان كيفما كان، وإنما تُمارس بعد صلوات مرفوعة لله، لكي تتوقف الإرادة البشرية وتنتظر الإرادة الإلهية. وينتقد العلامة أوريجانوس. رجال عهده، أي رجال القرن الثاني الميلادي، لأنهم لا يستخدمونها في سيامات الأساقفة والكهنة والشمامسة، مقدمًا من العهدين دلائل على استخدامها. أولًا: في العهد القديم: جاء في سفر اللاويين "ويلقي هرون على التيسين قرعتين، قرعة للرب وقرعة لعزازيل، ويقرب هرون التيس الذي خرجت عليه القرعة للرب ويعمله ذبيحة خطية، وأما التيس الذي خرجت عليه القرعة لعزازيل فيوقف حيًا أمام الرب ليكفر عنه ليرسله إلى عزازيل إلى البرية" (لا 16: 8-10). واستخدامها يشوع عند تقسم الأرض الذي أعطاها الرب لشعبه. وفي سفر يونان إذ شعر الملاحون بالعجز التام عن التصرف صرخوا إلى آلهتهم وأخيرًا ألقوا قرعة، فعرفوا أنه بسبب يونان كانت هذه البلبلة (يونان 1: 7). وجاء في سفر الأمثال: "القرعة تبطل الخصومات وتفضل بين الأقوياء" (أم 18: 18)، وكأن إلقاء القرعة بين الأقوياء روحيًا يكشف عن الحق وينزع من بينهم كل خصومة أو اختلاف في الرأي. ثانيًا: في العهد الجديد: إذ كان يجب إقامة واحد عوض يهوذا كرسول للرب، "أقام (الرجال) اثنين يوسف الذي يدعى بارسابا الملقب يوستس ومتياس، وصلوا قائلين: "أيها الرب العارف قلوب الجميع عيّن أنت من هذه الاثنين أيا اخترته ليأخذ قرعة هذه الخدمة والرسالة الذي تعداها يهوذا ليذهب إلى مكانه، ثم ألقوا قرعتهم فوقعت القرعة على متياس فحُسب مع الأحد عشر رسولًا" (أع 1: 23-26). ويعلق العلامة أوريجانوسعلى ذلك بقوله: [استخدام الرسل لها يبين أنه إذا استخدمناها بإيمان مطلق مع الرجوع إلى الصلاة، فإنها تكشف للناس عن إرادة الله الخفية بوضوح]. لكن البعض يفترض بأن ذلك إنما تم قبل حلول الروح القدس الذي يُعطي الكنيسة روح التمييز وإدراك إرادة الله بالصلاة مع الحياة المقدسة دون الحاجة إلى قرعة، كما حدث في اختيار الشمامسة (أع 9: 2-3) لعل الله سمح باستخدام القرعة في تقسم الأرض حتى لا تتدخل العوامل الشخصية في التوزيع، لكي لا يشعر أحد الأسباط أن ما ناله هو بفضل إنسان، إنما هو هبة من الله نفسه، عطية الله المجانية، فلا يمكن لعظيم أو صغير أن يذل سبطًا بأنه قد وهبه شيئًا من عندياته. 4. نصيب السبطين والنصف... لم يكن ممكنًا للسبطين والنصف - الذين يمثلون رجال العهد القديم - أن يرثوا قبلنا، وإنما يستلمون الميراث من يد يشوع نفسه، كما يقول الرسول بولس: "فهؤلاء كلهم مشهودًا لهم، بالإيمان لم ينالوا الموعد إذ سبق الله فنظر لنا شيئًا أفضل لكي لا يكملوا بدوننا" (عب 11: 39-40). لقد تحدد ميراثهم في أيام موسى، لكنهم عبروا يحاربون مع بقية الأسباط حتى يملك الكل معًا في الوقت المحدد، حين يشيخ يشوع وتستريح الأرض من الحرب. في هذا - كما يقول العلامة أوريجانوس- [إشارة إلى جهاد أحبائنا الراقدين معنا خلال الصلاة عنا حتى نرث جميعًا]. |
||||
15 - 01 - 2023, 12:31 PM | رقم المشاركة : ( 14 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير سفر يشوع
نصيب كالب إذ قُسمت الأراضي الواقعة شرق الأردن على السبطين ونصف، طالب كالب بن يفنة بالجبل الذي وعده به موسى بسبب أمانته وإيمانه عندما جاء للتجسس منذ حوالي 45 عامًا. لقد طالب بالجبل قبل أن يقوم يشوع بتوزيع الأراضي الواقعة غرب الأردن. 1. مقدمة عن كيفية التقسيم... يرى العلامة أوريجانوسأنه يستحيل أن يهتم الكتاب الإلهي بعرض أبعاد الأرض ميراث كل سبط بدقة وبشيء من التفصيل لمجرد التعرف على واقع كل سبط في الأرض الجديدة، وإنما كما جاءت الطقوس اليهودية شبهًا للسماويات وظلًا لها (عب 8: 5)، فإن تقسيم الأرض وأسماء المناطق ومدن الملجأ ومدن اللاويين وإقامة الهيكل فيما بعد في أورشليم إلخ... هذه الأمور في تفاصيلها الدقيقة تحمل أسرارًا سماوية يكشفها الروح لنا. يقول العلامة: [عندما تأتي أيها اليهودي إلى أورشليم وتجدها مدمرة، وقد تحولت إلى تراب ورماد، لا تبكي كطفل (1 كو 4: 20). لا تحزن إنما اطلب مدينة في السماء عوض التي تبحث عنها على الأرض! أرفع نظرك إلى فوق فستجد "أورشليم العليا التي هي أمنا جميعًا" التي هي حرة (1 كو 14: 20). لا تكتئب لأن الهيكل متروك، ولا تيأس إذ لا تجد كاهنًا، ففي السماء مذبح ويوجد كهنة للخيرات العتيدة يجتازون أمام الرب على رتبة ملكي صادق (عب 5: 10). إنها محبة الله ومراحمه أنه رفع عنكم الميراث الأرضي لتطلبوا السماوي]. وإنني لا أُريد الدخول في تفاصيل كثيرة وإنما أكتفي بعرض بعض المفاهيم الروحية للتقسيم تاركًا روح الرب يسندك ويرشدك، محولًا حتى ما يبدو خاصًا بالأرض القديمة إلى ما يخص خلاصهم وأبديتهم. في هذا الأصحاح يميز الوحي الإلهي بين ثلاث فئات عند التقسيم [1-3]: أ. الفئة الأولى: وهي التي قبلت أن ترث الأرض التي تملكوها في أيام موسى، أي خلال الناموس، وتضم سبطي رأويين وجاد ونصف سبط منسى، لكن هذه الفئة لن تتسلم الميراث إلاَّ على يدي يشوع. إنها تمثل فئة رجال العهد القديم الذين عاشوا أيضًا خلال يشوع الجديد. وفي شيء من التجاوز نستطيع أن نقول بأن هذه الفئة أيضًا تضم الذين هم في عهد النعمة لكنهم للاسف يسلكون كمن هم تحت الناموس، حرفين في فهمهم للكلمة, وناموسيون في تصرفاتهم، وضيقون في فكرهم. مساكين هؤلاء الذين عبروا مع يشوع نهر الأردن لكن بحياتهم وفكرهم ارتدوا إلى ما هو وراء الأردن ليعيشوا كأطفال روحيين عوض النضوج الروحي. إنهم يمثلون الشاب المريض الذي يحّن إلى تصرفت الطفولة، يلهو باللبن واللعب عوض التمتع بالطعام القوي والجدية في التصرف. ب. الفئة الثانية: هي التي قبلت أن ترث الأرض التي تملكوها في أيام يشوع، أي في عهد النعمة، تضم تسعة أسباط ونصف، وهي تمثل الإنسان الذي ارتفع من تحت الناموس لينطلق من الحرف إلى الروح. هؤلاء لا يرثون مع السبطين والنصف أرض جلعاد الخاصة برعاية الغنم، بل يرثون الأرض التي تفيض عسلًا ولبنًا، فينطلق المؤمن من رعاية الغنم حيث الفكر الحيواني الجسداني إلى الميراث الأبدي حيث الطعام الجديد. ج. أما الفئة الثالثة: فهي جماعة اللاويين الذين لا ينالون نصيبًا في وسطهم، ولا يكون لهم نصيب في الأرض. لأن الرب نفسه نصيبهم (13: 14). هذه إن صح لنا التعبير أن نقول "فئة الكاملين" الذين يعيشون مع يشوع ليس طمعًا في أرض أو بركات حتى السماوية، وإنما يطلبون الرب نفسه نصيبهم. فإن كانت الفئة الأولى تمثل العابدين من أجل البركات الزمنية (الذين تحت الناموس)، والثانية تمثل العابدين من أجل البركات الروحية، فإن الثالثة لا تطلب شيئًا غير الله وحده الذي هو كل حياتهم وفرحهم وإكليلهم. يقول العلامة أوريجانوس: [لم يحصل اللاويين على الميراث من موسى ولا من يشوع لأن الرب إله إسرائيل هو نصيبه... فإن عددًا كبيرًا من شعب الله لديهم الإيمان البسيط في خوف الله، يرضون الله بأعمالهم الطيبة وعاداتهم الأمينة، لكن قليلون ونادرون من تُوهب لهم الحكمة والعلم ويحفظون قلبهم نقيًا ويزرعون في نفوسهم أجمل الفضائل، ويكون لعلمهم الإمكانية لإنارة الطريق للآخرين... هؤلاء بلا شك يُقال عنهم أنهم لاويون وكهنة، نصيبهم هو الرب، الذي هو الحكمة التي اختاروها فوق كل شيء ]. ليتنا نصير كاللاويون والكهنة لا يكون لنا نصيب في أرض الميراث، إنما يكون هو نصيبنا، نقبله فينا بكونه حكمة الله (1 كو 1: 30)؛ فهو برّنا (أر 33: 6، 1 كو 1: 30) وسلامنا (أف 2: 14) وفداؤنا (1 كو 1: 30). 2. كالب يطلب نصيبه... "فتقدموا بنوا يهوذا إلى يشوع في الجلجال، وقال له كالب بن يفنة القنزي: أنت تعلم الكلام الذي كلم به الرب موسى رجل الله من جهتي ومن جهتك في قادش برنيع كنت ابن أربعين سنة حين أرسلني موسى عبد الرب من قادش برنيع لأتجسس الأرض..." [6-7]. قبل أن يبدأ يشوع في القرعة لتوزيع الأرض بين الأسباط التسعة والنصف، تقدم كالب بن يفنة القنزي ليشوع ليذكره بالوعد الذي ناله منذ خمسة وأربعين عامًا حين عاد معه إلى موسى بعد التجسس يتحدثان بأمانة وإيمان عن أرض الموعد على خلاف بقية الجواسيس الأخرى الذين أذابوا قلب الشعب من الخوف. لم يدخل كالب في القرعة مع بقية الشعب إنما طالب بامتياز خاص به ناله من الرب شخصيًا على فم موسى النبي، أما سرّ هذا الامتياز فهو: أولًا: في دراستنا لسفر العدد رأينا أن كلمة "كالب" إنما تعني (قلب)، وأن التحام يشوع بكالب إنما يعني التحام الإيمان بيسوع المخلص بنقاوة القلب العملية للتمتع بالميراث الأبدي ويرى العلامة أوريجانوسأن "يفنة" تعني (تحوّل) وأن "قنزي" تعني (المحتقر). يمكننا إذن أن نقول أن امتياز كالب إنما لأنه يمثل القلب المتولد عن التحول عن الاحتقار. بهذا سبق الكثيرين في نوال الميراث، ليس لأنه أفضل منهم، وإنما لأنه وهو المحتقر قد تحول عن هذه الحياة ليعيش قلبًا نقيًا في الرب. كلنا أبناء القنزي أي أبناء المحتقر، إذ "بإنسان واحد (بأبينا آدم) دخلت الخطية إلى العالم، وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع" (رو 5: 12). لكن كالب يعرف أن يستبدل هذا الإنسان الواحد الذي جلب إليه الاحتقار والموت بإنسان آخر هو ربنا يسوع فصار له عطية البرّ وتمتع بحق الامتلاك، وكما يقول الرسول عن هذا التحول: "لأنه إن كان بخطية الواحد قد ملك الموت بالواحد، فبالأولى كثيرًا الذين ينالون فيض النعمة وعطية البرّ سيملكون في الحياة بالواحد يسوع المسيح" (رو 5: 17). وكأن الرسول يقول في هذا الأصحاح (رو 5) بعد أن كنا بسبب أبينا آدم مملوكين للموت، صرنا بيسوع المسيح ربنا نملك الحياة فيه! بعد أن كنا موضوع ميراث للخطية صرنا نحن وارثين الملكوت الأبدي. حقًا لقد نُسبنا جميعًا للقنزي أي المحتقر، لكن إن صار لنا في نسبنا يفنة أي (التحول)، فإننا بهذا ننتقل من أبوة آدم الجسدية إلى الأبوة الروحية التي لله في ابنه يسوع المسيح فننعم بالميراث الأول. ثانيًا: ارتباط كالب بيشوع، وقد سبق لنا الحديث عن ارتباط القلب بالإيمان، فلا نقاوة للقلب خارج الإيمان بيسوع، ولا غلبة له بدونه. حين نرتبط نحن كقلوب بيشوعنا الحق، إنما ننفتح له فيملك في إنساننا الداخلي ويتربع على القلب كعرش له، وكما يملك فينا نحن نملك به في ميراثه الأبدي. لنرتبط بيشوعنا، ولنسلم له حياتنا فيملك فينا ونحن نملك فيه. وكما يُناجي القديس أغسطينوس ربه قائلًا: [لتستلم كل قدراتي لكي تمتلكها بكمالها... لتُعيد إليَّ سيادتي بكاملها]. ثالثًا: كان لقاء كالب بيشوع في قادش برنيع، و"قادش" إنما تعني (قداسة)، فإن لقاءنا مع ربنا يسوع لا يكون بحق إلاَّ خلال الحياة المقدسة كثيرون يظنون أنهم يعرفون السيد ويلتقون به ربما خلال الكرازة به وربما خلال صنع المعجزات باسمه، لكنهم إن لم يلتقوا به في الحياة المقدسة يقول لهم: "ابعدوا عنيّ يا ملاعين لأنيّ لا أعرفكم"... رابعًا: إن كان كالب قد نال الوعد من الله خلال موسى ممثل الناموس، لكن تحقيق الوعد لن يتم إلاَّ بيشوع الذي وحده يقدر أن يهب المكافأة. يقول العلامة أوريجانوس: [لقد تعلم كالب أولًا من موسى وبعد ذلك من يشوع الذي عاونه. إنه يقول ليشوع: "أنت تعلم الكلام الذي كلم به الرب موسى رجل الله" [6]. أنت تعلم الكلام الذي كلم به الرب، فإنه ليس من يقدر أن يدرك الكلمة التي نطق بها الرب لموسى إلاَّ يشوع وحده ليس من له إدراك للناموس مثل يسوع في تعليمه، إذ هو الذي علمنا وكشف لنا كل شيء، وهو الذي أوحى لبولس أن "الناموس روحي" (رو 7: 14)]. فيشوعنا هو الذي يعرف الوصية التي خلالها ننال المكافأة ليست كاستحقاق ذاتي لنا وإنما خلال يسوع ربنا، الذي يُقدم لنا الوصية والذي يسندنا في تنفيذها والذي يهبنا المكافأة عنها. خامسًا: أدرك كالب أن ميراثه إنما هو شركة ميراث مع يشوع، إذ يقول له: "أنت تعلم الكلام الذي كلم به الرب موسى رجل الله من جهتي ومن جهتك". إن امتيازنا الحق في التمتع بالميراث هو أننا "وارثون مع المسيح" (رو 8: 17)، ما نناله إنما هو ميراث المسيح نفسه، وأمجاده التي ننعم بها فيه، أي خلال عضويتنا في جسده. ليس لنا في أنفسنا استحقاق الميراث، لكن ثوبتنا في المسيح وهبنا هذا الاستحقاق. يقول الرسول بولس: "مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح" (أف 1: 3)، مؤكدًا أن مجد نعمته التي أنعم بها علينا إنما هي في المحبوب (أف 1: 6)، فإن كان المسيح هو محبوب الآب الذي له المجد، فإننا إذ صرنا فيه صارت لنا نعمة هذا المجد الذي له! وبأكثر إيضاح يُكمل الرسول: "الذي في نلنا نصيبنا" (أف 1: 11). سادسًا: إن كان ميراث كالب هو ثمرة اتحاده مع يشوع لينعم به وفيه بالمجد، فإن هذا لا يعني سلبية كالب أو تراخيه في تكميل الوصية، إذ يقول: "وأما أنا فاتبعت تمامًا الرب إلهي" [5]. وكأنه يقول: من جانبي قبلت وصية الرب إلهي الذي التقي معه على مستوى شخصي فصار منسوبًا ليّ "إلهي" وتممت وصيته تمامًا. إن كانت نعمة الله غنية جدًا في العطاء، لكنها لا توهب للمتراخين في تنفيذ الوصية الإلهية. أخيرًا نقول أن كالب يدعو الله "إلهي"، فمن يقبل الله إلهه شخصيًا، منسوبًا إليه، إنما أيضًا يقبل أمجاد الله أمجاده، وسمات الله سماته، ونوالنا الميراث إنما هو ثمرة ملكيتنا لله وملكية الله لنا: "أنا لحبيبي وحبيبي ليّ" (نش 6: 3). 3. كالب فوق الزمان... "والآن فها قد استحيانيّ الرب كما تكلم هذه الخمس والأربعين سنة من حين كلم الرب موسى بهذا الكلام حين سار إسرائيل في القفر. والآن فها أنا اليوم ابن خمسو وثمانين سنة، فلم أزل متشددًا كما في يوم أرسلني موسى" [10-11]. إن كان الميراث الذي ينعم به المؤمن هو الحياة الأبدية التي تعلو فوق الزمن، وهذا الميراث إنما هو امتداد لحياة يعيشها الإنسان هنا، لهذا يليق بنا لكي ننعم بالميراث أن ندخل الآن في دائرة الأبدية فلا نلتصق بدائرة الزمن التي بدورانها ترفعنا وتهبط من وقت إلى آخر. نعيش ونحن بعد على الأرض بفكر سماوي لا يقدر الزمن أن يفسده أو يضعفه. لقد نال كالب الوعد وهو في سن الأربعين وكان متشددًا في عمل الرب، والآن يتقدم ليشوع وهو في الخامسة والثمانين ولا يزال متشددًا كما كان منذ خمس وأربعين سنة. وكما سبق فتحدثنا في الأصحاح السابق أن المؤمن لا يعرف الشيخوخة العاجزة قط، فإنه وإن كان إنسانه الخارجي يفنى فالداخل يتجدد من يوم إلى يوم (2 كو 4: 16). يعلق العلامة أوريجانوسعلى كلمات كالب بن يفنة: "كما كانت قوتي حينئذ هكذا قوتي الآن" [11]، قائلًا: [القديس في الحقيقة يحمل ذات القوة في الحاضر كما في الماضي، في الأمور الجديدة كما في العتيقة، في الأناجيل كما في الناموس. كأنه يقول أنه يحمل ذات القوة في أيام يشوع كما كانت له في أيام موسى، فإن القلب اليقظ يدرك أسرار العهدين بذات القوة ]. 4. كالب المجاهد... "كما كانت قوتي حينئذ هكذا قوتي الآن للحرب وللخروج وللدخول" [11]. إن كان كالب قد نال الوعد في زمان موسى فإنه تمتع بذلك لأنه في قوته الروحية بالرب يقول: "تبعت تمامًا الرب إلهي" [8]، فكان متشددًا في تنفيذ وصية الرب؛ نواله الوعد لم يزده إلاَّ قوة روحية فلم يقدر الزمن أن يثبط من همته أو يرخي ذراعيه ، بل يقول: "هكذا قوتي الآن للحرب وللخروج وللدخول" [11]. كأنه يقول: لست أطلب الميراث وأنا مسترخِ لكنني تدربت بالروح كيف أجاهد روحيًا، محاربًا قوات الظلمة، كيف أخرج من البرية وأدخل أرض الموعد. لقد نجحت حين أخرجني موسى للتجسس، والآن ليّ ثقة في الرب أنني أنجح في الدخول إلى الموضع الذي أرثه... هذه الثقة، وهذه القوة، ليست من ذاته، إذ يقول: "لأنك أنت سمعت في ذلك اليوم أن العناقيين هناك والمدن عظيمة محصنة، لعل الرب معي فأطردهم كما تكلم الرب" [12]. إن قوة كالب دائمًا متشددة للحرب وللخروج وللدخول، أي للحرب الروحية خلالها يخرج من عار العبودية ليدخل في مجد الحرية. إن حياته خروج ودخول كعملية واحدة متكاملة وبغير توقف. خروج مستمر عن أعمال الإنسان العتيق أي صلبه، ودخول إلى أعمال الإنسان الجديد أي التمتع بقيامته. خروج عن الأنا بصلبها ودخول في المسيح يسوع واهب القيامة. خروج عن محبة الأمور الزمنية ودخول في الحياة السماوية. 5. كالب والجبل المقدس... "فالآن اعطني هذا الجبل الذي تكلم عنه الرب في ذلك اليوم" [12]. يقول العلامة أوريجانوس: [القديس لا يطلب شيئًا منخفضًا أو دنيئًا، ولا يسأل أمرًا في قاع الأدوية، إنما يطلب جبلًا مرتفعًا، جبلًا على قمته مدن عظيمة محصنة. يقول الكتاب بالحق: "إن العناقيين هناك والمدن عظيمة محصنة" [12]. إذن هذا هو موضوع طلبه، إذ كان يعرف فن الحرب، كما هو مكتوب: "الحكيم يتسور مدينة الجبابرة ويُسقط قوة معتمدها" (أم 21: 22). هل تظن أن سليمان بقوله هذا أراد منا أن نتعلم بأن الحكيم يستولى على مدن ويهدم أسوار مبنية بالحجارة؟! إنه قد عَنَى بالمدينة والأسوار أي العقائد والبراهين التي بها يبني الملحدون الفلاسفة كل الآراء الدنسة المضادة للناموس الإلهي والتي يستخدمها الوثنيون والبرابرة... ما هي المدن التي يهدمها الحكماء عند إعلاء كلمة الحق؟ إنها مدن الكذب التي يجب بالحق هدمها، كقول الرسول: "هادمين ظنونًا وكل علو يرتفع ضد معرفة الله" (2 كو 10: 5). اليوم يقف كالب الحكيم جدًا أمام يشوع ويعده أنه سيكون قويًا في الحرب مستعدًا للصراع، طالبًا منه الإذن بالجدال، لكي يهاجم حكماء الدهر الذين يؤكدون الكذب عوض الحق، ولكي ينقضهم ويقهرهم ويقلب كل أبنية مغالطاتهم، لهذا إذ نظر يشوع نشاطه "باركه" [13]؛ بلا شك باركه بإرادة وجرأة! وأنت أيضًا إن كرست حياتك للدراسة والتأمل في ناموس الله بروح الحكمة تصير قلبًا (كالب) يلهج في ناموس الله، قادرًا على هدم المدن العظيمة المحصنة، أي هدم أقوال مخترعي الكذب، بهذا تستحق بركة يشوع وتتسلم فيه حبرون]. هذا الجبل الذي اقتناه كالب إنما هو الجبل المقدس الذي يُعلن في آخر الأيام، فيأتي إليه الأمم ويصعد عليه الأبرار (إش 2: 2-4، مز 24: 63). أي السيد المسيح نفسه! هذا هو ميراثنا الحقيقي الذي نشتهي التمتع به! 6. تمتعه بحبرون... "فباركه يشوع وأعطى حبرون لكالب بن يفنة ملكًا... لأنه اتبع الرب إله إسرائيل" [13-14]. أثناء حديثنا في الأصحاح العاشر عن المدن التي استولى عليها يشوع، رأيناه يغتصب حبرون من ملكها (10: 37)، وقلنا أن "حبرون" تعني (قران) أو (زواج)، فبعد أن كانت النفس مرتبطة بالشيطان كعريس لها تحمل سماته الشريرة وتشترك معه في أفكاره الخبيثة وأعماله المهلكة، صارت تحت ناموس يشوع، عروسًا له تتحد به لتحمل فكره وسماته! هذه المكافأة التي ينالها كالب الأمين في تبعيته للرب، يدخل في حالة زواج روحي مع ربنا يسوع المسيح! وللعلامة أوريجانوس تعليق آخر إذ يقول: [حبرون معناها اتحاد أو زواج، ولعل هذا هو معنى هذه المقاطعة. فالمغارة المزدوجة التي أعدها الأب إبرآم موجودة في هذه المدينة حيث يرقد فيها باقي الآباء مع زوجاتهم؛ فيرقد فيها إبراهيم مع سارة (تك 23: 19)، واسحق مع رفقة، ويعقوب مع ليئة، إذًا استحق كالب أن ينال ميراثًا هو رفات هؤلاء الآباء, فبالحكمة التي اتسم بها كالب كانت قوته في أيام يشوع كما في أيام موسى، ففهم ماذا تعني هذه الوحدة بين الآباء وزوجاتهم. أدرك لماذا استراحت هنا سارة وحدها مع إبراهيم بينما حُرمت هاجر وقطورة من هذا الشرف، ولماذا رقدت ليئة وحدها بجوار يعقوب...]. لعل العلامة أوريجانوسيرى أن كالب قد أدرك بحكمته بنواله حبرون أن ينال الميراث الأبدي مع المسيح يسوع على مستوى الوحدة بين الآباء وزوجاتهم، ولكن بمفهوم روحي أعمق وأعظم. |
||||
17 - 01 - 2023, 11:13 AM | رقم المشاركة : ( 15 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير سفر يشوع
نصيب يهوذا إن كان غرب الأردن يمثل كنيسة العهد الجديد، فإن يهوذا يحتل مركز الصدارة، بكونه السبط الذي منه جاء ابن الله متجسدًا، فجاءت القرعة أولًا له. وكان لكالب بن يفنة قسمًا في وسط بني يهوذا... 1. نصيب يهوذا... في تقسيم أرض جلعاد شرق الأردن التي تملكوها خلال الناموس (أي في عهد موسى) بدأت القرعة برأوبين، لأنه البكر جسديًا. أما هنا فإذ يُشير التوزيع إلى ميراث العهد الجديد فلا التزام ببكورية الجسد بل بباكورة الروح، لهذا وقعت القرعة أولًا على السبط الملوكي "سبط يهوذا" الذي منه خرج ربنا يسوع المسيح حسب الجسد، "الأسد الخارج من سبط يهوذا" (رؤ 5: 5). كان لا بُد أن تختفي باكورية الجسد لتظهر باكورية الروح، وذلك إعلانًا عن احتلال ربنا يسوع مركز الصدارة كبكر البشرية عوض آدم الأول الجسداني، الأمر الذي هيأ له الكتاب المقدس برموز كثيرة كاحتلال يعقوب الباكورية عوض عيسو البكر جسديًا، وإسحق ابن الموعد عوض إسماعيل البكر حسب الجسد إلخ... الآن إذ عبرنا الأردن وصارت لنا الأرض الجديدة ميراثًا يتقدم بكرنا الروحي كقائد الكنيسة كلها وواهبًا سمته إذ هي أيضًا به قد صارت "كنيسة الأبكار". باكورة الروح في العهد الجديد لا تفقد الآخرين نعمة الباكورة، كما في الجسد حيث يحتلها المولود أولًا وحده! ليتنا لا نطلب أن يكون موضعنا وسط سبط رأوبين هذا الذي مزق ثيابه (تك 37: 29) ففقد باكوريته، إنما في سبط يهوذا الروحي بثبوتنا في الأسد الخارج منه، لنتأهل لنوال النصيب الأول من ميراث العهد الجديد. لنتقدم مع يهوذا إلى يشوع لننال نصيبنا فيه، ونأخذ قرعتنا بعد أن توقفت الحرب وتمتعنا بالسلام، وقيل عن جسدنا: "استراحت أرض من الحرب"! لقد أوضح الوحي الإلهي حدود نصيب يهوذا من كل اتجاه، الأمر الذي يحمل مفاهيم روحية عميقة. هنا نردد ما يقوله العلامة أوريجانوس: [بالرغم عن عجزنا فهم كل سرّ وشرحه، لكننا نحاول ذلك بالقدر الذي تهبنا إياه نعمة الله]. [من جهة فإن حدود نصيب يهوذا هي "تخم أدوم برية صين من جهة الجنوب" [1]. في دراستنا لسفر حزقيال رأينا أن أدوم مأخوذة عن آدم الذي يعني (ترابي)، (دموي) وأن آدم إنما يُقصد به عيسو أو سعير ]، وهو يُشير إلى عدو الخير الذي ينزل بقلبنا إلى التراب لنحيا بفكر أرضي، وبطبعه الدموي المحب لمقاتلتنا. يقول القديس أغسطينوس: [لا تنتظر أمانًا فالعدو يلاحقك باستمرار. إن لم يكن غضبه علنيًا فهو يسعى بمكر، ولذلك فقد سُمي الأسد والتنين، سموه أسدًا لما يبديه من غضب، وسموه تنينًا لما يخفي من مكره], فإن كنا في المسيح ننعم بالميراث لكن العدو يقف عند الحدود كأدوم عل حدود يهوذا، يقف كَمن عند الأبواب مشتاقًا أن يسلبنا طبيعتنا السماوية، منحدرًا بنا إلى محبة الأرضيات، إنه يقف كمقاوم يطلب هلاكنا ولا يستريح إلاَّ بسفك دمنا روحيًا. يبدأ حدود نصيب يهوذا بالكشف عن وجود تخم أدوم وبرية صين، والأخيرة تُشير إلى التجربة. فلا يمكن العبور إلى أرض يهوذا والتمتع بميراثه ما لم يجتاز أولًا برية التجارب، فالطريق كرب وضيق تحوط به التجارب بغير توقف، لكن هذا كله يزيد جهادنا قوة، حيث نترنم وسط الدموع، قائلين: "عند كثرة هموميّ في داخلي تعزياتك تلذذ نفسي". وسط الضيق يعلن السيد عن ذاته كسرّ راحتنا الحقيقية الأبدية. لهذا يقول القديس أغسطينوس: [التجارب والضيقات، وإن كثرت، سبيل لك إلى الكمال، وليست سبيلًا للهلاك] كما يقول: [العنقود مدّلي في الكرمة وحبة الزيتون على أمها، وطالما هما على أمهما يتمتعان بالهواء الطلق. فلا العنقود يصير خمرًا ولا حبة الزيتون تصير زيتًا ما لم يمر فوقها حجارة المعصرة. تلك هي حالة البشر الذين دعاهم الله قبل الأجيال ليجعلهم شبيهين بابنه الذي ظهر، بنوع خاص، في آلامه، وكأنه كرمة ثمينة]. يكمل الكتاب حديثه عن حدود يهوذا، هكذا: "وكان تخمهم الجنوبي أقصى بحر الملح من اللسان المتوجه نحو الجنوب، وخرج إلى الجنوب عقبة عقربيم وعبر إلى صين وصعد من جنوب قادش برنيع وعبر إلى حصرون، وصعد إلى أدار إلى القرقع" [2-3]. وكأنه يقول إن من يُريد التمتع بالسبط الملوكي يجتاز أولًا هذه الأماكن المُرّة حتى يعبر إلى الميراث في آمان. ليعبر أدوم وأيضًا صين، وليجتز البحر المالح وعقبة عقربيم! ماذا يعني "البحر المالح" إلاَّ التغلب على قلاقل الحياة ودوراناتها؟! ففي مياه البحر المالح يكمن التنين البحري (مز 104: 26) الذي حطمه السيد المسيح بدخوله إلى المياه ليصلبه في عقر داره! إذن لنحطم التنين خلال صلبنا مع ربنا يسوع المسيح فنعبر أرض ميراثنا بسلام. أما "عقبة عقربيم" فتُشير أيضًا إلى محاربات العدو ضدنا لأن "عقربيم" تعني في العبرية (عقارب)، وقد وهبنا الله سلطانًا أن ندوس على الحيات والعقارب وكل قوت العدو ولا يضرنا شيء (لو 10: 16). يقول العلامة أوريجانوس: [إن كنا نرغب في الدخول إلى ميراث سبط يهوذا، يلزمنا أن نمارس هذا النوع من الصعود, فنطأ العقارب ونسحقها، هذه هي التي تقطع الطريق وتهرب. إنه بلا شك الطريق الذي سلكه حزقيال، إذ يقول له الرب" "أنت ساكن بين عقارب" (حز 2: 6)]. هذه هي المناطق المحيطة بميراث يهوذا، إنها تجارب (صين) مستمرة وقلاقل (البحر المالح) وحروب من الشيطان كالعقارب (عقبة عقربيم) وشراسة منه (أدوم)، أما الداخل فمفرح للغاية ومبهج، حيث نلتقي بمياه عين (ينبوع) شمس [10]، وأورشليم مدينة الملك العظيم ورمز الحياة السماوية. يقول العلامة أوريجانوس: [ماذا تعني هذه الشمس؟ إنها تلك التي كُتب عنها: "ولكم أيها المتقون اسمي تشرق شمس البر" (ملا 4: 2)؟ فإن بدأت تتجاوز البحر المالح تجد نفسك في أرض يهوذا حيث ينبوع الشمس. ما هو هذا الينبوع؟ بالتأكيد ذاك الذي قال عنه يسوع: "ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد بل الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية" (يو 4: 14). وإذ نلتقي بنبع الشمس الذي تكلمنا عنه نجد المدينة، كما هو مكتوب أنه يوجد "بيت شمس" [10]. هذا ويقال أن بمصر أيضًا "بيت شمس"، لكن مدينة مصر أخذت اسم "الشمس" عن تلك التي يشرق بها الآب السماوي على الأبرار والأشرار (مت 5: 45) أما مدينة يهوذا فتخص القديسين وحدهم، لأنها مدينة الله، التي بها الينبوع إذ "نهر سواقية تفرح مدينة الله مقدس مساكن العلي" (مز 46: 4)]. يمكننا أيضًا أن نميز بين بيت شمس التي لمصر وتلك التي في تخوم يهوذا، الأولى تقوم داخل النفس المتعبدة لتمثال الشمس الحجري، التي لها صورة الشمس دون نورها أو بهائها. أما بيت شمس التي ليهوذا فتمثل النفس التي صارت بيتًا لشمس البر، أي هيكلًا للرب الذي يُنير حياتنا، هذا الذي يفيض ينبوع مياه الروح القدس فيه، إذ يقول حزقيال: "ثم أرجعني إلى مدخل البيت وإنما بمياه تخرج من عتبة البيت نحو المشرق، لأنه وجه البيت نحو الشرق، والمياه نازلة من تحت جانب البيت الأيمن عن جنوب المذبح" (حز 47: 1). هذا ما دعاه سفر يشوع "مياه عين شمس"، أي المياه التي تنبع خلال بيت المسيح، شمس البر! إن كانت أورشليم قد صارت في ميراث سبط بنيامين (18: 27) لكنها على حدود السبطين خاصة أنهما كونا مملكة مستقلة فيما بعد (مملكة يهوذا)، وقد تمتع يهوذا بالسكنى في أورشليم [63] هذه التي يقول عنها القديس أغسطينوس: [أورشليم الأرضية هذه إنما هي ظل أورشليم السماوية]. فقد اختار الله أورشليم بكونها الموضع الذي يسكن فيه اسمه (1 مل 11: 13، 2 مل 21، 4)، المدينة المقدسة التي يقطن فيها عرش الله (إر 3: 16 إلخ)، وعلامة لحلوله وسط شعبه، لذلك حينما يؤدب شعبه يهدد بتدميرها وخرابها (إر 9: 11، 13: 9، 27؛ خر 4، 5، ميخا 3: 12). تحدث عنها الأنبياء كمركز للعمل المسياني، إليها يعود كل الأمم (إش 2: 2 إلخ، 60: 1 إلخ، 66: 18- 20، ميخا 4: 1-3، حج 2: 7 إلخ). وفي العهد الجديد أعلن السيد المسيح اشتياقه لخلاص المدينة، وقد صارت في الكنيسة الأولى بعد حلول الروح القدس مركزًا للمسيحية فيها يلتقي الرسل والتلاميذ... لكن أنظار المؤمنين كانت بالأكثر تلتقي نحو أورشليم العليا (غلا 4: 26، عب 12: 22، رؤ 14: 1، رؤ 21) كغاية عبادتهم ]. والعجيب أن الكتاب يضف ميراث يهوذا هكذا: "هذا تخم بني يهوذا مستديرًا حسب عشائرهم" [12]. لم ينعم يهوذا فقط بالبكورية الروحية وبمياه عين شمس وإنما أيضًا بأن يكون نجمه "مستديرًا". نحن نعلم أن الدائرة تُشير إلى الأبدية حيث ليس لنا نقطة بداية ولا نهاية... فما ورثه يهوذا إنما هو الحياة الأبدية، أي التمتع بالسمة السماوية التي فوق كل حدود العالم وكأن من يدخل في هذا السبط روحيًا باتحاده مع الأسد الخارج منه، إنما ينطلق إلى ما هو فوق الميراث الزمني، ويرتفع فوق كل الأرضيات، ليصير قلبه وكل تخمه مستديرًا! حقًا لقد كان سبط يهوذا كسبط ملوكي يحمل القوة في داخله بحمله الطبيعة السماوية، حتى وإن أحاط به الأعداء من كل جانب: موآب من الشرق، وأدوم من الجنوب، وعماليق من الجنوب الغربي وإن كان من بعيد، والفلسطينيون من الغرب! 2. كالب وقرية أربع... في الأصحاح السابق طالب كالب بن يفنة القنزي حقه الذي وعده به الرب على لسان موسى، وهو امتلاك الجبل حيث المدن الحصينة وحبرون التي تعني (قران) أو (زواج). والآن إذ تسلم كالب "حبرون" والتي تدعى أيضًا "قرية أربع"، "طرد من هناك بني عناق الثلاثة: شيشاي وأخيمان وتلماي أولاد عناق" [14]. إن كان كالب بن يفنة القنزي الذي يُشير -كما قلنا- إلى القلب الذي تحوّل عن الاحتقار ودخل إلى المجد، قد نال حبرون مكافأة له، فدخل في زواج أو قران مقدس وروحي، فيه تتحد النفس مع عريسها إلى الأبد، فإن حبرون من جانب آخر تدعى قرية أربع. رقم 4 يُشير إلى العالم باتجاهاته الأربعة: الشرق والغرب والشمال والجنوب، فإنه أيضًا يُشير إلى الجسد المأخوذ من هذه الأرض أو هذا العالم. فصاحب القلب المقدس، الذي تحول إلى عريسه الأبدي يملك على جسده طاردًا منه بني عناق الثلاثة ليملك الرب أيضًا فيه. لا يكفي أن تكون قلوبنا أو حياتنا الداخلية مقدسة، وإنما يلزم أن نتطلع إلى أجسادنا بنظرة مقدسة، فكما نقدم للعريس قلوبنا الداخلية هكذا نقدم له أجسادنا، فيعمل الإنسان في كليته بنغم متوافق. يُشبه القديس غريغوريوس النيصي الإنسان في كليته بالقيثارة التي تحمل أوتارًا مختلفة لكنها تقدم بالروح القدس قطعة موسيقية متناسقة تُفرح قلب الله. يرى العلامة أوريجانوسأن "عناق" تعني متعجرف أو غير متضع، و"شيشاي" تعني خارج عن، أي خارج عن القديسين وخارج عن الله الحق ذاته، "أخيمان" تعني أخي بعيد عن الحكمة، و"تلماي" يعني معلق هاوية. خلال هذه المعاني يمكننا أن نقول أن حبروننا أي جسدنا الترابي متى سيطر عليه عناق أي روح الكبرياء وعدم الاتضاع إنما يسيطر عليه ثلاثة من مواليده يعملون معًا كملوك عليه ألا وهم: الخروج عن الله الحق وبالتالي البعد عن الحكمة مما يدفع الإنسان إلى أن يكون معلقًا في الهاوية أو منحدرًا إليها. ليتنا نكون ككالب، نطرد عنه الكبرياء أصل الداء، فلا نعود بعد نكون خارج الله سرّ حياتنا، ولا نحرم من الحكمة الإلهية وبالتالي لا ننحدر إلى الهاوية، بل على العكس نعود إلى الله فننعم بحكمته ونرتفع به من الهاوية إلى الحياة الأبدية. 3. كالب وقرية دبير... "صعد من هناك (حبرون) إلى سكان دبير، وكان اسم دبير قبلًا قرية سفر. وقال كالب: من يضرب قرية سفر ويأخذها أعطيه عكسة ابنتي امرأة. فأخذها عثنئيل بن قناز أخو كالب، فأعطاه عكسة ابنته امرأة وكان عند دخولها أنها غرته بطلب حقل من أبيها، فنزلت عن الحمار، فقال لها كالب: مالك. فقالت: أعطني بركة، لأنك أعطيتني أرض الجنوب فاعطني ينابيع ماء، فإعطاها الينابيع العليا والينابيع السفلى" [15-19]. لقد سأل كالب كممثل للقلب المقدس إن كان أحد يضرب قرية سفر "الكتاب" ويأخذها، فإنه يقدم له ابنته عكسة امرأة، وقد قام ابن أخوه(1) (عثنئيل بن قناز) بذلك، فأخذ قرية سفر التي صارت دبير أي (نطق) أو (تدبير)، فتزوج بعكسة. إن عثنئيل تعني (استجابة الرب)، فإنه لا يستطيع أحد أن يتقدم إلى قرية الكتاب المقدس ولا أن يفهم أسرارها العميقة ما لم يستجب الرب له، ففهمنا للكتاب هو عطية الله ونعمته التي يهبها لسائليه وإذ نال عثنئيل الكتاب أي قرية سفر، صارت بالنسبة له دبير، أي تحولت من كتاب حرفي إلى نطق وفهم داخلي وتدبير حيّ فيه... أي تحول من حرفية الناموس القاتلة إلى الروح واهب الحياة. أما زواجه بعكسة ابنة كالب، إنما تعني التصاقه بابنة الحياة المقدسة، التي تسأل البشرية أن يدخلوا إلى قرية الكتاب ليكشف الله لهم أسرارها. وعكسة نفسها كابنة الحياة المقدسة في الرب إنما تُشير أيضًا إلى معرفة الأسرار الروحية، وكأن عثنئيل التصق بأسرار الكتاب ليس كقرية يعيش فيها فحسب وإنما كزوجة شريكة حياته! ماذا فعلت عكسة أو أسرار الكلمة الإلهية بزوجها عثنئيل الذي استجاب له الرب طلبته؟ لقد أخذت من أبيها حقلًا كبركة تقدمها لزوجها، ثم عادت فنزلت عن الحمار لتطلب ينابيع ماء لرجلها فأعطاها أبوها الينابيع العليا والينابيع السفلى. يا لها من صورة رائعة للنفس التي تلتصق بالمعرفة الروحية التي هي ابنة الحياة المقدسة، فإنه خلال هذه الابنة تنعم النفس بالحقل أي الدخول إلى الكتاب المقدس بكونه الحقل الذي تعمل فيه لحساب الله وتفرح بثمر الروح، كما ترى المعرفة الداخلية قد نزلت عن الحمار، أي نزلت عن الاهتمام بالجسد، لتطلب ينابيع ماء أي ثمار الروح، فيوهب لها ثمارًا على مستوى سماوي علوي، كما تنعم بالثمر الذي تعيش به هنا على الأرض، يرافقها زمان غربتها أي (الينابيع السفلى). 4. أسماء المدن... حصر الكتاب المقدس أسماء المدن التي في تخم يهوذا، وكأن الوحي الإلهي يُريد أن يؤكد أن الميراث متسع لمن يريد، وأن عند الآب منازل كثيرة... ليتنا نؤمن ونجاهد برجاء شديد أننا نجد لنا في إحدى هذه المدن -السماوية- موضعًا لنا. 5. بقاء اليبوسيين في وسطهم... "وأما اليبوسيون الساكنون في أورشليم فلم يقدر بنو يهوذا على طردهم، فسكن اليبوسيون مع بني يهوذا في أورشليم إلى هذا اليوم" [63]. "إلى هذا اليوم" في الكتاب المقدس تعني (إلى انقضاء يوم هذا العالم)، فهل يسكن اليبوسيون في أورشليم مع بني يهوذا إلى انقضاء العالم؟ إن فسرنا ذلك روحيًا، فإن هذه الحقيقة مُرّة لكنها واقعية أن الزوان (اليبوسيين) يبقى مع الحنطة (بني يهوذا) في الكنيسة، أي أورشليم، إلى نهاية العالم، حيث يأتي وقت وقت الحصاد ويفرز الزوان عن الحنطة. لقد نصحنا السيد المسيح: "دعوهما ينميان كلاهما معًا إلى الحصاد لئلا تقلعوا الحنطة مع الزوان وأنتم تجمعونه" (مت 13: 29). يقول العلامة أوريجانوس: [إذ نسمع في الإنجيل بأن الحنطة تنمو مع الزوان، فإنه بنفس الطريقة يوجد في أورشليم أي الكنيسة اليبوسيون الذين يسلكون بحياة رديئة، هؤلاء الفاسدون في إيمانهم كما في أعمالهم وكل طريقة حياتهم. من المستحيل تتنقى الكنيسة بالكلية طالما هي على الأرض. يستحيل تتنقى فلا يكون ولا خاطئ واحد أو غير مؤمن، بل يكون الكل فيها قديسين، ليس فيهم أدنى خطية، هذا يمكن تطبيقه بخصوص من كانت خطاياهم مختفية، أو نتشكك في أمرهم، لكننا لا نقول أننا لا نطرد من الكنيسة الأشرار الظاهرين ]. إن كانت كلمة "يبوسي" تعني "يدوس بالأرجل" . فليحذر كل واحد منا لئلا يوجد في قلبه شيء يدوس علينا بالأقدام، أي خطية معينة تذل القلب وتدنس مقدسه الخفي. ليته لا يكون في داخلنا يبوسيون، هؤلاء الذين يسلكون في القلب كالخنازير التي تدوس دررنا بأرجلها وتلتفت لتمزقنا، كقول رب المجد (مت 7: 6)! |
||||
18 - 01 - 2023, 04:46 PM | رقم المشاركة : ( 16 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير سفر يشوع
مدن اللاويين حُرم اللاويون من النصيب الأرضي ليكون الرب نفسه هو نصيبهم وميراثهم الوحيد، وكما قلنا (ص 14) إنهم يقتنون الله حكمتهم وبرّهم وفداءهم إلخ... والعجيب أنهم إذ يحرمون من الأرض يقدم لهم الله 48 مدينة بين جميع الأسباط ليعيشوا وسط الكل يشهدون له بناموس الرب، أو كأنهم بالسرج التي استنارت بالنور الإلهي فتضيء على كل الأسباط لتكون الجماعة كلها مستنيرة بالرب الساكن فيهم. 1. اللاويون يطلبون المدن مع مسارحها... "ثم تقدم رؤساء آباء اللاويين إلى ألعازر الكاهن وإلى يشوع بن نون وإلى رؤساء آباء أسباط بني إسرائيل، وكلموهم في شيلوه في أرض كنعان قائلين: قد أمر الرب على يد موسى أن نُعطى مدنًا للسكن مع مسارحها لبهائمنا، فأعطى بنو إسرائيل اللاويين من نصيبهم حسب قول الرب هذه المدن مع مسارحها" [1-3]. تقدم الكهنة واللاويون في أشخاص رؤساء آبائهم ليطالبوا بحقهم في السكن وسط الشعب كله. من جهة من حق الكاهن ألاَّ يعيش منعزلًا عن الشعب بل في وسطهم، بكونه عضوًا حيًا في الجماعة، وخادمًا لهم يعمل لحسابهم في الرب. حينما يعزل الكاهن نفسه عن شعب الله في برج عاجي، مقيمًا حاجزًا أدبيًا بينه وبينهم، يفقد الكاهن حيويته وتتوقف رسالته ويتعثر شعب الله فيه. إن كان هو كاهن الله، إنما كاهن عن شعب الله في الرب رئيس الكهنة الأعظم. وكما وصلّ رئيس الكهنة الأعظم بيننا كواحد منا حتى يحتضنا مرتفعًا بنا إلى سمواته، هكذا يليق بكل كاهن في الرب أن يعيش في غير معزل عن الجماعة المقدسة حتى ينعم الكل معًا بالميراث الأبدي. هذا ومن جانب آخر، إذ يسكن في وسطهم يلزمه ألا يحمل معهم نصيبًا في الأرض حتى لا تربكه عن رسالته الروحية. يقول العلامة أوريجانوس: [إذ لا يحصل الكهنة واللاويون على أرض، يسكنون مع بني إسرائيل الذين لهم أرض. لكي يحصلوا منهم على الأشياء الأرضية التي ليست لهم، وبدورهم يحصل الإسرائيليون منهم على الأمور السماوية التي ليست لهم... بهذا يكون هدف الكهنة واللاويون الوحيد في نشاطهم وابتعادهم من كل الارتباطات الخارجية حتى يتفرغوا لكلام الله. ولكي يتكرسوا يلزمهم أن يقبلوا خدمة الشعب، فإن لم يقدم الشعب للكهنة واللاويين ما يحتاجون إليه - أقصد الأمور المادية - فقد يعوقهم هذا عن تكريس حياتهم بالكامل لناموس الرب. وإن لم يكرسوا حياتهم بالكامل لناموس الرب تصير أنت نفسك في خطر. فقد يظلم نور العالم فيهم كمن يضع زيتًا في السراج، وعندئذ يتم قول الرب: "أعمى يقود أعمى يسقطان كلاهما في حفرة" (مت 5: 14)، وأيضًا: "إن كان النور الذي فيك ظلامًا فالظلام كم يكون؟!" (مت 6: 23)]. 2. توزيع الكهنة واللاويين... كما وزعت الأرض على الأسباط بالقرعة فكشفت عن مفاهيم روحية معينة، وظلالًا للحياة السماوية، حتى أن العلامة أوريجانوساعتقد أن ما تم في أرض الموعد من تقسيم الأراضي والمدن على أسباط معينة إنما يحمل ظلالًا صادقة لمواقع روحية وأمجاد فائقة ينالها المؤمنون في الأبدية، أمور لا يسوغ لإنسان أن ينطق بها، هكذا أيضًا إذ وزعت مدن اللاويين على الأسباط بالقرعة لم يتحقق التوزيع جزافًا ولا بغير معنى، إنما نلاحظ الآتي: أولًا: أن الكهنة واللاويين بعشائرهم: الكهنة، بقية بني قهات، بني جرشون، بني مراري، جاء ترتيبهم في التوزيع حسب درجة سموهم متناسقًا مع سمو الأسباط. فإن كل الكهنة يحتلون المركز السامي روحيًا، فإن مدنهم قد جاءت في نصيب يهوذا وزملائه، السبط الذي يمثل القيادة الروحية الجديدة بتجسد الكلمة منه، والذي كان مركزه الشرق دائمًا في المحلة. وأما بنو قهات الذين منهم خرج الكهنة فتمتعوا بمدنهم وسط نصيب أفرايم وزملائه، حيث يمثل إفرايم الثمر الروحي المتكاثر. أما بنو مراري الذي يمثلون جانب المرّ في الصليب ، فجاءت مدنهم وسط سبط رأوبين وزملائه حيث فقد رأوبين بكوريته واغتصبها منه سبط يهوذا إلخ... |
||||
18 - 01 - 2023, 05:18 PM | رقم المشاركة : ( 17 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير سفر يشوع
حجر الشهادة بعد أن سلم القائد الروحي يشوع الوديعة خلال جهاده وفي لحظات انطلاقه من هذا العالم تقبل أيضًا الرسالة الإلهية الوداعية ليسلها لشعب الله، ويقيم حجر شهادة عند مقدس الرب الذي يذكرهم بأعمال الله معهم قبل أن يرحل عنهم بالجسد. 1. معاملات الله معهم... بعد أن تحدث يشوع مع رجاله بكل صراحة، مقدمًا لهم كل ما في جعبته قبل الرحيل، عاد أيضًا ليدعو شيوخ إسرائيل ورؤساءهم وقضاتهم وعرفائهم ليمتثلوا أمام الرب، وينطق يشوع لجميع الشعب بالكلمات الإلهية قبل رحيله مباشرة، فيها يؤكد الله أمانته في تحقيق مواعيده. لقد سبق فوعد إبراهيم أب الآباء حين دعاه وصار به في كل أرض كنعان كغريب ونزيه مؤكدًا له أنه يهبه إياه في شخص نسله، وها هو اليوم يتحقق وعده. لقد أخرجهم من أرض فرعون وعبر بهم بحر سوف الذي فيه غرق فرعون وجنوده وأنقذهم من أيدي الأموريين والفرزيين والكنعانيين والحثيين والجاجاشيين والحويين واليبوسيين إلخ... لقد أبرز يشوع بن نون أن إبراهيم نال المواعيد مع أن أباه كان يعبد آلهة أخرى، وكأنه يريد أن يؤكد لهم أن انتسابهم لآباء القديسين أو أشرار لن يفيدهم أو يضرهم، إنما ما يفيدهم طاعتهم للرب ويضرهم عصيانهم عليه. ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [هذه النصيحة أقدمها لكم... ليتنا لا نجعل من شر آبائنا حجة نتذرع بها، فإننا متى كنا حريصين لا يعوقنا شيء من هذا، فإنه حتى إبراهيم كان أبوه غير مؤمن لكنه لم يرث شره بل صار عزيزًا لدى الله!]. يقو لهم الرب: "وأرسلت قدامكم الزنابير، وطردتهم من أمامكم أي ملكي الأموريين لا بسيفك ولا بقوسك. وأعطيتكم أرضًا لم تتعبوا عليها، ومدن لم تبنوها، وتسكنون بها، ومن كروم وزيتون لم تغرسوها تأكلون" [12-13]. ماذا يقصد بالزنابير التي أرسلها قدامكم؟ لعله قصد المصريين الذين هاجموا هذه المنطقة قبل العبرانيين إليهم بفترة حطمت قوى الملوك وهيأت لهم الطريق، إن التاريخ كله، بل والأحداث كلها إنما تسير بخطة إلهية غير منظورة تعمل لخلاصنا. رعاية الله فائقة وفوق كل إدراك! لقد سمح الله بهجوم فرعون، ولم يكن يعلم المؤمنون أن هذا لأجلهم، حتى يتمتعوا بالميراث بلا تعب! 2. تقديس الإرادة البشرية... إن كان سفر يشوع إنما يضم معاملات الله الفائقة مع شعبه لكي يرثوا ويملكوا، إنما لأنه يقدم الحب الإلهي حتى يقبلوه بالحب من جانبهم. إنه لا يطلب عبادتهم كفريضة إلزامية قسرية لكن طلب الحب الخارج خلال كمال حرية الإنسان، فإن الله يقدس الحرية الإنسانية بكونها صورة حيَّة لله، وإعلانًا عن بر الله وحبه العملي... فو يطلب الإنسان ليس كعبد بل كابن حرّ يلتصق بأبيه بفرح وسرور. لهذا يؤكد يشوع بن نون لهم: "إن ساء في أعينكم أن تعبدوا الرب فاختاروا لأنفسكم اليوم من تعبدون..." [15]. وإذ قدم يشوع نفسه مثلًا، قائلًا: "أما أنا وبيتي فنعبد الرب"، أجابوا هم وقالوا: "حاشا لنا أن نترك الرب لنعبد آلهة أخرى" [16]. مرة أخرى أراد يشوع أن تنبع العبادة لله عن حرية كاملة، إذ يقول للشعب: "لا تقدرون أن تعبدوا الرب لأنه إله قدوس وإله غيور هو، لا يغفر ذنوبكم وخطاياكم" [19]، مؤكدًا لهم إن عبدوه لكن في غير حياة مقدسة إنما يجلبون التأديب عليهم، وإن اختاروا الآلهة الغريبة نصيبهم... وقد أكد الشعب مرة أخرى: "لا، بل الرب نعبد" [21]. يتحدث القديس يوحنا الذهبي الفممن حرية الإرادة، قائلًا: [لا يغصبنا الله ولا تلزم نعمة الروح إراداتنا، لكن الله ينادينا، وينتظر أن نتقدم إليه بكامل حريتنا، فإذا اقتربنا يهبنا كل عونه]، [الله لا يلزم الذين لا يريدونه، لكنه يجتذب الذين يريدون]، [أوجد الخالق طبيعتنا سيدة نفسها، ففي رحمته يهبنا معونته على الدوام وهو يدرك ما هو خفي في أعماق القلب. إنه يرجونا وينصحنا وينهانا ويحذرنا من التصرفات الشريرة، لكنه لا يفرض علينا شيئًا قسرًا. يعرض الأدوية المناسبة، تاركًا الأمر كله لقرار المريض نفسه]. 3. إقامة حجر شهادة... إذ قطع يشوع عهدًا للشعب في ذلك اليوم، يؤكدون التزامهم بعبادة الرب وحده بكامل حريتهم واختيارهم: "أخذ حجرًا كبيرًا ونصبه هناك تحت البلوطة التي عند مقدس الرب" [26]. يقول القديس باسيليوس: [أقام يشوع بن نون حجرًا كشاهد على أقواله، وقد سبق يعقوب فأشهد كوم حجارة على كلامه (تك 31: 47)... ولربما كان يظن أن الحجارة ذاتها تنطق بقوة الله لخزي العصاة، أو على الأقل ليخز ضمير كل فرد بقوة التحذير ]. يرى القديس كيبريانوس أن حجر الشهادة هنا إنما تشير إلى السيد المسيح نفسه. لقد حدثنا الكتاب المقدس كثيرًا عن السيد المسيح بكونه الحجر الحيّ التي تقوم عليه كنيسته، هذا الذي رفضه البناؤون وقد صار حجر الزاوية... رآه دانيال النبي وقد صار جبلًا (دا 2: 31-35)، هذا الذي يقول عنه إشعياء النبي أن يعلن في آخر الأيام فيأتي إليه الأمم ويصعد عليه الأبرار (أش 2: 2-4). 4. موت يشوع... أُفتتح هذا السفر بموت موسى حيث بدون موته لم يكن ممكنًا العبور والتمتع بالميراث، ويُختتم هذا السفر بموت يشوع إذ بدون موته وقيامته لن يتحقق الخلاص. لقد أعلن السفر موت يشوع ودفن عظام يوسف وموت ألعازر رئيس الكهنة، إن كان يشوع يشير إلى يسوع المخلص فبموته استراحت عظام يوسف التي طال أنظارها لذلك اليوم، إذ قال يوسف لإخوته: "أن أموت، ولكن الله سيفتقدكم ويصعدكم من هذه الأرض إلى الأرض التي حلف لإبراهيم ولإسحق ويعقوب"، واستحلف يوسف بني إسرائيل قائلًا: "الله سيفتقدكم، فتصعدون عظامي إلى أرض الميراث. وكأنه يمثل الكنيسة المتغربة هنا التي لن تستريح تمامًا إلا حين تصعد أجسادنا في اليوم العظيم لتقيم حيث يشوع الجديد قائم. لكن في طبيعة جديدة تليق بالأبدية. أما موت ألعازر، الذي يعني "إلهي يعين" وهو رئيس كهنة، إنما يشير إلى أنه بموت السيد المسيح انطلق كرئيس كهنة، إلهنا الذي يعيننا بدمه، يشفع فينا لدى أبيه، مقدمًا إيانا أعضاء جسده المقدس. |
||||
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|