أثر الاتحاد الأقنومي على طبيعة الناسوت:
الله الكلمة، بتجسده، أخذ طوعا الأهواء غير الخاطئة مثل (الجوع والعطش والتعب) للطبيعة البشرية بعد السقوط، فيما عدا الخطية. لكن بالاتحاد الأقنومي، بدأ الفعل المحيي للطبيعة الإلهية يؤثر على الطبيعة البشرية ويغيرها حتى أنه أعاد خلقها من جديد وشكلها وجددها بالكامل. بينما كل الفلاسفة والعلماء ومؤسسي الديانات…الخ. قدموا تربية علاجية وتربوية وأخلاقية للبشر بعد السقوط، إلا أن المسيح وحده استطاع ويستطيع أن يعيد خلقة البشر من خلال إعادة تجديد وإصلاح الطبيعة البشرية.
أ- إعادة إصلاح وتكميل الطبيعة البشرية:
يعلن لنا الكتاب المقدس أن الإنسان خلق «بحسب صورة الله». بهذا التعبير أعلن أن الطبيعة البشرية (لآدم) كانت متحدة بالله «بحسب الفعل» أو «بحسب النعمة» لكن بالسقوط، حرمت الطبيعة البشرية من اتحادها بالله «بحسب النعمة»، ومن اللباس الإلهي، والنتيجة ظل الإنسان عاريا وناقصا ومبتورا. بالاتحاد الأقنومي، ارتدى الله الكلمة طوعا الطبيعة البشرية العارية وألبسها مرة أخري الحلة الأولى (انظر لو ١٥: ٢٢).
بالاتحاد الأقنومي اتحدت الطبيعة البشرية بالطبيعة الإلهية في شخص الله الكلمة المتجسد، جعل يسوع المسيح أصلا أو نموذجا للإنسان الكامل. إذ في شخص المسيح أعيدت الرابطة بين الله والإنسان. بالسقوط، انفصل الإنسان الله. وبالاتحاد الأقنومي، رجعت الطبيعة البشرية «إلى بيتها» (انظر لو ١: ٥٦). لم تعد فيما بعد بلا مأوى وجرداء ووحيدة، فالطبيعة البشرية (مثل الابن الضال) وجدت مرة ثانية في حضن الله الآب أي مكانها الطبيعي. لقد تقابل الإنسان مرة ثانية مع الله.
ب- الانتصار على سيادة الفساد والموت:
اتخاذ «الأهواء غير الخاطئة» للطبيعة البشرية بعد السقوط كان طوعا، كما رأينا، وكان له ملمحا خلاصيا. الاتحاد الأقنومي بين اللاهوت والناسوت في شخص المسيح كان من نتائجه الانتصار على الفساد وإبطال الموت.
كانت طبيعة الإنسان الأول متحدة بالنعمة الإلهية، كانت تحيا حياة الله، كانت لديها إمكانية الحياة الأبدية، الخلود وعدم الموت. لكن بالسقوط فقد الإنسان عطية الخلود وساد عليه الموت.
بالاتحاد الأقنومي، صار شخص الكلمة المحيي والمتجسد «نبع الحياة للطبيعة البشرية، التي بهذه الطريقة، قامت وصارت غير فاسدة وغير مائته، عادت الطبيعة البشرية الفاسدة والمائتة، وهي متحدة في شخص الكلمة المتجسد، للحياة مرة أخرى واكتسبت ثانية عدم فسادها وعدم موتها، إن جسد المسيح الذي مات وفير في قبر جديد (انظر مت ٢٧: ٦٠) لم يتحلل ولم يظل أساسا في القبر، بل بعد ثلاثة أيام قام منتصرا على الفساد والموت.
لقد قبل المسيح طوعا الموت والأهواء غير الخاطئة للطبيعة البشرية الساقطة لكن وهو قابل لهذه الأهواء، لم ينتصر فقط عليها بل حررها. وبهذه الطريقة حرر الطبيعة البشرية من الأشواك التي سممت الإنسان.
ت- الانتصار على الجهل وعدم المعرفة:
لقد أخذ أيضا الله الكلمة طوعا ذهن الإنسان المتغرب، لقد ظهر المسيح في الأناجيل – كما شرحنا في الجزء الأول – من جهة يجهل أمورا معينة أو حالات معينة ومن جهة أخرى اكتسب، بالنمو في النعمة والقامة، المعرفة والحكمة (انظر لو٢: ٥٢).
د- تقديس وتطهير الطبيعة البشرية: بالتالي تجسد الكلمة هو لأجلنا وموته وقيامته وصعوده وجلوسه عن يمين الآب ه لأجلنا. هكذا حين أخلى ذاته كان لأجلنا وكذلك حين قيل إنه أخذ، فهذا لأجلنا. وحين تقدس، فهذا أيضا لأجلنا، كما أكد القديس أثناسيوس، قائلًا: «وكما أنه وهو الذي يقدس الجميع، يقول أيضا أنه يقدس نفسه للآب من أجلنا ليس بالطبع لكي يكون اللوغوس مقدسًا، بل لكي بتقديس ذاته يقدسنا جميعًا في ذاته.
وهكذا بنفس المعنى ينبغي أن نفهم ما يقال إنه تمجد. ليس لكي يمجد هو (أي اللوغوس) نفسه إذ أنه هو الأعلى بل لكي هو ذاته يصير برا من أجلنا» … (ضد الأريوسيين فقرة ٤١ ص ١٠٧)، لقد صرنا شركاء الطبيعة الإلهية بواسطة الروح القدس، فالمسيح يتصور فينا بالروح القدس، كما يؤكد القديس كيرلس، قائلًا: «إن الكلمة الذي من الله الآب يرقينا إلى حد أن يجعلنا شركاء طبيعته الإلهية بواسطة الروح (القدس). وبذلك صار له الآن إخوة مشابهون له وحاملون صورة طبيعته الإلهية من جهة التقديس.
لأن المسيح يتصور فينا هكذا: بأن يغيرنا الروح القدس تغييرًا جذريًا من صفاتنا البشرية إلى صفاته هو. وفي ذلك يقول لنا بولس الطوباوي: «وأما أنتم فلستم في الجسد بل في الروح» (رو ۸: ۹)، فمع أن الابن لا يحول أحدا قط من ترتسم بنوع ما في الذين صاروا شركاء طبيعته الإلهية بقبول الروح القدس، وبهاء لاهوته غير المفحوص يضيء مثل البرق في نفوس القديسين» …
أختم بعبارة قالها القديس كيرلس تلخص ما تسلمه من التقليد السكندري:
“الله الكلمة لم يأت إلى الإنسان ولكنه قد صار بالحق إنسان وهو بعد إله”…