رفض أثينا للكرازة: + وغادر بولس أثينا، ولأول مرة نراه يشعر بالخيبة، وقصد إلى كورنثوس ليجد فيها سفينة تحمله إلى وطنه. وفي بادئ الأمر لم يهدف إلى تبشيرها. لأنها مدينة هي ممر بين الشرق والغرب، اشتهرت بمجونها وفسادها إلى درجة أن اسمها كان مرادفًا للانهيار الخُلقي. وبما أنه اضطر إلى الانتظار قصد إلى حي العمال ووجد به دكان صانع للخيام إذ كان هو خيّاميًا. فطلب عملًا، ورحّب به صاحبها -أكيلا- وتعاطف معه لفوره. وعرّفه بزوجته بريسكلا، وأعطاه ركنًا في دكانه وغرفة في بيته. وهكذا بدأت صداقة من أحلى الصداقات انتهت بإيمان الزوجين بالسيد المسيح، بل وبخدمتهما الكرازية وخدمتهما لبولس نفسه.
+ واحتدمت روحه في داخله وهو ينتظر السفينة. فبدأ كرازته في كورنثوس " فِي ضَعْفٍ، وَخَوْفٍ، وَرِعْدَةٍ " (1كو 2: 3) على حد تعبيره شخصيًا. وكان يعمل في النهار ويكرز في الليل. وفي السبوت كان يذهب إلى المجمع ليعلن فيه أن المسيا قد جاء بالفعل وتحققت فيه كل النبوات. ولكنهم لم يستطيعوا أن يحتملوا الكلام، وكعادتهم هاجوا وقاوموه، واحتملهم قدر إمكانه. أخيرًا "نَفَضَ ثِيَابَهُ وَقَالَ لَهُمْ: دَمُكُمْ عَلَى رُؤُوسِكُمْ! أَنَا بَرِيءٌ. مِنَ الآنَ أَذْهَبُ إِلَى الأُمَمِ" (أع 18: 6). وترك المجمع ودخل إلى بيت "يُوسْتُسُ" الذي أصبح من تلك الساعة مركز الكرازة، وكان بين مستمعيه السكارى واللصوص والزناة وخريجو السجون جنبًا إلى جنب مع المحتشمين الصالحين. ولكن قلوبهم جميعًا قد امتلأت من سلام الله وسطعت عيونهم بنور الرجاء. فقد ذاقوا وعرفوا ما أطيب الرب، هذا الذي جاء ليدعو خطاة إلى التوبة. وامتلأ بولس فرحًا وثقة، وتعجب من نفسه، كيف خامرته الخيبة.
+ ويا للعجب، فأولئك الذين تباهوا بأنهم شعب الله المختار، ومنهم قام الأنبياء ليعلنوا عن مجيء المسيا، قد قاومت غالبيتهم بولس في كل مكان. والشعوب الأخرى التي تعالوا عليها في تشامخ قد فرحت غالبيتها برسالة بولس وسارعت إلى الإيمان بالمسيا. إذن فليس من شك في أنه كان هناك حنين دفين داخل نفوس "الأمميين" إلى السيد المسيح برز لساعته عند سماعهم البشرى المفرحة.
+ وذات يوم وهو يشتغل في الدكان إذا بظل وقع عليه. فرفع بصره ليرى سيلا وتيموثيئوس عند الباب. أخيرًا وصلته أنباء عن تسالونيكي: أنباء منعشة مفرحة: "إن إيمانهم غير متزعزع، وهم شديدو التعاطف معك، ويتمنون رؤيتك، ولكنهم قلقون لأن بعض أحبائهم قد رقد". قال بولس: "يا لفرحتي بإيمانهم! وأنا أيضًا اشتهي أن أراهم! ولكني لا أستطيع لأن الكنيسة تنمو". وصمت قليلًا وقد قفز خياله إلى هؤلاء الأحبة، ثم قال بشيء من الفرح أيضًا: "ما دمت لا أستطيع رؤيتهم فسأكتب لهم".