رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
مثل حبّة الخردل
"قدّم لهم مثلًا آخر، قائلًا: يشبه ملكوت السماوات حبّة خردل أخذها إنسان وزرعها في حقله. وهي أصغر جميع البذور، ولكن متّى نمت فهي أكبر البقول، وتصير شجرة حتى أن طيور السماء تأتي وتتآوى في أغصانها" [31-32]. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إذ حدّثنا السيّد بأن ثلاثة أقسام من البذار يهلك (في مثل الزارع 1-9) والقسم الأخير يخلص، بل حتى هذا الذي يخلص يهلَك بعضه بسبب الزوان الذي يُزرع في وسطه، فلئلا يقول أحد: إذن من يخلص...؟ لهذا قدّم مثل حبّة الخردل لينزع عنهم هذا القلق.] حقًا في المثل الأول يحدّثنا عن عمل الله في ملكوته بكونه الزارع الذي يقدّم ذاته بذارًا حيّة داخل القلب، وفي المثل الثاني يحدّثنا عن التزامنا باليقظة من عدوّ الخير الذي يُلقي الزوان سرًا ليملك العدوّ على القلب عِوض المسيّا المخلّص. أمّا في هذا المثل، فيقدّم لنا عن إمكانيّة الملكوت الحيّ الذي يعمل في القلب ليمتد في العالم بالرغم من مقاومة العدوّ. إنه يشبَّه بحبّة الخردل الصغيرة، وقد ألقيت في حقل وسط التربة، تحاصرها الظلمة من كل جانب، ويضغط ثقل الطين عليها، لكن "الحياة" الكامنة فيها تنطلق خلال هذه التربة لتصير شجرة تجذب إليها الطيور لتأوي فيها. حقًا إن المؤمن كعضو في ملكوت السماوات يحاصر عدوّ الخير من كل جانب بظلمته ليفقده استنارته الروحيّة. ويحرمه من التمتّع بشمس البر،ّ والارتفاع عن الأرضيّات، ويثقِّل عليه بالطين، فيستخدم شهوات الجسد الترابي ليكتم أنفاس روحه. لكن الروح القدس الناري في قلبه ينطلق به خلال هذا الجهاد كعملاق حيّ، لا ليحيا مقدّسًا للرب فحسب، وإنما ينجذب نحوه الكثيرون. يسندهم في الحياة المقدّسة. يكون كشجرة تضم داخلها طيورًا كثيرة، على أغصانها تتراقص متهلّلة بالتسابيح المقدّسة، وتقيم أعشاش فتأتي بصغار يتعلّمون الطيران منطلقة نحو السماويات. إن كان ملكوت السماوات المعلن في داخلنا يعلن عن حلول السيّد المسيح في داخلنا. نقبله فينا مصلوبًا، قائمًا من الأموات، نحمل شركة آلامه فينا لننعم بقوة قيامته، متمثلين بشبه موته، فإن حبة الخردل التي تُدفن في الحقل هي المسيح المتألّم الذي يُدفن فينا ويقوم شجرة حياة في قلبنا! يرى الآباء في حبّة الخردل الصغيرة أن قيمتها لا تظهر إلا بدفنها. فتظهر شجرة عظيمة تأوي طيور السماء، ويستظل تحتها حيوانات البرّيّة، أو بسحقها تقدّم طعامًا مفيدًا "الموستاردة" Mustard. هكذا بالتجسّد الإلهي ظهر الله الكلمة كصغير جدًا، إذ صار عبدًا، لكن بقبره قام واهبًا إيّانا سرّ الحياة. نأوي في أغصان كنيسته كطيور محلّقة في السماوات، ونستظل تحته، كقول النشيد: "تحت ظلِّه اشتهيت أن أجلس" (نش 2: 3). بسحقه قدّم لنا جسده طعامًا روحيًا، ذبيحة حقَّة واهبة التقديس! * يقارن الرب نفسه بحَبَّة الخردل، وهي أمرّ البذور وأصغرها، تُعلن فضيلتها (نفعها) خلال سحقها. القديس هيلاري أسقف بواتييه * إنه حَبّة الخردل، نمت في بستان القبر إلى شجرة عظيمة. لم يكن إلا حَبّة حين مات وشجرة عندما قام. كان بذرة في تواضع جسده وشجرة في قوّة عظمته...! في هذه الفروع تجد الطيور راحتها، لأن النفوس النقيّة إذ ترتفع بأجنحة نعمته تجد في كلماته راحتها من الهموم الأرضيّة والتعزية من قلاقل الحياة الحاضرة. الأب غريغوريوس (الكبير) إن كانت حَبّة الخردل تمثّل شخص السيّد المسيح المتألّم، فهي تمثِّل إنجيله والكرازة به. أو قُل هي الإيمان بالمسيّا المصلوب. إنها تحمل قوّة في داخلها قادرة على جذب الكثيرين للملكوت، بالرغم من أن الكارزين بها بسطاء وأُميُّون. * بذرة الإنجيل هي أصغر البذور، لأن التلاميذ كانوا أكثر حياءً من غيرهم، لكنهم يحملون فيهم قوّة عظيمة، فانتشرت كرازتهم في العالم كله(579). القديس يوحنا الذهبي الفم * عندما تنمو تعاليم الفلاسفة لا تُعلن شيئًا كامل النضوج أو حيويًا، بل كل ما هو رخو ومترهِّل. إنها غزيرة في أوراقها وسيقانها التي تذبل بسرعة وتهلك. أمّا الإنجيل فإذ يُكرز به يبدو في البداية غير واضح، لكنّه إذ يُبذر داخل نفس المؤمن ينتشر في كل العالم، ولا يرتفع كشُجيْرة بل كشجرة تأتي طيور السماء لتسكن في أغصانها، أي أرواح المؤمنين أو القوّات المكرّسة لخدمة الله. إنها تصير شجرة، وكما اَعتقد أن أغصان الشجرة الإنجيليّة التي تنبت عن بذرة الخردل إنّما هي التعاليم المقدّسة المتنوّعة، التي يقال عنها أن الطير يجد فيها راحته. ليتنا نأخذ أجنحة حمامة ونطير لنسكن في فروع هذه الشجرة، ونصنع لأنفسنا عشًا في تعاليمها، تاركين وراءنا الأمور الأرضيّة، مسرعين إلى ما هو سماوي. القديس جيروم يقول القديس أمبروسيوس: [إن كان ملكوت السماوات يشبه حَبّة الخردل، والإيمان أيضًا يشبه حَبّة خردل (مت 17: 20)، إذًا فالإيمان بالحق هو ملكوت السماوات، وملكوت السماوات هو الإيمان، (بمعنى أن من له إيمان له ملكوت السماوات، ملكوت السماوات داخلنا (لو 17: 21)، والإيمان أيضًا داخلنا... والآن ليتنا نقيّم المقارنة التالية من طبيعة الخردل: حقًا إن حَبّة الخردل هي بسيطة جدًا وقليلة القيمة، لكنها إن سُحقت أو عُصِرت تظهر قوّتها، هكذا يبدو الإيمان بسيط جدًا، لكنّه إن سُحق خلال الأعداء يُبرهن على قوّته، إذ يملأ الآخرين الذين يسمعون أو يقرأون عنه برائحة حلاوته. شهداؤنا فيلكس ونابور وفيكتور تمتّعوا برائحة الإيمان الزكيّة، لكن أثناء حياتهم كانوا في غموض، وعندما جاء الاضطهاد أرخوا أذرعتهم وأحنوا رقابهم فضُربت بالسيف، وبهذا فإن نعمة استشهادهم قد انتشرت إلى أقاصي الأرض، وبحق قيل: "خرجت أصواتهم إلى كل الأرض" (مز 19: 4). فالإيمان تارة يُسحق، وأخرى يُعصر، وفي وقت آخر يُزرع (يدفن). الرب نفسه هو حَبّة الخردل، بدون الآلام ما كان للشعب أن يعرفه كحَبَّة خردل ولا يلاحظه. لقد اختار أن يُسحق، لكن نقول: "لأننا رائحة المسيح الزكيّة لله"(2 كو 2: 15). اختار أن يُضغط عليه (يُعصر) حيث قال بطرس: "الجموع يضيِّقون عليك ويزحمونك" (لو 8: 45). واختار أن يُزرع في الأرض كبذرة أخذها إنسان وغرسها في بستانه. ففي البستان أُخذ المسيح سجينًا وأيضًا في البستان دُفن. لقد "نبت" في بستان حيث قام من الأموات وصار شجرة، كما هو مكتوب: "كالتفاح بين شجر الوعْر كذلك حبيبي بين البنين" (نش 2: 3). هكذا ليُزرع المسيح في بستانك، فإن البستان هو الموضع الممتلئ زهورًا وثمارًا متنوّعة، فتنمو الفضيلة التي لجهادك وتفيح العذوبة المتعدّدة لفضائله الكثيرة! حيث يوجد الثمر يوجد المسيح. لتَزرع يسوع الرب، فهو بذرة حين يَمسك به إنسان، وهو شجرة حين يقوم، إنه الشجرة التي تعطي ظلًا للعالم! إنه بذرة يُدفن في القبر، وهو شجرة حين يقوم إلى السماء! لتضغط عيه باقترابك إليه جدًا ولتبذر الإيمان! فإنّنا نتبعه عن قرب ونبذر الإيمان عندما نعبد المسيح المصلوب. فقد اقترب إليه بولس بإيمان عندما قال "وأنا لمّا أتيتُ إليكم أيها الإخوة أتيتُ ليس بسموّ الكلام أو الحكمة مناديًا لكم بشهادة المسيح، لأني لم أعزِم أن أعرف شيئًا بينكم إلا يسوع المسيح وإيّاه مصلوبًا" (1 كو 2: 1-2)... إننا نبذر الإيمان عندما نؤمن بآلام الرب خلال الكتابات النبويّة والرسوليّة. لذلك نبذر الإيمان كما لو كنّا ندفنه في تربة جسد الرب اللطيفة والرقيقة حتى أنه باحتضانه الجسد المقدّس وحرارته ينتشر الإيمان في الخارج. من يؤمن أن ابن الله صار إنسانًا، يؤمن أنه مات لأجلنا وقام أيضًا؛ لذلك أبذر الإيمان عندما أزرعه في قبر السيّد. أتريد أن تعرف المسيح البذرة؟ المسيح المزروع؟ "إن لم تقع حَبّة الحنطة في الأرض وتمُت فهي تبقى وحدها، ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير" (يو 12: 24)... لا تحتقر حَبّة الخردل هذه فإنها "وهي أصغر جميع البذور ولكن متى نَمَت فهي أكبر البقول وتصير شجرة" [32].إن كان المسيح هو حَبّة الخردل، ففي أي شيء هو أصغر البذار؟ وكيف ينمو؟ بالحق إنه لا ينمو في طبيعته، وإنما في الخارج (الجسد)! أتريد أن تراه أصغر الجميع؟ نراه، "لا صورة له ولا جمال" (إش 53: 2)، انظر إليه فتجده أكبر الكل "أنت أبرع جمالًا من بنيّ البشر" (مز 45: 3). فمن لا جمال له ولا صورة يصير أبرع جمالًا من الملائكة وفوق مجد الأنبياء...! المسيح هو بذرة، لأنه من نسل إبراهيم: "وأما المواعيد فقيلت في إبراهيم وفي نسله، لا يقول وفي الأنسال كأنه عن كثيرين، بل كأنه عن واحد، وفي نسلك الذي هو المسيح" (غل 3: 16). إنه ليس في حكمة هذا العالم، لكن فجأة كشف عن شجرة السمو المرتفع لقدرته، حتى نقول: "تحت ظلِّه اشتهيتُ أن أجلس" (نش 2: 3)... هناك تستريح الملائكة والقوّات السماويّة والذين يستحقّون أعمال الروح أن يطيروا إليه. هناك استراح يوحنا عندما اتكأ على صدر يسوع (يو 13: 25؛ 21: 20). ومن ساق الشجرة تخرج أغصانًا؛ فبطرس غصن وأيضًا بولس مثله، إذ "يَنسى ما هو وراء ويمتدّ إلى ما هو قدّام" (في 3: 13)... هذا الذي يحدّثنا معلّما إيّانا نحن الذين كنّا قبلًا بعيدين (أف 2: 13)، فاجتمعنا من الأمم، نحن الذين كنّا في ارتباكات روح الشرّ وهموم هذا العالم وقد أُلقينا خارجًا في زمانًا طويلًا، والآن قد صار لنا أجنحة القداسة، مسرعين بالطيران لكي نحتمي في ظلال القدّيسين من حرّ هذا العالم، فنسكن بسعادة في سلام هذا الميناء الأكيد، مادامت نفوسنا التي كانت قبلًا كالمرأة المذكورة في الإنجيل أنها مثقّلة بالخطايا وقد خلصت كالعصفور من فخ الصيّادين (مز 124: 7) وارتفعت على الجبال إلى أغصان الرب (مز 10: 1)]. القديس أمبروسيوس |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
صورة حبّة الخردل (مر 4: 30-32) |
تغسير مثَل الخميرة في الكتاب المقدس |
تغسير مثَل الزوان في الكتاب المقدس |
ليتنا نزرع في قلوبنا حبّة الخردل |
زوادة اليوم: حبّة الخردل : 1 / 11 / 2021 / |