أعمال الرسل والمهلة الاسكاتولوجية
إن السؤال الذي نطرحه الآن على ذواتنا، ينحصر في عبارة بسيطة. كيف ولماذا تجرّأ لوقا فزاد سفر الأعمال على نصّ انجيله بحيث اعتبر في مجموعة واحدة الحدث المؤسّس للخلاص وحياة المسيحيين الأولين وما فيها من حركة. جمع زمن المسيح وزمن الكنيسة. هل يعني هذا في نظره أننا أمام مجيء المسيح؟ كلّنا يعلم أن دارسي لوقا منذ هانس كونزلمان (منتصف الزمن، 1963) وما بعد، يقولون ويكرّرون أن لوقا اخترع بكل بساطة مفهوم "تاريخ الخلاص" ليهدئ معاصريه وقد عيل صبرهم أمام إنتظار جلياني (على مثال ما في سفر الرؤيا).
إعتاد الشّراح أن يقولوا إن لوقا سبق له وفسّر في إنجيله خطبة يسوع الاسكاتولوجية على ضوء ما حدث سنة 70 (دمار أورشليم والهيكل). بل هو يميّز ما يعني دمار أورشليم وما يرتبط بالمجيء (باروسيا) الاخير. فبين عبور يسوع المنظور على الأرض و"يوم الابن الإنسان" العظيم، لا نجد فسحة قصيرة بل مهلة كبيرة جداً. واللاهوتيون يعرفون ولا شكّ تشعّب المسألة الاسكاتولوجية في مؤلّف لوقا (لو+ أع). لهذا يكفي في هذه المحاضرة التي تفتتح المؤتمر، أن نحسّ أحساساً خاصّاً بآنية هذه المسألة في الشرق الأوسط ومن الوجهة الرعائية. نعود بسرعة إلى تحاليل الأستاذ منير شمعون عن النفس الشرقية والبحر متوسطية، دون أن نأخذ بجميع الاستنتاجات التي يستخرجها من دراساته.
تقول هذه الدراسات إن نفسيّة هذه الشعوب تعبرّ عن ذاتها بواسطة مجموعة من التصرّفات النموذجية. فتتحدّث مثلاً عن نموذج اوروبا الشمالية، نموذج البحر المتوسط، نموذج شرقي. وإحدى ميزات الإنسان الشرقي هي "حماس مدهش لفكرة أو مشروع، في القريب العاجل، لا في المدى البعيد... ومهما تقدّم العمل في الزمن، قلّت إمكانية تجنيد الإرادات الطيّبة من أجله.. فالنتيجة المباشرة وحدها تعطي اللذة لمن عمل وتنهي هذا التوتّر في قلة الصبر أمام المهلة...".
هل نستطيع عبر هذه الموازاة أن نفهم فهماً أفضل المسيحيين الأولين، من يهود ويونانيين، الذين ينتمون ولا شكّ إلى نموذج اثني مشابه؟ مهما يكن من أمر، فالمسيحيون الذين يتوجّه إليهم لوقا يتخيّلون أن مواعيد يسوع سوى تتمّ قريباً. وهكذا تعرّضوا لخيبة الأمل ولربما لأزمة إيمانية. وأحسّ لوقا تجاه هذه الحمّى الجليانية في عصره، بحاجة لكي يبيّن أن الملكوت يتمّ بشكل تدريجي عبر تاريخ الكنيسة. وهذا ما يعلنه يسوع نفسه: "ليس لكم أن تعرفوا الأوقات والأزمنة التي أقرّها الآب بسلطانه الخاصّ" (1: 7). ماذا نقول في هذا الوعد بملكوت لا نعرف إن كان في داخل التاريخ (الألفانية: ملك ألف سنة مع المسيح) أو في خارجه (الاسكاتولوجيا المحضة، التي لا ترتبط بهذا العالم).
ونذكّر أمام كونزلمان ومدرسته أن تأخّر المجيء قد ولّد في العهد الجديد مدارس لاهوتية عديدة، وكلها ملهمة. حصر يوحنا الحبيب الزمن على مستوى القرار الوجودي في قلب كل مؤمن، فدلّ على نزعة صوفية. أما لوقا المؤرّخ فقيّم الزمن العابر تقييماً تاماً وفرض الصبر على المسيحي.
والأمر الذي له معناه، هو أن لوقا، في بداية سفر الأعمال، أحبّ أن يورد سؤال الرسل الغريب، وقد ظنّوا أن مجيء الروح القدس يحقّق الآمال التيوقراطية (حكم الله بواسطة أصحاب السلطة الدينية) في اسرائيل القديم. "يا ربّ، أفي هذا الزمان تردّ الملك لاسرائيل" (1: 6)؟ ومع ذلك، فيسوع لا يقول بأن ملكوت الله يتماهى في القريب العاجل مع الكنيسة المنظورة. فبين "ما حصل في الماضي" و"ما لم يحصل بعد"، يفرض الملكوتُ الاسكاتولوجي على البشر مهلة طويلة. هنا يتحدّد موقع زمن الروح ورسالة الكنيسة. "حينئذ تكونون لي شهوداً... حتى أقاصي الأرض" (1: 8). أتُرى بدّل لوقا مواعيد يسوع في خطّ زمن طويل نتطلّع إليه؟
لا شكّ في أنه يجب أن نرسل إلى نهاية المؤتمر نقاشنا مع تلاميذ كونزلمان. ما هو "اللوم" الذي يوجّه إلى لوقا؟ إذ أراد أن يقدّم حلاً لمسألة مهلة المجيء، ضحّى بكل بساطة بالانشداد الاسكاتولوجي: "يا رجال الجليل، ما بالكم واقفين تنظرون هكذا إلى السماء" (1: 11)؟ يرى كونزلمان أن لوقا يُدخل في التاريخ إعلان يسوع الأصيل. إنتظر المسيحيون الأولون عودة الرب بعد مهلة قصيرة، وما تخيّلوا أن "يوم الرب" سيتكرّر بين الفصح والمجيء. وإذ أراد لوقا أن يهدئ قلة الصبر هذه تصوّر أن زمن الكنيسة يحلّ محل ظهور يسوع المنظور. بعد هذا، أقامت الكنيسة في عالم ستعمل فيه كمؤسسة معدّة لمستقبل طويل وغير محدّد. لهذا يرى كونزلمان أن موقع يسوع يتحدّد في منتصف الزمن، بين زمن اسرائيل القديم وزمن المسيحية الكنسيّة. فلا نميّز بين العهد القديم والعهد الجديد، بل نتحدّث عن ثلاث حقبات في تاريخ الخلاص: زمن المواعيد، زمن يسوع (منتصف الزمن)، زمن الكنيسة (رج هـ. كونزلمان، لاهوت العهد الجديد، 1969). ونلاحظ أن هذا التوزيع المثلّث نجده في كتاب اسطفان شربنتيه الذي ترجم إلى العربية: دليل إلى قراءة الكتاب المقدس (قراءة العهد الجديد).
إن مثل هذا العرض لتعليم لوقا كما تقدّمه مدرسة كونزلمان، يطرح أسئلة عديدة نجملها في سؤالين: هل نستطيع أن نقبل بهذا التوزيع لأزمنة الخلاص؟ وما هو تأثير هذا التوزيع على المسيحي اليوم؟ وهكذا نكون أمام مسألة تأويلية ثم مسألة في اللاهوت الرعائي.
نتفحّص أولاً الرباط التدويني بين جزئي مؤلّف لوقا، الإنجيل وسفر الأعمال. ففي الإنجيل يختتم الصعود زمن حضور يسوع المنظور، فيكون هدف النصّ كرستولوجياً (يتحدّث عن يسوع المسيح). أما في سفر الأعمال فخبر الصعود يكشف معنى الأزمنة الجديدة، فيصبح هدف النصّ بالأحرى إكليزيولوجياً (يتحدّث عن الكنيسة). نحن نرى أن هذا الترتيب التدويني لا يعني أن زمن الكنيسة ليس جزءاً لا يتجزّأ من زمن يسوع. بل عكس ذلك. فإذا كان لوقا قد روى على دفعتين خبر الصعود، كنهاية تاريخ يسوع على الأرض، وبداية تاريخ كنيسته، إذا كان قد رواه، فلأنه أراد أن يشدّد على تواصل أساسي. ويجب في هذا المعنى أن نؤكّد أن العنصرة توحّد (كما يرى لوقا) زمن الكنيسة بزمن يسوع، وبالتالي تفصلهما عن زمن الأنبياء القدامى.
إن لوقا لا يجعل بين خبري الصعود فسحة تنطلق من المقولات الأفقية "قبل/ بعد" (عهد انتهى وعهد أقبل) فتصل إلى مقولات عمودية "تحت/ فوق" (الأرض والسماء) وخيالية. إن هذا البعد الأفقي الذي يربطه لوقا بالاسكاتولوجيا المسيحية، دفع الشّراح (مثل هـ. فلاندر) إلى تقريب لوقا من الغنوصية. إتهام عجيب، لاسيّما حين نعرف أننا لسنا أمام انزلاق خارج الزمن، بل أمام ضمّ البعد السماوي إلى داخل تاريخنا الخلاصي. وهذه الاسكاتولوجيا العمودية التي تعبّر عنها بداية سفر الأعمال بهذا الشكل، تكمّل الاسكاتولوجيا الأفقية التي تتضمن "زمنين" في حركة واحدة لا انفصال فيها. تتضّمن حركة تدخلنا في تاريخ الخلاص وتنتزعنا في الوقت ذاته من هذا التاريخ.
نودّ أن نشدّد هنا وخلال عرضنا هذا، على أننا لسنا أمام إنفصال أو تهرّب، وان بدا هذا الإنفصال وهذا التهرب مرتبطين بتأكيد يعلن أن لا قِبَل للبشر بمعرفة نهاية تاريخهم الخاصّ (رج 1: 7). فلوقا يكتشف التواصل الحقيقي لأزمنة الخلاص في شكل جديد لحضور يسوع القائم من الموت، لا في تمثلّ فضائي للصعود إلى السماء. فإذا كان يسوع قد أنهى حضوره المنظور، فهو منذ الآن يعلن تعليمه الخلاصي بواسطة روحه القدوس. وهكذا يُدرك حضورُه الشامل بطريقة تدريجية جميعَ البشر "حتى أقاصي الأرض".
وإذا وضعنا جانباً خبري الصعود، فتعليم لوقا الاسكاتولوجي يستنير أيضاً بمقطع رئيسي في انجيله، يسمّى "الانقطاع الكبير". "لقد بقي الناموس والأنبياء إلى يوحنا. ومنذئذ يبشّر بملكوت الله" (لو 16: 16). فهذا الحدث الأخير (عكس ما يقول كونزلمان وتلاميذه) الذي تدشّن بدخول يسوع على "المسرح"، يشكّل المنعطف الكبير في تاريخ الخلاص. ونصّ الإنقطاع يدفعنا إلى أن نميّز فقط حقبتين لا ثلاث حقبات: زمن اسرائيل إلى يوحنا ضمناً. زمن خلاص الله (28: 38؛ لو 3: 6). وهكذا لا يكون "منتصف الزمن" في نظر لوقا، تاريخ يسوع بل زمن يسوع وزمن الكنيسة بعد أن اجتمعا في واحد.
وهكذا يبدو واضحاً أن الكنيسة كمؤسّسة ليست هدفاً في حدّ ذاتها، ولا تستخدم كـ "استبدال" عن حضور المسيح المنظور. إنها رسالة يسوع الخاصة التي يتمّها يسوع القائم من الموت بواسطة تلاميذه، وينعشها بروحه. وبعبارة أخرى، إن لوقا لا يعمل لكي يفتح التاريخ على مستقبل غير محدّد، بقدر ما يحاول أن يدخل مهمّة الكنيسة الحالية في وحدة حدث واحد مؤسِّس، في منعطف تاريخ الخلاص الفريد العظيم. وبانتظار التتمة النهائيّة لملكوت الله، تبقى الكنيسة المنظورة العلامة الفاعلة لهذا الملكوت (يسميها المجمع الفاتيكاني الثاني: "السرّ"). فهذا الملكوت الذي دشّنه يسوع، هو حاضر منذ الآن، وهو يتمّ بواسطة تاريخ الكنيسة.
يرى لوقا أن المسيح ليس نهاية كل تاريخ، بل بداية تاريخ جديد ونهائي. وسفر الأعمال لم يمحُ الإنتظار الاسكاتولوجي، بل أخّر موقعه في الزمن. هو لا يعزّي المسيحيين مصوّراً لهم النهاية القريبة لمحنهم، بل يبرز بالأحرى الطريقة الصحيحة للافادة من المحن ومن بُعد الزمن. والمسيحيون، في نظر سفر الأعمال، سيلاقون الصعوبات حقاً، وسيواجهون مجهولات التاريخ. وحتى في داخل الكنيسة، تبقى الصراعات حقيقية، ولا يُعرف عمل الروح إلا فيما بعد. هناك انشداد اسكاتولوجي يظهر في الاختلاف بين مستويين (هذه هي الوجهة الاصيلة في سفر الأعمال). من جهة، هناك عمل روح المسيح الفاعل الذي يستبق البشر. ومن جهة ثانية، هناك حيرة الكنيسة وتردّدها أمام مخاطر التاريخ. والروح القدس لا يظهر على أنه الحلّ لجميع المشاكل، ولكنه يتيح لنا أن نأخذ على عاتقنا ثقل الانشداد الاسكاتولوجي دون أن نيأس أمام مهلة الخلاص.
هل نلوم لوقا (كما يظنّ بعض الشرّاح) لأنه أعاد الاسكاتولوجيا إلى حاضر مسيرتنا اليومية؟ هذه هي أصالته. ولهذا ألهم بأن يدوّن تعليمه في جزئين هما الإنجيل وسفر الأعمال. فانطلاقاً من هذين الكتابين المتلاحمين، يبدو الواقع الأخير (الاسكاتولوجيا) حاضراً منذ الآن في التاريخ. والمدى القصير أو الطويل الذي يقودنا إلى التتمة الأخيرة، لا يرتدي بعد اليوم مدلولاً حاسماً جداً. فالمسيحي الذي يجد نفسه بعيداً عن "نهاية العالم" فيلتزم على المدى الطويل، يجد نفسه مدعواً لكي يدرك إدراكاً أفضل "الآخرة" في حاضر شعب الله