المسيح، إيليّا، النبيّ
في بيت عنيا، القريبة من نهر الأردنّ، كان يوحنّا المعمدان يعمِّد (يو 1: 28) فأرسل إليه اليهود كهنة ولاويّين من أورشليم. أرسلوا إليه وفدًا رسميٌّا، انطلق من الهيكل ومن مجلس الكهنة. سألوه عن هويَّته، وعن السبب الذي يدفعه لكي يعمِّد الآتين إليه لغفران خطاياهم. أما تكفي الذبائح في الهيكل، ولاسيّما في أيّام الأعياد الكبرى؟ الخطّ العاديّ هو الخطّ الكهنوتيّ. أمّا المعمدان فيفتح خطٌّا آخر، ويقدِّم تعليمًا ما اعتاد الناس أن يسمعوه في المجمع يوم السبت. ولاسيّما بالنسبة إلى الذي سيأتي بعده، مع أنَّه أعظم منه (آ27). »من أنت؟« (آ9). ذاك كان السؤال. هل هو المسيح؟ أجاب: كلاّ. هل هو إيليّا؟ كلاّ. هل هو النبيّ الذي ينتظرونه في آخر الأزمنة؟ فكان الجواب ايضًا: كلاّ. هذه الأسماء لا تشير إلى يوحنّا المعمدان الذي هو السابق، بل إلى من يشهد له يوحنّا، وسيقول فيه لتلاميذه: هو »حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم« (آ29).
1- أسماء ثلاثة
أرسل »اليهود«. واللفظ يعني في إنجيل يوحنّا السلطات الدينيَّة، ولاسيّما تلك التي ترفض الإيمان بيسوع. والذين أُرسلوا كانوا خصوصًا من جماعة الفرّيسيين (آ34). هذا يعني أنَّ ما قام به يوحنّا، لم يرُق للسلطات الدينيَّة في عصره.
تحدَّث يوسيفُس، المؤرِّخ اليهوديّ، في القرن الأوَّل المسيحيّ، عن المعمدان: »رجل طيِّب. يحثُّ اليهود على ممارسة الفضيلة، مع عدالة في العلاقات بالقريب، وتقوى وورع تجاه الله، قبل الاقتراب من المعموديَّة. امتدَّ نشاطُه خلال سنتين، فانقسم اليهود تجاهه قسمين: اجتذب الجمعَ بكرازته وعماده، فتساءلوا: أما هو المسيح؟ (لو 3: 15). أمّا السلطات فما آمنوا به. فقالوا: »فيه شيطان« هو »لا يأكل ولا يشرب« (مت 11: 18). ولمّا سألهم يسوع: »معموديَّة يوحنّا هي من الله؟ أم من الناس؟« (مر 11:30)، ما تجرَّأوا أن يجيبوا. قالوا: لا نعلم (آ33). وقد أوجز لوقا الوضع فقال: »فجميع الناس الذين سمعوا يوحنّا، حتّى جباة الضرائب أنفسهم، أقرّوا بصدق الله، (ببرِّ الله. اعتبروا أنَّ ما يعمله يوحنّا يتوافق مع مشيئة الله،) فتقبَّلوا معموديَّة يوحنّا. وأمّا الفرّيسيّون وعلماء الشريعة، فرفضوا ما أراده (مخطَط الله) لهم، فما تعمَّدوا على يده« (لو 7: 29-30). وكانت المواجهة مباشرة مع يوحنّا المعمدان، حين كان بجانب نهر الأردنّ.
2- هل هو المسيح؟
لستُ أنا المسيح. جاء جواب المعمدان قاطعًا، لا مجال لأسئلةٍ أخرى. فاليهود كانوا يتساءلون دومًا عن شخص يخرج من الطرق العاديَّة، إن كان هو المسيح,. وسوف يطرحون سؤالهم أكثر من مرَّة على يسوع.
مرَّة أولى في عيد المظالّ. »قال بعض أهالي أورشليم: «أما هذا هو الذي يريدون أن يقتلوه؟ ها هو يتكلَّم جهارًا ولا يقولون له شيئًا. هل اقتنع الرؤساء أنَّه المسيح. لكنَّنا نعرف من أين جاء هذا الرجل. وأمّا المسيح، فلا يعرف أحدٌ حين يجيء من أين جاء» (يو 7: 26-27). اعتبروا أنَّهم يعرفون، فإذا هم لا يعرفون. حسبوا أنَّه جاء من الجليل، ووُلد في الناصرة. ولكنَّهم أخطأوا وفي أيِّ حال، لبثوا على المستوى البشريّ، ولم يرتفعوا إلى المستوى الإلهيّ.
وانقسم الرأي في شأن يسوع: »فقال كثيرون ممَّن سمعوا كلام يسوع: »بالحقيقة هذا هو النبي«. وقال غيرهم: »هذا هو المسيح!« وقال آخرون: »أمِنَ الجليل يجيء المسيح؟ أما قال الكتاب »إنَّ المسيح يجيء من نسل داود. ومن بيت لحم مدينة داود؟«.
فالمسيح الذي انتظره اليهود، هو من سلالة داود. يختاره الله. يمسحه بالزيت. يرسله لكي يحمل الخلاص الذي ينتظره شعبه. والناس يحتاجون إلى الخلاص، في هذا الوقت أكثر ممّا في أيِّ وقت. هم منقسمون شيعًا وأحزابًا. والحاكم الرومانيّ جعل جيشه عند زاوية اليهكل، هذا عدا الضرائب التي يدفعها الشعب من أجل إمبراطور رومة.
تحدَّث الناس عن يسوع، ذاك الذي وُلد في بيت لحم، على ما قال رؤساء الكهنة ومعلِّمو الشعب حين سألهم هيرودس: »أين يُولَد المسيح؟« (مت 2: 4). أجابوا: »في بيت لحم اليهوديَّة؟« (آ5). واستشهدوا بالنبيّ ميخا: »يا بيت لحم، أرض يهوذا، ما أنتِ الصغرى في مدن يهوذا،لأنَّ منك يخرج رئيس يرعى شعبي إسرائيل« (مي 5: 1؛ 2صم 5: 2).
والمسيح هو ابن داود. فقد أعلن متّى في بداية إنجيله: »هذا نسب يسوع المسيح ابن داود« (1: 1). والوالد الذي تبنّاه، دعاه الملاك: »يا يوسف بن داود« (آ20). فقال لوقا في كلامه عن ميلاد يسوع: »وصعد يوسف من الجليل، من مدينة الناصرة إلى اليهوديَّة، إلى بيت لحم مدينة داود، لأنَّه كان من بيت داود وعشيرته«.
لا. يوحنّا ليس المسيح، ولا هو ابن داود. المعمدان هو من قبيلة لاوي الكهنوتيَّة، بواسطة والده زكريّا ووالدته إليصابات. هو الكاهن الذي لم يمارس الكهنوت، على مثال إرميا، ابن عناتوت (إر 1: 1: أحد كهنة عناتوت). ما أقام يوحنّا في الهيكل، بل في برّيَّة يهوذا يعمِّد الناس (مت 3: 1) لغفران خطاياهم.
لستُ المسيح. فالمسيح هو من يأتي بعدي. ولكنَّه مسيح يختلف عمّا تنتظرون. لا يأتي في القوَّة، بل في الضعف. لا يأتي فقط من الأرض، بل من السماء. يأتي على سحاب السماء. ما اختاره البشر، بل الله ذاته حين قال له في العماد: »أنت ابني الحبيب، بك سررت«. أو: أنت ابني الحبيب. أنا اليوم ولدتك اليوم صرتَ الملك الذي يعمل، لا من أجل ملكوت أرضيّ، بل من أجل ملكوت السماوات.
3- هل هو إيليّا
نقرأ هنا ما كتبه الذهبيّ الفم: »سألوه: من أنت؟ هم لا يجهلون من هو، بل يريدون منه جوابًا يوافق رغباتهم. وهكذا تجاوب يوحنّا مع أفكارهم، لا مع سؤالهم: اعترف وما أنكر. اعترف: لستُ المسيح.«
أعلن أوغسطين أنَّهم أُخذوا برفعه شخصيَّته، فأرسلوا يسألونه. وواصل أوريجان: »اكتشف يوحنّا المعمدان في سؤال الكهنة واللاويّين، الشكَّ الذي كانوا فيه، إن لم يكن هو المسيحَ الذي يعمل، وهو شكٌّ احتفظوا به في قلوبهم، لئلاّ يدلُّوا على تجرُّئهم. فسارع أوَّلاً ودمَّر هذا الرأي المغلوط، وأعدَّ الطريق إلى الحقّ فأعلن بشكل واضح أنَّه ليس المسيح. ونضيف أنَّ الزمن الذي فيه أزمع المسيح أن يأتي، كان للشعب اليهوديّ، زمن رجاء وفرح ينعمون به قبل وقته. فمعلِّمو الشريعة اقتطفوا من الكتب المقدَّسة، شهادات تبيِّن أنَّ ذاك الزمن صار قريبًا... بما أنَّ مجيء المسيح كان موضوع رغبات حارَّة وانتظار شامل، أرسل اليهود يسألون يوحنّا: »من أنت؟« هكذا يعلمون إن اعترف أنَّه المسيح. وإذ قال: لست المسيح، ما أنكر، بل اعترف علنًا بالحقيقة«.
ليس المعمدان المسيح، ولا هو إيليّا، »يهوه هو إلهي«. ذاك الرجل الغيور الذي هتف أمام الربّ: هدموا مذابحك. قتلوا أنبياءك. وبقيتُ وحدي. أوقف المطر، كثَّر الطحين والزيت. أقام ابن الأرملة من الموت. وقف في وجه الملوك والعظماء، فكان قويٌّا بقدرة الله، وفي النهاية، أخذه الله إليه.
قال إيليّا لتلميذه إليشع الذي طلب النصيب الذي يجعله خلفًا له: »إذا رأيتني عندما يرفعني الله إليه، يكون لك ما طلبتَ. وإلاّ فلا«. وإذا مركبة ناريَّة وخيل ناريَّة فصلت بينهما، وارتفع إيليّا في العاصفة نحو السماء« (2مل 2: 9-11). النار تدلُّ على حضور الله الذي جاء بشكل ملك في عربة بجياد. فصل إيليّا عن إليشع، وأخذ معه إيليّا. أمّا العاصفة فتعني في معنى أوَّل، تلك الرياح التي تحمل معها الرمال. ويمكن أن يكون إيليّا غاب في إحداها، بحيث لا يعرف أحد قبره، على مثال ما حصل لموسى الذي دفنه الله في الوادي، في أرض موآب، ولا يعرف أحد قبره إلى يومنا هذا« (تث 36: 6). وللعاصفة معنى روحيّ أيضًا. تبدو كأنَّها مركبة الله على ما نقرأ في صلاة حبقوق (حب 3: 3ي).
غير أنَّ مسيرة إيليّا »السماويَّة« انطلقت بعد موته. فدُعيَ »الحي« وكأنَّه لم يمت، شأنه شأن سائر البشر. في الواقع، إذا كان يسوع المسيح قد مات، أفلا يكون إيليّا مات، وهو ابن آدم؟ غير أنَّه لبث حيٌّا لأنَّ الربّ أمسكه بيده اليمنى وأصعده في المجد (مز 73: 2). وأراه الأسرار الإلهيَّة. بل جعله يفعل بعد أن انتقل من هذا العالم.
يروى سفر الأخبار الثاني عن يورام، ملك يهوذا، الذي أقام معابد للبعل في مرتفعات جبال يهوذا، وضلَّل الشعب ودفع سكّان أورشليم إلى خيانة الربّ، بعبادة آلهة غير الإله الوحيد. فأرسل إليه إيليّاالنبيّ رسالة يقول له فيها: »هذا ما قال الربُّ إله داود أبيك: إنَّني أدينك لأنَّك لم تسلك في طرق يوشافاط أبيك، وفي طرق جدِّك آسا. بل سلكت الطريق السيِّئة« (2أخ 21: 11-13). لاشكَّ في أنَّ إيليّا لم يكتب مثل هذه الرسالة، ولكن ما أراده سفر الأخبار يفهمنا أنَّ إيليّا ما زال حاضرًا في شعبه. ومثله سيكون إرميا (2مك 2: 1-3).وشدَّد يشوع بن سيراخ على الناحية الإسكاتولوجيَّة في حياة إيليّا قال: »وظهر إيليّا نبيٌّا كالنار. وتوقَّد كلامُه كالمشعل. جلب الجوع على الشعب، وفي حماسته للربّ جلب الموت للكثيرين. أغلق السماء بأمرٍ من الربّ، وأنزل منها نارًا ثلاث مرّات. ما أعظم مجدك، يا إيليّا، بعجائبك! وهل لأحدٍ فخرٌ يساوي فخرك؟ (سي 48: 1-4). ويتواصل الكلام: »أُصعدت إلى السماء في مركبة ناريَّة وسط عاصفة من النار. وجاء في الكتب المقدَّسة، أنَّك تأتي في الوقت المحدَّد« (آ9-10). ثمَّ: »وتوارى إيليّا في العاصفة، فامتلأ أشعيا من روحه«آ12).
انتظر التقليد اليهوديّ عودة إيليّا الذي رُفع إلى السماء، في الأزمنة المسيحانيَّة. فتلاقى مع ما قاله النبيّ ملاخي. قال الربّ: »ها أنا أرسل إليكم النبيّ إيليّا، قبل أن يجيء يوم الربّ العظيم الرهيب« (ملا 3: 23). كلُّ هذا وجد صداه في العهد الجديد. فصعود يسوع إلى السماء، دُوِّن في خلفيَّة ارتفاع إيليّا. وحين أحيا يسوع ابن أرملة نائين، تذكَّر الحاضرون ما فعل إيليّا فهتفوا: »ظهر فينا نبيٌّ عظيم، وتفقَّد الله شعبه« (لو 7: 16). ها هي أعمال إيليّا تتكرَّر، كما تكرَّرت أعمال موسى حين وهب يسوع الشعب خبزًا، فتذكَّروا المنَّ في البرِّيَّة.
كان إيليّا مع موسى حول يسوع، على جبل التجلّي، وفي هذا الإطار طرح التلاميذ سؤالاً على معلِّمهم: »لماذا يقول معلِّمو الشريعة: يجب أن يجيء إيليّا أوَّلاً؟« (مت 17: 10). فأفهمهم الربّ أنَّ إيليّا جاء في شخص يوحنّا المعمدان، على ما قيل في بشارة زكريّا (لو 1: 17: »ويسير أمام الله بروح إيليّا وقوَّته«). وفي معرض الكلام عن يوحنّا، قال يسوع: »أنا أرسل رسولي قدّامك« (مت 11: 10).
وهكذا كان الناس ينتظرون عودة إيليّا على الأرض. لهذا سأل اليهود المعمدان: »هل أنت إيليّا؟« (يو 1: 21). فكان الجواب: لا أنا المسيح، »ولا أنا إيليّا«. فإيليّا الذي يدلُّ على يوم الربِّ الآتي، يجيء بعدي وهو وحده »يصالح الآباء مع الأبناء، ويُرجع العصاة إلى حكمة الأبرار، فيهيئ للربّ شعبًا مستعدٌّا له« (لو 1: 17؛ ملا 3: 23-24).
ولكنَّ إيليّا، شأنه شأن موسى الذي شُبِّه بالخادم في البيت (عب 3: 5)، لا يمكن أن يقف مع من هو الابن. قال له الله: »أنتَ ابني وأنا اليوم ولدتك« (عب 2: 5). ثمَّ: »لتسجد له كلُّ ملائكة الله« (آ6). وأيضًا: »عرشك يا الله (الابن) ثابتٌ إلى أبد الدهور، وصولجان ملكك« (آ8).
ونعود إلى آباء الكنيسة. قال: »ولا أنا إيليّا«. وفسَّر القدّيس غريغوريوس: »في هذا الجواب صعوبة كبيرة. فتلاميذ يسوع سألوه يومًا حول مجيء إيليّا، فأجاب: «إذا أردتم أن تعرفوا، فيوحنّا ذاته هو إيليّا. وهنا سُئل يوحنّا المعمدان ذاته إذا كان إيليّا، فأجاب: »
لست أنا«. كيف يقدر أن يكون نبيّ الحقيقة، إذا كانت لا تتوافق هذه الكلمات مع كلمات الحقيقة؟» وقال أوريجان: »قد يُقال إنَّ المعمدان جهل أنَّه إيليّا، وهو رأي يُسنده أولئك الذين يتحدَّثون عن تعليم حول انتقال النفوس في أجساد جديدة. إذًا، سألوه بواسطة الكهنة واللاويّين... فأجاب يوحنّا: لستُ إيليّا، لأنَّه جهل وجودًا أوَّل... سألوه فاكتشف النيَّة التي أملَتْ سؤالهم فقد توخّى هذا السؤال أن يعرف، لا أنَّ روحه روح إيليّا، بل إن كان في الحقيقة إيليّا الذي رُفع إلى السماء، وها هو يظهر بحسب انتظار اليهود، دون العبور في ولادة جديدة... عرفوا أنَّ إيليّا يأتي قبل يسوع المسيح في نهاية العالم، فسألوا يوحنّا المعمدان في معنى رمزيّ: هل تعلن مجيء المسيح الذي يأتي في نهاية العالم؟ فأجاب بحكمة: »لا، لستُ أنا«. عرف عددٌ كبير من الناس أنَّ يسوع وُلد من مريم. ولكنَّ بعضهم سقطوا في هذا الضلال، بأنَّه قد يكون يوحنّا المعمدان أو إيليّا أو أحد الأنبياء. إذًا، لاعجب ساعة يعرف البعض كلَّ المعرفة أنَّ يوحنّا المعمدان هو ابن زكريّا، أن يرتاب آخرون: أما يكون النبيّ إيليّا الذي ينتظرون؟ ولكن بما أنَّه ظهر عدد من الأنبياء في إسرائيل، فموضوع انتظارهم كان نبيٌّا أنبأ به موسى فقال: »يقيم لكم الله من بين إخوتكم نبيٌّا. تطيعونه كما تطيعونني« (تث 5: 5).
4- هل هو النبيّ
ويواصل أوريجان كلامه: »هذا ما يفهمنا السؤال الثالث الذي طرحوه على يوحنّا المعمدان: هل هو فقط نبيّ؟ وإن كان النبيّ مع أل التعريف كما في اليونانيَّة »هل هو النبيّ؟«. عرف شعب إسرائيل أنَّ ما من نبيّ كان ذاك الذي أنبأ به موسى، ولا شابه مشترع شعب الله فكان الوسيط بين الله والبشر، فنقل إلى تلاميذه العهد الذي تلقّاه من الله. وإذ رفض اليهود أن يروا في يسوع المسيح ذاك النبيّ الذي أنبأ به موسى، وإذ أرادواأن ينسبوا هذا الاسم إلى شخص آخر، عرف يوحنّا أنَّ يسوع هو حقٌّا ذاك النبيّ. لهذا أجاب: »لست النبي«. وأضاف أوغسطين: »تحدَّث الأنبياء في الماضي البعيد عن المسيح. أمّا يوحنّا، فدلَّ على المسيح حاضرًا وسط البشر«.
هنا نعود إلى النصِّ الإنجيليّ. جاء الكهنة واللاويّين: »هل أنت النبيّ!«. أجاب: »لا!«. من هو النبيّ؟ في سفر التثنية، حدَّث موسى الشعبَ على جبل موآب ونبَّههم عن عبادة الأوثان. ولكن من يكون معهم حين يبتعدون عن الربّ إلههم؟ قال موسى: »يقيم لكم إلهكم نبيٌّا من بينكم. من إخوتكم بني قومكم مثلي، فاسمعوا له« (تث18: 15).
اعتُبر موسى أوَّل الأنبياء وأعظمهم (تث 34: 10: لم يَقُم من بعدُ نبيٌّ مثل موسى، الذي عرف الربّ وجهًا إلى وجه). وبعده أرسل الله أنبياء آخرين. حملوا كلامه. ولكنَّهم قد يعصونه. لهذا، لا بدَّ من نبيٍّ استثنائيّ، لا يشبه الأنبياء العاديّين، ويتماهى بعض المرات مع المسيح. وقد رأت الكرازة المسيحيَّة الأولى في يسوع ذاك النبيّ الذي أعلنه موسى. قال بطرس في خطبته بعد شفاء مخلَّع الباب الجميل: »فإنَّ موسى قال: »سيقيم الربّ إلهكم من بين إخوتكم نبيٌّا مثلي، فاسمعوا له في كلِّ ما يقوله لكم« (أع 3: 22). من هو هذا النبيّ؟ سبق بطرس وقال: »تجيء أيّام الفرج من عند الربّ، حين يُرسل إليكم المسيح، الذي سبق أن عيَّنه لكم، أي يسوع« (آ20). وإذ يذكر إسطفان، أوَّل الشهداء، هذا النصّ من سفر التثنية، يفهمنا أنَّ النبيّ الذي انتظره الشعب ليس موسى، وهم رفضوا أن يطيعوه (أع 7: 39).
على جبل حوريب (سيناء) تخوَّف العبرانيّون: قال لهم موسى في موآب: »طلبتم من الربِّ إلهكم هو حوريب، يوم اجتماعكم هناك، أن لا يعود يُسمعكم صوته، ويريكم تلك النار العظيمة ثانية لئلاّ تموتوا« (تث 18: 16). وجه الله مخيف، فيبتعد الإنسان عن ذاك الذي هو نار محرقة. وكانوا يعتبرون أنَّ من يرى الله يموت. لهذا، سيكون ا؟ قريبًا في شخص ابنه يسوع المسيح، الذي يخبرنا عن الآب (يو 1: 18). فقال الربّ بفم موسى: »سأقيم لهم نبيٌّا من بين إخوتهم مثلي، وألقي كلامي في فمه، فينقل إليهم جميع ما أكلِّمه به. وكلّ من لا يسمع كلامي الذي يتكلَّم به باسمي، أحاسبه عليه« (آ18-19).
رأت المسيحيَّة الأولى في يسوع ذلك النبيّ. ولكن هذه الرؤية لم تدُم طويلاً. فحين سأل يسوع تلاميذه: من أنا في رأي الناس؟ قالوا له: يوحنّا المعمدان، إيليّا، أحد الأنبياء. يعني أعطوه لقب »النبي«. أيكون يسوع ذاك النبيّ. بحيث لا يتميَّز بشيء عن سائر الأنبياء؟ كلاّ. أيمكن أن يكون خاتمة الأنبياء؟ كلاّ. فيوحنّا هو خاتمة الأنبياء. ومعه انتهى العهد القديم. ومع يسوع كان بداية جديدة.
إذا كان النبيّ هو من يدخل في سرِّ الله، فيسوع المسيح هو سرُّ الله، وهو يدلُّنا معه جميعًا. وإذا كان النبيّ هو من يحمل كلمة الله، فيسوع المسيح هو كلمة، كما قيل في بداية إنجيل يوحنّا. هو في البدء، هو قرب الله. هو إله من إله، مساوٍ للآب في الجوهر. إلى يسوع تصل كلمات الأنبياء. تصبُّ فيه كما تصبُّ الأهار في البحر وتجد كمالها فيها، كما الشريعة التي ما جاء لكي ينقضها، بل لكي يتمِّمها (مت 5: 17).
هي مقاربات قيلت في يوحنّا المعمدان. فوجَّه يوحنّا الأنظار نحو يسوع المسيح. أمّا دور يوحنّا، فالدلالة على المسيح، والشهادة على رسالته التي تختلف عن رسالة جميع الأنبياء، اختلاف السماء عن الأرض. وحده يسوع ابن الإنسان نزل من السماء وصعد إلى السماء. وحده يخبر عن أمور السماء (يو 3: 12-13). وحده يعرف الآب (مت 11: 27). وحده يظهره لنا. أمّا الأنبياء، بدءًا بموسى، فهم من الأرض. هم مولودو الجسد. فكيف يكون يسوع واحدًا منهم؟ كيف يكون أفضلهم؟ ونسمع صوت أشعيا: بمن تشبِّهونني، يقول الربّ؟
ونقرأ في هذاالإطار ما قاله أفرام السريانيّ. قال لو 16: 16: »بقيت الشريعة والأنبياء إلى أن جاء يوحنّا. ثمَّ بدأت البشارة بملكوت الله«. فالمسيح هو بداية العهد الجديد. بالمعموديَّة ارتدى الربُّ برَّ العهد القديم، فنال كمال المسحة ووهبها لتلاميذه مليئة، كاملة. وفي الوقت عينه، وضع حدٌّا لعماد يوحنّا والشريعة. تعمَّد في البرّ، لأنَّه كان بلاخطيئة. ولكنَّه عمَّد في النعمة، لأنَّ سائر البشر كانوا خطأة. ببرِّه أبطل الشريعة، وبعماده دمَّر عماد يوحنّا«.
الخاتمة
ذاك كان كلامنا عن يسوع المسيح في بداية إنجيل يوحنّا. أعطيَ الأسماء العديدة من العهد القديم. ولكن ما من اسم كفوء ليسوع. كلُّها تبقى ناقصة. شأنها شأن شريعة موسى. هو الملك المسيح في خطِّ داود. ولكنَّ هذا لا يكفي. إنَّه ربُّ داود. هو إيليّا. بل هو ربُّ إيليّا الذي جاء يخدمه في تجلّيه مع موسى. هو النبيّ. هكذا دعاه معاصروه وقابلوه مع إيليّا وإرميا وموسى ويوحنّا المعمدان. أمّا الرسالة إلى العبرانيّين فقالت: »ولكنَّ يسوع كان أهلاً لمجد يفوق مجد موسى، بمقدار ما لباني البيت من كرامة تفوق كرامة البيت« (عب 3: 3). موسى هو البيت والربُّ صنعه. موسى هو الخادم. »أمّا المسيح فهو أمين لبيت الله، لكونه ابن الله« (آ6).