ما هي ارشادات يسوع لنجد الراحة؟
إن دعوة الرب مدهشة حيث انه يدعو أشخاصًا تُثقلهم حياة صعبة ويَعِدهم أنّهم سيجدون الراحة لديه، وهذه الدعوة موجّهة بصيغة الأمر ولها ثلاثة إرشادات: "تَعالَوا إِليَّ"، و"اِحمِلوا نيري" و"تَتَلمَذوا لي".
الإرشاد الاول: "تعالوا إلي"
يدعو الرب الجميع للذهاب اليه "تَعالَوا إِليَّ جَميعاً أَيُّها المُرهَقونَ المُثقَلون" (متى 11: 28) لكي يجدوا فيه الراحة والتعزية؛ يدعو يسوع الجميع، كخادمِ الرّب الذي تمّ وصفه في كتاب النبي أشعيا "آتاني السَّيِّدُ الرَّبُّ لِسانَ تِلْميذ يَبعَثُ كَلِمَةً لِأَعرِفَ أَن أَسنُدَ المُعْيي" (أشعيا 50: 4). ويتوجّه بهذا النداء الشخصي إلى المرهقين والمثقلين للتحرّك والتفاعل ليجمع الناس المتعبين حوله، كما صفه النبي ارميا: "الرّبُّ أعطاني لِسانَ التَّلاميذِ لأُعينَ المُتعَبينَ بكلِمةٍ" (ارميا 50: 4). فكأن يسوع يُناجي كل شخص، ويريد أن يُكلِّم كلَّ شخص ويقف إلى جانب كل شخص من المرهقين والمتعبين. ويعلق البابا فرنسيس "لقد أيقظ الرّب يسوع في القلب كثيرًا من الرّجاء بين الجموع المتواضعة، والبسيطة، والفقيرة، والمنسيّة، تلك التي بلا قيمة في عيون العالم. لقد عرف الرّب يسوع أن يدرك المآسي البشريّة، ينظر إلى أمراضنا، إلى خطايانا. يسوع هو الله، الذي تواضع لكي يسير معنا" (عظة بتاريخ 24/03/2013).
وإلى جانب هؤلاء المُرهقين والمتعبين يضع الإنجيل غالبًا أيضًا للفقراء(متى 11، 5) والصغار(متى 18، 6). يختار يسوع الصغار ويكشف لهم ذاته ويدعوهم. إنهم جميع الذين لا يمكنهم الاعتماد على إمكاناتهم الشخصيّة بل يتّكلون على الله. وإذ يدركون حالتهم الوضيعة والبائسة يعتمدون على رحمة الرب وينتظرون منه المساعدة الوحيدة الممكنة، وبالتالي يجدون في دعوة يسوع الجواب على توقعاتهم، لذلك يُصبحون تلاميذه وينالون الوعد بأن يجدوا الراحة طوال حياتهم.
ولكن ألا يدعو الكبار أيضًا؟ إن قلب المسيح مفتوح، ويدعو جميع المتعبين "تَعالَوا إِليَّ جَميعًا أَيُّها المُرهَقونَ المُثقَلون" (متى 11: 28)، ولان الدعوة نداء شخصي، يصمُّ البعض آذانهم عنه كما كان رد فعل الكتبة والفريسيين بسبب كبريائهم وغرورهم وأنانيّهم (متى 22: 1-14). إلاَّ أنَّ الرّب يسوع لا يُقصي ولا يرفض أحدًا. المتكبرون لا يستطيعون سماع صوته لأنّهم ممتلئون من أنفسهم، ولكي يسمعوا صوت الرب، ينبغي عليهم أن يتصاغروا.
الرب يدعو جميع المتعبين دون أي تمييز إلى راحته ورحمته وخلاصه. ويُعلق القديس اوغسطينوس مناجيا يسوع "مَن سيمنحني أن أستريح فيك؟ مَن سيمنحني أن تأتي إلى قلبي، وأن تسكره حتّى أنسى آلامي وأتمكّن من معانقتك، أنتَ يا كلّ ما أملك؟ مَن أنتَ بالنسبة إليّ؟ أشفِق عليّ حتّى أستطيع أن أتكلّم. مَن أنا في عينيك، حتّى تأمرني بأن أحبّك؟... في رحمتك يا إلهي، قُل لي مَن أنت بالنسبة إليّ. "قُل لنفسي: أَنا خَلاصُكِ" (مزمور 35: 3)".
الارشاد الثاني: "احملوا نيري"
يدعو يسوع الجميع بقوله: "اِحمِلوا نيري" (متى 11: 29). ويستعمل يسوع صورة النير ليشير إلى العهد الوثيق بين الله وشعبه، وبالتالي إلى الخضوع لمشيئته التي يُعبّر عنها في الشريعة. وعلى خلاف الكتبة وعلماء الشريعة يحمّل يسوع تلاميذه نيره الذي فيه تجد الشريعة تمامها. ويعلّمهم كيف يكتشفون مشيئة الله من خلال شخصه: هو يقوم في محور علاقتهم مع الله، كما يعلق البابا فرنسيس "يسوع هو في جوهر العلاقات بين التلاميذ ويضع نفسه كحجر أساس لحياة كل فرد منهم. وكل تلميذ يقبل حِمل "نير يسوع"يدخل في شركة معه ويصبح شريكه في سرّ صليبه ومصيره الخلاصي ويصبح تلميذه" (المُقَابَلَةُ العَامَّةُ 14 أيلول 2016).
ويُبيّن لنا الانجيل ان يسوع هو ذاك الخادم المتواضع أمام الربّ، والوديع أمام البشر، والمُتميّز عن علماء الأخلاق. وهذه الوداعة هي سمة من سمات المسيح المنتظر (متّى 5: 4). وهذه الوداعة هي التي تعطي الراحة في العودة إلى الربّ وفي أمانة جديدة لشريعته التي لا يمكن أن تكون إلاّ شريعة المحبّة. وهذه الأمانة قد جعلها يسوع مُمكنة بفضل حياته وتعليمه. إذ يكفي أن ننظر إليه، يكفي أن نسمع كلامه، يكفي أن نرافقه في حياته، لكي نفهم أن نيره ليّن وحِمله خفيف كما يصرح بولس الرسول: "لأَنَّ مَحبَّةَ المسيحِ تَأخُذُ بِمَجامٍعِ قَلْبِنا" (2 قورنتس 5: 14)، إنها تخفّف الوِزْر وتقلّل من وطأة النير كما يقول القدّيس أوغسطينوس" حيثما المحبّة فلا تعب، وحتّى إذا وُجد تعب، فإنّ التعب نفسه يُحَبّ". والواقع أن يسوع لا يفرض وصاياه بل يقدّمها، لا يُكره أحداً بل يقُنع. فمحبة المسيح تمنحنا الفرح والراحة والسلام! وما أحلى نير المسيح الذي حِمله! وما أخفَّ ذلك الحِمل الذي يحمله مع المسيح بمحبة! ويُعلق القديس اوغسطينوس "إن كان الحِمل عسيرًا على القليلين الذين اختاروه لكنّه سهل للذين يحبّونه". فالحب لا يمكن الا ان يكون مصدر حرية وإشعاع.
نستنتج مما سبق أنّنا لن نقدر أن نلتقي بمسيحنا خارجًا عن نيره، ولا أن نتعرّف على أبيه بدون صليبه! فعلينا ان نعود كالأطفال "الصغار" كي نقبل يسوع المسيح ونحمل صليبه كحِمل خفيف، وفيما نحمله نكتشف يسوع الحامل للصليب معنا وفينا. ويقول القدّيس خوسية ماريّا إسكريفا "إذا كلّفك الربّ بمهمّة ما، فسوف يُعطيك القوّة اللازمة للقيام بها".
الارشاد الثالث: "تتلمذوا لي"
يدعو يسوع الجميع ان يكونوا تلاميذه بقوله "تَتَلمَذوا لي" (متى 11: 29). يدعو يسوع الناس لكي يكونوا تلاميذه، ويناشد تلاميذه ان يقتدوا بقلبه الوديع والمتواضع ويحملوا أتعابهم بالطريقة التي حمل بها هو أتعابه. وكلماته التي لفظتها ليلة العشاء السرّي تعلّمنا كيفيّة الاقتداء به:" فقَد جَعَلتُ لَكُم مِن نَفْسي قُدوَةً لِتَصنَعوا أَنتُم أَيضاً ما صَنَعتُ إِلَيكم" (يوحنا 13: 15). واحتل ومريم العذراء المكان الاول بين اولئك المتواضعين وفقراء الرب الذين تتلمذوا على يسوع مع التلاميذ الاوَّلين.
وبناء على ذلك إن ما يطلب يسوع من الانسان لكي يصير تلميذا له، لا الاستعدادات الذهنية، ولا حتى الأدبية ـ بل الدعوة التي يوجّها له "اتبعني" (مرقس 1: 17-20). وفي الاناجيل يدل لفظ " اتبعني" على التعلق بشخص يسوع (متى 8:19). إن اتباع يسوع تعني قطع كل علاقة بالماضي، كما يعني الاقتداء بمثاله وسماع تعاليمه، ومطابقة الحياة على سيرة المخلص "مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِه ويَحمِلْ صَليبَه ويَتبعْني" (مرقس 8: 34). وحيث ان تلميذ يسوع لا يرتبط بتعليم، بل بشخص يسوع الوديع المتواضع القلب، لذا فهو لا يستطيع أن يترك معلمه الذي أصبح مرتبطا به أكثر من أبيه وأمِّه (متى 10: 37). ويعطي يسوع ومن خلال هذه الدعوة الى تلاميذه اسرار الملكوت ويخلصهم كما وعد: "مَشيَئةُ الَّذي أَرسَلَني أَلاَّ أُهلِكَ أَحَداً مِن جَميعِ ما أَعْطانيه بل أُقيمُه في اليَومِ الأَخير" (يوحنا 6: 39).
ويدعو يسوع الجميع الذين أرادوا ان يتتلمذوا له ان يحملوا سمتيّ الوداعة وتواضع القلب. بهاتين الصفتين ركز المسيح على الحياة العملية لكي يصبح تلاميذه على مثاله، يسوع المسيح هو الوديع والمتواضع القلب كما تنبأ عنه زكريا " هُوَذا مَلِكُكِ آتياً إِلَيكِ وَديعاً "(متى 21: 5). وفي الواقع "الكَلِمَةُ صارَ بَشَراً (يوحنا 1: 14) ليقود الانسان الى اوج التواضع، وقد بلغ به التواضع الى حد غسل أرجل تلاميذه (يوحنا 13: 14-16) جعل لنا من نفسه قدوة. من خلال الوداعة والتواضع يدعو يسوع الى الدخول في علاقة مع الاب ومعرفة اسرار الملكوت. ويعلق القديس اوغسطينوس " تعلّم منه لأنه وديع ومتواضع القلب. لتحفر فيك أساس التواضع هذا عميقًا، فتحصل على قمّة المحبّة! التواضع علامة المسيح، وحيث التواضع هناك المحبة". والتواضع أعظم الفضائل. وأن الأشخاص الذين يتحلون بالتواضع يكتسبون قدرا أكبر من المعرفة" كما صرّح الفيلسوف سقراط ألفي عام.
وعلَّم يسوع الرسل التحلي بثوب التواضع، وكان القديس بطرس الرّسول كان أول من اختبر كم كان التّواضع مُجدِيًا لكل المؤمنين لدى الصيد العجيب صرخ معلنًا "يا ربّ، تَباعَدْ عَنِّي، إِنِّي رَجُلٌ خاطِئ" (لوقا 5: 8) ولدى اضطرابه من جرّاء عاصفة ارتباكه الهوجاء، فصرخ مع اصحابه الرسل "يا مُعَلِّم! يا مُعَلِّم! لَقَد هَلَكْنا" (لوقا 8: 24). ويعلق القدّيس يوحنّا الصليب (1542 -1591)، " المتواضع هو مَن يختبئ في فراغ نفسه ويعرف أن يستسلم لله، ولوديع هو مَن يعرف أن يتحمّل القريب وأن يتحمّل نفسه. إن كنت تريد أن تكون كاملاً، استدر نحو الرّب المسيح لكي تحصل منه على الوداعة والتواضع، واتبعه" (آراء وأمثال). وإن كنا نعتمد التواضع أولًا فإننا نُعيد إلى الله كلّ ما نطلبه، ويمكننا أن نتأكّد من أن طيبته سوف تغمرنا.
ويُعلمنا يسوع ان نتحلى بثوب التواضع في علاقتنا المتبادلة (1 بطرس 5:5) بأن نبحث عن منفعة الآخرين ونجلس في المكان الأخير كما جاء في تعليم بولس الرسول "لا تَفعَلوا شَيئًا بِدافِعِ المُنافَسةِ أَوِ العُجْب، بل على كُلٍّ مِنكم أَن يَتواضَعَ ويَعُدَّ غَيرَه أَفضَلَ مِنه" (فيلبي 2: 3). فالتلميذ المتواضع يشجع الناس على الانخراط أكثر في تقبل الانجيل المقدس والعمل بموجبه والشعور بالرضا عن إيمانه، والوصول الى خلاصه. ويعلق القدّيس أوغسطينوس بقوله "يحبّ الجميع الارتفاع بالمجد، لكن التواضع هو السّلّم التي يجب تسلّقه للوصول" (العظة 9 ). بناء على بحث حول أهمية التواضع نشره برادلي أوينز، عالم النفس بجامعة بريغهام يونغ في عام 2013. لذلك يسالكّ الراهب إسحَق السريانيّ (القرن السابع): "هل تريد أن تجد الحياة؟ حافظ في داخلكَ على الإيمان والتواضع، وستجد من خلالهما الرأفة والنجدة والكلام الذي سيقوله الله في قلبكَ، وأيضًا ذاك الذي يحرسك ويبقى إلى جانبك سريًّا وظاهريًّا" (المجموعة الأولى، الفقرة 19).
وتمشيا مع تعاليم المسيح ومثاله لم الرسل التكلم عن الوداعة، فيقول يعقوب الرسول عن أهميتها في الحياة الروحية "أفيكُم أَحَدٌ ذو حِكمَةٍ ودِرايَة؟ فَليُظهِرْ بِحُسنِ سِيرتِه أَنَّ أَعمالَه تُصنَعُ بِوَداعَةٍ تأتي مِنَ الحِكمَة" (يعقوب 3: 13)، وأمَّا بطرس الرسول فيركز على اهمية الوداعة في الايمان فيقول "قدِّسوا الرَّبَّ المَسيحَ في قُلوِبكم. وكونوا دائِمًا مُستَعِدِّينَ لأَن تَرُدُّوا على مَن يَطلُبُ مِنكم دَليلَ ما أَنتم علَيه مِنَ الرَّجاء، ولكِن لِيَكُنْ ذلك بِوَداعَةٍ ووَقار" (1 بطرس 3: 15-16)؛ وامَّا بولس الرسول يتطرق الى الوداعة في الاصلاح الاخوي "أَيُّها الإِخوَة، إِن وَقعَ أَحَدٌ في فَخِّ الخَطيئَة، فأَصلِحوه أَنتُمُ الرُّوحِيِّينَ بِروحِ الوَداعة. وحَذارِ أَنتَ مِن نَفْسِكَ لِئَلاَّ تُجرَّبَ أَنتَ أَيضًا. لِيَحمِلْ بَعضُكم أَثْقالَ بَعض وأَتِمُّوا هكذا العَمَلَ بِشَريعةِ المسيح" (غلاطية 6: 1-2). واخير يناشد القديس بولس المسيحيين في التمسك بالوداعة والتواضع بقوله الى اهل أفسس "فأُناشِدُكم، أَنا السَّجينَ في الرَّبّ، أَن تَسيروا سيرةً تَليقُ بِالدَّعوَةِ الَّتي دُعيتُم إِلَيها، 2 سيرةً مِلؤُها التَّواضُعُ والوَداعَةُ والصَّبْر، مُحتَمِلينَ بَعضُكُم بَعضًا في المَحبَّة " (أفسس 4: 1-2).