منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 10 - 07 - 2012, 01:08 PM
الصورة الرمزية مريم فكرى
 
مريم فكرى
| غالى على قلب الفرح المسيحى |

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  مريم فكرى غير متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 61
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة :
المشاركـــــــات : 1,297

الأحد الجديد _ غريغوريوس اللاهوتي

الأحد الجديد _ غريغوريوس اللاهوتي


باسم الثالوث الأقدس

الأحد الجديد

للقديس غريغوريوس اللاهوتي



مقدمة:




كان القديس غريغوريوس اللاهوتي خطيباً ذو أسلوب متميز مشهور. وتحتل عظاته وخطبه القِسم الأكبر من تراثه الأدبي اللاهوتي القليل نسبياً. وقد حُفظت 55 خطبة من خطبه، وقد سَجَّل معظمها كتابةً في سني وجوده في القسطنطينية. الخطبة الآتي عرضها هي الخطبة الرابعة والأربعون، وهي بعنوان "الأحد الجديد". أُلقيت هذه الخطبة القصيرة والجميلة يوم الأحد التالي لعيد القيامة، والذي كان يُسمى في أيام ق. غريغوريوس بالأحد الجديد، الذي كان يتم الاحتفال به كتذكار سنوي للخلاص والتجديد. وكان هذا اليوم يوافق أيضاً مهرجاناً للربيع في قيصرية، وإحتفالاً شعبياً بالشهيد ماماس[1]، كما يظهر في النص. والجدير بالذكر أن عيد القيامة في الكنيسة الأولى كان يُحتفَّل به لمدة ثمانية أيام، إذ كانت تتم معمودية الموعوظين ليلة عيد القيامة ـــ بعد تلقيهم التعاليم المسيحية في الأربعين المقدسة ـــ ثم يحضرون الاحتفال حاملين الشموع، ثم يتقدمون للتناول من الأسرار الإلهية، وفي أثناء الأيام الاحتفالية التالية، كانوا يتلقون التعاليم الخاصة بأسرار الانضمام لجسد المسيح.




في هذه الخطبة، خطبة عيد التجديد السنوي، ينسج ق. غريغوريوس بمهارة عدة موضوعات معاً: تجديد الله للبشرية من خلال موت وقيامة المسيح، تجديد الخليقة بمجيء فصل الربيع، التجديد الروحي والتكريس القلبي للمؤمنين، وعيد تذكار الشهيد ماماس. ويرسم القديس صورة موجزة عن كيفية حياة المسيحي، المُجدَّد بواسطة المسيح القائم. هذا النص هو مثال جيد على قدرة ق. غريغوريوس المدهشة لتحويل إحتفال طقسي إلى مناسبة للتأمل في موضوعات عميقة كالخلق والخلاص، جاذباً سامعيه بتعليمه وفصاحته وشاعريته وتذوقه للجمال.



[1] القديس ماماس استشهد على اسم المسيح في القرن الثالث في أقليم كبادوكية، في عهد الامبراطور أوريليان (270-275م).

[2] الأب نيقيطس أسقف هرقليا Nicetas of Heraclea (1050- 1117)، هو أكثر الأباء الذين درسوا وصنفوا أعمال القديس غريغوريوس اللاهوتي في القرون الوسطى.

[3] لويس دو تلمونت (1637- 1698) Louis-Sébastien Le Nain de Tillemont ، باحث فرنسي في علم الآباء.




1- إنه تقليد قديم وممارسة جليلة أن نُكرِّم أعياد التجديد[5]، أو بالأحرى نُكرِّم التقدم في جدَّة الحياة من خلال إحتفالات التجديد، وأن نفعل ذلك ليس مرة واحدة بل مرات عديدة، إذ أن كل دورة سنوية تُحضر نفس اليوم إلى الأمام مرة ثانية. نحن نفعل ذلك، حتى لا تضمحل الأمور الرفيعة بمرور الوقت، أو يَخفُت تذكارها وتتبدَّد إلى هاوية النسيان.


نقرأ في سفر إشعيا: "تجددي أمامي أيتها الجزائر"[6] - أيّاً كان تفسيرنا لكلمة "الجزائر"- بحسب رأيي، أعتقد أن الجزائر تشير إلى الكنائس، التي تم تشكيلها في الوقت الحاضر من شعوب الأمم، والناشئة من بحر عدم الإيمان المُر، والتي بإيمانها الراسخ صارت مستقرة في الله[7]. ويتكلم نبي آخر عن "أسوار نحاس"[8] يتم تجديدها. أعتقد أن هذه الأسوار تشير إلى النفس القوية، المُشرقة كالذهب، والمشيَّدة بشكل جيد لحياة التقوى.


ويأمرنا المزمور أن نغني للرب "ترنيمة جديدة"[9]، سواء إن كنا من أولئك الذين سَبَتهُم الخطية إلى بابل الإرتباطات المنحرفة، وتم إعادتهم الآن مُنقَذين إلى أورشليم - وبينما كنا لا نستطيع أن نغني الترانيم المقدسة هناك، في أرض غريبة[10]، بدأنا هنا "ترنيمة جديدة" وطريقة جديدة للحياة - أو من أولئك الذين استمروا في الحياة الفاضلة ويتقدمون فيها، وقد حققوا بالفعل بعض جوانبها، ولا زالوا يحققون البعض الآخر، بنعمة وتجديد الروح القدس.


2- خيمة الشهادة تم تكريسها في احتفال فاخر مهيب - الله أعلن التصميم، بصلئيل حقَّقها، وموسى نصَّبها[11]. كذلك أيضاً تم الاحتفال بتنصيب داود على العرش ليس فقط مرة واحدة، بل أولاً حينما مُسح[12]، ومرة ثانية لاحقاً عندما نادوا به ملكاً[13].


وكان يُحتفل بـ "عيد التجديد في أورشليم وكان شتاءُ"[14] - شتاء الخيانة - وكان يسوع حاضراً، الذي هو إله وهيكل، إله سرمدي، وهيكل مُشكّل حديثاً، لكي يُنقَّض في يوم واحد ويقوم ثانية في ثلاثة أيام[15]، ويبقى إلى أبد الدهور، حتى يُمكنُني أن أخلص، وأتجدد من السقوط القديم، وأصير خليقة جديدة، مُشكَّلة ثانيةً، بواسطة محبة بهذا الاتساع للبشرية.


توسَّل داود المبارك أن يُخلَّق فيه "قلباً جديداً"، وأن يتجدَّد في أحشائه "روحاً مستقيماً"[16]، ليس لأنه كان ينقصه ذلك - فمن يكون لديه إذاً، إن كان داود العظيم ينقصه ذلك؟ - بل لأنه كان يعتبر ما يَتَحسَّن ويتجدَّد بشكل مستمر كأنه شيء جديد.


ولماذا أحتاج أن أُقدم شواهد أكثر عن التجديد، إذا كان من السهل أن نوضح معاني الإحتفال الحالي؛ الإحتفال الذي يجعلنا نتلامس مع الحياة التي بعد الموت؟ إنَّ عيدنا اليوم هو عيد التجديد، يا أخوتي وأخواتي – عيد التجديد والتكريس! دعونا نعلن ذلك مراراً وتكراراً في بهجة وفرح!


وما هو الذي يتجدَّد ويتكرس؟ أولئك الذين يعرفون (الإجابة) فليكونوا مُعلمين لنا، أما أولئك الذين لا يعرفون فليكرسوا قدرتهم على الإستماع!


3- هناك نور أبدي لا يُدنى منه[17]، الله، نور بلا بداية أو نهاية، نور غير محدود، مُشرق أبداً إشراقاً مثلثاً، إلا أن قلة من الناس - أو أقل من القلة - يكونوا قادرين على التأمل في مقدار عظمته. وهناك أنوار ثانوية، تستمد سطوعها من النور الأول: القوات التي تحيط به، والأرواح التي تخدمه[18].


أما هذا النور (المخلوق) الذي يضيء حولنا، ليس فقط أنه جاء للوجود حديثاً، لكنه أيضاً يُقاطعه الليل، وهو بدوره يُقاطع الليل بشكل متساوٍ. أنه مُؤتمَّن على إبصارنا من خلال إنتشاره في الهواء، وما يمنحه يأخذه - لأنه يُزوِّد البصر بقوة الرؤية، وهو أول ما تراه عيوننا - وبغمره الأجسام المرئية يتيح لنا البلوغ إليها[19]. فالله الذي أراد أن يتآلف هذا العالم - المكوَّن من الكائنات المرئية وغير المرئية - مثل البشير الرائع والمنادي العظيم بمقدار عظمته[20]، هو ذاته نور للمخلوقات الأبدية وليس هناك نور آخر (فلماذا يحتاج أولئك الذين يحوزون على أعظم الأنوار (الغير مخلوق) نوراُ آخر؟!)، أما بالنسبة للمخلوقات الأدنى - ونحن من ضمنها - جعل قوة هذا النور (المخلوق) تضيء أولاً. إذ أنه كان من اللائق أن يبدأ "النور العظيم" (الله) عمل الخلق بنور، والذي بواسطته بددَّ الظلام والتشويش والفوضى التي كانت سائدة إلى ذلك الحين[21].


4- بحسب رأيي، لم يخلق الله هذا النور في البدء بواسطة أداة ما مثل الشمس. كان النور غير مُجسَّداً، وغير مرتبط بشمس. وفي وقت لاحق، أعطي للشمس مهمة إنارة العالم كله. في حالة المخلوقات الأخرى، أوجَّد الله المادة أولاً ثم أعطاها شكلها، مزيناً كل شيء بنظام وشكل وحجم. أما في هذه الحالة - ليصنع بذلك أعجوبة أعظم - أوجَّد الشكل أولاً قبل المادة (إذ أن النور هو شكل الشمس)، ثم أضاف المادة بعد ذلك، خالقاً الشمس كالعين المشرقة للنهار[22].


وهكذا يأخذ الترقيم مكانه بلغة الأيام: الأول، الثاني، الثالث، وهكذا، حتى نصل إلى اليوم السابع، الذي إستراح الله فيه من جميع عمله. إن أحداث الخلق تُقسَّم بهذه الأيام، المرتبة بحسب مقاصد الله الفائقة الوصف، ولا يُنسَب للكلمة (اللوغوس) كلي القدرة إتمامها دفعة واحدة، الذي بالنسبة إليه مجرد التفكير أو النطق هو في حد ذاته إتمام العمل.


وعندما يُخلق الإنسان آخر الكل، ويُكَّرم ويُميَّز بقبول صورة الله[23] وملامسة يديه[24]، هذا لا يجب أن يدهشنا. لأن القصر كان لابدَّ وأن يُوجَد قبل الملك، حتى يمكن أن يدخل إليه الملك في موكبه وهو محاط بكل حاشيته[25].


إذا كنا قد بقينا آنذاك على حالتنا الأصلية، وحفظنا الوصية، لكنا قد أصبحنا ما لم نكن عليه، بالبلوغ إلى شجرة الحياة، بالمرور على شجرة المعرفة. وما هو الحال الذي كنا سنصير إليه؟ كنا سنصير خالدين، وأصدقاء حميمين لله. لكن بما أن الموت "دخل إلى العالم بحسد إبليس"[26]، وأخذَ الإنسان أسيراً بالخداع[27]، لهذا صار الله إنساناً، وجاء لكي يتألم بآلامنا، وافتقر باحتماله فقر التكوين كجسد (سر الإخلاء)، لكي نستغنى نحن بفقره[28]. هذا هو سبب الموت والدفن والقيامة، هذا هو أساس الخليقة الجديدة، وعيداً بعد عيد.


وها آنذا أُعيِّد مرة أخرى، محتفلاً بتجديد خلاصي الشخصي!
5- قد يقول قائل: "ما هذا؟ ألم يكن الأحد الأول (أحد القيامة) - اليوم التالي لتلك الليلة المقدسة التي إستضاءت بشموعنا – هو عيد تجديدنا؟ لماذا تنادي به اليوم؟ هل أنت مجرد شخص محب للإحتفالات، تخترع تعدداً للمناسبات البديعة؟".


الأحد الماضي هو اليوم الذي جلب الخلاص، أما اليوم فهو ذكرى قبول عطية الخلاص. الأحد الماضي كشف الحد الفاصل بين القبر والقيامة، أما اليوم فيكشف بكل وضوح بدايتنا الثانية. وكما بدأ الخلق الأول يوم الأحد (وهذا واضح، لأن السبت الذي توقف فيه العمل كان سابع يوم بعده)، هكذا كان يجب أن تبدأ أيضاً الخليقة الجديدة مرة ثانية يوم الأحد - الذي هو أول الأيام التي تتبعه، وثامن الأيام التي تسبقه - بشكل أكثر سمواً مما سبق، وأكثر عجباً من العجائب السابقة، لأن هذا اليوم يشير إلى الحياة الآتية التي تمتد أمامنا في السماء.


يبدو أن سليمان الحكيم يلمح إلى ذلك، عندما يوصي قائلاً: "أَعطِ نصيباً لسبعة - أي لهذه الحياة الحاضرة - ولثمانية أيضاً - أي للحياة الآتية"[29]، فهو يشير إلى أعمالنا الصالحة في هذه الحياة، وتجديد كل شيء في الحياة الآتية.


ويبدو أن داود العظيم أيضاً لنفس هذا الرجاء يعنوِّن مزاميره "على الثامنة"[30]، كما أنه يُصنّف مزموراً آخر بـ "مزمور أغنية تدشين البيت"[31]، وهو ذات المزمور الذي نستخدمه في هذا اليوم الذي للتكريس والتجديد. والبيت هو أنفسنا، نحن الذين قد حُسبنا مستحقين أن نكون، وأن نُدعى، وأن نصير هيكلاً لله[32].


6- والآن وقد أصبح لديكم التفسير لهذا اليوم الذي للتجديد. تجدَّدوا إذاً، كرسوا أنفسكم. أخلعوا الإنسان العتيق وسيروا في جدَّة الحياة[33]، أقمعوا كل ما يؤدي إلى الموت، هذّبوا كل أعضائكم، نمّوا في داخلكم كراهيةً نحو ثمار الشجرة الشريرة، بل تقيأوها كليةً، ولنتذكر فقط الطرق القديمة بغرض تجنبها.


الثمرة التي جلبت لي الموت كانت "شهية للنظر وجيدة للأكل"[34]. دعونا نهرب من الإغراء والجاذبية الخارجية، ونوجه انظارنا إلى داخل أنفسنا. لا تسمح لشهوة الجمال أن تغلبك، وتجعلك أسيراً لعيناك - ولا حتى بنظرة خاطفة إن أمكن – بل تذكر حواء وغواية تلك الثمرة الشهية، وتأمل العلاج المُكلف. لأنه كيف لشخص قد دمرته شهواته الخاصة أن تُخلصه إرادة آخر؟[35]. لا تجعل حلقك حديقة لملذاتك بحيث تبتلع كل ما يقع في متناول يديك – شهي في البداية وبعد إستهلاكه يُنفِر. هل حاسة الشم تضعفك؟ تجنب الروائح العطرية. هل حاسة اللمس تضعفك؟ تخلى عن الأشياء الرقيقة والناعمة. هل حاسة السمع تضللك؟ أغلق الباب أمام الكلمات المتقنة والمخادعة، وأفتح فمك لكلمة الله، حتى تجتذب إليك الروح[36] ولا تستنشق موتاً. وإذا أغرتك أي من تلك الأمور المُحرمة، تذكر ما كنت عليه، وإلى أي مدى قد سقطت. وإن كنت قد حِدتُ ولو قليلاً عن التعقل، ارجع لنفسك قبل أن تسقط تماماً وتنجرف نحو الموت. واستبدل إنسانك العتيق بالجديد، واحتفل بتجديد وتكريس نفسك.


7- اجعل غضبك يكون موجهاً فقط ضد الحيَّة، التي بواسطتها سقطت أولاً. اجعل اشتياقك يكون موجهاً فقط نحو الله، وليس لأي شيء آخر يمكنه أن يخونك ويخدعك. أعطِ التعقل المركز الأول قبل كل شيء آخر، لا تجعل المَلَكَة الأفضل التي فيك أن تنقاد وراء الأسوأ. لا تكره وبدون أي مبرر أخوك أو أختك، الذين مات المسيح من أجلهم، وصار أيضاً أخاً لك - ذاك الذي هو إله ورب. لا تحسد الشخص المستقيم، أنت يا من كنت ضحية لحسد الشيطان، وتم إقناعك بأن الله يبخل عليك، وهكذا كان سقوطك[37].


لا تخجل من البكاء، أنت يا من عانيت من أمور تستحق دموع كثيرة، وبعد ذلك تلقيت رحمة. لا تطرد فقيراً، أنت يا من أغتنيت باللاهوت. وإذا كنت لا تستطيع أن تكون كريماً، على الأقل لا تغتني على حساب الفقراء، بل حتى هذا الطلب يعتبر مطلباً صعباً بالنسبة للشخص الجشع الذي لا يشبع. لا تحتقر الغريب، أنت يا من من أجلك صار المسيح غريباً على الأرض، عندما كنا جميعنا غرباء وأجنبيين عنه، لئلا تُبعَّد عن الفردوس وتتغرب، كما حدث قبلاً. أقتسم سقفك وجدرانك وطعامك وملابسك مع الشخص المحتاج، أنت يا من لديك كل هذه الأشياء بوفرة، أكثر كثيراً من إحتياجك الشخصي. لا تحب الثروة، ما لم تكن مجرد وسيلة لمساعدة الفقراء. أغفر، لأنه قد غُفر لك. كن رحيماً، لأنك قد تلقيت رحمة. أكسب العطف لنفسك بتقديمه للآخرين مادام هناك وقت. كرس وجدِّد حياتك كلها والطريقة التي تسلك بها كل يوم.


8- أنتم يا من تشتركون في نير الزواج، خصصوا شيئاً لله أيضاً، لأنكم قد جُعلتم شركائه. أنتم أيها العذارى، أمنحن أنفسكن لله بالكلية، لأن لديكن الحرية للقيام بذلك. لا تسرقن لذة تستعبدكن، فتتخلون عن حريتكن بالسكن مع رجال ليسوا أزواجكن - إلا أنهم مع ذلك شركائكن[38]. أنا لا أستطيع تحمل المرض العالق الناتج من إيحاءات اللذة الحسية، بل أشمئز حتى من تصورات الشهوة.


أيها الرجال الذين في السلطة، خافوا مِن ذاك الذي هو أكثر منكم قوة. يا من تجلسون على عروشكم عالياً، خافوا مِن ذاك الذي يجلس أعلى منكم بما لا يُقاس. لا تَعجَب بشيء عابر، ولا تزدري بشيء يدوم. لا تتعلق بشدة بشيء يذوب عند إمساكه بإحكام. لا تسعى من أجل الأشياء التي تجعلك ليس فقط محسوداً بل مكروهاً. لا تعظم نفسك، لئلا تسقط أكثر من ذلك. لا تفكر كيف تكون أعلى منزلة من الأشرار، بل أحزن لكونك أدنى منزلة من الأبرار. لا تسخر من عثرات قريبك. تقدم في طريقك بأمان بالقدر الذي يمكنك القيام به، لكن مُد يد المساعدة أيضاً للشخص الواقع على الأرض. عندما تكون مكتئباً لا تفقد الأمل في الإزدهار، وعندما تكون مزدهراً لا تنسى أوقات الحزن ووهن العزيمة. كل سنة تجلب أربعة فصول، وكل فترة من الوقت تجلب تغييرات كثيرة في الأحوال الإنسانية. دع اليقظة تكبح ملذاتك، ودع الرجاء في ما هو أفضل يكبح أحزانك.


هذه هي الطريقة التي يتم بها تجديد الإنسان. هكذا يجب أن يُحتفل بيوم التجديد والتكريس، بمثل هذا النوع من الأناقة الروحية، بمثل هذا النوع من الولائم الشهية. "لا تحضَروا أمام الرب فارغين"[39] - يقول الرب - بل احضِروا معكم كل ما هو حسن. قدِّم ذاتك اليوم إذاً كشخص جديد، مختلفاً في طباعه وشخصيته، مُتغيِّراً تماماً. "الأشياء العتيقة قد مضت، هوذا الكل قد صار جديداً"[40]. هذا ما تحضره معك كتقدمة في هذا الاحتفال، تغيَّر للأفضل، ولا تفعل ذلك إستناداً على ذاتك بل أعلن مع داود: "هذا التغيير هو بيمين العلي"[41]، الذي هو مصدر كل فضائل الإنسان. لا يحثك الكتاب المقدس على البقاء بشكل دائم في نفس القالب، بل يجب أن تكون في تغيير مستمر، في تحسن دائم، نحو "خليقة جديدة" باستمرار. إن أخطأت تتوب، وإن كانت حياتك مستقيمة تمتد بالأكثر إلى قدام.


9- بالأمس وضعتم ثقتكم في الأمور الزمنية، تعلموا اليوم أن تثقوا في الله. "حتى متى تعرُجون بين الفرقتين؟"[42]. إلى متى تستمر حياتكم على النحو المعتاد دون تغيير؟ يجب أن تحرص في مرحلة ما على بناء بيتاً جديداً! بالأمس كنت تهتم بأن تبدو كشخص ذو إعتبار، اليوم إختار بالأحرى أن تكون هكذا بحق. إلى متى تعيش في عالم التمني والأحلام؟ حان الوقت لتركيز الانتباه على الحقيقة والواقع. بالأمس كنت ممثلاً، اليوم كن شخصاً متأملاً. بالأمس كنت مشاكساً وطائشاً، اليوم كن مهذباً ولطيفاً. بالأمس كنت شخصاً معربِداً، اليوم كن شخصاً معتدلاً. اليوم شرَّاباً للخمر، غداً امتنع عن شرب المسكرات. اليوم تعيش بشكل طائش، تستلقي على الأرائك العاجية، وتدهن نفسك بالعطور الفاخرة، غداً استلقِ على الأرض واسهر طوال الليل. بدلاً من أن تكون مهرجاً، كن شخصاً عميق التفكير. بدلاً من أن تكون غندوراً (شديد التأنق)، كن شخصاً ذو ملابس بسيطة. بدلاً من الغرور والتباهي، كن متواضعاً في سلوكك. بدلاً من العيش تحت سقف مطلي بالذهب، كن قانعاً بغرفة بسيطة. بدلاً من تصلب الرقبة بكبرياء، احنِ رأسك. إذا كانت هذه الأمور هي التي تقود أفكارك وتصرفاتك، سوف تحوز على "سماء جديدة وأرض جديدة"[43]، وسوف تأتي لفهم معناها وسبر أغوارها.


10- هلم إذاً نحتفل بهذا العيد مع بعضنا البعض بطريقة تناسب هذا الموسم. إذ أن كل الخليقة تجتمع وتبتهج معنا بجمال هذا العيد. تأملوا في العجائب التي تشاهدها أعينكم! ملكة الفصول (الربيع) تتقدم موكبها لتكرم ملكة الأيام، موزعة من غناها الهبات الأكثر روعة وجمالاً. الآن تسطع السماء بشكل أكثر بهاءً، الآن الشمس في إرتفاعها تتوهج بلون ذهبي أكثر لمعاناً. الآن بريق مدار القمر أكثر تألقاً، ولمعان جوقة النجوم أكثر سطوعاً. الآن أمواج البحر تعانق الشاطئ بمعانقة سلامية، وأيضاً الغيوم مع الشمس، والرياح مع الهواء، والأرض مع النباتات، والنباتات مع عيوننا. الآن تنغمر الينابيع بحيوية جديدة، الآن تتدفق الأنهار بفيض أكثر، منعتقة من قيود ثلج الشتاء. الآن المروج تنضح بعطر حلو، والنباتات تتأنق بالأزهار، والعشب جاهز للقص، والحملان تطفر في الحقول الخصبة التي اخضرت حالياً. الآن تنطلق السفينة من مينائها بأوامر القبطان وتنشر أجنحة أشرعتها، وترافقها صيحات من الشاطئ مملوءة بمحبة الله[44]. والدلفين يمرح راقصاً حولها، وينفخ مبتهجاً، ويقفز خارج الماء، ويرافق البحارة إلى أعماق المياه. الآن المزارع يتطلع إلى السماء طالباً ذاك الذي يعطي ثمر الأرض، ويضبط محراثه، ويضع النير على الثور الحارث، ويقطع اخدود منمق، مبتهجاً في آماله. الآن يبدأ راعي الغنم بضبط مزماره، والقيام بأداء أغنيته الرعوية، ويقضي وقت الربيع بين الخضرة والصخور. الآن يعتني الغارس بنباتاته، بينما يعد صياد الطيور فخاخه، محملقاً في فروع الشجر، باحثاً بعناية عن رفرفة طير. وصياد الأسماك يحدق في الأعماق، ينظف شبكته، ويجثم فوق صخرة ليستريح.


11- الآن النحلة الدؤوبة تنطلق من الخلية باسطة أجنحتها، وتحلق فوق المروج، وتأخذ الغنائم من البراعم بمهارة شديدة. واحدة تعمل قرص العسل، ناسجة معاً خلايا سداسية بنمط متشابك للجوانب والزوايا، في عمل يهدف للجمال والأمان في آن واحد. نحلة أخرى تُخزِّن العسل في الخلايا، منتجة لضيفها ثمرة حلوة بدون زراعة. كم أتمنى أن نتشبه نحن أيضاً -منحل السيد المسيح -بهذا النموذج الذي للحكمة والمثابرة.


الآن أيضاً يبني العصفور عشه، واحد يطير، وآخر يدخل العش، وثالث يحلق حوله، ويملأون البستان بأغنية، ويفتنون الإنسان بزقزقتهم. كل الخليقة تغني لله بالتسابيح، وتعطيه المجد بأصوات بلا كلام، إذ أنه من خلالي يتم تقديم الشكر لله على جميع أعماله. وهكذا تصير كل ترنيمة من ترانيم الخلائق ترنيمتنا، لأني أجعل كل أنواع أغانيهم خاصة بي. الآن كل الأجناس الحيَّة تبتسم، ونحن نُجري الإحتفال بجميع حواسنا. الآن الفرس النبيل يضجر من الإسطبل، فينطلق من قيوده، ويرعد عبر الحقول، ويطفر نحو الأنهار.


12- أي شيء آخر يمكنني أن أذكره؟ الآن الشهداء يخرجون إلى الهواء الطلق ويقودون الموكب[45]، ويدعون شعب المسيح المُخلِص إلى مزاراتهم المقدسة وزخائرهم البراقة، ويعلنون للجمهور نضالهم المنتصر. أحد هؤلاء هو بطلي المتوّج - نعم هو خاصتي، حتى إن لم يكن في حيز كنيستي، لذا أقول لأولئك الذين يفهمونني أجعلوا كل حسد ينحسر![46] - ماماس الشهير، الراعي والشهيد، الذي كان في الأزمنة السابقة يحلب أنثى الأيّل المتدافعة نحوه لتغذي القديس بحليب غير مألوف[47]، والذي الآن يرعى شعب مدينتنا الحضرية[48]، والذي يُكرس وقت الربيع اليوم للآلاف الذين يحتشدون حوله من كل الأنحاء، مزيناً إياه بجمال الفضيلة، جاعلاً إياه وقتاً مناسباً لعمل الرعاة وللخطب التي تحتفل بإنتصاره.


بإختصار ، الوقت الحاضر هو ربيع العالم، الربيع الروحي، ربيع نفوسنا، ربيع أجسادنا، الربيع المرئي، والربيع الغير مرئي. ليتنا نشترك جميعاً في الربيع الآتي الذي هو أمامنا، بتغييرنا نحو الأفضل هنا على الأرض. وليتنا نُوفَّد جميعاً مُجدَّدين إلى حياتنا الجديدة، في المسيح يسوع ربنا، الذي له كل المجد والكرامة والقوة مع الروح القدس، لمجد الله الآب آمين.



[5] الكلمة اليونانية المستخدمة هنا τα εγκαίνια والمترجمة "عيد التجديد"، لها عدَّة معاني، ويستخدمها القديس غريغوريوس في هذه العظة بمهارة بكل معانيها الممكنة، فهي قد تعني "التنصيب" أو "التدشين"، وتعني أيضاً عمل التجديد وإعادة التقويم والإصلاح، وهي نفس الكلمة المستخدمة في السبعينية والعهد الجديد للعيد اليهودي حانوكا (عيد الأنوار)، الذي يُحيي ذكرى تدشين الهيكل بأورشليم بواسطة يهوذا المكابي.
[6] إش 41: 1 س
[7] تستخدم الفقرة السابقة من العظة في طقس تدشين الكنائس عند الروم الأرثوذكس
[8] إر 1: 18
[9] مز 149: 1
[10] مز 137: 4
[11] خر 31: 1-11، 35: 30 – 36: 7، 40: 17-33
[12] 1 صم 13: 16
[13] 2 صم 5: 1-5
[14] يو 22:10
[15] يو 2: 19، مر 14: 58
[16] مز 10:50
[17] "الذي وحده له عدم الموت ساكناً في نور لا يُدنى منه الذي لم يره أحد من الناس ولا يقدر أن يراه" (1 تي 16:6)
[18] "أليس جميعهم أرواحاً خادمة مُرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص" (عب 1: 14)
[19] يتكلم القديس غريغوريوس هنا عن الفرق بين النور الأبدي غير المخلوق أي الله، والنور المخلوق الذي نعرفه في الكون. ويشير أن وجود النور المخلوق هو شرط لرؤية الأشياء، وهو في نفس الوقت شيء مرئي في حد ذاته، فهو يمنح البصر فتتم رؤيته. "بنورك نرى نوراً" (مز 9:36)
[20] "السموات تُحدّث بمجد الله والفلك يُخبر بعمل يديه. يوم إلى يوم يُذيع كلاماً وليل إلى ليل يُبدي علماً. لا قول ولا كلام لا يسمع صوتهم" (مز 19: 1-3)
[21] تك 1: 1-5
[22] القديس غريغوريوس يستعرض هنا خلقة النور في اليوم الأول والشمس والقمر في اليوم الرابع كما جاء في سفر التكوين الإصحاح الأول. نجد وصف الشمس والقمر بتعبير "عيني السموات" مرات عديدة في الأدب اليوناني القديم.
[23] "نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا فيتسلطون ..." (تك 1: 26)
[24] "وجبل الرب الإله آدم تراباً من الأرض ونفخ في أنفه نفساً حية" (تك 2: 7)
[25] "وباركهم الله وقال لهم أثمروا واكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها وتسلطوا على سمك البحر وعلى طبر السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض" (تك 1: 28). "وجبل الرب الإله من الأرض كل حيوانات البرية وكل طيور السماء فأحضرها إلى آدم ليرى ماذا يدعوها" (تك 2: 19)
[26] حك 24:2 ، اليوم الثامن كرمز إلى الدهر الآتي والحياة الجديدة أمر معتاد عند آباء الكنيسة.
[27] "من أجل ذلك كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس" (رو 12:5)
[28] "فإنكم تعرفون نعمة ربنا يسوع المسيح أنه من أجلكم افتقر وهو غني لكي تستغنوا أنتم بفقره" (1 كو 8: 9)
[29] جا 11: 2 ،
[30] "على الدرجة الثامنة" (مزمور 6، 12 )، هذا العنوان الذي ربما يشير إلى نوع الأداء الموسيقي، أخذه الكثير من الآباء على أنه إشارة إلى ملكوت الله الآتي.
[31] مزمور 30
[32] " أما تعلمون أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم " (1 كو 3: 16)
[33] "أن تخلعوا من جهة التصرف السابق الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور وتتجددوا بروح ذهنكم وتلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق" (أف 4: 22-24))
[34] تك 3: 6
[35] هنا القديس غريغوريوس يشير إلى أن الإنسان لا يمكن أن يخلص بدون رغبته وإرادته الشخصية. "الله الذي خلقك بدونك لا يستطيع أن يخلصك بدونك" (القديس أغسطينوس).
[36] "فتحت فمي واجتذبت لي روحاً لأني لوصاياك اشتقت" (مز 119: 131)
[37] " .. فقالت للمرأة لن تموتا بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفان الخير والشر .."(تك 3: 1-5)
[38] القديس غريغوريوس هنا يشجب العيش المشترك بين الرجال المكرسين والعذارى في تجمعات رهبانية غير رسمية، الأمر الذي أدانه أيضاً آباء آخرون أمثال القديس يوحنا ذهبي الفم. ويرى غريغوريوس أنه حتى وإن كان هذا التعايش ليس فيه سقوط جسدي، إلا أنه يعتبر هجر للحرية التي للبتولية الحقيقية.
[39] تث 16:16
[40] 2 كو 5: 17
[41] مز 76: 11 س
[42] 1 مل 18: 22
[43] إش 65: 17، إش 22:66، 2 بط 13:3، رؤ 21: 1
[44] كانت السفن الشراعية الصغيرة في البحر الأبيض المتوسط عادة لا تبحر في أشهر الشتاء بسبب تواتر العواصف. القديس غريغوريوس هنا يشير بإسلوبه المبدع إلى الشروع في الملاحة ورفع الأشرعة مجدداً مع بدء فصل الربيع.
[45] من الواضح أن الاحتفال بالشهيد كان يتضمن موكب أو مسيرة في الهواء الطلق، وهم حاملين رفاته المقدسة.
[46] هذا هو التلميح المشار إليه في المقدمة، والذي يعتبره الأب نيقيطس موجهاً إلى ق. باسيليوس، الذي ربما كان حاضراً في هذه المناسبة. وهنا يعبر ق. غريغوريوس عن محبته الخاصة للشهيد ماماس الذي لا يقع مزاره في نطاق أبرشيته، ويُلمح بشيء من الدعابة أنه لا مجال للحسد في هذا الشأن.
[47] المعلومات الموثقة من الناحية التاريخية عن حياة القديس ماماس قليلة، معظمها تصوره كراعي، يعيش في إنسجام مع الحيوانات البرية.
[48] أي مدينة قيصرية عاصمة أقليم كبادوكية
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
القديس غريغوريوس اللاهوتي | ما هو الشفــاء
القديس غريغوريوس اللاهوتي
وصيتي الرسمية _ غريغوريوس اللاهوتي
الجدل في اللاهوت _ غريغوريوس اللاهوتي
الأحد الجديد _ غريغوريوس اللاهوتي


الساعة الآن 05:01 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024