|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
مَثَل الابْنَين والطَّاعَة بين القَول والفعِل (متى 21: 28-32) النص الإنجيلي (متى 21: 28-32) 28 ما رَأيُكم؟ كانَ لِرَجُلٍ ابنان. فدَنا مِنَ الأَوَّلِ وقالَ له: ((يا بُنَيَّ، اِذهَبِ اليَومَ واعمَلْ في الكَرْم.)) 29 فأَجابَه: ((لا أُريد)). ولكِنَّه نَدِمَ بَعدَ ذلك فذَهَب. 30 ودَنا مِنَ الآخَرِ وقالَ لَه مَثَل ذلك. فَأَجابَ: ((ها إِنِّي ذاهبٌ يا سيِّد!)) ولكنَّه لم يَذهَبْ. 31فأَيُّهما عَمِلَ بِمَشيئَةِ أَبيه؟ )) فقالوا: ((الأَوَّل)). قالَ لَهم يسوع: ((الحَقَّ أَقولُ لكم: إِنَّ الجُباةَ والبَغايا يَتَقَدَّمونَكم إلى مَلَكوتِ الله. 32 فَقَد جاءَكُم يوحَنَّا سالِكاً طريقَ البِرّ، فلَم تُؤمِنوا بِه، وأَمَّا العَشّارون والبَغايا فآمَنوا بِه. وأَنتُم رَأَيتُم ذلك، فلَم تَندَموا آخِرَ الأَمرِ فتُؤمِنوا بِه. مقدمة يُسلط إنجيل هذا الأحد الأضواء على وسيلة تُمّكن الإنْسَان من الدخول إلى مَلَكوتِ السَّمَوات، وهذه الوسيلة تقوم على العمل بمشيئة الله. والعمل بمشيئة الله هو المِحور الأساسي لدخول مَلَكوتِ السَّمَوات (متى 21: 28 -32). وينفرد متى الإنجيلي بمَثَل الابنين واصفَا الفرق بين "القول" و"العمل"، حيث تَكمن الطَّاعَة الحقيقية. الابن الصادق لا يرفض لله أمرًا، بل يُطيعه بصدقٍ طاعة الابن المُحِب لأبيهِ الحبيب. ولا يستسلم إلى الرِّياء متظاهرًا بالطَّاعَة من دون أن ينفِّذ إرادة الله. وهذا ما يُمّيز بين التِّلميذ الحقيقي المؤمن الصادق والتِّلميذ المُنافق. ومن هذا المنطلق يدعونا يسوع في اختيار الطَّريق الصَّحيح لحياتنا، وذلك بقبوله والسُّلوك فيه (قولسي 3: 3). ومن هنا تكمن أهمية البَحث في وقائع النَّص الإنجيلي وتطبيقاته. أولا: وقائع النص الإنجيلي (متى 21: 28 -32) 28 ما رَأيُكم؟ كانَ لِرَجُلٍ ابنان. فدَنا مِنَ الأَوَّلِ وقالَ له: ((يا بُنَيَّ، اِذهَبِ اليَومَ واعمَلْ في الكَرْم)). تشير عبارة "ما رَأيُكم؟ إلى سؤال يسوع المسيح الذي يُثير في السَّامعين إليه الإصْغاء الواعي والتَّفكير الطَّويل والتَّأمل العَميق والمُشاركة الشَّخصية والتَّفاعل الذَّاتي، ويدلُّ في الوقت نفسه على تقدير يسوع للحرِّية الفَرديَّة وعلى احترامه لها. إذ يرى يسوع أنَّه من واجب الإنْسَان أن يساهم في خلاص نفسه. وهنا يسأل يسوع الكتبة والفَرَّيسيِّين هذا السؤال مُبيِّنًا إثمهم لعدم إيمانهم به فيدينوا أنفسهم من خلال جوابهم له، كما دان داود نفسه بجوابه لناتأَنَّ النبي (2 صموئيل 12: 1-15). ومن هذا المنطلق، دعوتنا هي أن نخلق تساؤلات في أذهان النَّاس تلفت انتباههم إلى صوت الله في ضَميرهم. أمَّا عبارة " رَجُلٍ " فتشير إلى رَبّ البَيت الذي يسأل ابْنيه أن يعملا في كرْمه، وهو يمَثَل رَبّ المَجد الذي يطلب من أبنائه أن يعملوا في كنيسته لحِساب مَلَكوتِ السَّمَوات. أمَّا عبارة "كانَ لِرَجُلٍ ابنان" فتشير إلى الأب الذي يُمَثَل الله، وابنيه الاثنين، فالأول يمَثَل الخطأة الذين لا يحفظون الشَّريعَة كالعَشَّارين والزُّنَاة، والابن الثَّاني يُمَثَل وجهاء اليهود، كالكتبة والفَرَّيسيِّين الذين يدَّعون أنَّهم أبرار لارتباطهم بالدِّيانة الرَّسمية، ويمتنعوا عن الشَر ظاهرًا ويفتخروا بتقواهم. أمَّا عبارة " واعمَلْ في الكَرْم" فتشير إلى حقِّ الأب أن يأمر ابنه بخدمته كونه أبٌ، وأعطاه الكثير الكثير. وتدلُّ الخِدْمة هنا على العمل بمَشِيئَة الله ووصاياه لدخول مَلَكوتِ السَّمَوات، المَوطِن الحقيقي. وانَّ ما يأمر رَبّ الكَرْم ابنه شفاهًا يأمرنا به الله بكتابه الكريم وبروحه القدوس مخاطبًا ضمائرنا. أمَّا عبارة "الكَرْم" فتشير إلى شُجَيْرَةٌ تُزْرَعُ مُنْذُ القِدَمِ، تُعْطِي عَنَاقِيدَ العِنَبِ، وَهُوَ يُؤْكَلُ فَاكِهَةً وَيُجَفَّفُ لِيُصْنَعَ مِنْهُ الزَّبِيبُ، وَعَصِيرُهُ يُخَمَّرُ وَيَصِيرُ خَمْراً، والكَرْم ترمز هنا إلى مَلَكوتِ الله. 29 فأَجابَه: ((لا أُريد)). ولكِنَّه نَدِمَ بَعدَ ذلك فذَهَب. تشير عبارة "لا أُريد" إلى الرفض والعصيان والاستخفاف، لأنَّ الابن لم يُكلِّف نفسه بتقديم عذرٍ لأبيه. وما قاله هذا الابن هو قول لسان حال العَشَّارين والزُّنَاة. أمَّا عبارة" نَدِمَ" في الأصل اليوناني μεταμεληθεὶς (معناها الأسف على فعل ما) فتشير إلى شعور الفرد بالذَّنب لتصرفاته وأقواله. ويعتبر النَّدم شرطًا من شروط التَّوبة. فالابن الذي قال في البدء "لا" عاد إلى نفسه وصَحّح موقفه وغيّر رأيه وتاب، إذ ذهب إلى الكَرْم وعمل فيه برضى وأمانة، كما أمره أبوه، وعلى هذا المِنوال جرى العَشِّارونَ والزُّنَاة بالتَّوبة والطَّاعَة عند تبشير يوحَنَّا المَعْمَدان، كما شهد المسيح لهم " فَقَد جاءَكُم يوحَنَّا سالِكاً طريقَ البِرّ، فلَم تُؤمِنوا بِه، وأَمَّا العَشِّارونَ والبَغايا فآمَنوا بِه. وأَنتُم رَأَيتُم ذلك، فلَم تَندَموا آخِرَ الأَمرِ فتُؤمِنوا بِه" (متى 21: 32). إذا ندم الإنْسَان وتاب، قَبله الله، وبرهان التَّوبة ليس الكلام بل العمل. فالنَّدامة هي الطريق للدخول في المَلَكوتِ، وقد ردّدها يسوع مرتين في هذا المَثَل (متى 21: 29، 32). أمَّا عبارة " فذَهَب " فتشير إلى النَّدامة ومحاولة قول "نعم" علمًا أنَّ التَّوبة لا تأتي بقوة الإنْسَان الذَّاتية وحدها، انه بحاجة إلى نِعمة الرَبّ وعونه. إن ذهاب الابن الأول إلى العمل يدلّ على تحوّل في قلبه وحياته. 30 ودَنا مِنَ الآخَرِ وقالَ لَه مَثَل ذلك. فَأَجابَ: ((ها إِنِّي ذاهبٌ يا سيِّد!)) ولكنَّه لم يَذهَبْ. تشير عبارة "ودَنا مِنَ الآخَرِ وقالَ لَه مَثَل ذلك" إلى دعوة الاثنين دعوة واحدة دون تمييز. وأمَّا عبارة "يا سيِّد" فتشير إلى عِظَمِ احترامه لسلطة أبيه. إنَّه شابٌّ مراءٍ كذَّاب يتظاهر بما ليس فيه، ويعصي أمر والده. أمَّا عبارة "ها إِنِّي ذاهبٌ "، ولكنَّه لم يَذهَب" فتشير إلى قبول الابن الآخر لوصية أبيه بالكلام، لكن جوابه عمليًا رياءً لا صدْق فيه. ليس هناك تطابق بين قوله وعمله، كما جاء في تعليم الرَبّ "التِّلميذ الحقيقي لَيسَ مَن يَقولُ لي يا رَبّ، يا رَبّ يَدخُلُ مَلَكوتِ السَّمَوات، بل مَن يَعمَلُ بِمَشيئَةِ أَبي الَّذي في السَّمَوات" (متى 7: 21). وفي ذلك إشارة إلى ما فعله الكتبة والفرِّيسيُّون، فانَّهم ادّعوا أنهم شديدو الغيرة لشريعة الله، وتظاهروا بالاستعداد التَّام للطَّاعة الكاملة لأوامر الله، ولكنهم عصوا بدليل شهادة يسوع عليهم " إنَّ الكَتَبَةَ والفَرَّيسيِّن على كُرسِيِّ موسى جالِسون، فَافعَلوا ما يَقولونَ لَكم واحفَظوه. ولكِن أَفعالَهم لا تَفعَلوا، لأَنَّهم يَقولونَ ولا يَفعَلون " (متى 23: 2). فهم اقتصروا على حفظ طقوس الشَّريعَة واعرضوا عن فضائلها وقاوموا الله في تأسيس مَلَكوتِه الإنجيلي وعزموا على قتْل ابنه يسوع المسيح. أمَّا عبارة " يا سيِّد!" فتشير إلى عِظَمِ احترامه لسلطة أبيه. إنَّه شابٌّ مراءٍ كذَّاب يتظاهر بما ليس فيه، ويعصي أمر والده". أمَّا عبارة " لم يَذهَبْ" فتشير إلى من يقول نعم في كلماته لا في أفعاله وهو حال الفرِّيسيُّون بادعائهم التقوى كادعاء الابن الثاني بقوله " أنا ذاهب" ولم يذهبوا لمّا اتو ا إلى الله يوم دعاهم إلى التَّوبة، أولاً على يد يوحَنَّا المَعْمَدان، وثانيًا على يد يسوع المسيح. 31 فأَيُّهما عَمِلَ بِمَشيئَةِ أَبيه؟)) فقالوا: ((الأَوَّل)). قالَ لَهم يسوع: ((الحَقَّ أَقولُ لكم: إِنَّ الجُباةَ والبَغايا يَتَقَدَّمونَكم إلى مَلَكوتِ الله. تشير عبارة " فأَيُّهما عَمِلَ بِمَشيئَةِ أَبيه؟" إلى سؤال موجَّه إلى الفِّريسيِّين والكتبة لإعادة النظر في حياتهم فيتمكنوا من تغييرها. أمَّا عبارة " عَمِلَ بِمَشيئَةِ أَبيه " فتشير إلى الطَّاعَة لأوامر أبيه بالذِّهاب إلى كرْم أبيه والعمل فيه، إذ أنَّ إرادة الآب السَّماوي تَكمن في حفظ كلِّ الشَّريعَة المُعلنة في كتابه الكريم والاجتهاد في سبيل مَلَكوتِه. الطاعة التي هي ثمرة الإيمان والمحبَّة وفعل تقدمة الذات وفعل انتصار النفس. أمَّا عبارة " الأَوَّل" فتشير إلى جواب خصوم يسوع حول سؤاله: "فأَيُّهما عَمِلَ بِمَشيئَةِ أَبيه؟" فحكموا على أنفسهم، فالأول يمَثَل الزُّنَاة والعَشّارون الذين سبقوهم إلى المَلَكوتِ. وهو الذي أطاع دون الثَّاني، لانَّ الأول رديء القول جيد العمل، والثَّاني جيد القول رديء العمل. فلا تكفي الكلمات لدخول في ملكوت الله، بل الأفعال وَفقً لتصريح يسوع لتلاميذه "لَيسَ مَن يَقولُ لي ((يا ربّ، يا ربّ)) يَدخُلُ مَلكوتَ السَّمَوات، بل مَن يَعمَلُ بِمَشيئَةِ أَبي الَّذي في السَّمَوات" (متى 7: 21). أن عمله يعكس طاعته لآبيه وإيمانه الذي يعمر القلب. أمَّا عبارة "قالَ لَهم يسوع" فتشير إلى ما أوضحه يسوع للفرِّيسييِّن من مَثَل الابنين. أمَّا عبارة " الجُباةَ " فتشير إلى العَشَّارين الذين يجبون الضَّرائب ويتلاعبون بها ويتعاملون مع المُحتل الرُّوماني، لذلك كانوا يُتَّصفون بعدم الأمانة والطَّمع والجَشع، وكان يوحَنَّا المَعْمَدان يقول انه مستعدٌ أن يقبل أولئك الجُباة إذا تابوا، وتغيَّرت طرقهم، كما ورد في إنجيل لوقا " أَتى إِلَيه أَيضاً بَعضُ الجُباةِ لِيَعتَمِدوا، فقالوا له: "يا مُعَلِّم، ماذا نَعمَل؟" فقالَ لَهم: "لا تَجْبوا أَكثَرَ مِمَّا فُرِضَ لَكم" (لوقا 3: 12). أمَّا عبارة " البَغايا " فتشير إلى الفاجرات اللواتي يكتسبن المال عن طريق الفسق والفجور والدعارة؛ أمَّا عبارة "إِنَّ الجُباةَ والبَغايا يَتَقَدَّمونَكم إلى مَلَكوتِ الله" فتشير إلى العَشَّارين والزُّنَاة كالابن الذي لم يطع أباه أولاً، ولكنَّه بعدئذٍ تاب وأصبح مقبولاً عند الله، إذ تقبل كلمة الله وبدأ حياته من جديد. في الواقع، بعض العَشّارون والزُّنَاة غيَّروا حياتهم حين سمعوا كلام يوحَنَّا المَعْمَدان أو كلام يسوع، كما حدث مع لاوي العشَّار الذي ترك مكتب الجباية، وتبع يسوع وأصبح متَّى الإنجيلي (متى 9 :9)، وكذلك تابت المرأة الزَّانية فقال لها يسوع: "لا تَعودي بَعدَ الآنَ إلى الخَطيئة" (يوحَنَّا 8: 11). وعادت مريم المِجدلية أيضا إلى يسوع (لوقا 8: 1-2). كلمة الله تعود بهم إلى ذواتهم وتدعوهم إلى تغيير حياتهم لدخول مَلَكوتِ السَّمَوات. وليس غاية يسوع التشهير بالعَشَّارين والبَغايا بل إظهار قدرتهم على التجدّد والتغيير والتَّوبة. أمَّا عبارة "يَتَقَدَّمونَكم" فتشير إلى رجاء دخول العَشَّارين والزُّنَاة إلى مَلَكوتِ السماء أقوى من رجاء دخول الفَرَّيسيِّين إليه، لانَّ كبرياء هؤلاء واتِّكالهم على البرّ الذَّاتي جعلهم باقون خارج المَلَكوتِ. وأمَّا العَشّارونَ فشعروا بإثمهم، وان لا شيء لهم من البِرّ الذَّاتي فبادروا إلى الهرَبّ من الغضب إلى بِرِّ المسيح وفدائه، كما جاء في إنجيل لوقا " جَميعُ الشَّعبِ الَّذي سَمِعَه حَتَّى الجُباةُ أَنْفُسُهم بَرُّوا الله، فاعتَمَدوا عن يَدِ يوحَنَّا. وأَمَّا الفرِّيسيُّون وعُلَماءُ الشَّريعَة فلَم يَعتَمِدوا عن يَدِه فأَعرَضوا عن تَدبْيرِ اللهِ في أَمرِهم" (لوقا 7: 29-30). وتشير العبارة أيضا ًإلى كلمة يسوع في مَثَل العملة وأجرتهم " فهَكذا يَصيرُ الآخِرونَ أَوَّلين والأَوَّلونَ آخِرين " (متى 20: 16)؛ أمَّا عبارة " مَلَكوتِ الله " فتشير إلى السيادة أو حكم الإله الذي انتظرته التوقعات اليهودية المسيحانية على إسرائيل. ويعتبر اليهود عبارة " مَلَكوتِ الله " تجديفًا، لأنها تُشير إلى الله بالاسم. وهذا التعبير خاص بإنجيل متى في حين استبدلاه مرقس ولوقا بتعبير آخر وهو "مَلَكوتِ السَّمَوات". تُعبِّر كلمات يسوع عن شديد حبِّ يسوع للخطأة، فالأبرار لم يكونوا بحاجة إليه، عكس الخطأة " ليسَ الأَصِحَّاءُ بِمُحْتاجينَ إلى طَبيب، بلِ المَرْضى. ما جِئتُ لأَدعُوَ الأَبرار، بلِ الخاطِئين" (مرقس 2: 17). 32 فَقَد جاءَكُم يوحَنَّا سالِكاً طريقَ البِرّ، فلَم تُؤمِنوا بِه، وأَمَّا العَشّارون والبَغايا فآمَنوا بِه. وأَنتُم رَأَيتُم ذلك، فلَم تَندَموا آخِرَ الأَمرِ فتُؤمِنوا بِه. تشير عبارة "طريقَ البِرّ" δικαιοσύνης إلى نوال البِرَّ عن طريق الحق والتَّوبة والإيمان بالمسيح الذي أعلن عن نفسه بقوله إنَّه " الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة " (يوحَنَّا 14: 6). أمَّا عبارة "فلَم تُؤمِنوا بِه" فتشير إلى الفَرَّيسيِّين الذين هم بمثابة الابن الذي تظاهر بأنَّه مطيع، ولكنَّه لم ينفِّذ قول أبيه. وكذلك عظماء الكهنة وشيوخ الشعب الذين تسلموا رسميًا التُّوراة، لكنهم لم يبدَّلوا حياتهم، بل رفضوا دعوة يوحَنَّا المَعْمَدان ودعوة يسوع إلى التَّوبة وظلُّوا متحجري الضَّمير وقُساة القلوب، وبالتَّالي منافقين أمام الله والنَّاس. أمَّا عبارة " فآمَنوا بِه " فتشير إلى التَّوبة وقبول تعليم يسوع وشهادته أنَّ يسوع هو المسيح. وأمَّا عبارة " وأَنتُم رَأَيتُم ذلك " فتشير إلى ما كان واجب على الفَرَّيسيِّين أن يرغبوا في التَّوبة اقتداءً بالعَشَّارين. أمَّا عبارة "فلَم تَندَموا آخِرَ الأَمرِ" فتشير إلى إصرار عظماء الكهنة ورؤساء الشُّيوخ على عدم التَّوبة وبقاء قلوبهم الشَّريرة على تقواهم وعبادتهم الشَّكلية. إن بِرَّ الفَرَّيسيِّين الذي افتخروا به لا قيمة له أمام الله تعالى، وانَّهم محتاجون إلى التَّوبة كالعَشَّارين. أمَّا عبارة "آمَنوا بِه" فتشير إلى العَشَّارين والبَغايا، فالإيمان هو تسليم الذَّات للمسيح، لكن تسليم الذات لا يتم إلاَّ بالتَّوبة والرجوع إلى طاعة الله. والطَّاعَة لا تتم ُّبالكلام بل بالعمل والحق. وبالرغم من أنَّ رؤساء الشعب والفَرَّيسيِّين رأوا ندامة الخطأة من العَشَّارين والزُّنَاة، لكنَّهم لم يتعلموا ولم يتوبوا. أمَّا عبارة "فلَم تَندَموا" فتشير إلى عدم إظهار التَّوبة. ولم يعلم المسيح بهذا المَثَل أنَّ رجاء خلاص الشَّرير اقوى من رجاء خلاص الذي سيرته الظاهرة حسنة، إنما أراد أن يوضح أن الأمل بخلاص الخاطئ إذا تاب وترك خطاياه هو اقوى من الأمل بنجاة الذي يتظاهر بالفضيلة وهو لا يترك خطاياه بسبب كبريائه اتكاله على البِرّ الذَّاتي. في هذه الآية يجيب يسوع على السؤال الذي طرحه هو نفسه في بداية المَثَل "ما رَأيُكم؟" (متى 21: 28). ومهما كان الأمر فإن خطوة النَّدامة مطلوبة من الجميع. ثانياً: تطبيقات النَّص الإنْجيلي (متى 21: 28 -32) بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي وتحليله (متى 21: 28 -32)، نستنتج انه يتمحور حول مَثَل الابنَين والطَّاعَة. ومن هنا نتساءل ثلاث أسئلة: ما هو إطار مَثَل الابْنَين؟ وما هي أبعاده؟ وكيف نعيش عَبِرَة هذا المَثَل؟ 1) ما هو إطار مَثَل الابْنَين؟ ضرَبّ يسوع مَثَل الابْنَين (متى 21: 28-32) في هيكل اورشليم أثناء مواجهته إلى خبث ورياء وعناد عظماء الكهنة ورؤساء الشيوخ (متى 21: 23) عندما قاوموه، وقاموا من قَبْله يوحَنَّا المَعْمَدان. استخدم يسوع المَثَل كأداةٍ يشرح بها عن نفسه، ودافع عن ذاته أمام مُعارضيه ليُقنعهم. ثار عظماء الكهنة ورؤساء الشيوخ، وهم أصحاب السُّلطة الدِّينية، على إثر طرد الباعة من الهيكل فسألوا يسوع "بِأَيِّ سُلطانٍ تَعمَلُ هذِه الأَعمال؟ ومَن أَولاكَ هذا السُّلطان؟ " (متى 21: 23)، لكن يسوع المسيح رفض أن يُجيبهم صراحة، لأنَّهم فقدوا صفة القضاء بسبب تأويل مطالب يوحَنَّا المَعْمَدان. وهنا جرّهم يسوع إلى منصة الدَّينونة. إذ انهم يُعلنون انَّهم يُطيعون إرادة الله، لكنهم يرفضون الاسْتماع إلى يوحَنَّا المَعْمَدان الذي جاءهم برسالة الهيه، كما اكّد ذلك لوقا الإنجيلي " أَمَّا الفرِّيسيُّون وعُلَماءُ الشَّريعَة فلَم يَعتَمِدوا عن يَدِه فأَعرَضوا عن تَدبْيرِ اللهِ في أَمرِهم" (لوقا 7: 30) وبالرغم من أنَّ العَشّارين والبَغايا يسخرون علنًا بالدِّين، قد استمعوا إليه، وتابوا عن ماضيهم الأثيم، كما ورد في إنجيل لوقا "جَميعُ الشَّعبِ الَّذي سَمِعَه حَتَّى الجُباةُ أَنْفُسُهم بَرُّوا الله، فاعتَمَدوا عن يَدِ يوحَنَّا" (لوقا 7: 29)؛ ومن هنا يُروي يسوع لهم مَثَل الابنين موضحًا به موقفهم المُرائي. الابن الأول الذي يقول "لا" لأبيه ورفض طلبه، لأنه لا يرغب، ولكنَّه ندم ولبَّى رغبة أبيه، وذهب في آخر الآمر إلى الكَرْم؛ هو يُمَثَل العَشَّارين والبَغايا؛ وهذا دليل أنّ الأبواب مفتوحة لكلّ من يرجع إلى الله بصدقٍ، ومن كلِّ قلبه، والآب يستقبل بفرح الابن الّذي يتوب بصدقٍ. وأمَّا الابن الآخر الذي قال "نعم "، وتظاهر بأنَّه مُطيع لكنه في الواقع رفض رغبة أبيه ولم يُنفِّذها. ما الفائدة من قول كلمة "نعم" بدون تطبيقها؟ كل من الابنين أخطأً، فالابن الذي ذهب أخطأ في مخاطبة أبيه بلهجة جافة، والمُتأدب أخطأ في انه لم يَصدقْ في وعده. لكن أحدهما قد تاب وندم، أمَّا الآخر فقد تمادى في عصيانه وتمرُّده. والابن الأول أُمتدح مرتين: المرة الأولى على صدقه في عدم إعطائه وعدًا قد لا ينفِّذه؛ والمرة الثَّانية لتراجعه عن خطأه وعاد لتنفيذ مشيئة أبيه. وأمَّا الابن الثَّاني فقد ذُم مرتين: المرة الأولى، لأنَّه أعطى وعدًا ولم ينفِّذه، والمرة الثَّانية لعصيانه مشيئة أبيه. وفي هذا الصدد قال الشاعر القديم المثقب العبدي في قصيدته: حسن قول "نعم" من بعد "لا" وقبيح قول "لا" بعد "نعم". وإذا قلت "نعم" فاصبر لها بنجاح القول إن الخلـف ذم. يسأل يسوع في بداية المَثَل رأي رؤساء اليهود " ما رَأيُكم؟ " (متى 21: 28)، وأمَّا في نهاية المَثَل فيقوم يسوع بطرح هذا لسؤال "أَيُّهما عَمِلَ بِمَشيئَةِ أَبيه؟"(متى 21: 31). فقد اقرّ رؤساء اليهود مبدا أولوية العمل على القول. "فقالوا: الأَوَّل"(متى 21: 31)، فالقرار الأخير هو مسالة الأخلاق. فالأخلاق لا تكمن في الرَّغبة، ولا في القول الذي يُمكن تكذيبه، بل في العمل. تطبيق القرار يكمن بالحكم التالي " قالَ لَهم يسوع: ((الحَقَّ أَقولُ لكم: إِنَّ الجُباةَ والبَغايا يَتَقَدَّمونَكم إلى مَلَكوتِ الله. فَقَد جاءَكُم يوحَنَّا سالِكاً طريقَ البِرّ، فلَم تُؤمِنوا بِه، وأَمَّا العَشّارون والبَغايا فآمَنوا بِه. وأَنتُم رَأَيتُم ذلك، فلَم تَندَموا آخِرَ الأَمرِ فتُؤمِنوا بِه" (متى 21: 31-32). وراء علاقة الأب بابنيه في المَثَل تُظهر العلاقة التي تُوحّد الله بشعبه مُبيِّنًا انحراف الأبرار واستقبال الخطأة. 2) ما هي أبعاد مَثَل الابْنَين؟ يمكننا أن نميّز ثلاثة أبعاد لمَثَل الابْنَين، وهي: البعد التاريخي واللاهوتي والروحي: (ا) البعد التاريخي: ضرَبّ يسوع مَثَل الابْنَين في هيكل اورشليم (متى 21: 12) لدى هجوم خصومه من عظماء الكهنة وشيوخ الشَّعب من خلال أسئلتهم عن سلطته في التعليم والعَمل. الابن الأول شابٌّ عاصٍ، ومتمرِّد، ويميل إلى المُقاومة، حتى إلى مقاومة سُلطة أبيه. وإنَّ ميله إلى العصيان قد سبق تفكيره وطغى عليه. ولكنَّه لمَّا هدأت نفسه ورجع إلى ذاته شعر أنَّه قد أساء التصرُّف مع أبيه فندِم على سلوكه المُتمرِّد وأطاع أباه ونفَّذ إرادته. رفض ثم أطاع، وهو يمَثَل العَشَّارين والبَغايا الذين بدئوا حياتهم برفض العمل، لكنهم ندِموا أخيرًا، ومضوا يعملون في الكَرْم. أمَّا الابن الآخر فتظاهر أنَّه ابنٌ مطيع ودلّ على عِظَمِ احترامه لسُلطة أبيه بقوله "يا سيِّد". إنَّه شابٌّ مراءٍ كذَّاب يتظاهر بما ليس فيه، ابدى الطَّاعَة، ولكنَّه لم يطعْ، وهو يمَثَل رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب والفَرِّيسيِّين الذين "كانوا مُتَيَقِّنينَ أّنَّهم أَبرار" (لوقا 18: 9)، فقالوا نعم، لكنَّهم لم يذهبوا إلى الكَرْم للعمل. وفيهم قال بولس الرسول "أَتَفتَخِرُ بِالشَّريعَة وتُهينُ اللهَ بِمُخالَفَتِكَ لِلشَّريعة؟" (رومة 2: 23). وقد ندَّد يسوع كلامهم دون نتيجة "إِنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ باطِلَةٍ يقولُها النَّاس يُحاسَبونَ عَليها يومَ الدَّينونة " (متى 12: 36). فالعصيان والرِّياء رذيلتان يكرههما الله كراهيَّةً شديدة. اعتبر وجهاء اليهود أنفسهم أبرارا، في أيام يسوع، فقالوا "نعم"، ولكنَّهم لم يذهبوا، ولم ينفِّذوا قولهم، فدلّوا على عِماهم، كما وصفهم بولس الرسول بقوله "يُظهِرونَ التَّقْوى ولكِنَّهمُ ينكِرونَ قُوَّتَها"(2 طيموتاوس 3: 5). فقد قالوا إنهم يريدون إتمام مشيئة الله، ولكنَّهم كانوا يعصونها على الدَّوام. ولهم مظهر الخضوع، لكنَّهم لا يفعلون إرادة الله؛ فندّد يسوع بريائهم، لانَّ أقوالهم تعارض أعمالهم. وأكد لوقا الإنجيلي هذه المقولة بقوله "أَمَّا الفِرِّيسيُّون وعُلَماءُ الشَّريعَة فلَم يَعتَمِدوا عن يَدِه فأَعرَضوا عن تَدبْيرِ اللهِ في أَمرِهم" (لوقا 7: 30). لهم مظهر التدين، ولكن قلبهم خبيث رديء، لانَّهم يقولون ولا يعملون. كانت تقواهم في ظاهر سلوكهم فقط، ولم يكن لها أيُّ أساسٍ ثابت في قلوبهم. لقد عرفوا إرادة الرَبّ، فتظاهروا بأنَّهم يطيعونها طاعةً كاملة، فأقاموا الصلوات في المجامع، وقدَّموا الضحايا في الهيكل، واحتفلوا بالأعياد احتفالاتٍ عظيمة. ولكنَّ هذه الأعمال كانت مظاهر خارجيَّة فقط تنقصها القيمة الجوهريَّة، وهي طاعة قلوبهم، وتوبة ضمائرهم، وعملهم بإخلاص لأجل مجد الرَبّ. قبل رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب والفَرَّيسيِّين العمل في المَلَكوتِ، لكنهم قبلوه بالكلام دون العمل، فهؤلاء قال عنهم السيِّد المسيح " لَيسَ مَن يَقولُ لي ((يا رَبّ، يا رَبّ)) يَدخُلُ مَلَكوتِ السَّمَوات، بل مَن يَعمَلُ بِمَشيئَةِ أَبي الَّذي في السَّمَوات" (متى 7: 21). لذلك طَردوا أنفسهم بأنفسهم من الكَرْم بسبب عدم إيمانهم بالحَق، ليتركوا مكانهم للعَشّارين والبَغايا الذين لم يسمعوا لله أولًا لكنَّهم عادوا ليُطيعوه. قد أدرك رؤساء الكهنة والفرِّيسيُّون كلمات سيِّدنا يسوع بعقولهم، لكنهم لم يقبلوها بروح الحب والبُنيان، وعِوض أن يقدّموا توبة عمَّا ارتكبوه فكّروا في الانتقام منه. ما أصعب على نفس هؤلاء المؤتمنين على كلمة الله أن يتركوا الكراسي للعشّارين والبَغايا الذين سبقوهم بالإيمان إلى مَلَكوتِ الله. انتقد متى الإنجيلي الفَرَّيسيِّين المُتيقَنِّين من بِرّهم "أَيُّها المُراؤُون، أَحسَنَ أَشَعْيا في نبوءته عَنكم إِذ قال: هذا الشَّعْبُ يُكرِمُني بِشَفَتَيْه وأَمَّا قَلبُه فبَعيدٌ مِنِّي" (متى 15: 7) وانتقد متى الإنجيلي أيضا الفَرَّيسيِّين الراغبين في إظهار برّهم "فقالَ لَهم: ((أَنتُم تُزَكُّونَ أَنفُسَكم في نَظَرِ النَّاس، لكِنَّ اللهَ عالِمٌ بِما في قُلوبِكم، لِأَنَّ الرَّفيعَ عِندَ النَّاس رِجْسٌ في نَظَرِ الله " (لوقا 16: 15). نستنتج مما سبق أنَّ سلوكُ الابن الأوَّل كان عصيانٌ وندامة، وأمَّا سلوك الآبن الآخر فهو رياءٌ وعصيان. الابن الأول يمَثَل العَشَّارين والبَغايا الخطأة الذين رفضوا العمل في المَلَكوتِ ثم ندموا، لآنَّهم اكتشفوا علامات المَلَكوتِ في المسيح وفتحوا قلوبهم على الله ونعمته وآمنوا. ومن الأمَثَلة على ذلك ما حدث لمتى نفسه في لقائه مع يسوع المسيح "مَضى يسوعُ فَرأَى في طَريقِه رَجُلاً جالِساً في بَيتِ الجِبايَةِ يُقالُ لَه مَتَّى، فقالَ لَه: ((اتِبَعْني!)) فقامَ فَتَبِعَه" (متى9: 9)، وتوبة المَرأة الخاطئة ومعها قارورة الطيِّب "إِنَّ خَطاياها الكَثيرَةَ غُفِرَت لَها، فلأَنَّها أَظهَرَت حُبّاً كثيراً" (لوقا 7: 47). وهناك أيضا زكا العشار الذي "وَقَفَ فقال لِلرَبّ: يا رَبّ، ها إِنِّي أُعْطي الفُقَراءَ نِصفَ أَموْالي، وإِذا كُنتُ ظَلَمتُ أَحداً شَيئاً، أَرُدُّه علَيهِ أَرَبّعَةَ أَضْعاف" (لوقا 19: 8) والعمل بمشيئة الله يكمن في الإيمان بالمسيح وطاعة كلمته ووصاياه. (ب) البُعد اللاَّهوتي: البُعد اللاهوتي لمَثَل الابنين لم يكن العمل بقدر ما هو النَّدامة والتَّوبة والعودة لله تعالى والطَّاعَة لأوامره تعالى. وما التَّوبة إلا النَّدامة على ارتكاب الشَّر والابتعاد عن الخطيئة وبُغْضها وبذل الجهد في الاتكال التام على نعمة الله ومساعدة الروح القدس للانقياد إلى مشيئة الله والخضوع لأوامره الطاهرة (متى 3: 8). المُهم في نظر الله ليس قول الإنْسَان "نعم" ثم رفض العمل، إنما هو الطَّاعَة. الله لا ييأس أبدًا من الإنْسَان، بل هو مستعدٌ أن يستقبله حين تظهر عنده اقل علامة من علامات التَّوبة، ويظل الله واثقًا بقلب الإنْسَان، وبرغبته في الحياة، وبقدرته على اختيار طريق الصِّدق والنُّور. فالأبرار بحسب النَّاموس (عظماء الكهنة ورؤساء الشيوخ) قالوا "نعم"، ولكنهم عادوا يرفضونه من خلال رفضهم كرازة يوحَنَّا المَعْمَدان. ولماذا لم يسمعوا ليوحَنَّا المَعْمَدان؟ لأنّهم ممتلئون غرورًا وتعاليًا على الآخرين واكتفوا بذواتهم فصُمّت أذانهم عن الاستماع إلى الله الحاضر في حياتهم. وفي هذا الصدد يقول بولس الرسول "أَتَفتَخِرُ بِالشَّريعَة وتُهينُ اللهَ بِمُخالَفَتِكَ لِلشَّريعة؟" (رومة 2: 23). أمَّا الخطأة (الجُباةَ والبَغايا) بنظر الشَّريعَة فإنهم قالوا لله "لا"، ولكنهم عادوا وأطاعوا لمّا قبلوا كرازة يوحَنَّا المَعْمَدان (متى 21: 32). الابن الذي قال "نعم" في البداية و "لا" فيما بعد يمَثَل الأبرار بحسب الناموس (عظماء الكهنة ورؤساء الشيوخ). والابن الذي قال "لا" في البداية" "ونعم" فيما بعد هو يمَثَل العَشَّارين والبَغايا وجميع الخطأة. فهؤلاء "يسبقون" أولئك إلى المَلَكوتِ السماوي، كما صرّح السيِّد المسيح "الحَقَّ أَقولُ لكم: إِنَّ الجُباةَ والبَغايا يَتَقَدَّمونَكم إلى مَلَكوتِ الله" (متى 21: 31). وفي هذا الصدد يقول النبي حزقيال: "إذا ارتَدَّ البارُّ عن بِرِّه وصَنَعَ الإِثْمَ وماتَ فيه، فإِنَّه بإِثمِه الَّذي صنَعَه يَموت. وإِذا رَجَعَ الشِّرِّيرُ عن شَرِّه الَّذي صنَعَه وأَجْرى الحَقَّ والبِرّ، فإِنَّه يُحْيِي نَفْسَه" (18: 26-27). وما الذي جعل الابن الأول يعود عن رفضه؟ إنها النَّدامة هي التي حرّكته فيما بعد، كما ورد في النص الإنجيلي "لكِنَّه نَدِمَ بَعدَ ذلك" (متى 21: 29). فالنَّدامة تبدأ بإدراك خطورة الرَّفض لمشيئة الله، خطورة بين ما نحن عليه، وما ينبغي أن نكون عليه. فمن رأى نفسه أمام الرَبّ خاطئًا رأى الخلاص. وهذا هو شرطٌ أساسيٌ لدخول مَلَكوتِ الله. وهذا ما فعله العَشّارون والبَغايا، عندما سمعوا يوحَنَّا يُناديهم للحياة فلبّوا النداء، وخرجوا من سجن الخطيئة. ولم ينغلقوا على ذواتهم، بل انفتحوا على مغفرة الله الغامرة، وعرفوا أنّ "المَحبَّةَ تَستُرُ كَثيرًا مِنَ الخَطايا" (1بطرس 4: 8)، " وحَيثُ كَثُرَتِ الخَطيئَةُ فاضَتِ النِّعمَة" (رومة 5: 20)، وأدركوا أن الله قادرٌ على أن "ينزِعْ مِن لَحمِهم قَلبَ الحَجَرِ ويُعْطيهِم قَلبًا مِن لَحْم" (حزقيال 11: 19). ويعلق القدّيس إقليمنضُس الإسكندريّ "إنّ الأبواب مفتوحة لكلّ من يرجع إلى الله بصدق ومن كلّ قلبه، والآب يستقبل بفرح الابن الّذي يتوب بحقّ"(عظة: أي غنيّ يمكن أن يخلص؟) وكما يقول الكتاب المقدّس: «هكذا يَفرَحُ مَلائِكَةُ اللهِ بِخاطِئٍ واحِدٍ يَتوب" (لوقا 15: 10). يُلفت مَثَل يسوع أنظارنا أن قلب الله الآب مفتوح لكلِّ أولاده، ويُسَرُّ بكلِّ تائب يعود إليه. موقف الابن الثاني الذي قال نعم وعمليًا رفض هو صورة لمن يدّعي التَّدين. أستعمل هذا الابن كلمات وأفكار مستوحاة من الكتب المقدسة، ولكنَّه يقف عند هذا الحد دون تغيير ولا تجديد فيما هو، ولا يُطبّق ما استوحاه من الكتاب المقدس. هذا هو سر الضعف في المسيحية الاسمية، كثيرون يتظاهرون بقبول المسيح، ولكنَّهم لا يسلكون فيه، ولذلك جاءت توصية بولس الرسول " فكما تَقَبَّلتُمُ الرَبّ يسوعَ المسيح، سيروا فيه" (قولسي 2: 6). كان كلام يسوع مصدر أمل ٍ وتوبة حقيقية وحياة ٍجديدة ٍللخطأة والعَشَّارين. فهم التقوا في طريقهم بيسوع، وهو لم ينتقدهم ولم يصفق لهم، بل وجّه كلامه إليهم: احترمهم وأكرمهم، لأنهم أبناء إبراهيم. فراحوا يرغبون في سماع كلمته، كما يؤكد ذلك لوقا الإنجيلي "وكانَ الجُباةُ والخاطِئونَ يَدنونَ مِنه جَميعاً لِيَستَمِعوا إِلَيه"(لوقا 15: 1) وينضمون إلى صحبته وإتباعه " جَلَسَ يسوعُ لِلطَّعامِ عِندَه، وجَلَسَ معَه ومع تَلاميذِه كثيرٌ مِنَ الجُباةِ والخاطِئين، فقد كانَ هُناكَ كثيرٌ مِنَ النَّاس. وكانوا يَتبَعونَه" (مرقس 2: 5) ويُبدون له ولرحمته عواطف الشكر والامتنان، كما حدث مع المرأة الخاطئة " التي وصفها السيِّد المسيح لبطرس "أَمَّا هِيَ فَبِالطِّيبِ دَهَنَتْ قَدَمَيَّ. فإِذا قُلتُ لَكَ إِنَّ خَطاياها الكَثيرَةَ غُفِرَت لَها، فلأَنَّها أَظهَرَت حُبّاً كثيراً" (لوقا 7: 46-47). يُبين مَثَل الابنين أنَّ الله لا ترضيه الأقوال، بل الأعمال. ومن هنا جاء لوم يسوع لِماذا تَدعونَني: يا رَبّ، يا رَبّ! ولا تَعمَلونَ بِمَا أَقول؟" (لوقا 6: 46). فإن كان هو الرَبّ والسيِّد ولم نعمل بما يأمر فلا نستطيع أن ندعوه رَبّاً. ومن هذا المنطلق، يقول السيِّد المسيح إن التِّلميذ الحقيقي" لَيسَ مَن يَقولُ لي يا رَبّ، يا رَبّ يَدخُلُ مَلَكوتِ السَّمَوات، بل مَن يَعمَلُ بِمَشيئَةِ أَبي الَّذي في السَّمَوات" (متى 7: 21). فمن عرف مشيئة الله ورفض العمل بها يهلك، ومن رفض مشيئة الله ثم تاب يجد عند الله رحمة وخلاصًا. الخاطئ الذي يعرف نفسه أنَّه خاطئ أقرَبّ إلى مَلَكوتِ الله من الخاطئ الذي يَعُدَّ نفسه بارًا وصِدِّيقًا. الله لا ييأس ابدأ من الإنْسَان، بل إنه تعالى مستعدٌ أن يستقبل الإنْسَان حين تظهر لديه علامات النَّدامة والتَّوبة. نستنتج من هذا المَثَل أنَّ الإنْسَان يستطيع أن يندم ويتوب، وان يُغيّر مجرى حياته بعد معصيته بإجابة "لا"! في بادي الأمر. وهذه هي فرصة سانحة للتوبة والعودة إلى الله. ونحن اليَومَ، لا يهم ما قد مضى، " اليَومَ إِذا سَمِعتنا صَوتَه فلا نُقَسُّي قُلوبَنا" (مزمور 7-8). فلنندَمْ إذًا بمرارة على خطايانا الماضية ولنصلِّ للآب كي ينساها. فهو قادر أن ينقض برحمته ما حصل وأن يمحو، بِنَدى الروح، أخطاءنا السابقة. (ج) البعد الروحي: البعد الروحي لمَثَل الابنين هو أنَّ كل النَّاس يمرُّون بمَثَل ما مرّ به هذان الابنان من طاعة ثم رفض، أو من رفض ثم طاعة. لكن الطَّاعَة من بعد الرَّفض هي طريق النَّجاة، والرَّفض بعد الطَّاعَة هو طريق الهلاك. إنَّه لمن الخطر أن نتظاهر بطاعة الله، بينما قلوبنا بعيدة عنه، لأنَّ الله يعرف نيَّات قلوبنا، لذا ينبغي أن تطابق أعمالنا مع أقوالنا ونيّاتنا. فلا يمكن القول إننا نؤمن بالله ثم بعد ذلك نحيا كما نشاء، في هذا الصدد يحذّر يوحَنَّا المَعْمَدان الجموع بقوله: " فأَثمِروا إِذاً ثَمَراً يَدُلُّ على تَوبَتِكم، ولا تُعَلِّلوا النَّفْسَ قاِئلين: إِنَّ أَبانا هوَ إِبراهيم"(لوقا 3: 8)، وكذلك لا يمكن إن نحيا حياة سليمة أخلاقيًا وأدبيًا دون التَّوبة والرجوع إلى الله والعمل بمشيئته. كم هي عظيمة رحمة الله أن يتقبل الإنْسَان الذي يندم ويتوب ويُغيِّر مجرى حياته بعد أن يُجيب "لا" في بادئ الأمر وقد ضلّ الطريق. وهي فرصة سانحة للضُّعفاء الذين لا يجرؤون على أن يقولوا "نعم" فورًا ثم ينسحبون أمام العمل. ويسوع هو القوة التي تنقلنا من "لا" إلى "نعم" كي نتمِّم مشيئة الله. وفي هذا الصدد يقول القديس بولس "إن المسيحَ يسوعَ لم يَكنْ نَعَم ولا، بل "نَعَم" لِذلِك بِه أَيضًا نَقولُ لله: آمين إِكرامًا لِمَجْدِه" (2 قورنتس 1: 20). هل نقبل دعوة التَّوبة اليَومَ ونؤمن بالمسيح فندخل إلى مَلَكوتِ الله ونحصل على السلام والحياة الأبدية؟ نستنتج مما سبق أنَّ مَلَكوتِ الله ليس للذين يدّعون البِرّ، وهم عصاة متمردون، بل لمن يطلبون البِرّ، وهم خطأة تائبون. النيَّة وحدها لا تكفي بل فلا بدَّ من الفعل. والفعل هو نتيجة الاهتداء إلى طريق الحق والحياة إلى كلام وحياة يسوع. انه امر رهيب أن نتبع المسيح، ثم ننكره في حياتنا، حيث يوجد بيننا اليَومَ من يتشدقون بالدِّين ويتعلقون بأهدابه أمام النَّاس، ويذهبون إلى الكنيسة، يمارسون الفرائض، ويتظاهرون بالتقوى، ولكن مع هذا ينقصهم الدِّين الحق وحياتهم لا تنسجم مع هذه الدعوة. وامر رهيب أيضًا أن ننكر يسوع بالقول وبالحياة، وبالعكس امر عظيم أن نطيع يسوع بالقول والعمل. فكل إنسان سيؤدي الحساب أمام الله على اختياراته وأعمال، كما يقول حزقيال النبي " إِذا ارتَدَّ البارُّ عن بِره وصَنَعَ الإِثْمَ وماتَ فيه، فإِنَّه بإِثمِه الَّذي صنَعَه يَموت. وإِذا رَجَعَ الشِّرِّيرُ عن شَرِّه الَّذي صنَعَه وأَجْرى الحَقَّ والبِرّ، فإِنَّه يُحْيِي نَفْسَه " (حزقيال 18: 26-27). ومن هنا نتساءل كيف نعيش الطَّاعَة؟ 3) عَبِرَة مَثَل الابْنَين: كيف نعيش ما نقوله؟ نشبه تارة في تصرُّفنا الابن الأول، وتارة أخرى الابن الثاني. نقول مرة للرَبّ "نعم" ولا نتحرك للعمل، وأخرى نقول " لا" ثم نندم، كيف التَّخلص من هذه الازدواجية؟ وبكلمة أخرى كيف نطيع؟ هذان الابنان لم يكونا مثالِيَيْن في سلوكهما، لأنَّ الابن الأوَّل رفض الطَّاعَة في بادئ الأمر، والابن الثاني كذب على والده ولم يُطِعْ أمره. لكن هناك ابن ثالث لم يذكره المَثَل، ولكنَّه ابنٌ حيٌّ، يقول ويعمل، ويعمل كما يقول: إنَّه يسوع المسيح، ابن الإله الأزلي. إنَّه لم يقل قطّ لأبيه السماوي: "لا" بل قال دومًا لأبيه: "نعم". لقد قال: "نعم" لأبيه السَّماوي لمَّا تجسَّد. وكانت تفاصيل حياته كلِّها سلسلة "نعم". قال قَبْلَ أن يُقدِم على آلامه: " لا كما أَنا أَشاء، بَل كما أَنتَ تَشاء! " (متى 26: 39) "فَوضَعَ نَفْسَه وأَطاعَ حَتَّى المَوت مَوتِ الصَّليب (فيلبي 2: 8) في سبيل فداء البشريَّة. استحق يسوع المسيح طاعة كل خليقة، بعد أن صار بطاعته، الرَبّ "كما يعلن بولس الرسول " يَشهَدَ كُلُّ لِسانٍ أَنَّ يسوعَ المسيحَ هو الرَبّ تَمْجيدًا للهِ الآب"(فيلبي 2: 11)، وتولَّى كل سلطان في السَّماء والأرض، كما صرّح هو نفسه: "إِنِّي أُوليتُ كُلَّ سُلطانٍ في السَّماءِ والأَرض " (متى 28: 18). بوساطة المسيح ومن خلال الطَّاعَة لإنجيليه وكلمة كنيسته (2 تسالونيقي 3: 14)، يصل الإنْسَان إلى الله في الإيمان (أعمال الرُّسُل 6: 7)، ويفلت من يد العصيان الأصلي، ويدخل في سر الخلاص. فيسوع المسيح هو شريعة المسيحي الوحيدة، كما اختبر بولس الرسول " إِنِّي في حُكْمِ شَريعةِ المسيح (1 قورنتس 9: 21). إنَّ السلوك المسيحي الصحيح هو سلوك الابن الثالث الذي خضعت إرادته لإرادة أبيه السَّماوي، وأطاعه طاعة كاملة لا عن ضغطٍ ولا عن ضَعفٍ، بل عن حُبٍّ سامٍ لا حدود له وعن حرِّية تامة. فالطَّاعَة للمسيح لا تكون بالكلام أو النيّة فقط، بل تقترن بالعمل، وهي تتطلب طرق متعددة وردت في الكتاب المقدس، ومنها: أولا: الطَّاعَة لله تتطلب السير معه: إن طاعتنا لله تتطلب منا كما هو الحال مع الآباء الأقدمين، مَثَل أَخْنوخُ إذ "سارَ أَخْنوخُ معَ الله" (التكوين 5: 22)، فنحن نؤمن أن الله يعلم المستقبل مسبقَا، كما صرّح بطرس الرسول "إلى المختارينَ بِسابِقِ عِلمِ اللهِ الآب وتَقْديسِ الرُّوح، لِيُطيعوا يسوعَ المسيح " (1بطرس 1: 2) وبالتَّالي يعرف ويريد ما هو الأفضل لأحبائه. لنتقبل ما يصل إلينا من كلام المسيح، ولنستعد للسير إلى الأمام معه على خطى الرُّسُل والتَّلاميذ الصَّالحين ومريم المِجدلية التي سارت على طريق التَّجرد الذي قادها إلى الصليب، ومتَّى العشار الذي أصبح رسولاً وكاتب الإنجيل. كانت نظرة يسوع وكلامه تصلان إلى أعماق القلوب. ثانيا: الطَّاعَة فعل تسليم لعمل الروح القدس. إنّ خضوعنا لعمل روح الله القدُّوس في حياتنا هو فعل طاعة بالإيمان، كما فعل إبراهيم والآباء " بِالإِيمانِ لَبَّى إِبراهيمُ الدَّعوَة" (عبرانيين 11: 8)، والروح القدس بدوره يُجدّد قلوب المؤمنين جاعلاً إيَّاهم "شُرَكاءَ الطَّبيعَةِ الإِلهِيَّة " (2 بطرس 1: 4). ويدعوهم الله عندئذٍ "مُحِّبيَّ وحافِظي وَصاياي" (خروج 20: 9) إذ يُعبّرون عن ثقتهم في الله ومحبتهم له كأب. ثالثا: الطَّاعَة فعل تقدمة الذَّات ذبيحة مرضيّة. أكّد صموئيل النبي لشاول "إِنَّ الطَّاعَة خَيرٌ مِنَ الذَّبيحة" (1 صموئيل 15: 22). وقد أعلن يسوع "هاءَنَذا آتٍ، أَللَّهُمَّ لأَعمَلَ بمَشيئَتِكَ" (عبرانيين 10: 7) جاعلا من موته ذبيحة لله، ذبيحة الطَّاعَة، كما يقول صاحب الرِّسالة للعبرانيين "تَعَلَّمَ الطَّاعَة، وهو الاِبن، بما عانى مِنَ الأَلَم" (عبرانيين 5: 8). رابعا: الطَّاعَة فعل التحلي بأخلاق المسيح؛ كانت حياة يسوع "عِندَ دُخولِه العالَم" (عبرانيين 10: 5)، و" حَتَّى المَوت مَوتِ الصَّليب" (فيلبي 2: 8)، طاعةً كاملة. لمَّا أتي يسوع إلى العالم قال: "لا لِأَعمَلَ بِمَشيئتي بل بِمَشيئَةِ الَّذي أَرسَلَني" (يوحَنَّا 6: 38), ويوم آلامه، أعطى الطَّاعَة معناها الأسمى، " تَعَلَّمَ الطَّاعَة، وهو الاِبن، بما عانى مِنَ الأَلَم" (عبرانيين 5: 8)، جاعلاً من موته ذبيحة للّه، ذبيحة الطَّاعَة، كما صرّح بولس الرسول : "هو الَّذي في صُورةِ الله لم يَعُدَّ مُساواتَه للهِ غَنيمَة بل تَجرَّدَ مِن ذاتِه مُتَّخِذًا صُورةَ العَبْد وصارَ على مِثالِ البَشَر وظَهَرَ في هَيئَةِ إِنْسان فَوضَعَ نَفْسَه وأَطاعَ حَتَّى المَوت مَوتِ الصَّليب" (فيلبي 2: 1-11). يصل الإنْسَان إلى الله في الإيمان (أعمال 6: 7) بواسطة يسوع ومن خلال الطَّاعَة لإنجيله وكلمة كنيسته (2 تسالونيقي 3: 14، متى 10: 40). خامسا: الطَّاعَة فعل انتصار النفس انتصارًا أبديًا. تسمح الطَّاعَة للإنسان بأن يجعل من حياته خدمة، وأن يدخل في فرح الرب. يعتبر النبي ارميا أن الطَّاعَة هي أول مطلبٍ للعهد مع الله "اِسمَعوا كَلِماتِ هذا العَهدِ واعملوا بها" (ارميا 11: 6)، ودونها لن يتحقق النصر (يشوع 1: 2). سادسا: الطَّاعَة فعل خلاصي للمؤمن. وهبنا الله الحرية بطاعته كما صرّح بولس الرسول: "ستُحَرَّرُ مِن عُبودِيَّةِ الفَسادِ لِتُشاركَ أَبناءَ اللهِ في حُرِّيَّتِهم ومَجْدِهم" (رومة 8: 21) سابعاً: الطَّاعَة هداية للقريب. أطاع بولس أمر الرَبّ القائل له " قُمْ فادخُلِ المَدينة، فيُقالَ لَكَ ما يَجِبُ علَيكَ أَن تَفعَلِ (أعمال الرُّسُل 9: 6)، وكانت طاعتُه سببًا لهداية أمّمًا كثيرة. فالمسيحي الحقّ يقول "نعم" للرَبّ بالقول والعمل على خطى معلمه الإلهي يسوع المسيح، ابنُ الإله المتجسّد الذي كانت حياته دوماً "نعم" لإرادة أبيه السَّماوي بقوله وعمله، وبهذا الأمر يُهدي الكثرين بسلوكه وتعليمه. الخلاصة دخل يسوع إلى اورشليم دخولا احتفاليًا، وأخد يعلم في الهيكل (متى 21: 1-10)، وطرد الباعة من الهيكل (متى 21: 12) فهاجمه الخصوم من عظماء الكهنة وشيوخ الشعب بأسئلتهم عن سلطته في التعليم والعمل، فأجابهم في ثلاثة أمثال: الأول في مَثَل ألابْنَين (متى 21: 28 -32)، والثاني مَثَل الكرامين القتلة (متى 21: 33-44)، والثالث هو مَثَل وليمة الملك (متى 22: 1-14). وهذه الأمثال هي محاولة أخيرة لارتداد عظماء الكهنة وشيوخ الشعب من الكتبة والفَرَّيسيِّين. في مَثَل ألابْنَين، أحدهم يقول ولا يفعل، والآخر لا يقول، لكنّه يفعل. إنّهما أخوين، لهما نفس الوضع، لديهم نفس الأب، غير أنّهما يتصرّفان بشكل معاكس. إنّ الإنْسَان حرٌّ في أن يردّ على الرَبّ بنعم أو بلا. هناك ابن ثالث لم يذكره المثل، ولكنَّه ابنٌ حيٌّ، يقول ويعمل، ويعمل كما يقول: إنَّه يسوع المسيح، ابن الله الأزلي. إنَّه لم يقلْ قطّ لأبيه السَّماوي: "لا" بل قال دومًا لأبيه: "نعم"، وكانت حياته كلِّها سلسلة "نعم". قال "نعم" لمَّا تجسَّد، وقَبْلَ أن يدخل العالم "هاءَنَذا آتٍ لأعمَلَ بِمَشيئَتِكَ" (عبرانيين 10: 9)، وقال "نعم" قبل أن يُقدِم على آلامه: "لا مَشيئَتي، بل مَشيئَتُكَ!" (لوقا 22: 42) مقدِّمًا ذاته ذبيحةً طاهرة على الصليب طاعةً لإرادة أبيه السَّماوي في سبيل فداء البشريَّة. كلّ إنسان مسؤول عن خياراته الشَّخصيّة، سواء كانت إيجابيّة أم سلبيّة وسيؤدي الحساب عليها أمام الله. فإنّ المعايير الّتي نبني عليها خياراتنا تقوم عليها دينونتنا. ومن هذا المنطلق، نحن ندين أنفسنا بموجب اختياراتنا. إن الاختيارات الّتي نتّخذها الآن سيكون لها أثرٌ على مستقبلنا على هذه الأرض ومستقبلنا في الحياة الأبدية. وكل إنسان سيؤدي الحساب أمام الله على حساب اختياراته وأعماله. يُعلِّمنا هذا المَثَل أن الله لا ييأس ابدأ من الإنْسَان. وهو مستعد أن يستقبله حين تظهر عنده أقل علامة من علامات التَّوبة. وهكذا يحفزنا هذا المَثَل نحن الذين نعيش في ازدواجية: اليَومَ نقول للرَبّ "نعم" ثم نقول له في غدًا "لا" أن نقيِّم نفوسنا ونتَّخذ موقف تجاه عودتنا لله وطاعته. الله صبور وينتظر أن نعود إليه بكلمة "نعم" بكل إيمان وسخاء. وإنّ كلمة نعم قصيرة جدًا، لكنَّها مُلزمة. إن مَلَكوتِ الله ليس للذين يدَّعون البِرَّ والقداسةـ بل لمن يطلبونها ويعملون إرادة أبيهم السَّماوي الذي تؤدِّي إلى السَّلام. فلا عجب أن البابا يوحَنَّا الثالث والعشرون اتَّخذ شعاره " الطَّاعَة والسلام". أنَّ المسيحي الصادق لا يرفض للرَبّ أمرًا، بل يُطيعه طاعة الابن المُحِب لأبيهِ الحبيب. ولا يستسلم إلى الرِّياء فيتظاهر بالطَّاعَة من دون أن ينفِّذ إرادة الرَبّ، "لَيسَ مَن يَقولُ لي ((يا رَبّ، يا رَبّ)) يَدخُلُ مَلَكوتِ السَّمَوات، بل مَن يَعمَلُ بِمَشيئَةِ أَبي الَّذي في السَّمَوات" (متى 7: 21). دعاء أيّها الآب السماوي، إنّك تدعو الجميع إلى مَلَكوتِك السماوي، وأنك على استعداد دائمًا لأن تُرحّب بالعَشَّارين والخاطئين وقبولهم فور إبداء نيّتهم في التَّوبة القلبيّة، ساعدنا أن نحترم مشيئتك، وإذا ابتعدنا عنها ولم نحفظ وصاياك، امنحنا نعمة الطَّاعَة كي نعود إليك لا بالقول فقط بل التَّوبة والنَّدامة فنتابع مسيرتنا في العمل في كَرْم الرَبّ بكل صدقٍ وإخلاص فنعبر من الظلمة إلى مَلَكوتِه النور الأبدي. آمين. |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
ما هي أبعاد مَثَل الابْنَين؟ |
ما هو إطار مَثَل الابْنَين؟ |
مَثَل الابْنَين | "ودَنا مِنَ الآخَرِ وقالَ لَه مَثَل ذلك" |
مَثَل الابْنَين | "ما رَأيُكم؟ |
مَثَل الابْنَين | الطَّاعَة الحقيقية |