|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
"اعطوا الرب إلهكم مجدًا قبل أن يجعل ظلامًا، وقبلما تعثر أرجلكم على جبال العتمة، فتنتظرون نورًا، فيجعله ظل موتٍ، ويجعله ظلامًا دامسًا؛ وإن لم تسمعوا ذلك فإن نفسي تبكي في أماكن مستترة من أجل الكبرياء، وتبكي عينيَّ بكاءً، وتذرف الدموع، لأنه قد سُبي قطيع الرب" [16-17]. يقصد بظل الموت Sal-mawet في العهد القديم الظلام الشديد، وتترجم أحيانًا "الظل العميق" كما في (مز 23: 4). يدخل إرميا إلى أماكن مستترة متضعة ليقدم الدموع من أجل قطيع الرب الساقط تحت سبي إبليس... إن كان قلبهم قد أصيب بالعمى فلا يدركون أنهم ينحدرون إلى الظلمة، إذا بقلب إرميا يتمزق حزنًا عليهم. أدرك إرميا النبي أنه لم يبقَ أمام القلب المُصاب بعمى الكبرياء إلا بصيص من النور، يتبدد حتمًا إن أصر القلب على عجرفته، فيصير في الظلمة يتخبط وليس من منقذٍ بعد! لقد جاءت اللحظات الحاسمة والخطيرة بعدها لا ينفع الندم! كان يليق بهم وقد انحرفوا إلى طريق الظلمة، أن يرجعوا إلى الرب يطلبونه نورًا لهم. لكنهم عوض التوبة نصبوا فخاخًا في الظلام يصطادون بها نفوس الأبرار، فإذا بهم يسقطون هم فيها. هذه هي خبرة داود النبي الطويلة مع شاول الملك الذي سيطرت مملكة البغضة ضد داود على قلبه، فكرس بقية أيام حياته وكل قدراته وإمكانياته بل وإمكانيات مشيريه لهدم داود وقتله، فإذا به ُيلقى بنفسه في الهاوية، ويزداد داود مجدًا وبهاءً أمام الله والناس. المعنى الحرفي للأماكن المستترة هو أن إرميا اضطر إلى الاختفاء من وجه الملك الذي رفض حكمة الرب. ما هذه الأماكن المستترة إلا أحشاء السيد المسيح محب البشر، ففيه إذ تدخل النفس لا تكف عن ذرف الدموع من أجل خلاص كل العالم! لقد دخل الرسول بولس هذه الأماكن المستترة إذ يقول: "لأني من حزن كثير وكآبة قلب كتبت إليكم بدموع كثيرة لا لكي تحزنوا، بل لكي تعرفوا المحبة التي عندي ولا سيما من نحوكم" (2 كو 2: 4). يرى العلامة أوريجينوسأن إرميا يبكي في أماكن مستترة، فقد خبأ الرؤساء والقيادات النبوات التي تشهد للسيد المسيح، فصار الناس في ظلمة عوض النور. كما يقول: ["وإن لم تسمعوا بطريقة مستترة، ستبكي أنفسكم أمام الشدة". من بين الذين يسمعون، يوجد من يسمعون بطريقة مستترة ويوجد من لا يسمعون بطريقة مستترة. ما هو إذًا السمع بطريقة مستترة إلا ما تقوله الآية: "بل نتكلم بحكمة الله في سر، الحكمة المكتومة التي سبق الله فعينها قبل الدهور لمجدنا" (1 كو 2: 7). عندما اسمع الناموس، إما اسمعه بطريقة مستترة أو لا اسمعه بطريقة مستترة. فاليهودي مثلًا لا يسمعه بطريقة مستترة؛ لهذا يُختتن بطريقة ظاهرية، غير عالمٍ أن اليهودي في الظاهر ليس هو يهوديًا ولا الختان الذي في الظاهر في اللحم ختانًا" (رو 2: 28)، أما الذي يسمع ويفهم الختان بطريقة مستترة فيكون مختتنًا في الخفاء". وإذا كان اليهود قد قتلوا السيد المسيح قديمًا، وهم مسئولون حتى يومنا هذا عن موته، فإن هذا حدث لأنهم لم يسمعوا الناموس ولا الأنبياء بطريقة مستترة. كذلك أيضًا بالنسبة لموضوع حفظ السبت، توجد بعض النساء حتى يومنا هذا لا تسمعن كلام الله بطريقة مستترة فهن لا يفعلن أي شيء في يوم السبت، كما لو كان السيد المسيح لم يأتِ إلينا ليحملنا من حرفية الناموس إلى كمال الإنجيل. لذلك حينما نقرأ الناموس والأنبياء نحذر لئلا نقع تحت عاقبة النبوة التي تقول: "وإن لم تسمعوا بطريقة مستترة ستبكي نفسكم أمام الشدة". إذا قرأنا أمثال السيد المسيح الموجودة في الإنجيل أمام إنسان من خارج الكنيسة لا يسمع بطريقة مستترة، لكن إن كان السامع هو أحد الرسل أو أحد أبناء الكنيسة، فإنه يقترب من السيد المسيح ويسأله ويتناقش معه حول غموض المثل، فيقوم السيد المسيح بتفسير المثل له: فيصبح هذا المستمع من السامعين بطريقة مستترة وبالتالي لن تبكي نفسه. لماذا لم يقل الرب: "ستبكون إن لم تسمعوا بطريقة مستترة" وإنما قال: نفسكم سوف تبكي"؟ يوجد بكاء خاص بالنفوس وحدها. لعل السيد المسيح أوضح لنا هذا النوع من البكاء حينما قال: "هناك يكون البكاء" وأيضًا: "ويل لكم أيها الضاحكون الآن لأنكم ستحزنون وتبكون" (لو 6: 25). يتحدث عن البكاء الذي يهددنا به النبي هنا حينما يقول: "إن لم تسمعوا بطريقة مستترة ستبكي نفسكم أمام الشدة"، لأنه حينما تأتي عليكم الشدة ستبكون و"ستذرف عيونكم الدموع لأنه قد سُبي قطيع الرب"... ]. يرى العلامة أوريجينوس في العبارة "إن لم تسمعوا في الخفاء" [17] أن مجد الإنسان خفي، معطيًا مثالًا لذلك موسى النبي الذي كان يغطي وجهه ببرقع إذ تمجد. ويقول داود النبي: "أظهرت ليغوامض حكمتك" (مز 50). أما وقد بكى إرميا بمرارة على قطيع الرب الذي يسقط تحت السبي، فإنه يقدم مرثاة على الملك الشاب والملكة أمه، فإنهما لن يخلصان من هذا المرّ، ولا يهربان منه. |
|