|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
دعوى قضائية أمام الديان يقدم المرتل بلسان شعب الله الساقطين تحت الآلام والأحزان دعوى أمام قاضي المسكونة كلها. هذه الدعوى تشبه تلك التي قدمتها الأرملة المتألمة من الظلم في المثل الذي قاله ربنا يسوع؛ حيث تقدمت إلى قاضٍ لا يخاف الله ولا يهاب إنسانًا، ولم يشأ أن ينصفها إلى زمانٍ، وأخيرًا قال في نفسه: "لأجل أن هذه الأرملة تزعجني أنصفها لئلا تأتي دائمًا فتقمعني". وقال الرب: "اسمعوا ما يقول قاضي الظلم. أفلا ينصف الله مختاريه، الصارخين إليه نهارًا وليلًا وهو متمهل عليهم؟! أقول لكم إنه ينصفهم سريعًا" (لو 18: 6-8). يَا إِلَهَ النَّقَمَاتِ يَا رَبُّ، يَا إِلَهَ النَّقَمَاتِ أَشْرِقِ [1]. كلمة "نقمة" أو "نقمات" في كثير من اللغات الحديثة تعني معنى مشاعر مثيرة وحقد أو ضغينة، لكنها هنا لا تحمل هذا المعنى، إنما تحقيق العدالة للمظلومين، وسقوط العقوبة على الظالمين المصرين على ظلمهم للغير. جاء هذا المبدأ الأساسي في (تث 32: 35) "لي النقمة والجزاء. في وقتٍ تزل أقدامهم. إن يوم هلاكهم قريب، والمهيآت لهم مسرعة". مما يعطي المؤمنين طمأنينة أن الجزاء في يد الله القدير وحده، والعارف الأسرار والنيات الداخلية، كلي العدل والنقاوة، يهب خليقته الجزاء. يكرر المرتل عبارة "إله النقمات" مرتين لأن قلبه متمرر من الظلم الذي يمارسه الأشرار على الأتقياء البسطاء. ولعله بقوله "أشرق" يكشف عن أنه شمس البرّ. * إله النقمات يعمل بجسارة. ذاك الذي اُحتقر في تواضعه، ينتقم بعد ذلك في جلاله. * إن كان الله هو رب النقمات. "لي النقمة أنا أجازي يقول الرب" (رو 12: 19)، فلماذا تطلب النقمة يا إنسان؟ لك الرب هو يجازي عنك؟ هذا هو جوهر ما يقوله الرسول: "فإن جاع عدوك فأطعمه، وإن عطش فاسقه. لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه" (رو 12: 20)... بمعنى أنك تطهر عدوك من الخطية، لأن صبرك يغلب قسوته... إن كان عدوك يضربك وأنت لا تثأر لنفسك، فسيُغلب بصبرك وتهديه. القديس جيروم * هذا ما يعد به الله، إنه هو نفسه سيكون لنا المكافأة، إذ يقول: لي النقمة، وأنا أنتقم، أي اتركوا لي بصبرٍ، وأنا أكافئ على الصبر. العلامة ترتليان * إنه كما يُدعى إله الرأفة، لأنه يتراءف؛ وإله التعزية، لأنه يعزي المحزونين، كذلك يُدعى إله النقمة، لأنه ينتقم من الأشرار. الأب أنسيمُس الأورشليمي * إنكم تتذمرون لأن الأشرار لا يُعاقبون. لا تتذمروا لئلا تصيروا أنتم بين الذين يُعاقبون. ذاك الإنسان ارتكب سرقة ويعيش. أنت تتذمر على الله، لأن ذاك الذي ارتكب السرقة لم يمت... أن كنت تريد هذا الآخر يُصلح من يده، فلتُصلح أنت من لسانك نحو الإنسان. أصلح قلبك نحو الله لئلا إله النقمات الذي تطلبه يجدك أنت أولًا. إنه سيأتي، وسيدين الذين يستمرون في شرهم، غير الشاكرين على رحمته وطول أناته، فتخزن لنفسك سخطًا في يوم الغضب، عند إعلان حكم الله العادل، الذي يجازي كل واحدٍ حسب عمله (رو 2: 4-6). القديس أغسطينوس ارْتَفِعْ يَا دَيَّانَ الأَرْضِ. جَازِ صَنِيعَ الْمُسْتَكْبِرِينَ [2]. هذه الصلاة هي نبوة تتحقق حين يُصر المتكبرون على تشامخهم ومقاومتهم للحق الإلهي. إنها ليست نقمة لانفعال ما في الجوهر الإلهي، إنما هي ثمرة طبيعية للتشامخ بما يحمل من فساد، وترفق وحنو على المتواضعين والودعاء الذين يستهين المتكبرون بحقوقهم. كما تحمل تحذيرًا للمتكبرين لكي ما يتحققوا من حقيقة ضعفهم، فكبرياؤهم يخفي ضعفًا وفسادًا. * "ارتفع يا ديان الأرض" أنت ديان الأرض، لأن الدينونة لا تناسب السماء. اسمعوا أيها الهراطقة، فإن الرب يدين الأرض. لو وُجد شر في السماء، لماذا لا تكون دينونة في السماء أيضًا؟ لو كانت النفوس في السماء تخطئ، فلماذا تُدان الأرض وحدها؟ * "جازِ صنيع المستكبرين". يلزم تجنب كل الخطايا؛ فلتتأكدوا من ذلك، لأن كل الخطايا هي ضد الله، لكنها تختلف في الدرجة. المستكبرون - كمثالٍ - هم أعداء الله. "يقاوم الله المستكبرين، وأما المتواضعون فيعطيهم نعمة" (يع 4: 6). الشيطان هو رئيس المستكبرين. يقول الكتاب: "لئلا يتصلف، فيسقط في دينونة إبليس" (1 تي 3: 6)؛ لأن من يمجد نفسه في قلبه يكون شريكًا للشيطان الذي اعتاد أن يقول: "بقدرة يديّ صنعت، وبحكمتي، لأني فهيم. ونقلت تخوم شعوب" (إش 10: 13)... كل الضعفات الأخرى تستحق رحمة الرب، لأنهم في تواضعٍ يخضعون لمحاكمة الله لهم، أما الكبرياء وحده، فيكرم ذاته فوق قدرته، ويقاوم الله. الزاني أو الفاسق لا يجسر أن يرفع عينيه للسماء. في اكتئاب النفس يتطلع إلى رحمة الله. أما ذاك الإنسان، فإن كان ضميره يجعله ينزل حتى إلى الأرض، فإنه يجعله أيضًا يرتفع إلى السماء. عندما يثور الكبرياء والرغبة غير اللائقة للمجد (الباطل) في إنسانٍ، فإنهما في نفس الوقت ينزلان به بخطيته ويجعلانه عدوًا لله. القديس جيروم * إنك تتألم، "ارتفع"، بمعنى قم، ارحل إلى السماء! لتحتمل أيضًا الكنيسة بطول أناة ما احتمله رأس الكنيسة بطول أناةٍ؟ "ارتفع يا ديان الأرض، جازِ صنيع المستكبرين". أنه سيجازيهم يا إخوة... هذه كلمات من يتنبأ، لا جسارة لشخصٍ يأمر. ليس لأن النبي قال: "ارتفع يا ديان الأرض" أطاع المسيح النبي، بقيامته من الأموات وصعوده إلى السماء، وإنما لأن المسيح كان سيفعل هذا تنبأ النبي بذلك. القديس أغسطينوس * وُعد المساكين بالمكافأة الأبدية، ووُعد الأغنياء المتكبرون بالعقوبة التي بلا نهاية بهذه الكلمات: "جاز صنيع المتكبرين"، سيزيل الله ذكرى المتكبرين، "الكبرياء" مكروه أمام الله. الأب قيصريوس أسقف آرل * أي أظهر ارتفاع سيادتك ليعرف الكل أنك ديان البشر، وتكسر تشامخ المستكبرين، وهذا حدث عندما تجسد ابن الله وتواضع، الذي لم يزل في العلى وفي شرف لاهوته، وقد دان العالم، وأظهر أنهم خطاة، لأنه وحده بدون خطية. جازى المستكبرين، وهم الكتبة والفريسيين الذين استكبروا عليه وأرادوا قتله، فجازاهم، وجازى القوات المضادة التي حركتهم على صلبه. أيضًا كلمة "ارتفع" هي تحريض على إتمام صلبه، لأن ربنا ذاته دعا الصلب ارتفاعًا بقوله له المجد: "أنا إذا ارتفعت عن الأرض أجذب إليّ الكل". فلما صُلب جازى المستكبرين، لأنه قهر بعود صليبه القوات المضادة التي خدعت آدم وأغرته على الأكل من ثمرة الشجرة المنهي عنها. ولذلك حرر بولس الرسول في الفصل الثاني من رسالته إلى أهل كولوسي، قائلًا: "إذ جرد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا ظافرًا بهم فيه" (كو 2: 15). الأب أنسيمُس الأورشليمي حَتَّى مَتَى الْخُطَاةُ يَا رَبُّ، حَتَّى مَتَى الْخُطَاةُ يَشْمَتُونَ؟ [3] الله طويل الأناة على الأشرار والمتكبرين، ليس تجاهلًا لصرخات المظلومين، وإنما ترفقًا بالخطاة، لعلهم يدركون حقيقة حالهم، فيرجعون عن شرورهم. يقف حتى الشهداء في الفردوس في دهشة أمام طول أناة الله على الأشرار. يقول الرائي: "وصرخوا بصوتٍ عظيم قائلين: حتى متى أيها السيد القدوس والحق لا تقضي وتنتقم لدمائنا من الساكنين على الأرض" (رؤ 6: 10). صرخة المتألمين هنا تكشف عن مشاعر البشر، إذ تعبر عليهم ساعات الضيق كأنها سنوات طويلة، فيقولون: "حتى متى..." مكررين ذلك، أما أيام الفرج فتعبر بسرعة. * "حتى متى الأشرار يا رب، حتى متى يفتخر الأشرار؟!" ضيق صدر البشر لا يريد أن يكون الله طويل الأناة. المخلوقات بالحق جديرون بالشفقة، ونحن نريد أن يكون الله طويل الأناة معنا، وليس مع أعدائنا. عندما نخطئ نتوسل إلى الله أن يطيل أناته علينا، عندما يخطئ أحد ضدنا لا نتوقع من الله أن يطيل أناته عليه. "حتى متى يفتخر الأشرار؟" لا يكفي أنهم يخطئون، وإنما يفتخرون أيضًا بخطاياهم. بليتهم الأولى أنهم يخطئون، وأما الدرجة الثانية من بؤسهم بل والأخيرة هي عدم توبتهم. هؤلاء الخطاة ليس فقط يرفضون أن يحنوا رقابهم في تواضعٍ، لكنهم يستعرضون خطأهم علانية. القديس جيروم يُبِقُّونَ يَتَكَلَّمُونَ بِوَقَاحَةٍ. كُلُّ فَاعِلِي الإِثْمِ يَفْتَخِرُونَ [4]. كثيرًا ما يرتبك البشر فينكرون عناية الله وعدله أيضًا فينطقون بوقاحة ضد الله، حتى بعض الأبرار والصديقين للأسف في ضعفهم، إذ يرون الأشرار ناجحين ومزدهرين، يظنون كأن عيني الله لا تتطلعان إلى ما يحل بهم من الظالمين. يرى القديس جيروم أن فاعلي الإثم الذين يفتخرون هم الهراطقة دون شكٍ. فالإنسان المتمرد والمتغطرس بلسانه حتمًا شرير في أفعاله، فإنه من فضلة القلب يتكلم اللسان (لو 6: 45). عندما يحدث ضرر في الضمير تزداد خطايا اللسان. * حتى متى، يا رب يكون الأشرار هكذا، حتى متى يتمجد الأشرار؟ الخاطي الذي يبتهل إلى الله يستحق المغفرة، أما الذي ينتفخ بشره فهو متكبر، والكبرياء يجعل من الله عدوًا... حتى متى كل فاعلي الشر يستمرون في الافتخار بأعمالهم؟ حتى متى يستمرون في الحديث بتشامخهم... عدم طول أناة الناس يدهش لطول أناة الله، ويقول: أنا خاطي لا أحتمل الخطاة، وأنت البار كيف تحتمل هذا كله منهم؟ حتى متى يا رب يستمر الأشرار في الافتخار بشرورهم؟ القديس جيروم يَسْحَقُونَ شَعْبَكَ يَا رَبُّ، وَيُذِلُّونَ مِيرَاثَكَ [5]. هذه هي صرخة الكنيسة في كل جيل، إذ لا يتوقف عدو الخير عن إثارة الاضطهاد خلال أتباعه لسحق شعب الله وإذلاله. عداوة إبليس لكنيسة الله ليست جديدة، ولن تتوقف مادامت الفرصة سانحة له. * شعب الله دائمًا يُسحق، دائمًا يُداس عليه... إنهم يسقطون في تواضعٍ مثل الله الوديع والمتواضع القلب (مت 11: 29). القديس جيروم يَقْتُلُونَ الأَرْمَلَةَ وَالْغَرِيبَ، وَيُمِيتُونَ الْيَتِيمَ [6]. لا يعرف عدو الخير الحنو والشفقة حتى على الذين ليس لهم معين، فلا يشفق على حزن الأرامل، ولا شيبة الشيوخ، ولا احتياج الأيتام، ولا حرمان الغرباء من وطنهم وعائلاتهم. قانونه العنف والقسوة وعدم الرحمة. بعد أن أوضح القديس جيروم أن الذين يتكلمون بوقاحة ويفتخرون بفعل الإثم هم الهراطقة، يوضح أن ضحاياهم هم الأرامل والغرباء والأيتام، مقدمًا تفسيرًا رمزيًا لهذه الفئات. * الأرملة هي نفس الخاطي الذي فقد الله عريسه، والغريب هو الذي ليس له مسكن، أي ليست له إقامة دائمة. إنه المؤمن الحديث الذي يسقط سريعًا لأول عثرة يلتقي بها... واليتيم هو الذي يفقد الله أبيه... (هؤلاء هم الذين يقتلهم الهراطقة الأشرار). القديس جيروم وَيَقُولُونَ: الرَّبُّ لاَ يُبْصِرُ، وَإِلَهُ يَعْقُوبَ لاَ يُلاَحِظُ [7]. ينكر الأشرار عناية الله، وهذا خطأ خطير. يحسبون الله إن كان موجودًا، فهو منعزل في سماواته، لا شأن له بالبشرية، أو حتى بالخليقة، وكأنه لا يسمع ولا يبصر ولا يلاحظ ولا يبالي. * "يسحقون شعبك يا رب، ويذلون ميراثك". من؟ المستكبرون. "يقتلون الأرملة والغريب"، التاريخ واضح... فإن الشيطان المتكبر مع أتباعه يضطهدون كل يوم، ويضايقون المتواضعين في الكنيسة. "يقولون: الرب لا يبصر، وإله يعقوب لا يلاحظ". ينظرون إلى طول أناة الله أنه نقص في المعرفة. القديس جيروم * لا يقدر أحد أن يهرب من عين الله، فإنه ليس فقط يرى الأماكن السرية، بل ويرى أعماق القلب. القديس أغسطينوس * بهذا القول (مز 94: 3) أظهر إمهال الله وطول أناته. وأما قوله: يذلون شعبك، فهذا عن رؤساء اليهود وأكابر اليونانيين الذين كانوا يمنعون الناس من الإيمان بالمسيح، وأذلوهم وأضروهم، وصاروا لا يشفقون على اليتيم والأرملة، متوهمين أن الله لا يبصر، والإله الذين ظهر ليعقوب لا يفهم. الأب أنسيمُس الأورشليمي |
|