|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
دانيال يفسر الحلم: "حينئذٍ تحيرَ دانيال الذي اسمهُ بلطشاصر ساعة واحدة وأفزعتهُ أفكارهُ. أجاب الملك وقال: يا بلطشاصر لا يفزعك الحلم ولا تعبيرهُ. فأجاب بلطشاصر: الحلم لمبغضيك وتعبيرهُ لأعاديك" [19]. لا نعجب من تحيُّر دانيال وحزنه على الكارثة التي تحل بملك بابل، فمع كون الملك طاغية ظالم، سبى الشعب اليهودي مع شعوب أخرى، لكنه إذ كان دانيال يعمل في القصر كان ملتزمًا بالصلاة من أجله. لقد أمرهم الله بإرميا أن يصلوا من أجل رخاء بابل، ففي هذا يكمن سلامهم (إر 29: 7). ولأنه لم يكن بعد قد تمت السبعون عامًا، فلم يكن من حق المؤمنين أن يطلبوا من الملك العودة، بل يخضعون له في طاعة صادقة ويخدمونه بأمانة بغير كراهية. لهذا حزن دانيال عندما علم بما سيحل بالملك. "الشجرة التي رأيتها، التي كبِرت وقويت، وبلغَ علوها إلى السماء، ومنظرها إلى كُل الأرض، وأوراقها جميلة وثمرها كثير، وفيها طعام للجميع، وتحتها سكن حيوان البَر، وفي أغصانها سكنت طيور السماء، إنما هي أنت يا أيها الملك، الذي كبرت وتقويت، وعظمتك قد زادت، وبلغت إلى السماء، وسُلطانك إلى أقصى الأرض" [20-22]. هنا تظهر حكمة دانيال العجيبة، فمع محبته للملك واتضاعه أمامه، وشوقه الحقيقي أن ينقذه من الكارثة، تحدث معه كخادم للكلمة بكل صراحة، ونطق معه بالحق الإلهي. يقدم دانيال النبي درسًا عمليًا للخدمة، فالخادم يترفق بالخطاة ويشتهي خلاصهم، إن وبخ لا ينسى نفسه كإنسان ضعيفٍ؛ وفي نفس الوقت لا يهادن الخطاة على حساب الحق، ولا يخفي غضب الله على الخطية. دانيال النبي المترفق بالملك لم يخَفْه، بل بكل جرأة قال له: "أنت يا أيها الملك". لم يتردد ولا قدّم أعذارًا، ولا تحدث بلغة يبدو فيها أدنى شك، بل في يقينٍ أعلن له أنه هو الشجرة التي تحل بها الكارثة. "وحيث رأى الملك ساهرًا وقدوسا نزلَ من السماء، وقال اقطعوا الشجرة وأهلكوا، ولكن اتركوا ساق أصلها في الأرض، وبقيدٍ من حديد ونحاس في عشب الحقل، وليبتل بندى السماء، وليكن نصيبه مع حيوان البَر، حتى تمضي عليه سبعة أزمنة". يتساءل القديس جيرومعمن يقوم بتقييد الملك بقيد من حديد ونحاس، ويجيب: [واضح جدًا يُربط كل المجانين بسلاسل لحفظهم من أذية أنفسهم أو هجومهم على الغير بأسلحة]. فهذا هو التعبير أيها الملك، وهذا هو قضاء العليّ الذي يأتي على سيدي الملك" [23-24]. إذ يؤكد دانيال النبي أن الحلم بما فيه من مرارة ينطبق على الملك، يدعو الملك في احترام "سيدي الملك". أنه يقدم التأديب الإلهي، دون أن يستخف بالملك أو يهينه بكلمة جارحةٍ. "يطردونك من بين الناس، وتكون سُكناك مع حيوان البَرِ، ويُطعمونك العشب كالثيران، ويَبلونك بندى السماء، فتمضي عليك سبعة أزمنة، حتى تعلم أن العليّ مُتسلط في مملكة الناس، ويُعطيها من يشاءُ" [25]. غالبًا ما كان الملوك، خاصة الدائمو النصرة، يحسبون أنفسهم فوق كل قانون، يأمُرون ولا يُؤمَرون، يَطلبون طاعة الغير ولا يخطر على قلبهم الخضوع للغير. إنهم كثيرًا ما ينسون طبيعتهم البشرية، كأنهم من طبيعة غير طبيعة سائر البشر. الآن يقدم له دانيال النبي تفسير الحلم لا ليُذكره أنه إنسان له الضعف البشري، إنما يسقط تحت التأديب، فيفقد مع المملكة طبيعته البشرية، ليصير كما على مستوى حيوانات البرية. يُعزل من وسط الناس ليعيش كما بين قطيع الثيران أو الخنازير. "وحيث أمروا بترك ساق أصول الشجرة، فإن مملكتك تثبت لك عندما تعلم أن للسماء سُلطان" [26]. يهيئ دانيال النبي نبوخذنصَّر للتوبة، فيفتح له باب الرجاء فمع التأديب تُعلن مراحم الله التي تنتظر توبته لترد له ما فقده بفيض. فإن الله يؤدب لا ليذل الإنسان، بل ليرفعه، ويهبه عطية المعرفة، إذ يقول له "عندما تعلم..." فالتأديب مدرسة إلهية للتمتع بمعرفة سماوية فائقة. "لذلك أيُّها الملك فلتكن مشورتي مقبولة لديك، وفارق خطاياك بالبِر، وآثامك بالرحمة للمساكين، لعله يُطالُ اطمئنانُك" [27]. لقد بقي دانيال صامتًا إلى حين مرتبكًا، فشعر الملك بخطورة الحلم وشجعه على الحديث، معلنًا له أنه سيتقبل الأمر أيا كان. تحير دانيال وأفزعته أفكاره لسببين: أ. سقوط ملكٍ عظيمٍ كهذا إلى أدنى مستوى، وهو أن يصير له قلب حيوان برية. ب. أنه هو الذي يقدم التفسير للملك، وكان يتمنى الخير للملك. لقد شجع الملك دانيال أن ينطق، إما رغبة في معرفة الحقيقة، أو من أجل حب الاستطلاع. * أوضح الحق دون أن يهين الملك، لكي يتجنب الظهور بمظهر اتهام الملك بكبرياء خاطئ، بل بالأحرى في سمو عظيم. القديس جيروم ختم دانيال حديثه فاتحًا باب الرجاء أمام الملك بالتوبة وعمل الرحمة مع ترك خطاياه. اشتهى دانيال توبة نبوخذنصَّر حتى لا يسقط تحت هذا التأديب القاسي، بل يسقط فيه أعداؤه. لذلك قدم له مشورة بأن يترفق بالفقراء والمحتاجين. بهذا إذ يتحول قلبه عن القسوة والعنف والأنانية إلى الحب والعطاء يجد نعمة في عينيّ الله.* إن فتحتم أياديكم للفقراء، يفتح المسيح أيضًا أبوابه لكم حتى تدخلوا كما إلى الفردوس. الآب قيصريوس * لنقل أن نبوخذنصَّر صنع أعمال رحمة مع الفقراء حسب مشورة دانيال، لهذا أُرجئ الحكم لمدة اثني عشر شهرًا. ولكن إذ كان يتمشى في قصره ببابل وبعجرفة قال: "أليست هذه بابل العظيمة التي بنيتها؟!"...، لذلك فقد فضيلة العطاء بشرّ كبريائه .* إننا نقرأ أيضًا في إرميا عن توجيه الله للشعب اليهودي أنه يُلزمهم الصلاة من أجل البابليين، إذ يرتبط سلام المسبيّين بسلام الذين سبوهم أنفسهم. القديس جيروم |
|