|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الفتيان في السبيّ: يُفتتح السفر بالتلميح عن سبيّ يهوذا الأول في السنة الثالثة من مُلك يهوياقيم، أي حوالي سنة 605 ق.م. على يديّ نبوخذنصر ملك بابل، حيث حاصر أورشليم وأذلَّ ملكها (2 مل 24: 1، إر 22: 19). فأخذ بعض آنية بيت الرب وجاء بها إلى شنعار ليضعها في خزانة بيت إلهه. "في السنة الثالثة من ملك يهوياقيم ملك يهوذا ذهب نبوخذنصر ملك بابل إلى أورشليم وحاصرها" [1]. جاء هنا أن السبيّ تمّ في السنة الثالثة من ملك يهوياقيم (دا 1: 1)، بينما جاء في (إر 25: 1) أنه في السنة الرابعة من ملكه، ذلك لأن الآشوريِّين والبابليِّين يعتبرون السنة ابتداء من السنة الجديدة بعد تولىّ الملك العرش، بينما في يهوذا يعتبرونها من بدء السنة التي في خلالها تم ارتقاؤه العرش، لذا يأتي الحساب الآشوري والبابلي أزيد عامًا عن اليهودي. يرى البعض أن الفعل "ذهب" في (دا 1: 1) في العبريَّة يمكن أن يعني بدء خروج نبوخذنصر على رأس الحملة لمقاومة نخو ملك مصر في معركة كركميش، بينما ما ورد في إرميا يُشير إلى وصوله إلى أورشليم. نبوخذنصر أو "نبوخذراصر": اسم بابلي يعني "نبو حامي الحدود"، أو "أيُّها الإله نبو احرس الحدود" أو "يا نبو احرس الخلافة". أمَّا "نبو" فمعناه "نبأ" أو "إذاعة"، وهو إله العلم والمعرفة عند البابليِّين. والد نبوخذنصر هو نبوبلاسر مؤسِّس الدولة البابليَّة الحديثة سنة 625 ق.م. ومحطم الإمبراطوريَّة الآشوريَّة، أرسل ابنه لمحاربة نخو فرعون مصر فغلبه عام 605 ق.م. في معركة كركميش (2 مل 24: 7؛ إر 46: 2)، ثم جاء إلى أورشليم وحاصرها، وسبى بعض سكانها، من بينهم دانيال ورفاقه. إذ سمع بموت والده عاد إلى بابل ليستلم المُلك. يلاحظ هنا أن النص لم يذكر نبوخذنصر كملك لبابل أثناء حصاره أورشليم، إنَّما يُدعى ملك بابل من باب ما تمَّ بعد ذلك. أو لأنه كان ملكًا شريكًا لأبيه في الحكم، ثم انفرد بالحكم بعد موت أبيه. يرى بيروسيوس Berosus أنه عندما كان نبوبلاسر قد تقدم في العمر وعاجزًا عن القيادة، أعطى قيادة الجيوش لابنه نبوخذنصر. لقد حكم كشريك لوالده على الأقل لمدة سنتين. أخبار نبوخذنصر موجودة في أسفار الملوك وأخبار الأيام وعزرا ونحميا وإرميا ودانيال، وقد جاءت آثاره في بابل وغيرها تتَّفق مع ما ورد في الكتاب المقدَّس. "وسلَّم الرب بيده يهوياقيم ملك يهوذا مع بعض آنية بيت الله، فجاء بها إلى أرض شنعار إلى بيت إلهه، وأدخل الآنية إلى خزانة بيت إلهه" [2]. تمت عملية السبي البابلي ليهوذا على ثلاث مراح. 1.الترحيل الأول: عام 606 ق.م. أو 605 ق.م. بعد معركة كركميش التي فيها غلب نبوخذنصر فرعون مصر نخو، فاتجه إلى أورشليم. فيه سبي دانيال وأصدقاؤه، وفيه أخذ نبوخذنضر بعض آنية بيت الرب ووضعها في هيكل البعل ببابل، وترك الملك يهوياقيم على العرش كتابعٍ له، يخضع لسلطانه. 2. الترحيل الثاني: حوالي عام 598 ق.م. أو 597 ق.م بعد ثمان سنوات من سبيّ دانيال، فيه سُبي حزقيال. تم هذا السبيّ عندما ثار ملكا يهوذا يهوياقيم ويهوياكين على نبوخذنصر، فجاء الملك وأخذ بقية أواني الهيكل وكنوزه وسبيّ الملك يهوياقيم ومعه 000,10 أسيرًا من الإشراف ورجال الجيش والصناع والمهرة، ولم يترك في يهوذا سوى مساكين الشعب (حز 1: 1-3؛ 2 أي 36: 10؛ 2 مل 24: 8-20). 3.الترحيل الأخير عام 588 ق.م. أو 587 ق.م، فيه جاء الملك للمرة الثالثة ليُعاقب صدقيا الملك على تمرده "وأحرق بيت الرب وبيت الملك وكل بيوت أورشليم وكل بيوت العظماء وأحرقها بالنار" (2 مل 25: 9)، كما قتل أبناء صدقيا آخر ملوك يهوذا وقلع عيني الملك نفسه وقاده إلى بابل مقيدًا بالسلاسل، وهكذا تم خراب أورشليم والهيكل وتحطم المجتمع اليهودي (2 مل 25: 1-7؛ إر 34: 1-7). كل هذا تم تحقيقًا للنبوة (إر 1: 25-4؛ 2 أي 36: 14-21)، كتأديب جماعي بسبب انحراف الشعب وإصراره على العبادة الوثنية برجاساتها، وعدم حفظ السنوات السبتية، ومقاومتهم لصوت الله خلال الأنبياء. تم السبيّ الأول في السنة الثالثة من ملك يهوياقيم بحسب التقويم البابلي الذي يتجاهل الجزء الأول من السنة، ولم يتحقّق هذا بسبب بسالة نبوخذنصر ولا خطته العسكرية المحكمة ولا لحسن حظه أو مصادفة، وإنما بسماحٍ إلهيٍ لتأديب شعبه. هذا ما أكَّده دانيال النبي. * حقيقة تسجيل هزيمة يهوياقيم تظهر أن النصرة كانت بإرادة الله وليس بسبب قدرة أعدائه. القديس جيروم لم يسلِّم الله ملك يهوذا فحسب بل وسلَّم بيته وأوانيه المقدسة لتُحمل بيدٍ وثنية إلى هيكل وثني في شنعار. هذا ليس كسرًا لوعد الله لإبراهيم ونسله، ولما جاء في المزمور: "لأن الرب قد اختار صهيون اشتهاها مسكنًا له؛ هذه هي راحتي إلى الأبد ههنا أسكن لأنيّ اشتهيتها" (مز 123: 14)، إذ وضع شرطًا: "إن حفظ بنوك عهدي وشهاداتي التي أعلمهم إياها" (مز 123: 12). لأجل إثارتنا للتوبة والرجوع إليه بالطاعة لله مستعد أن يسلِّم هيكله وأوانيه المقدَّسة في أيدٍ وثنية، لكي يجتذبنا إليه بكوننا هيكله، الحجارة الحيَّة، والأواني المقدسة التي نصيبها السماء. أرض شنعار: اسم قديم لمنطقة بابل حيث سهل دورًا وأيضًا البرج الذي حاول المهاجرون القادمون من الشرق أن يبنوه إلى السماء، وإذ حدثت بلبلة دُعيت هذه المنطقة "بابل" التي تُعني "بلبلة" أو "ارتباكًا". يُقدم لنا القديس جيرومتفسيرًا رمزيًا لنقل نبوخذنصر بعض أواني الله قائلًا: [يلزم أن نلاحظ بالتفسير الروحي anagogen أنه لم يكن ممكنًا لملك بابل أن ينقل كل أواني الله، ويضعها في بيت الوثن الذي بناه بنفسه، إنما ينقل فقط جزءًا من الأواني من بيت الله. نفهم هذه الأواني أنها تعاليم الحق. فإنك إن درست كل أعمال الفلاسفة تجد بالضرورة فيها نصيبًا من أواني الله. فتجد على سبيل المثال في أفلاطون أن الله هو صانع المسكونة، وفي زينون رئيس الرواقيِّين أنه يوجد سكان في الأماكن الجهنمية وأن النفوس خالدة، وأن الكرامة هي الأمر الصالح الوحيد. لكن لأن الفلاسفة يخلطون الحق بالخطأ، ويفسدون الطبيعة الصالحة بشرور كثيرة، لذلك قيل أنهم سبوا نصيبًا من أواني بيت الله وليس جميعها في تمامها وكمالها]. هذا الفكر قدمه القدِّيس أكليمنضس السكندري بقوة، واقتبسه تلميذه العلامة أوريجينوس. "وأمر الملك أشفنز رئيس خصيانه بأن يُحضر من بني إسرائيل ومن نسل الملك ومن الشرفاء، فتيانًا لا عيب فيهم، حسان المنظر، حاذقين في كل حكمة، وعارفين معرفة، وذوي فهم بالعلم، والذين فيهم قوة على الوقوف في قصر الملك فيعلموهم كتابة الكلدانيين ولسانهم" [3-4]. يزعم بعض النقاد المتحررين أنه لم يرد اسم أشفنز في سجلات بابل القديمة، وأن هذه الشخصية غير تاريخية. لكن فيما بعد اكتشف أحد علماء الآشوريات هذا الاسم على لوح طيني في خرائب بابل، وهو محفوظ الآن في المتحف البريطاني. أقام الملك معهدًا في قصره تحت إشراف أشفنز. ربما كان هذا المعهد يضم أقسامًا كثيرة، من بينها قسم خاص بأبناء أشراف اليهود لتقدم لهم دراسة تناسب ثقافتهم ولغتهم. أما إقامة هذا المعهد لتخريج رجالٍ حكماء يعاونون الملك فيكشف عن حكمة الملك واتساع أُفقه وجديته. أما عن اختياره بعض الفتيان من نسل ملوك اليهود وأشرافهم فكان ذلك لعدة أسباب منها شعوره الدائم بالرجل الغالب الذي يحمل فتيان الملوك والإشراف لا ليذلهم ويعذبهم، بل لخدمة قصره وتدبير شئون الدولة. ومن جانب آخر فإنه بهذا يدفع هؤلاء الفتيان بما لهم من مواهب على الخضوع له وعدم التفكير في الثورة ضده لحساب بلدهم. كما يُعطي هذا شيئًا من الراحة النفسية لعامة اليهود أنه يوجد في القصر من يُمثلهم. اتسم هؤلاء الفتيان بالآتي: * شرف النسب. * جمال الجسد وقوته. * حذاقة في الحكمة. * أصحاب معرفة. * قادرون على تقديم العلم للغير. * قادرون على الوقوف في القصر، أي على تحويل الحكمة والمعرفة والفهم إلى عملٍ يمارسونه خلال حياتهم اليومية. مع ما لديهم من شرف وصحة جسدية وحكمة ومعرفة وخبرة أراد الملك أن يتمتعوا بثقافة بلده ولغتها لينتزعهم من انتمائهم لبني جنسهم ويربطهم ببلده. في حكمة لم يحطم ما قد وُهبوا به ولا حقر من شأنهم، بل أراد تحويل طاقاتهم لحساب قصره الملوكي. يُقصد بكتابة الكلدانيين تعلم لغتهم وأدبهم وكل ثقافتهم بالمفهوم الواسع مثل الفلك والرياضيات والشرائع مع السحر وتفسير الأحلام إلخ. كما تدرب موسى على حكمة المصريين، هكذا تدرب دانيال ورفقاؤه على حكمة الكلدانيين. |
|