|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
ترك هذا العالم في اول مايو من عام 1946 سأل البابا بيوس الثاني عشر أساقفة الكنيسة الكاثوليكيّة في العالم كلّه: هل يؤمن المسيحيّون في الأبرشيات التي يرعونها بانتقال مريم العذراء إلى السماء بجسدها ونفسها؟ فكان شبه إجماع حول وجود مثل هذا الإيمان لدى الأساقفة واللاهوتيّين وسائر المؤمنين من الشعب المسيحي. وفي أوّل ديسمبر عام 1950، أعلن البابا هذا الانتقال كعقيدة إيـمانيّة فى رسالة عنوانها:”Munificentissimus Deus“. وفى هذه الرسالة يرسم أوّلاً لوحة لتاريخ هذا الاعتقاد منذ القرن السادس، ثمّ يبيّن كيف وعت الكنيسة إيمانها بهذا الموضوع، وكيف استخلصت هذا الإيمان من معطيات الكتاب المقدّس، ويقول: “إنّ هذه البراهين كلّها والاعتبارات التي نقرأها لدى الآباء القدّيسين واللاهوتيّين تستند إلى الكتاب المقدّس كأساس أخير لها. فالكتاب المقدّس يرينا والدة الإله متّحدة اتحادًا وثيقًا بابنها الإلهي ومشاركة إيّاه على الدوام مصيره. فيبدو من ثمّ من المحال أنّ التي حبلت بالسيّد المسيح وولدته وغذّته بلبنها وحملته على ذراعيها وضمّته إلى صدرها قد انفصلت عنه بعد حياتها على هذه الأرض، إن لم نقل بنفسها، فبجسدها. فبما أنّ فادينا هو ابن مريم، لما يكن باستطاعته، هو الخاضع خضوعًا تامًّا للشريعة الإلهيّة، ألاّ يؤدّي الإكرام ليس فقط إلي الآب الأزلي بل أيضاً إلى أمّه المحبوّبـة. وبما أنّه كان يقدر أن يصنع لها هذا الإكرام فيحفظها من فساد الموت، فيجب الإيمان بأنّه صّنعه لها. “ويجب بنوع خاص أن نتذكّر أنّ آباء الكنيسة، منذ القرن الثاني، رأوا في مريم العذراء حوّاء الجديدة، خاضعة دون شكّ لآدم الجديد، لكن متّحدة به اتّحادًا وثيقًا، في العراك ضد العدوّ الجهنّمي، هذا العراك الذي سبق سفر التكوين (تكوين 3: 15) فبشّر بأنّه سوف ينتهي بالنصر الكامل على الخطيئة والموت اللّذين يذكرهما دومًا رسول الأمم متّحدين (رومية5: 6)؛ (1كورنثوس15: 21-26)،فكما أنّ قيامة المسيح المجيدة كانت جزءًا أساسيًّا من هذا الانتصار، كذلك كان يجب أن ينتهي العراك الذي قامت به مريم العذراء بالاتّحاد مع ابنها بتمجيد جسدها العذري، حسب قول الرسول نفسه: “ومتى لبس هذا الجسد الفاسد عدم الفساد، ولبس هذا الجسد المائت عدم الموت، فحينئذ يتمّ القول الذي كتب: لقد ابتُلع الموت في الغلبة” (1كورنثوس 54:15)، “إن والدة الإله السامية المقام، المتّحدة اتّحادًا سريًّا بيسوع المسيح “في قرار الاختيار الواحد عينه الذي مسبق الله فاتّخذه”، المنزّهة عن العيب في حبلها، العذراء الكلّية الطهارة في أمومتها الإلهيّة، الرفيقة السخيّة للفادي الإلهي الذي أحرز انتصارًا شاملاً على الخطيئة ونتائجها، قد حصلت أخيرًا على هذا التتويج الفائق لإمتيازاتها، فحُفظت من فساد القبر، وعلى غرار ابنها، بعد أن غلبت الموت، رُفعت بالجسد والنفس إلى المجد في أعلى السماوات، لتتألّق فيها كملكة على يمين ابنها، ملك الدهور الأزلي (2 تيموثاوس17:1). “إنّ الكنيسة الجامعة التي فيها يحيا روح الحقّ الذي يقودها لتصل إلى معرفة الحقائق الموحاة، قد أعلنت إيمانها بطرق متنوّعة على مدى الأجيال. وأساقفة العالم يطلبون باتّفاق شبه تامّ أن تُعلَن كعقيدة إيمان إلهي وكاثوليكي حقيقةُ انتقال الطوباويّة مريم العذراء إلى السماء بجسدها، تلك الحقيقة التي تستند إلى الكتاب المقدس، المغروسة في قلوب المؤمنين، والمعلَنة منذ القرون الأولى في عبادة الكنيسة، والمفسَّرة والمعروضة بشكل رائع في أعمال اللاهوتيّين وعلمهم وحكمتهم. لهذه الأسباب نعتقد أنّه قد أتى الزمن الذي حدّدته مقاصد العناية الإلهيّة لأن نعلن رسميًّا هذا الامتياز الفائق الذي تتمتّع به الطوباويّة مريم العذراء… “فبعد أن وجّهنا إلى الله صلوات ملحّة، والتمسنا نور روح الحقّ، لمجد الله ألقدير الذي أغدق بسخاء عطفه الخاص على مريم العذراء، وإكرامًا لابنه، ملك الدهور الحيّ قاهر الخطيئة والموت، وزيادة في مجد والدته السامية المقام، وفي سبيل الفرح والابتهاج في الكنيسة جمعاء، بسلطان ربّنا يسوع المسيح، والرسولين بطرس وبولس، وبسلطاننا الخاصّ نصرّح ونعلن ونحدّد كعقيدة أوحاها الله أنّ مريم والدة الإله المنزّهة عن العيب والدائمة البتوليّة، بعد أن أنهت مسيرة حياتها على الأرض، رُفعت بالنفس والجسد الى المجد السماوي”. بهذه التعابير أعلن البابا عقيدة انتقال مريم العذراء إلى السماء بنفسها وجسدها، مؤكّدًا أنّه لا يضيف شيئًا، في إعلانه هذه العقيدة، إلى إيمان الكنيسة، بل يعبّر بشكل واضح عن هذا الإيمان الذي يعود إلى القرون الأولى للمسيحيّة. تحتـفـل الكنيـسة الكاثوليكيــة فى أنحـاء العـالـم فى الخامـس عشر من أغسطس من كل عـام بهـذا العيـــد. إن إنتقال مريم العذراء بجسدها ونفسها الى السماء هو نتيجة لعمل الروح القدس فيها. فالروح الذى حـلّ عليها وأحيا جسدها لتصير أمـاً لابن الله, هو نفسه يكمـل عمله فيها ويحيي جسدها المائت وينقله الى المجد السماوي لآن مريم العذراء كانت فى جسدها ونفسها مستسلمة إستسلامـا تــامـا لعمل الروح القدس . فإنـتـقـال مريم حدث سـبـاق لتحرير البشر أجمعين من سلطان الموت وعودتهم الى وضعهـم الفردوسي الآول و هـذا الإنتقال كما يقول المجمع الفاتيكانى الثانى هو “علامة رجاء وطيد”, رجاء فى أن قيامة الأموات بفضل يسوع المسيح ستتم وتحدث, وإنتقال مريم الى السماء بجسدها وروحها علامة لقيامة البشر. أنـه يبدو من المحال إن مريم العذراء التى حبلت بالسيد المسيح وولدتـه وغـذتـه بلبنها وحملته على ذراعيها وضمتـه إلى صدرهـا قد إنفصلت عنه بعد حياتها على هذه الآرض, إن لم نقل بنفسها, فبجسدها. فبما أن فادينا هو إبن مريم, لم يكن بإستطاعته , هو الخاضع خضوعا تاما للشريعة الإلهية, ألاُ يؤدى الإكرام ليس فقط الى الآب الآزلي بل أيضا الى أمـه المحبوبة فحفظها من فساد القبر فرفعت بالجسد والنفس الى المجـد فى أعلى السماوات, لتــتألـق فيهـا كملكـة على يمين ابنها ملك الدهور الآزلي. أن الله يُعظّم أولاده وقديسيه كما فعل مع يشوع بن نون كما جاء “عظّم الرب يشوع فى عيون جميع اسرائيل فهابوه كما هابوا موسى كل ايام حياته”(يشوع14:4)، أفلا يكون بالأولى من حملت الله الكلمة وأرضعته؟ ان كان السيد المسيح قد عظّم المرأة الكنعانية بسبب إيمانها وقال لها:”يا إمرأة عظيم هو إيمانكِ”(متى28:15)، فكم تكون مريم التى آمنت ان يتم ما قيل لها من قِبل الرب(لوقا45:1)؟ ان الله قد عظّم ابراهيـم من أجل طاعتـه “من اجل انك سمعت لقولي”(تكوين18:22)، فكم تكون مريم التى سلّمت حياتها “فليكن لي بحسب قولِك”(لوقا38:1)؟ إن كان يوحنا المعمدان الذى إرتكض وهو جنين فى بطن امه اليصابات حينما سمع سلام مريم العذراء(لوقا41:1) وقد وصفه السيد المسيح بانه “اعظم من ولدتهم النساء”(متى11:11)، فكم تكون مريم العذراء التى لم تكن ملاكا يهيئ طريق الرب بل هى حاملة الإله ووالدته”الروح القدس يحلّ عليكِ وقوة العلي تُظللكِ ولذلك فالقدوس المولود منكِ يُدعى ابن الله”(لوقا35:1)؟ ان كان القديس يوحنا قد أبصر وسمع فى رؤياه تطويب من له حظ فى عشاء الحمل”طوبى للمدعوين الى عشاء عُرس الحَمَل”(رؤيا9:19)، فكم تكون مريم العذراء والأم والمؤمنة؟ ان كان من يحفظ الشريعة ووصايا الله قد طُوّب كما جاء فى سفر الأمثال:”الذى يحفظ الشريعة طوبى له”(امثال18:29)،”طوبى لمن يحفظ اقوال الكتاب”(رؤيا7:22)، فكم تكون مريم التى حافظت على تطبيق الشريعة (لوقا22:2و41) وكانت “تحفظ ذلك الكلام كله فى قلبها”(لوقا51:2)؟ وان كان “المتواضع بالروح يحصُل على الكرامة” (امثال23:29) فكم تكون مريم العذراء التى قالت:”ها انا آمة الرّب”(لوقا38:1) وصرخت قائلة:”لأنه نظر الى تواضع أمتهِ”(لوقا48:1)؟ ان تمجيد مريم العذراء بإنتقالها للسماء هو تطبيق عملي لقول بولس الرسول:”وحيث نحن أبناء فنحن ورثـة ورثـة الله ووارثون مع المسيح إن كنّا نتألـم معه لكي نتمجّد معه”(رومية17:8)، ومريم ولدت يسوع وعاشت معه على الأرض وتألـمت معـه و”إُرس فيها سيف الوجع”(لوقا35:2) حسب نبؤة سمعان الشيخ، ونفذّت مشيئة الآب السماوي، أفلا تستحق أن تُـمجد”؟ ولقد ذكر القديس بولس كيفية ذلك الإنتقال للـمؤمنين وخاصة يوم مجيئ الرب:”ثم نحن الأحياء الباقين نُختطف جميعاً معهم فى السُحب لنلاقي المسيح فى الجو وهكذا نكون مع الرب دائماً” (1تسالونيكي17:4). لقد سمح الله بأن جسد مريم العذراء يُحفظ سالماً من الدنس بسبب عصمتها من تبعات الخطيئة الأصليـة وايضا الفعليـة، ولذلك من اللائق إستثنـاء جسدها من الفساد. وهذا ما رآه بعض الأباء مثل القديس توما الإكويني فى تفسيره للآيـة الواردة على لسان الملاك جبرائيل:”السلام عليكِ يا ممتلئة نعمة”(لوقا28:1)، فإن ميزة الإمتلاء بالنعمة هو أساس لتمجيد الله لـمريم، ولـم تقع بذلك فى لعنة الخطيئة التى وردت فى سفر التكوين 16:3-19)، ولهذا فإن مريم ممتلئة نعمة وروحاً وجسداً مما يستوجب عدم فساد جسدها. لقد رأى بعض الـمفسرين فى الآيـة الواردة فى سفر المزامير:”قم ايها الرب الى موضع راحتك انت وتابوت عزتك”(مزمور8:131) تأييداً لهذه العقيدة، فإن تابوت العهد القديم ما هو إلاّ رمز لتابوت العهد الجديد أي القديسة مريم أم يسوع. ورأى بعض الـمفسّرين فى الآيـة الواردة فى سفر الرؤيا:”وانفتح هيكل الله فى السماء وظهر تابوت عهده فى هيكله، وحدثت بروق وأصوات رعود وزلزلة وبرد عظيم”(رؤيا19:11) انه لا يمكن ان ينطبق على وجود تابوت مادي بل هو وجود القديسة مريم فى ملكوت السموات لأنه لا يمكن أن تظهر أشياء مادية فى السماء كالأبنيـة والأخشاب والنباتات أو غيرها. ورأى بعض الـمفسرّين ايضا فى الآيـة الواردة فى سفر نشيد الأناشيد:”من هذه الطالعة من القفر الـمستندة على حبيبها”(نشيد الأناشيد5:8) وايضا ما جاء “من هذة الطالعة من القفر كعمود بخور معطّرة بالمرّ واللّبان”(نشيد الأناشيد6:3) إفادة بخروج العذراء مريم من العالـم بصحبة إبنها يسوع وهى مُمجدة. ورأى بعض الـمفسرّين ايضا فى الآيـة الواردة فى اشعيا النبي:”مجد لبنان يأتي اليكِ .. أُمجد موطئ قدميّ”(اشعيا13:60) إفادة بالمجد الذى حصلت عليه مريم العذراء. بـما أن الله قد حفظ جسد مريم فى البتوليـة والطُهر، فكان من اللائق أن يكّرم الله هذا الجسد كما يُمجد قديسيه الى يومنا هذا حيث يحفظ الرب بعض أجساد القديسين (امثال القديسة ريتا دى كاشيا والقديس انطزنيوس البادوي وغيرهم)، فإن مريم العذراء يجب ان تتميز على الكل بأن جسدها يُحفظ فى السماء. لقد ذُكر فى العهد القديم كيف أمات الله موسى ودفنه بنفسه فى جبل “نبو” بعيداً عن أعين الشعب خوفاً من ان يعبد الشعب جسده، لذلك قيل فى سفر التثنية:”ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم”(تثنية6:34). ثم جاء فى رسالة يهوذا عن جسد موسى يكشف عن أهمية خاصة لجسد موسى ويبدو ان رئيس الـملائكة ميخائيل كان منوطاً به حراسة الجسد أو الصعود به إلى السماء وحاول إبليس أن يسترده أو يكشف عن مكانه لتضليل الشعب فوقعت معركة بينهما استنجد فيها رئيس الملائكة بالرب قائلاً:”لينتهرك الرب”(يهوذا9). فإذا كان قد صار إهتمام الله هكذا بموسى وكان هذا بسبب ان جسد موسى كان قد نضح عليه مجد الله وانعكس عليه نور وجهه بسبب تواجده مع الله اربعين يوما، وقبوله من يديه وصايا مكتوبة، فكم يكون إهتمام المسيح بجسد العذراء بعد نياحتها الذى نال حلول الروح القدس وملئا من النعمة وتظليلاً بقوة العلي ثم حلول الله الكلمة في أحشائها؟ ان عقيدة إنتقال مريم العذراء للسماء بالنفس والجسد مرتبطة بعقيدة عصمتها من دنس الخطيئة الأصلية وايضا عقيدة بتوليتها الدائمة، فحيث ان مريم قد حُبل بها بلا دنس الخطيئة الأولـى فهى لا تعاني تبعات وآثار تلك الخطيئة والتى منها إنحلال الجسد فى القبر، وحيث ان مريم قد حبلت بالمسيح وهى عذراء وولدته بـمعجزة وظلت عذراء فلا يمكن قبول ان جسده الذى تقدّس بقدوس الله يعاني فساداً. أبعاد انتقال مريم العذراء الى السماء ما آمنت به الكنيسة منذ القرون الأولى وعبرّت عنه بطرق متنوّعة في الصلوات الليترجيّة ومواعظ الآباء، وتحديد العقيدة في الكنيسة الكاثوليكيّة في موضوع انتقال مريم العذراء بجسدها ونفسها الى المجد السماوي، هو إعلان للعظائم التي صنعها الله في مريم العذراء، بحسب قولها: “ها منذ الآن تغبّطني جميع الأجيال، لأنّ القدير صنع بي عظائم، واسمه قدّوس، ورحمته الى جيل وجيل للّذين يتّقونه” (لوقا1: 48- 50). إنّ عظائم الله قد رافقت مريم العذراء طوال حياتها، وبما أنّ الله هو إله الحياة التي لا نهاية لها، تؤمن الكنيسة أنّ ما صنعه الله من عظائم لا يتوقّف عند حدود هذه الحياة بل يمتدّ الى ما بعد الموت. ويستطيع كلّ مؤمن أن يقرأ في مسيرة حياة مريم العذراء مسيرة إيمانه، وفي مصير مريم العذراء بعد الموت مصير كيانه ومصير شخصه في نهاية الزمن. الروح القدس أحيا جسد العذراء فيقول بولس الرسول: “إذا كان روح الذي أقام يسوع من بين الأموات ساكنًا فيكم، فالذي أقام المسيح يسوع من بين الأموات يحيي أيضًا أجسادكم المائتة بروحه الساكن فيكم” (رومية 8: 11). انتقال مريم العذراء بجسدها ونفسها الى السماء هو نتيجة لعمل الروح القدس فيها. فالروح القدس الذي حلّ عليها وأحيا جسدها لتصير أمًّا لابن الله هو نفسه يكمّل عمله فيها ويحيي جسدها المائت وينقله الى المجد السماوي. الروح القدس هو قدرة الله المحيية، وهذه القدرة لا يوقفها شيء: إنّها حركة دائمة، وديناميّتها تفوق ما يستطيع عقلنا البشري تصوّره. بهذه القدرة كان يسوع يشفي المرضى ويخرج الشياطين ويقيم الموتى (راجع لوقا 4: 18- 19؛ مرقس18:12-28). وبهذه القدرة قام هو نفسه من الموت. وبهذه القدرة سيقيم الأموات في الدينونة العامة. ولأنّ مريم العذراء كانت في جسدها ونفسها مستسلمة استسلامًا تامًّا لعمل الروح القدس، آمن المسيحيّون منذ القرون الأولى أنّها حصلت حالاً بعد موتها على قيامة الجسد التي هي مصير كلّ المؤمنين في نهاية الزمن. بهاء القيامة الخلاص في الديانة المسيحيّة ليس إنقاذ الإنسان من الخطايا بقدر ما هو إعادته الى بها الصورة الإلهيّة التي خُلق عليها.. الديانة المسيحيّة هي ديانة البهاء والمجد، وتلك السمة هي التي تبرّر وجودها وتثّبت صحتّها. فإذا كان لله وجود، وإذا كان الله قد ظهر لنا في شخص ابنه وكلمته وصورة مجده يسوع المسيح، فلا بدّ من أن يكون الله إله المجد والبهاء. وهذا ما تعبّر عنه الكنيسة في اعتقادها بانتقال مريم العذراء. تقول الكنيسة البيزنطية في إحدى صلوات عيد رقاد السيّدة: “ما أعجب أسرارك أيّتها السيّدة النقيّة، لأنّك ظهرت عرشًا للعليّ، واليوم قد انتقلت من الأرض الى السماء. فمجدك وافر البهاء، ويعكس أشعّة المواهب الإلهيّة” (صلاة المساء الكبرى). إنّ أشعّة المواهب الإلهيّة التي حصلت عليها مريم العذراء تنعكس في حياتها. فهي السيّدة النقيّة لأنّها “ممتلئة نعمة”، وقد “ظهرت عرشًا للعليّ”، لأنّ ابن الله سكن فيها، وتكلّلت تلك المواهب “بانتقالها من الأرض الى السماء”، وظهر فيها مجد الله الوافر البهاء. لا يمكننا التنكّر للواقع والتغاضي عن الخطيئة في العالم. ولكنّ قيامة المسيح هي أيضًا جزء من هذا الواقع. من قبر المسيح انبعث نور الله، ومع المسيح القائم من بين الأموات دخل مجد الله العالم، ويعمل كالخمير على تجديده من الداخل. تاريخ العالم ليس تاريخ معركة مجهولة المصير بين الحقّ والباطل، بل تاريخ ولادة جديدة. يقول بولس الرسول: “إنّ الخليقة قد أُخضعت للباطل .. إنّما على رجاء أنّ الخليقة ستُعتَق، هي أيضًا، من عبوديّة الفساد الى حريّة مجد أبناء الله. فنحن نعلم أنّ الخليقة كلّها معًا تئنّ حتى الآن وتتمخَّض، وليس هي فقط، بل نحن أيضًا الذين لهم باكورة الروح، نحن أيضًا نئنّ في أنفسنا منتظرين التبنّي افتداء أجسادنا” (رومية 8: 20-23). نحن من الآن أبناء الله، ولنا باكورة الروح، ولكنَّ ما نحن عليه سيتجلّى على أتمّ وجه في المجد الخالد، فيكون عندئذ للجسد المفتدى، القائم، قسط من السعادة كبير، حسب قول بولس الرسول:” الإنسان الأوّل من الأرض، من التراب، والإنسان الثاني من السماء. فعلى مثال الترابي يكون الترابيّون، وعلى مثال السماوي يكون السماويّون، وكما لبسنا صورة الترابي نلبس أيضًا صورة السماوي” (1 كورنثوس 15: 47- 49). في وسط عالمنا لبس المسيح السماوي جسدنا الترابي، وبهذا الجسد ارتبط بعالمنا. وقيامته الجسديّة لم تفقده ارتباطه بنا، بل بدخوله مجد الآب، صار ارتباطه بنا أكثر اتّساعًا. ارتفع عن الأرض ليجتذب اليه الجميع (يوحنا 12: 32)، ارتفع الى السماوات ليملأ مجده جميع الأرض، بحسب قول المزمور: “ارتفع اللهمّ على السماوات، وليكن مجدك على جميع الأرض” (مزمور 57: 12؛ راجع أيضًا أفسس 4: 8- 10). المسيح لم يتمجّد وحده. “فبعد إذ أميت بالجسد، استردّ الحياة بالروح، وبهذا الروح عينه مضى وبشّر الأرواح المضبوطة في السجن” (1 بطرس 3: 19)، أي إنّه نزل الى “الجحيم” مقرّ الأموات حيث كانت نفوس الصدّيقين تنتظر، كفي سجن، مجيئه الخلاصي وصعودها معه الى السماء، وبشّرها بأنّ عمل الفداء قد تحقّق، وتمّ الانتصار على الموت. وفي الموضوع عينه يتكلّم إنجيل متّى عن عامه كسيرين من الأموات مع المسيح: “القبور تفتّحت، وكثيرون من القدّيسين الراقدة أجسادهم فيها قاموا، وخرجوا من القبور بعد قيامته، ودخلوا المدينة المقدّسة، وتراءوا لكثيرين” (متّى 27: 52-53). إنّ ابن الله الذي “له مجد الآب من قبل كون العالم” (يوحنا 17: 5) قد تجسّد في أحشاء مريم العذراء. وبسبب تلك الشركة الروحيّة في المجد والبهاء بين السيّد المسيح وأمّه، آمنت الكنيسة أنّ مريم العذراء، بعد موتها، شاركت ابنها مجد قيامته كما شاركته، في تجسده، مجد ظهوره. قيامة الأجساد: جسد الإنسان، في نظر الكتاب المقدّس، ليس سجنًا يجب التخلّص منه للوصول الى العالم الحقيقي، عالم الأرواح. نظرة الكتاب المقدّس الى الإنسان لا تقوم على التناقض بين الجسد والروح، بل على التناقض بين الفرد المنعزل المتقوقع على ذاته والشخص المنفتح في علاقاته على الكون وعلى الآخرين وعلى الله. والجسد هو ما يتيح للإنسان الحيّ أن يرتبط بعلاقات بنّاءة بالكون والآخرين والله. فالجسد هو إذن الإنسان ذاته من حيث ارتباطه بالعالم الخارجي. لذلك أيضًا رأى معظم آباء الكنيسة، ولا سيّمَا في الشرق، أنّ التجسّد كان لا بدّ منه، ولو لم يخطأ الإنسان، وذلك ليكتمل ارتباط الله بالإنسان وارتباط الإنسان بالله، ونعمة الله التي تعمل في الإنسان تعمل فيه حيث يبني ذاته ويحقّق كيانه وعلاقاته، فتجعله في روحه وفي جسده أكثر انفتاحًا على الله وعلى الآخرين. للنعمة قوّة تغيير وانفتاح، وعملها هو عمل الحياة الإلهيّة نفسها. كلّ اتصال بالله لا بدّ له من أن يغيّر الإنسان، وإلاّ كان الله مجرّد وهم ابتكره خيال الإنسان ليكوّن لنفسه ما يتعلّق به في هذه الحياة المتقلّبة. إلهنا شخص حيّ يحوّل كلّ من يتّصل به، يدخل أعماق الإنسان ليملأه بحياته الإلهيّة. وقيامة الأجساد هي امتلاء الإنسان من تلك الحياة الإلهية في كل أبعاد كيانه وفي كل ارتباطاته بالله وبالكون وبالآخرين. إيمان الكنيسة بانتقال مريم العذراء بجسدها ونفسها الى السماء هو اعتراف بأنّ اتّحادها الصميم بالله بجسدها ونفسها، هذا الاتحاد الذي تحقّق لها بتجسّد ابن الله في أحشائها، كما تحقّق لها أيضًا بأمانتها لمحبّة الله واستسلامها لعلم الله فيها طوال حياتها، هذا الاتّحاد يستمرّ بعد موتها باشتراكها في مجد القيامة. فكما تمجّد ابنها وصار مرتبطًا بدخوله مجد الله بالعالم كلّه، هكذا أيضًا تمجّدت مريم العذراء وصارت مرتبطة بالعالم كلّه. وما سيحدث لجميع المؤمنين في القيامة العامة، أي ارتباطهم الكامل الممجّد بالعالم وبالله، قد حدث لمريم العذراء كما حدث لابنها يسوع المسيح لدى قيامته من بين الأموات. ثمّ إنّنا في انتقال مريم العذراء الى المجد السماوي نقرأ عمل الروح القدس في الإنسان. وكل مؤمن يعرف أنّ مسيرة حياته هي مسيرة عمل الروح القدس فيه. ومريم هي في الكنيسة رمز عمل الله في كل مؤمن. صلاة:يا أمي القديسة مريم لقد ملأ حبك الي الله كل قلبك وفكرك وارادتك واختفظت في قلبك طوال مجرى حياتك الأرضية بذاك الحب والذي انعكس في كل ما قمت به وما دعاكِ الله اليه، فأرجوكي يا أمي ساعديني كي اضع كل لي في خدمة الله كمثالك وساعديني كي تعكس كل اعمالي واقوالي ما يحمله قلبي من حب الي الله وساعديني ايضا ان اعكس بحياتي كل النِعم التى وهبها ويهبها الله لي فأعبر عن حبي له بمحبتي للآخرين. آمين. نافذة: ي أم المحبة الإلهية، صلي لأجلنا نصلّي: مرّة واحدة “الأبانا”، عشر مرّات “السلام”، و”المجد” مرّة واحدة. ويا يسوع الحبيب. + تلاوة طلبة العذراء المجيدة. صلاة: يا مريم ، الملكة التي انتقلت إلى السماء ، أن أتهلل فرحاً لأنّك بعد سنوات من الاستشهاد البطولي على الأرض ، أُخِذت أخيراً إلى العرش الذي أعدّه لك الثالوث الأقدس في السماء. ارفعي قلبي معك في مجد انتقالك فوق وصمة الخطيئة المفزعة البغيضة. علميني كم تبدو الأرض صغيرة عندما تشاهد من السماء. اجعليني أدرك أنّ الموت هو بوابة النصر التي سأعبر منها إلى ابنك ،و أنّه يوماً ما سيتّحد جسدي مع نفسي في سعادة السماء التي لا تنتهي. من على هذه الأرض التي أسير عليها كمسافر ، أرفع عينيّ إليك طالباً العون و أسألك هذه النعمة (اذكر طلبتك).عندما تحين ساعة موتي ، قوديني بسلام إلى حضرة يسوع ، لأتمتع برؤيا ربي معك للأبد. آمين. |
|