|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||
|
|||||||||
اعرف ذاتك
هل تود أن تكون كاملا يا أخي الحبيب؟ وهل تريد أن تنطلق روحك انطلاقا إلي حيث لا قيود ولا حدود؟ إذن فعليك قبل كل شيء، أن تفرغ ذاتك من كل شئ: من كل ما أرسبه فوقك العالم من رغبات وعلوم وأحاسيس.. عليك أولا أن تنكر ذاتك، وأن تقف أمام الله كلا شيء. اعرف نفسك بالحقيقية، من أنت؟ أليس مجرد حفنة تراب، من تراب الأرض..؟ بل أنت أقل من تراب. أنت عدم، لا شيء مر وقت لم تكن فيه موجوداً، ومع ذلك كان العالم عالما، من غيرك. ثم كونك الله إذ لم تكن: خلق التراب أولاً، ثم خلقك من تراب. علام إذن ترتفع، ومن أنت حتى ترتفع؟ اخفض رأسك في خجل وذلة. فأنت عدم. وقف أمام الله من انكسار نفسي وانسحاق روح ذاكراً أصلك القديم. هل عرفت أنك عدم؟ بل أصارحك أيضاً أنك أقل من عدم. فالعدم هو لا شيء خير من الخطية التي جلبها الإنسان إذ أن {تصور قلب الإنسان شرير كل يوم} {تك5:6}. فإن وجدت فيك شيئاً صالحاً، تيقن تماما أنه ليس منك، بل هو من الله الكلي الصلاح، والكامل القدوس وحده، لأنه ليس أحد صالحاً إلا الله وحده {مت17:19} إن وجدت فيك شيئاً صالحاً فلا تنتفخ ولا تتفاخر، ولا تحارب نفسك بالبر الذاتي، وإنما أرجع المجد لله، لأنه هو المستحق وليس أنت، فالله هو الذي صنع الخير، لأنه صانع الخيرات، بل لأنه الخير ذاته، وهو الصلاح ذاته، وأنت بدونه فناء لا تستطيع أن تعمل شيئا. فلا تسرق مجد الله وتنسبه لنفسك. قد تضئ كالقمر، ويزداد ضياؤك حتى تظهر بدرا، ولكن في كل ذلك تذكر أن القمر هو كوكب مُظْلِم يستمد نوره من الشمس، وليس فيه ضياء من ذاته، وأن احتجبت عنه الشمس لا يظهر منه شيء لأنه مظلم بطبيعته. أترى يستطيع القمر ان يتحدث عن نوره} أمام الشمس؟ هكذا أنت أيها الحبيب أمام الله. أما أن وجدت فيك شراً فاعرف أنه منك، من الخطية الرابطة التي اشتقت إليها. وكنت تسود عليها فسادت عليك {تك 4} لأنه ليس شر من قبل الله. الله الذي لا يتفق الشر مع طبيعته والذي بعد أن عمل كل شيء بيديه الطاهرتين اللتين بلا عيب ولا دنس، {نظر إلي كل ما عمله فإذا هو حسن جداً}. هل عرفت ذاتك يا أخي الحبيب؟ وهل أدركت ان أنكار الذات هو القاعدة الاساسية لعلاقتك مع الله؟ لست أقصد أن تعتبر ذاتك شيئا تتواضع فتنكره، لأن ذاتك لا شيء، عدم وفناء. ولست أحب ان استعمل كلمة {تواضع}، لأن المتواضع هو الكائن الذي يتنازل من مكانه إلي درجة أقل ارتفاعاً وأدني سمواً. أما إنسان حقير مثلي ومثلك، كان ترابا وعدما، مستحيل عليه أن يتواضع، إذ ليست له درجة حتى يرفضها، أو كرامة حتى يتخلى عنها. وليس هو مرتفعاً حتى ينزل، أو ساميا حتى يتضع. وإنما كل ما أقصده من إنكار الذات يا أخي المحبوب هو أن تعرف ذاتك، فتدرك أنه لا قيمة لك علي الإطلاق. وإنما هو الله الذي يتحنن عليك فيهبك إن أحببته، شيئا من مجده، الذي لا تستحقه، لولا رحمته ولولا تواضعه هو وتنازله. دعنا نتدارك إذن فنتأمل تلك الآية الجميلة التي تقول {أختار الله جُهَّال العالم ليخزي الحكماء. واحتار الله ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء. واختار الله أدنياء العالم والمزدري وغير الموجود ليبطل الموجود لكي لا يفتخر كل ذي جسد أمامه} {1كو1: 27- 29}. فما معني هذا؟ ألا يصلح لملكوت الله إلا الجهال والضعفاء والمحتقرون؟! كلا فقد اختار الله قوما مثقفين من أمثله موسى وبولس وأرسانيوس، كما اختار القديسين الفلاسفة أثيناغوروس وبنتينوس وأوغسطينوس. واختار الله رجالا أقوياء مثل شمشون والقوي الأنبا موسى، واختار رجالا محترمين مثل داود الملك والأميرين مكسيموس ودوماديوس... فكيف التوفيق بين الأمرين؟ ليس المقصود إذن أن الله لا يختار إلا الجهال والضعفاء والمحتقرين، بل لعل المقصود هو الله – تبارك اسمه – يختار الأشخاص الذين مهما بلغوا من علم أو قوة أو كرامة، يقفون أمامه كجهال وضعفاء محتقرين. فهوذا موسى الذي تهذب بكل حكمة المصريين، لم يرسله الله عندما كان واثقا بنفسه، ومعتمدا علي قوته البشرية. ولكنه دعاه عندما وصل إلي الدرجة التي قال فيها {مَنْ أنا حتى أذهب إلي فرعون وحتى أخرج بني إسرائيل من مصر.. لست أنا صاحب كلام منذ أمس ولا أول من أمس ولا من حين كلمت عبدك. بل أنا ثقيل الفم واللسان} {خر3: 11، 4: 10}. وهذا هو بولس الذي درس الناموس وتعلم تحت قدمي غمالائيل، لم يرسله الله إلا عندما وصل إلي الحالة التي يستطيع أن يقول فيها: {لأنه مكتوب سأبيد حكمة الحكماء وأرفض فهم الفهماء. أين الحكيم؟ أين الكاتب. أين مباحث هذا الدهر. ألم يجهل الله حكمة هذا العالم.. وأنا كنت عندكم في ضعف وخوف ورعدة كثيرة وكلامي وكرازتي لم يكونا بكلام الحكمة الإنسانية المقنع، بل ببرهان الروح والقوة} {1كو1: 19،2، 3، 4}. وأرسانيوس لم يجعله الله أبا ومرشداً، عندما كان معلما للأميرين أركاديوس وهونوريوس في قصر أبيهما الأمبراطور ثيئودسيوس. بل عندما تنقت روحه أصبح في إمكانه أن يقول عن نفسه: {أن أرسانيوس معلم أولاد الملوك} الذي درس حكمة اليونان والرومان، لا يعرف الألفا فيتا التي يعرفها هذا المصري الأمي}. هل تظن يا أخي العابد أنك ستبني ركنا في الكنيسة بعلمك وثقافتك؟! يا لك من مسكين. الحق أقول لك أن لم تنطلق من اعتمادك علي معرفتك فلن تصل إلي الله. ولن يبارك الله لك في خدمة لأنك إن نجحت فسوف ينسب الناس نجاحك إلي ما وهبه لك العالم من شهادات وإجازات علمية، وهكذا يسلب من الله مجده ويعطي للعالم. الله – يا أخي المتعلم – قادر في القرن العشرين أن يذهب إلى البحيرة من جديد، ويختار صياداً جاهلاً لكي يقيمه رسولا وكاروزاً. فيعلم الناس خيرا منك. أن الله عندما شق البحر الأحمر لم يختر لذلك قضيبا من ذهب، وإنما عصا بسيطة كانت توجد ملايين من مثيلاتها في العالم. فحاذر أن تظن في نفسك أنك شيء، أو أن تغتر بثقافة العالم. وحاذر – حتى في حياتك الروحية الخاصة – أن تعتمد علي معرفتك العالمية أو الدينية أو قراءاتك الروحية أو خبراتك القديمة. وإنما كلما ازددت علما، وكلما تعمقت في الروح، قف كل يوم أمام الله وأنت شاعر بجهلك وعجزك وأنت محتاج إليه ليرشدك، كمبتدئ، مهما كنت قديم الأيام. قف أمامه وأنت شاعر بحاجتك الماسة إليه ليحميك من أضعف الشياطين، ومن أبسط الخطايا في نظرك ومن أتفه الزلات أمام عينيك. ليكن لك هذا الشعور. لأني رأيت كثيرين بعد أن قرأوا وكتبوا عن عمق الروحيات يسقطون خطايا المبتدئين.. وأقول لك هذا أيضاً خوفا من أن ثقتك بعلمك الروحي وخبرتك الروحية. تجعلك تعتمد علي ذراعك البشري، {وملعون من يتكل علي ذراع بشر}. واعلم يا أخي الحبيب أن كل علم روحي أو عالمي لا يقودك إلي حياة الانسحاق وإلي الشعور بالجهل، هو علم باطل وخداع للنفس، بل هو ضربة من الشيطان يصرفك بها عن أن تسأل وتطلب وتقرع الباب.. فاشعر يا أخي بجهلك إذ يقول الكتاب: {أن كان أحد يظن أنه حكيم بينكم في هذا الدهر، فليصر جاهلا لكي يصير حكيما} {1كو18:3}. وكما أنه أمام الله يتساوى الحكيم والجاهل في أنهما كليهما جاهلان وأن موت هذا كموت ذاك، ونسمة واحدة تهب علي الاثنين، كذلك أمام الله يتساوى الضعيف والقوي لأنهما كليهما ضعيفان، إذ ليست هناك قوة لأحد في حضرة الله. هل تعتقد يا صديقي أنك قوي؟ إذن فمن أين أتتك القوة؟ إنها ليست من ذاتك طبعاً لأنك تراب ورماد، بل عدم وفناء. وهي ليست من كائن آخر غير الله. لأنه – تبارك اسمه هو وحده القوي، ومنه تستمد كل قوة. فهل قوتك أذن من الله؟ إن كان الأمر كذلك فلماذا تفتخر؟ ولماذا تتصلف؟ ولماذا تستخدم قوة الله في غير أعمال الله؟ أذن فأن افتخر أحد فليفتخر بالرب، لأنه – تعالي في مجده – مصدر كل شيء يدعو إلي الفخار، وان كنت أيها الإنسان الضعيف بطبيعتك قويا بالله، فقل أذن كما قال الطوباوي بولس {فبكل سرور أفتخر بالحري في ضعفاتي لكي تحل علي قوة المسيح. لذلك أسر في الضعفات.. لأني حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي} {2كو9:12،10}. الشخص الذي يعتقد في نفسه أنه قوي لا يستخدمه الله. لأن الله يختار ضعفاء العالم ليخزي بهم الأقوياء، فحاذر من أن تثق بقوة مزعومة لك. لأن الخطية {طرحت كثيرين جرحي، وكل قتلاها أقوياء}. وإنما قل مع داود البار {ارحمني يا رب فإني ضعيف، اشفني يا رب فإن عظامي قد اضطربت، ونفسي قد انزعجت جداً}. تأكد يا أخي من ضعفك، ليس لأني قلت هذا وإنما لأنها الحقيقة الواضحة. الم تسقط اليوم وتخطئ؟ ألم تخطئ أمس وقبلا من أمس؟ لست قويا أذن، بل ضعيفا ومثالا للضعف. وستظل كذلك حتى تعترف بضعفك. وتسرع وتثبت في الآب والآب فيك. نصيحة أخري أهمس بها في أذنك: لا تجلس في خلوتك وتظن أنك أقوي من الناس، وتستعرض المشروعات العظيمة التي يمكنك القيام بها لو أعطيت لك سلطة، أو لو كنت في مكان الآخرين. أنك لست قويا يا أخي بهذا المقدار، وما هذه إلا أحلام اليقظة، أو لعله الغرور. أما أنت فضعيف، وربما لو كنت في مكان أولئك الخطاة الذين تنتقدهم لأخطأت أكثر منهم، ولأظهرت ضعفا أكثر من ضعفهم. إن كنت قد انتصرت في الماضي أو تنتصر الآن، فسبب ذلك هو وجود الله معك، وليس السبب أنك قوي. احتفظ إذن ببقاء الله معك عالما أنه لن يرضي بالبقاء طالما أنت تعبد ذاتك بدلا منه. واحد من أثنين يعمل في الميدان: أما الله وأما أنت.أن كنت تعتقد أن الله هو الذي يعمل، وأنك لا شيء إلي جواره، بل أنك متفرج تنظر إلي أعمال الله في إعجاب، أن كنت تعتقد هذا فحسنا تفعل. أما أن كنت أنت الذي تعمل. وأن لك القوة ما يكفل لك ذلك، فثق أن كل ما تعمله باطل هو، وستفشل فيه. لست أقول هذا عن خدماتك وأعمالك الخارجية، وإنما عن صميم حياتك الروحية أيضاً، إن اعتقدت أنك أنت الذي تجاهد لترث الحياة الأبدية، فسوف تفشل في جهادك. وإن اعتقدت أن خطية ما لم يعد لها سلطان عليك، فقد تسقط فيها ولو بعد حين، ويكون سقوطك عظيما... ولكن الحل الصحيح هو أن تشعر بضعفك، في أرض تنبت شوكا وحسكاً، أن تشعر بضعفك، أمام كل تجربة وكل خطية قائلا مع المرنم: {لولا أن الرب كان معنا ليقل إسرائيل، لولا أن الرب كان معنا حين قام الناس علينا لابتلعونا ونحن أحياء، عند سخط غضبهم علينا} {مز123} وهكذا تصرخ إلي الله، ثم تنظر كيف يحارب عنك وينتصر فتمجد الله وليس نفسك، لأن النصرة كانت من عنده. |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
أنا لا اعرف الطريق ولا اعرف الى أين أذهب |
يا بنى إن أسلمت ذاتك لله أسلمت ذاتك لجميع التجارب |
تقهر ذاتك، وتغلب ذاتك |
لا تعطي ذاتك غماً لكن فرّح ذاتك بالرب |
اعرف حقيقة ذاتك فيكرمك الله |