11 - 03 - 2023, 07:05 PM
|
|
|
† Admin Woman †
|
|
|
|
|
|
الموت والعبور من الألم
فَأَقْصِرْ عَنْهُ لِيَسْتَرِيحَ،
إِلَى أَنْ يُسَرَّ كَالأَجِيرِ بِانْتِهَاءِ يَوْمِهِ [6].
إذ اشتدت به الضيقة التي يحسبها أيوب أنها بسماح من الله، يطلب منه أن يرفع يده عنه ليستريح من شدة ما حلّ به. وكما يقول المرتل: "أقصر عني، فأتبلج قبل أن أذهب فلا أوجد" (مز 39:13).
كأنه يقول لله، إن أفضل أيامي مملوءة تعبًا وشقاءً، فاسمح لي أن أتنفس من الضيق المستمر. فالأجير يتطلع برجاء إلى نهاية يومه ليستريح من التعب. أحسب أيامي كأيام أجيرٍ! ليكن فيها تعب، ولكن تتخللها فترات راحة.
* "فأقصر عنه (إلى حين)، ليستريح إلى أن يُسر كالأجير بانتهاء يومه" [6]. يقصد هنا ب "أقصر عنه" انزع عنه عنف الضربة. لكن من يقدر أن يستريح إن ابتعد عن (الله)، مادام الله وحده هو الراحة؟ وقدر ما يبتعد الإنسان عنه يبتعد عن الراحة؟
قدر ما يكون الأجير بعيدًا عن نهاية عمله، يكون بعيدًا عن مكافأة أجرته. لهذا فكل قديسٍ قائمٍ في هذه الحياة، بينما يرى أنه بعيد عن الرحيل من الحياة الحاضرة يحزن بأنه بعيد عن البركة الأبدية.
البابا غريغوريوس (الكبير)
لأَنَّ لِلشَّجَرَةِ رَجَاءً.
إِنْ قُطِعَتْ تُخْلِفْ أَيْضًا،
وَلاَ تُعْدَمُ أَغْصَانُهَا [7].
يتطلع أيوب إلى حياته على الأرض وهي حياة واحدة متى عبرت لا تعود، بينما الشجرة إن قُطعت وتُرك جذُرها في التربة تنبت أغصانًا صغيرة، كأنها غرست حديثًا. فإن رطوبة الأرض وأمطار السماء تؤثر في جذعها لكي تتنفس وتعيش من جديد، أما الإنسان فمتى دفن في القبر لا يقوم في هذا العالم.
يرى أيوب أن الحياةبالنسبة للأشجار أفضل منها للإنسان، فعندما تسقط شجرة يمكن أن تنبت من جذعها شجرة جديدة. عندما تنبأ إشعياء النبي عن إصلاح حال مدن يهوذا بعد خرابها قدم التشبيه التالي: "ولكن كالبطمة والبلوطة التي وإن قطعت، فلها ساق يكون ساقه زرعا مقدسا" (إش 6: 13). فإن بيت يسى - أي إسرائيل - يقطع، كما تقطع بلوطة (سنديانة) عظيمة. لكن الله برحمته العظيمة يسمح لجذع هذه البلوطة أن تنبت من جديد فتأتي بفرعٍ بهيٍ جديدٍ، هو المسيا المخلص الذي من سبط يهوذا. "يخرج قضيب من جذع يسى، وينبت غصن من أصوله، ويحل عليه روح الرب..."(إش 11: 1).
يقدم لنا البابا غريغوريوس (الكبير) تفسيرًا نبويًا حيث يرى في هذه العبارات نبوة عن موت السيد المسيح وقيامته.
* كان قادرًا أن يموت بآلامه، لكن بمجد قيامته جاء إلى خضرة الحياة مرة أخرى. فروعه التي تنبت هي المؤمنون به الذين يتضاعفون بقيامته فينمون ويتسعون. أصله يبدو كمن قد قدُم في الأرض، إذ أن الكرازة به كانت لغير المؤمنين من اليهود أمر مهين. "جذعه جف في التراب"، حيث الآن قلوب مضطهديه التي أمسك بها روح عدم إيمانهم، فصار كمن هو مُحتقر ومرذول، لأنه كان قادرًا أن يموت بالجسد. ولكن "برائحة المياه نبت" بقوة الله، وجسده بعد موته قام من الأموات. وذلك كما هو مكتوب: "أقامه الله من الأموات" (أع 3: 15)..."وأنبت أوراقًا كغرسٍ جديدٍ"، إذ أن ضعف الرسل، إذ وقت موته خافوا، وبإنكارهم له صاروا جافين، وبمجد قيامته حيّوا من جديد في الإيمان. بالمقارنة بهذه الشجرة، ماذا يكون كل إنسان إلاَّ ترابًا؟
البابا غريغوريوس (الكبير) * إن كان يوجد رجاء للشجرة المنظورة لحياة جديدة حتى بعد قطعها مادام جذرها ثابتًا، كم بالأكثر بالنسبة للشجرة الممنوحة عقلًا؟ فكما يوجد فأس لهذه الشجرة، يوجد أيضًا فأس للشجرة التي بها عقل (لو 3: 9).
وَلَوْ قَدُمَ فِي الأَرْضِ أَصْلُهَا،
وَمَاتَ فِي التُّرَابِ جِذْعُهَا [8].
* ما هو أصل (جذر) الصديق إلاَّ الكرازة المقدسة، إذ هي مصدره، التي يتمسك بها؟ وماذا يعني بالأرض أو التراب إلاَّ الخاطي؟ الذي قيل له بصوت الخالق: "أنت تراب، وإلى ترابٍ تعود". هكذا أصل الصديق "يقدُم في الأرض، وجذعه يموت في التراب"... فبحسب كلمات الحكمة: "في نظر الجهال يبدو أنهم ماتوا، ويكون رحيلهم للبؤس" (حك 3: 2).
أما ذاك الذي أصله يقدم في الأرض وجذعه يموت في التراب، فإنه برائحة الماء ينبت، وذلك خلال إلهام الروح القدس، على مثال سلوكه، ويسبب نبتة الفضيلة في قلوب المختارين. فإن الماء يشير أحيانًا إلى روي الروح القدس، كما كُتب: "إن عطش أحد فليقبل إليَّ ويشرب"، "من يشرب من هذا الماء الذي أعطيه لن يعطش" (راجع يو 7: 37؛ 4: 14).
تبع ذلك: "تُنبِت أوراقًا كغرسٍ جديدٍ". تنبت أوراقًا على أصل الشجرة المقطوعة، إذ يموت الصديق بالجسد، وبمثال آلامه يقيم قلوب الكثيرين، وبإيمانه المستقيم يظهر اخضرار الحق. ولذلك حسنًا قيل: "كغرسٍ جديدٍ". كل ما يفعله الصديق هنا هو غرس ثانٍ، فمن الواضح أن الغرس الأول لا يكمن في ممارسة الصلاح بل في سبق معرفة الخالق. بينما كل ما يفعله المختارون كما لو كان يُرى لأول مرة هو مستقر في داخلهم، وبعد ذلك ينُفذ في الخارج. حسنًا قيل: وتنبت أوراقًا كغرسٍ جديدٍ (أول)، بمعنى أن يظهر الأخضرار بالتنفيذ العملي لما هو كائن قبلًا في سبق معرفة الخالق.
البابا غريغوريوس (الكبير)
فَمِنْ رَائِحَةِ الْمَاءِ تُفْرِخُ،
وَتُنْبِتُ فُرُوعًا كَالْغَرْسِ [9].
إن كانت المياه تهب جذر الشجرة الميتة حياة، فينبت من جديد، ويعود للشجرة حياتها، فإن الروح القدس يهب المؤمن الحياة الجديدة في مياه المعمودية. يقدم لها القيامة، قيامة النفس من موتها، حتى يتمتع الجسم أيضًا بالقيامة في بوم الرب، وتشترك النفس مع الجسم في الحياة الأبدية.
في مياه المعمودية يدخل بنا الروح القدس إلى الدفن مع المسيح والقيامة أيضًا معه، فنخرج من المعمودية أعضاء جسد المسيح القائم من الأموات الذي لا يشيخ ولا يقدم بل ينمو على الدوام بغير انقطاع متمتعًا بالحياة الجديدة. بهذا يتحقق اتحادنا مع السيد المسيح فننعم بالبنوة لله، إذ نصير خلال الابن الوحيد الجنس أبناء معه بالتبني، أي ليس حسب الطبيعة, وإنما خلال النعمة المجانية. هذا ما قصده الرسول بقوله: "لا بأعمالٍ في برّ عملناها نحن، بل بمقتضى رحمتهِ خلَّصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس" (تي 3: 5)، "مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي حسب رحمتهِ الكثيرة ولدنا ثانيةً لرجاءٍ حيٍّ بقيامة يسوع المسيح من بين الأموات لميراثٍ لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحلُّ، محفوظ في السماوات لأجلكم" (1 بط 1: 3-4). هذا ما قصده السيد المسيح نفسه في حديثه مع نيقوديموس: "الحقَّ الحقَّ أقول لك إن كان أحد لا يُولَد من الماءِ والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله" (يو 3: 5). ولم يستطع نيقوديموس معلم إسرائيل أن يفهم، لأنه لم يكن بعد قد أدرك أن يسوع هذا الذي يحدثه إنما يضم المؤمنين به إلى نفسه في المعمودية بالروح القدس، حتى يهبهم حياته المُقامة كعطية الميلاد الروحي الجديد.
* هل كان ممكنًا أن تتحول عصا موسى التقي إلى حيَّة، وغير ممكن أن تحيا أجساد الأتقياء وتقوم ثانيةً؟ وهل عمل هذا خلافًا للطبيعة؟ وهل لا يعودون هم ثانية بحسب الطبيعة؟!
كذلك عصا هرون ولو أنها قُطعت، لكنها أزهرت دون أن تشتم الماء (أي 14: 9). مع أنها كانت تحت سقف أزهرت أزهارًا كما لو كانت في الحقول. مع كونها وُضعت في مواضع جافة، حملت في ليلة زهورًا وثمر النبات الذي يُسقى لسنين عديدة، فهل قامت عصا هرون من الموت، وهرون نفسه لا يقوم؟!
هل يعمل الله معجزات في الخشب ليضمن له الكهنوت، ولا يتعطف بقيامة هرون نفسه؟
* "فمن رائحة الماء تفرخ، وتنبت فروعًا" [9]، وذلك بغسل الميلاد الثاني (تي 3: 5)، ذلك في وقت قيامة الأموات. إذ لنا الرجاء في القيامة، بفضل نعمة المعمودية. بهذا ننال محصولًا كغرسٍ جديدٍ، إذ نُغرس في آدم الجديد (1 كو 15: 45)، ولا نعود نرتبط بآدم القديم. ولكن إن حلت علينا الشيخوخة خلال الكسل، إن كان الموت يلتصق بنا خلال الخطية، فلتكن لنا رائحة الماء، خلال البكاء مثل داود وبطرس وغيرهم (2 صم 12: 21؛ مت 26: 75). لأن رائحة العماد يدعوها البعضبحق دموع الندامة.
* إذ رأى الثالوث غير المنقسم ولا منطوق به منذ الأزل سقوط الطبيعة البشرية، وفي نفس الوقت أوجد الماء من العدم، أعدَّ للإنسان الشفاء المزمع أن يتم في المياه. هذا هو السبب الذي لأجله إذ حُمل الروح القدس على المياه ظهر مقدِسًا لها... وربطها بعملية الولادة (الإنجاب). بهذا يليق بنا أن نقرن الحقيقة معًا، فإنه من المهم أن نعرف أنه في اللحظة التي اعتمد فيها يسوع نزل الروح القدس على أمواج الأردن واستقر عليها.
* انظروا إلى المولدين من الله. هنا الرحم المادي، مياه المعمودية!
* لنا ميلادان: أحدهما أرضي، والآخر سماوي. الأول من الجسد، والثاني من الروح.
الأول صادر عن مبدأ قابل للفناء، والثاني عن مبدأ أبدي.
الأول من رجل وامرأة، والثاني من الله والكنيسة.
الأول يجعلنا أبناء الجسد، والثاني أبناء الروح.
الأول يصيرنا أبناء الموت، والثاني أبناء القيامة.
الأول أبناء الدهر، والثاني أبناء الله.
الأول يجعلنا أبناء اللعنة والغضب، والثاني أبناء البركة والمحبة.
الأول يقيدنا بأغلال الخطيئة الأصلية، والثاني يحلّنا من رباطات كل خطيئة.
أَمَّا الرَّجُلُ فَيَمُوتُ وَيَبْلَى.
الإِنْسَانُ يُسْلِمُ الرُّوح،َ فَأَيْنَ هُوَ! [10]
إذ يموت الإنسان يبلى الجسد ويفنى، إذ يصير كالتراب، وتنطلق الروح ولا تعود بعد إلى الجسد في هذا العالم.
بالرغم مما يبدو من بعض كلمات أيوب في السفر كمن لا يعتقد في القيامة، إلا أنه هنا يدعو الموت رقادا" والقيامة استيقاظ من المضطجع، مما يؤكد إيمانه الحي بالقيامة من الأموات.
* "عندما يموت الإنسان ويُجرد ويفنى أسأل: أين هو؟" [10] لا يوجد إنسان بلا خطية سوى ذاك الذي جاء إلى العالم بلا خطية. وبينما نحن جميعًا مقيدون بالإثم نموت بفقداننا للبرّ.
أُعطي لنا ثوب البراءة سابقًا في الفردوس، وتجردنا منه، وصرنا عراة. هذا العري الذي للابن الضال وهبه الآب أن يتغطى، إذ قال عند عودته: "احضروا له سريعًا الثوب الأول" (راجع لو 15: 22).
فإن الثوب الأول هو ثوب البراءة الذي بحق تسلمه الإنسان عند خلقته، لكنه إذ خُدع بواسطة الحية خسره.
مرة أخرى قيل عن هذا العري: "طوبى لمن يسهر ويحفظ ثيابه لئلا يسير عريانًا" (رؤ 16: 15). فإننا نحفظ ثيابنا عندما نحفظ وصايا البراءة في قلوبنا، حتى إذ قد تجردنا نظهر عراة أمام الديان بالإثم، فبالندامة نتغطى وتعود لنا البراءة التي فقدناها.
حسنًا قيل: "أسأل أين هو؟" حيث لا يقف هناك الخاطي حيث خُلق، بينما وهو هنا حيث سقط يُمنع من أن يقف طويلًا. بإرادته فقد وطنه، وبغير إرادته يُسحب من نفيه، الذي فيه يبتهج. إذن أين هو هذا الذي ليس فيه حب الله، أين حقيقة كيانه؟
البابا غريغوريوس (الكبير) * كان النبي يحزن لبؤس حالنا الواهن، حيث لا يجد الإنسان راحة في حياته، ويفقد كل شيء بمستهل الموت المفاجئ. فقد أعلن له الروح القدس أن الإنسان لا يقوم إلى وقت طويل، حتى يأتي ذاك الذي لا يخيط ما هو قديم مع ما هو جديد، ولا يربط المادة الجديدة بالقديمة (مت 9: 16)، بل يجعل كل شيء جديدًا، وذلك كما قال: "ها أنا أصنع كل شيء جديدًا" (رؤ 21: 5). لأنه هو القيامة (يو 11: 25)، بكر الراقدين (كو 1: 18، رؤ 1: 5). الذي فيه بحق نقبل امتياز القيامة المقبلة. لكن إلى الآن هو وحده قام القيامة الدائمة .
قَدْ تَنْفَدُ الْمِيَاهُ مِنَ الْبَحْرِ،
وَالنَّهْرُ يَنْشَفُ وَيَجِفُّ [11].
* "كما لو أن المياه تنحدر من البحر، والنهر يجف فارغًا" [11]. عقل الإنسان هو بحر، وأفكار ذهنه كما لو كانت أمواج بحر. أحيانًا يُبتلع هذا البحر بالغضب، ويصير بالنعمة هادئًا، ويجري من البغضة إلى المرارة. ولكن عندما يموت الإنسان "ينحدر الماء من البحر"... "وإذ يفرغ النهر يجف". بهذا تنسحب النفس ويبقى الجسم فارغًا. فإن الجسم الذي بلا حياة يكون كمجرى نهرٍ جاف.
البابا غريغوريوس (الكبير)
الإِنْسَانُ يَضْطَجِعُ (يرقد) وَلاَ يَقُومُ.
لاَ يَسْتَيْقِظُونَ حَتَّى لاَ تَبْقَى السَّمَاوَاتُ،
وَلاَ يَنْتَبِهُونَ مِنْ نَوْمِهِمْ [12].
حُذفت كلمة "الموت" من قاموس الكنيسة، فلم تعد تختبره. وليس من بين أعضائها الحقيقيين من هم أموات بل الكل أحياء، لأنها جسد الرب السري الحي، وإذ الرأس حيّ، لذلك فإن الأعضاء حية.
هي كنيسة واحدة حية، جسد لرأس واحد حيّ، لا تعرف التمزيق، بل يرتبط الكل عبر الأجيال في وحدانية تفوق حدود الزمن.
نحن لا نعتقد بكنيستين، كنيسة أحياء وكنيسة أموات، لكنها كنيسة واحدة، كمَّل بعض الأعضاء جهادهم فانتقلوا إلى الفردوس على انتظار أن نكمل نحن العبيد رفاقهم جهادنا فنعبر إليهم، وينال الجميع المكافأة يوم الدينونة.
إننا كنيسة واحدة، بعض أعضائها كملوا جهادهم وغلبوا وانتصروا، والبعض لا يزالوا يجاهدون، والباقون سيأتون في الأجيال المقبلة، والكل كنيسة حيَّة واحدة، بغض النظر عن اللقاء الجسدي في هذا العالم.
بهذه النظرة الإيمانية، لا نتطلع إلى الأموات كأموات بل كمن ناموا ليستيقظوا. هذا بالنسبة لأجسادهم، أما نفوسهم فهي لا تنعس ولا تنام. استراحت نفوسهم من الجهاد والتعب والألم، لكن لم ينفصلوا عنا، لأن رباطنا ليس بالرباط الجسدي. نحبهم ويحبوننا، نطوبهم من أجل جهادهم، وهم يصلون عنا.
* "والإنسان يضطجع ولا يقوم، حتى تزول السماء" (أي 14: 12). هذا يبدو معناه حتى تصير السماء جديدة. إذ "ستكون سماء جديدة وأرض جديدة" (إش 65: 17 LXX). كما هو مكتوب. فإن ما يزول هو قديم، وما هو قديم سيتغير.
أنصتوا إلى المرتل القائل: "في البدء يا رب أوجدت الأرض، والسماوات هي عمل يديك.
هي تبيد وأنت تبقى، وكلها كثوبٍ تبلى، كرداءٍ تغيرهم فتتغير" (مز 12: 25-26). نحن أيضًا قادرون أن ننسج الرداء، لأن ما هو قديم يزول، أما ما هو جديد فيُغتصب "ومن أيام يوحنا المعمدان إلى الآن ملكوت السماوات يغُتصب، والغاصبون يختطفونه" (مت 11: 12).
المجمع (اليهودي) زال بقليلين، والكنيسة تغتصبه بالآلاف، وربما المعنى أيضًا أن السماء الآن تظهر زائلة، إذ تمتزج بالسحاب والضباب وظلمة الليل، وببزوغ نهار بلون أحمر ذهبي يظهر بألوان متنوعة مضاعفة. "ولا يكون ليل هناك، ولا يحتاجون إلى سراج أو نور شمس، لأن الرب الإله ينير عليهم" (رؤ 22: 5)، كما قال يوحنا. أو يقول آخر: "ويل للواتي يخطن وسائد وتُطحن بنفوس الشعب" (حز 13: 18 LXX).
* "الإنسان الذي يرقد (في الموت) لا يقيم نفسه. مادامت السماوات قائمة لا تلتئم (أعضاؤه) معًا، ولا يقوم من نومه".
بدعوة الموت رقادًا يقدم لنا أيوب بوضوح الرجاء في القيامة. يقول إننا لا نقيم أنفسنا مادامت السماوات (المنظورة)، قائمة. هذه شهادة أن "السماء ستنطوي كدرجٍ" كما يقول إشعياء "وكل قوات السماوات ستنحل، والقمر سيظلم، والنجوم تتساقط، تسقط كورقة الشجر" (إش 34: 34؛ مت 24: 29). عندئذ عندما يُضرب البوق (مت 24: 30-31؛ 1 كو 15: 25؛ 1 تس 4: 16) تقيمنا الملائكة من الموت كما من الرقاد، بطريقة واضحة بناء على أمر الله وإشارته. فإنكم تجدون كلمات الرب هذه موضوعة في الوقت الذي فيه يتحدث مع تلاميذه عن مجيئه... وإذ يعلن عن ظهور علامة صليبه عند مجيئه أضاف: "سيرسل ملائكته بصوت بوق عظيم"...
أما بالنسبة لنا ليتنا نصغي باهتمام إلى القول: "نلتئم معًا". إنه يعلن كيف عندما تزول السماوات (مت 24: 35) تكون لنا نحن القيامة. إذن سيكون لقيامة الأعضاء موضع، هذه التي الآن منفصلة ومبعثرة في الأرض، وقد عادت إلى الطين. عندئذ تستعيد النسمة بأمر الله (حز 37: 10)، "وتلتئم معًا". فإنه لا يصنع لنا الخالق جسدًا آخر، بل من كل الجوانب هو ذات الجسد الفعلي. على أي الأحوال، سوف لا يكون بذات الطابع، بل يقوم في عدم فساد وعدم موت. إنه يقيمه، وكما يقول بولس: "هذا الفاسد يلبس عدم فساد، وهذا المائت يلبس عدم الموت" (1 كو 15: 53).
إذ يفكر أيوب في هذا ويتأمل في مجد المستقبل والحياة الأبدية، كما في انحطاط الحياة الحاضرة، يتمسك بفكرة التحول من هذه الحياة السريعة الزوال، وفي الرجاء في الحياة العتيدة، نسمعه يقول: "آه! إن كان أحد يحفظني من جهنم!"
* "هكذا يرقد الإنسان ولا يقوم". يبدو هذا صعب جدًا، لماذا نتعب ونجاهد، إن كنا لا نجد بعد مكافأة القيامة؟
كيف يُقال: "لا يقوم"، مع أنه مكتوب: "كلنا سنقوم، لكن ليس كلنا نتغير". وأيضًا: "إن كان لنا في هذه الحياة فقط رجاء في المسيح، فنحن أشقى جميع الناس". ويقول الحق نفسه: "كل الذين في القبور يسمعون صوته ويقومون، ويذهب الذين صنعوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين صنعوا السيئات إلى قيامة الدينونة" (1 كو 15: 51، 19؛ يو 5: 28، 29). لكن العبارة السابقة إذ تضيف: "إلى أن تزول السماوات لا يستيقظون، ولا يقومون من نومهم". فمن الواضح أنهم سوف لا يقومون إلى أن لا تعود توجد السماوات، فإن لم تأتِ نهاية العالم لا يستيقظ الجنس البشري إلى الحياة من نوم الموت...
علاوة على هذا فنلاحظ لماذا بعدما دعا الإنسان ميتًا قبلًا، أشار إليه بعد ذلك أنه ليس بميتٍ بل هو نائم، وأنه لن يقوم مرة أخرى من نومه حتى تتفتت السماوات، التي لا تعني سوى أن نفهم بوضوح أنه بالتشبه بالشجرة التي تنتعش من جديد للحياة، يشير إلى الإنسان كخاطي ميت، أي ليس فيه حياة البرّ. ولكن عندما يتحدث عن موت الجسد يفضل أن يدعوه هذا ليس موتًا بل رقادًا. بالتأكيد يعلمنا الرجاء في القيامة، حيث يقوم الإنسان بسرعة من النوم، سيقوم في لحظة بإيماءة من خالقه، يقوم من موت الجسم.
فإن كلمة "الموت" ترعب أصحاب العقول الضعيفة، أما لقب "النوم" فغير مخيف. لذلك إذ يوصي بولس تلاميذه يقول: "أريد أن لا تجهلوا أيها الإخوة بخصوص الراقدين، ألاَّ تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم. فإننا إن كنا نؤمن أن يسوع مات وقام، فإنه هكذا الذين رقدوا في يسوع سيحضرهم الله معه ثانية (1 تس 4: 13-14).
البابا غريغوريوس (الكبير)
لَيْتَكَ تُوارِينِي فِي الْهَاوِيَةِ،
وَتُخْفِينِي إِلَى أَنْ يَنْصَرِفَ غَضَبُكَ،
وَتُعَيِّنُ لِي أَجَلًا، فَتَذْكُرَنِي [13].
يشتاق أيوب إلى القبر كمكان يختبئ فيه مؤقتا من غضب الله. هنا يختلف هدفه عما كان لديه سابقا حين كان يطلب الموت والقبر (7: 9-10: 18-21).إنه ينسب ما يحل به إلى غضب الله، لأنه تعلم ان البار يكون دوما مطوبًا ولا تحل به المصائب كالأشرار.
في وسط آلامه المرة يشتهي الموت، عالمًا أنه سينحدر إلى الهاوية، لكن إلى حين مترقبًا عمل الخلاص الإلهي، فينصرف الغضب ويتمتع بالقيامة المجيدة.
إن كان أيوب يئن من ضعف الحياة البشرية على الأرض بكونها أضعف من حياة شجرة، لكنه وسط آلامه يشتهي أن يختبئ في القبر ليستريح من الألم ولا يعود إليه بعد. يدرك أيوب أن الموت هو اختباء في القبر الذي مفاتيحه في يد الله، يفتح ليدخل أولاده، ثم يعود فيخرجهم في يومه العظيم.
إذ يتطلع أيوب إلى أجساد المؤمنين في القبر يرى أنه لا يزال توجد أثار للغضب، حتى متى قام الجسد وتمتع بالمجد ينتهي كل أثر للغضب تمامًا، بهذا يُباد سلطان الموت.
تدخل الأجساد في القبور إلى تعيين أجل الخروج إلى الحياة الجديدة الأبدية، كما دخل نوح وعائلته في الفلك، وأغلق الله عليه، لا ليحفظهم من الدمار فحسب، وإنما ليدخل بهم إلى العالم الجديد، وكأن أيام القبر أفضل من الأيام الحالية.
يرى القديس أمبروسيوس في هذه العبارة (أي 14: 13-17) أن الله تحدث في أيوب وعرف بالروح القدس أن ابن الله ليس فقط يأتي على الأرض، وإنما ينزل إلى الهاوية ليقيم الأموات، وأن ما حدث فعلًا فيٍ أيامه كان شهادة للأمور الحاضرة ونموذج للأمور المقبلة.
* يا لها من عبارة رائعة تقوينا من جهة القيامة!
كيف تبدو هذه العبارة في توافق مع كلمات الرب التي نقرأها في الإنجيل! إنه يقول: "حينئذ يبتدئون يقولون للجبال أسقطي علينا، وللآكام غطينا" (لو 23: 30). لأن غضب الرب سيظهر في نهاية العالم. لهذا فضل أيوب البار أن يقوم في الدينونة، وليس في وقت غضب الرب الذي يكون مرعبًا حتى بالنسبة للبار.
"وتعين لي زمنًا، فتذكرني" (أي 14: 13). يُفهم أيوب أنه يتنبأ أنه سيقوم في وقت آلام الرب كما هو واضح مما جاء في نهاية السفر (أي 42: 17LXX ) حيث جاءت الترجمة السبعينية "مكتوب أنه سيقوم مع أولئك الذين يقيمهم الرب". ومع هذا فهو لا يكف عن أن ينتحب، وكلما أدرك أن القيامة تنتظره كلما عظمت اشتياقاته أن يهرب من هذه الحياة. إذ يرى نفسه يُسلم في أيدي خصومه، وأنه يسقط تحت سلطان الشرير.
* "يا من تدافع عني في الجحيم" [13]. قبل مجيء الوسيط بين الله والناس، كل شخص حتى وإن كانت حياته طاهرة ومُزكاة، فإنه دون شك نزل إلى سجن الجحيم. الإنسان الذي سقط بعمله، صار عاجزًا بعمله أن يعود إلى راحة الفردوس. فقد سُجل أن سيفًا ملتهبًا وُضع عند مدخل الفردوس بعد خطية الإنسان الأول، والذي دُعي "المتحرك"، حتى يأتي اليوم الذي فيه يتحرك...
"حتى تحفظني مخفيًا إلى أن يعبر سخطك تمامًا". فإن سخط الله القدير ينجز قوة كل يوم، فيُبتلع الذين يعيشون بطريقة جائرة بعقوبات لائقة...
في هذا الأمر يلزم أن نعرف أن تعبير "سخط" لا يليق بالكائن الإلهي، حيث لا يوجد في طبيعة الله البسيطة قلق. فقد قيل له: "لكن أنت، يا ضابط السلطة تحكم في هدوء وتأمرنا باهتمامٍ عظيمٍ زائدٍ" (حك 12: 18). ولكن لأن نفوس الصديقين تحررت يومًا ما بمجيء الوسيط من مواضع الجحيم، وليست مواضع عقوبة، لذلك فالصديق سبق فرأى وطلب قائلًا: "حدد لي زمنًا، متى تأتي وتذكرني".
هكذا ليت الطوباوي أيوب، إذ يعرف هذا المجيء لمخلصنا إلى الجحيم يطلب ما قد سبق فرآه يحدث في المستقبل. ليقل: "وأنت فلتحدد لي زمنًا فيه تذكرني"، يكمل: "هل تظن أن الإنسان الميت يحيا ثانية؟" [14]
حين كان ربنا قريبًا من آلامه نطق بصوت الضعفاء، قائلًا: "يا أبتاه، إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس" (مت 26: 39). ولكي يزيل خوفهم أخذ (الخوف) فيه (نيابة عنهم).
مرة أخرى أظهر بالطاعة القوة بقوله: "لكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك". هكذا يكون الأمر عندما يهددنا... يلزمنا في الضعف أن نصلي ألاَّ يكون (ما نخشاه)، لكننا مستعدون أن تتم إرادة خالقنا، حتى وإن كانت ضد إرادتنا.
على هذا المثال يليق أحيانًا أن يتبنى الأقوياء كلمات الضعف، حتى بكرازتهم القوية يمكن لقلوب الضعفاء أن تزداد قوة. هكذا عندما نطق الطوباوي أيوب كلمات كمن هو في شكٍ، قائلًا: "هل تظن أن إنسانًا ميتًا يقوم ثانية؟" للتو أضاف عبارة تؤكد يقين إيمانه حيث يقول: "كل الأيام التي فيها الآن أنا أناضل، انتظر حتى يحل تغيري" [14].
البابا غريغوريوس (الكبير) * [في رسالةٍ يعث بها القديس إلى أرملة شابة، رجلها كان واليًا، جاء فيها:] فإن هذا الموت ليس بموت، إنما هو نوع من الهجرة والانتقال من سيئ إلى أحسن، من الأرض إلى السماء، من وسط البشر إلى الملائكة ورؤساء الملائكة، بل ومع الله الذي هو رب الملائكة ورؤساء الملائكة...
فبقدر ما تحزنين لأن الله أخذ إنسانًا هكذا كان صالحًا ومكرمًا كان يجب أن تفرحي أنه رحل إلى مكان أكثر أمانًا وكرامة، متخلصًا من مضايقات الحياة الحاضرة الخطيرة، إذ هو الآن في أمان وهدوء عظيم.
إن كان لا حاجة لنا أن نعرف أن السماء أفضل من الأرض بكثير، فكيف نندب الذين رحلوا من هذا العالم إلى العالم الآخر؟!
لو كان زوجك سالكًا مثل أولئك الذين يعيشون في حياة مخجلة لا ترضي الله، كان بالأولى لك أن تنوحي وتبكي، ليس فقط عند انتقاله، بل حتى أثناء وجوده حيًا هنا. لكن بقدر ما هو من أصدقاء الله، يلزمنا أن نسر به، ليس وهو حيّ هنا، بل وعندما يرقد مستريحًا أيضًا.
وإذ يلزمنا أن نفعل هذا، استمعي ما يقوله الرسول الطوباوي: "لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح ذاك أفضل جدًا" (في 23:1).
القديس يوحنا الذهبي الفم
إِنْ مَاتَ رَجُلٌ، أَفَيَحْيَا؟
كُلَّ أَيَّامِ جِهَادِي أَصْبِرُ،
إِلَى أَنْ يَأْتِيَ بَدَلِي [14].
ليست مسرة الله في موت الإنسان، بل أن يرجع إليه فيحيا. هذا ما يدفع أيوب لاحتمال كل أيام جهاده، حتى تتبدل أيامه الحاضرة بالحياة الأبدية الجديدة.
كان أصحاب أيوب وهم معزون متعبون، يقدمون له الرجاء في الدعوة إلى ما كان عليه إن اعترف بريائه وشره المخفي، وقدم توبة صادقة، ورجع إلى الله. أما أيوب فكان يتعزى بذلك فإنه حسب نفسه كميتٍ، لا يعود إلى الحياة على الأرض من جديد، قائلًا: "إن مات رجل، أفيحيا؟" لكن هذا لا يدفعه إلى التراخي، ولا إلى اليأس، إنما يقول: "كل أيام جهادي أصبر إلى أن يأتي بدلي". أي بديل ينتظره أيوب؟ هذا الذي قال عنه الرسول بولس: "سيتغير شكل جسد تواضعنا" (في 3: 21). هذا هو البديل، عوض العظام اليابسة الملقاة في بقعة تصير حياته جيشًا عظيمًا جدًا جدًا (حز 37: 10). هكذا تصير النفس بكل طاقاتها والجسد بكل قدراته جيشًا للرب مجيدًا وعظيمًا، حيث يشارك السيد المسيح مجده. بهذا يترنم المرتل: "وجسدي أيضًا يسكن مطمئنًا" (مز 16: 9). هذا هو الإبدال المفرح حيث يلبس الفاسد عدم الفساد، والمائت عدم الموت.
جاء سؤال أيوب: " إن مات رجل، أفيحيا؟" جاء الرد بالإيجاب بواسطة رب المجد يسوع وما ورد في أسفار العهد الجديد (يو 11: 23-26؛1 كو 15: 3-57).
* "إن كان الإنسان حتمًا يموت، هل سيقوم، وقد أتم أيام حياته...؟ إني أنتظر حتى أوجد ثانية" (أي 14: 14). إنه يدعو القيامة وجودًا جديدًا... لقد عرف أيوب الساحة لا بكلمات مديح صادرة عن اللسان، وإنما بالأعمال. كلمات المديح هي أمراضه وقروحه ونياته. كان عاريًا تمامًا، وكان أكثر بهاءً ممن يرتدي ثيابًا موشاة بالذهب. فإن سريره الذي كان يرقد عليه هو كوم مزبلة، لكنه كان أكثر تألقًا من الذين يجدون مسرتهم في الذهب والحجارة الكريمة. فإن الله يتحدث معه شخصيًا، والملائكة بجانبه، وكل الخليقة تعلن مجد المصارع، هذا الذي دون أن يمد يديه، يسقط العدو.
* "لأن الموت الذي ماته قد ماته للخطية مرة واحدة" (رو 10:6).
مات لا لأنه مائت بطبعه، لكنه مات بالجسد ليضع نهاية للخطية. وهو حيّ في حياته التي لا تزول كإله.
* لأنه محب البشر فقد رحب بالموت الذي بدونه لهلك العالم في خطاياه.
* دُفن وحده ولكنه أقام الجميع، نزل وحده ليرفعنا جميعًا، حمل خطايا العالم كله وحده ليطهر الكل في شخصه، وكما يقول الرسول:
"نقوا أيديكم إذن وتطهروا" (يع8:4)، فالمسيح غير محتاج للتطهير تطهر لأجلنا.
* كن مصلوبًا مع المسيح، مماتًا معه، كن مدفونًا معه، لكي تقوم معه، وتمجد معه، وتملك معه.
القديس غريغوريوس الثيؤلوغوس
تَدْعُو، فَأَنَا أُجِيبُك.
تَشْتَاقُ إِلَى عَمَلِ يَدِكَ [15].
الله في عدله يرفض المعصية، ولا يقبل الإثم (17:14)، لكنه إذ يدبر الخلاص يشتاق إلى الإنسان عمل يديه.
في وسط الشدة يصرخ أيوب إلى الله، وكأن الله لا يسمع له، أما إذ يحين وقت القيامة، فالله يدعوه أن يقوم فيستجيب أيوب، يلتقي مع الله الذي يشتهي إلى عمل يديه، حيث يحمل أيوب انعكاس بهاء مجد الله عليه.
* "تسألني، فأجيبك" [15]... مادمنا نخضع للفساد لا نجيب خالقنا بأية وسيلة، متطلعين إلى أن الفساد بعيد عن عدم الفساد، وليس من تشابه يليق بإجابتنا. أما عن هذا التغير فقد كُتب: "عندما يظهر نصير مثله، لأننا سنراه كما هو" (1 يو 3: 2). بالحقيقة سنجيب الله، الذي يدعو، لدى الأمر "بعدم الفساد الأسمى"، نقوم في عدم فسادٍ. ولأن المخلوق لا يقدر أن يتأهل لذلك بنفسه، إنما يتحقق هذا بعطية الله القدير وحده، وهو أن يتغير إلى مجد عدم الفساد الفائق، لذلك بحق أضاف: "ستبسط يمينك لعمل يديك". وكأنه يقول بكلماتٍ واضحة: لهذا السبب مخلوقك القابل للفساد قادر أن يُمسك في عدم الفساد، لأنه يرتفع بأيدي سلطانك، ويُحفظ بنعمة اهتمامك. فإن المخلوق البشري، بهذا وحده، بكونه مخلوقًا، يرث في ذاته الانهيار إلى أسفل مما هو عليه، لكن الإنسان ينال من خالقه أن يلتزم بأن يرتفع إلى ما هو أعلى منه وذلك بالتأمل، ويمسك في نفسه عدم الفساد. إنه يرتفع إلى الرسوخ في عدم التغير وذلك بيمين خالقه.
من يقدر أن يقدِّر سخاء الرحمة الإلهية، أن يحضر الإنسان بعد الخطية إلى علو مجدٍ كهذا؟ الله يضع في اعتباره الأمور الشريرة التي نفعلها، ولكن برأفته يغفرها في رحمة. وهكذا أضيف: "الآن تحصي خطواتي، وتصفح عن خطاياي" [16].
البابا غريغوريوس (الكبير)
|