أيامه كأيام الأجير مملوءة شقاءً
أَلَيْسَتْ حَيَاةُ الإِنْسَانِ جِهَادًا عَلَى الأَرْض،
وَكَأَيَّامِ الأَجِيرِ أَيَّامُهُ؟ [1]
يلتمس أيوب لنفسه العذر حتى في تطرفه في شهوة الموت، مدعمًا رأيه بأن حياة الإنسان كلها تعب، فهو "قليل الأيام وشعبان تعبًا" (أي 14: 1). كل إنسانٍ يدرك أن أيامه قليلة، له ما يبرره في اشتهاء الموت عن قريب، لهذا يدهش كيف يعتبرونه قد ارتكب جريمة شنيعة عندما اشتهى ذلك.
بقوله "على الأرض" هذه التي أعطاها الله لبني البشر (مز 115: 16)، ينم عن وضاعة الإنسان، فإن مكان إقامته لا يزال أسفل على الأرض، وليس بين الطغمات السماوية. حقًا لا يسكن كعدو الخير في جهنم، إنما إلى حين على الأرض. نعيش مؤقتًا هنا لا يحكمنا القدر الذي للرواقيين، ولا الحظ الأعمى للأبيقوريين، إنما مشورة الله وخطته الإلهية السمائية العالية.
أما عن حالة الإنسان هنا فهي "جهاد، كأيام الأجير" في حالة جهادٍ مستمرٍ، كجنودٍ في معركة لا تتوقف. أعداؤنا لا يكفون عن المقاومة، ولا ينامون الليل. بالموت تُحسم المعركة، إما لكي نكلل أبديًا أو نصير في خزي وخجلٍ.
أيامنا كأيام الأجير نعمل طوال النهار لنقدم حسابًا في نهايته. كأجير يود أن ينتهي اليوم سريعًا حتى يستريح من الإجهاد في العمل المستمر. يرحب الأجير بعبور النهار وحلول الليل للراحة، كما يفرح الحارس بعبور الليل بنور الصباح (مز 130: 6). يشتاق الأجير إلى نهاية اليوم، لأن "نوم المشتغل حلو" (جا 5: 12).
* أليست حياة الإنسان على الأرض بمثابة جهاد، وحياته كأيام الأجير؟ كالعبد الذي يكمن في الظل خوفًا من سيده، أو كالأجير الذي يترجى أجرته؟ هكذا أيضًا أنتظر شهورًا فارغة وليالي شقاء قُسِمت لي. إذا اضطجعت أقول متى يطلع النهار؟ وإن قُمت أقول ثانية، متى يحل المساء؟ إني مملوء ألمًا من الليل حتى مطلع الصباح. جسدي أنتن بتلوث الدود، وبلّلت كتل الأرض بحك قروحي التي تخرج إفرازات قيح! أيامي أتفه من كلام فارغ، وتنتهي بغير رجاء. أقول: "سيُعزّيني فراشي"، لكنك تروعني في الأحلام، وتُخيفني في الرؤى" (أي 1:7-6، 13، 14 LXX) .
* ما أتعس حال الإنسان! كالأجير، يتعب ويكد لأجل الآخرين وهو نفسه في عوزٍ! ولا يقوى على مساندة نفسه، إلا بواسطة تعاطف الآخرين! كل يوم يتكبد عبودية مُرّة تحت قهر الخوف والفزع. ولئلا يمسك به سيده، يظن أنه يستطيع أن يختبئ منه في ظل هذا العالم؛ الظل الجائل الهائم الهارب! فكِّر في ذاك الذي يتحدث عنه سيراخ في سفر الحكمة Ecclesiascticus "كل إنسان يخطئ على فراشه مستهينًا وقائلًا في نفسه: "من يراني؟ فالظلمة حولي، والحيطان تخفيني؛ ممن أخاف؟" (سيراخ 18:23). ألا تظنوا أن ذلك الإنسان أجير مسرف...؟، مثل الشاب الذي ورد في الإنجيل الذي نقرأ عنه أنه تسلم من أبيه نصيب الميراث، وعندما صار في عوزٍ وفي حاجة، بدأ يرعى قطعان الآخرين كوسيلةٍ لإشباع جوعه وسداد نفقاته بما يتقاضاه (لو 11:15-16)، لكنه على الأقل قد اهتدى في النهاية وتاب، لأنه عاد إلى أبيه، ولم يكتم خطاياه بل كشف عنها.
لكن الإنسان الذي يظن أن الله لا يراه، ذاك الذي يرى كل شيء، وأن آثامه يمكن أن يخفيها الظلام، إنما يعيش في الظل، لكنه عبثًا يظن أنه يهرب من المراقبة، حيث عين الرب، الأبهى من الشمس، تكشف عن كل الأسرار والخفايا، وتنير كل ظلمة، وتدخل إلى معرفة عمق القلب، وتخترق إلى العلو والأعماق (يو 19:3-20؛ سيراخ 19:23(28)). ولهذا فالإنسان الذي يظن أنه في حماية الظلام، ظنه باطل؛ لأنه لا يقوى على الهروب من النور الذي ينير في الظلمة، والظلمة لم تمسك به (يو 5:1).
من ثمة يُكتشف كهاربٍ وأجيرٍ شريرٍ، ويتم التعرف عليه قبل أن يُخفي نفسه! لأن كل الأشياء معروفة للرب، قبل أن يفحصها، لا بالنسبة للأحداث الماضية فقط، بل والمستقبلة أيضًا.
* من يظن أنه يخفي جُرمه، إنما يُفقد في رجاءٍ فارغٍ، لأن ذلك مجرد حديث واهٍ وليس الحق. حقًا "حديث الخطاة الفارغ مكروه" (سيراخ 13:27(14))، لا يعطي ثمرًا، بل بكاءً فقط! لأن "حديث الأحمق مثل حِمْلٍ في الرحلة" (سيراخ 16:21 (19))، وما الخطية إلا ثقلٍ؟ إنها ثقلٌ على كاهل عابر السبيل في هذا العالم، حتى أنه يتثقل بحملٍ ثقيلٍ من الجُرم! فإن كان راغبًا في عدم الخضوع لحمل الثقل، عليه أن يلتفت إلى الرب الذي قال: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين وثقيلي الأحمال، وأنا أريحكم" (مت 28:11) .
القديس أمبروسيوس
* الله في قديسيه عندما يُجربون، والقداسة تتبع التجربة. يستحيل على أيٌ شخص، حتى وإن كان قديسًا أن يجتاز هذا العالم بدون تجربة. وكما يقول أيوب: "حياة الإنسان على الأرض نضال (جهاد)" (أي 7: 1) .
* نقرأ في سفر أيوب كيف أنه بينما كان رسول الشر الأول يتحدث جاء أيضًا آخر (1: 16). وفي نفس السفر كتب: "ألا توجد هنا تجربة" وبحسب النص العبري الأفضل: "توجد حرب ضد الإنسان على الأرض". إننا نجاهد في هذه الحياة لكي ما نكلل في الحياة العتيدة، ولهذا الهدف نخاطر بحياتنا؛ في معركة هذا العالم (مت 4: 1 إلخ). يشهد الكتاب المقدس عن إبراهيم أن الله جربه (تك 22: 1 إلخ). ولهذا السبب أيضًا يقول الرسول: "نفتخر في الضيقات... عالمين أن الضيق ينشئ صبرًا، وفي الصبر رجاء، والآن الرجاء لا يخزي" (راجع رو 5: 3-5). وفي موضعٍ آخر: "من سيفصلنا عن محبة المسيح؟ أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف؟ كما هو مكتوب: إننا من أجلك نُمات كل النهار، قد حُسبنا مثل غنم للذبح" (رو 8: 35- 36). يعزي إشعياء النبي مثل هؤلاء بالكلمات: "أنتم المفطومون عن اللبن، المفصولون عن الثدي، انظروا تجربة فوق تجربة بل، وأيضا رجاء فوق رجاء (إش 28: 9- 10 LXX) فكما عبر الرسول: "آلام الزمان الحاضر لا تُقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن فينا" (رو 8: 18).
القديس جيروم
* عندما تهرب من مصر تأتي إلى مصاعد علوية جدًا للعمل والإيمان. تواجه برجًا وبحرًا وأمواجًا. طريق الحياة لا نسلكه دون أمواج التجارب. يقول الرسول: "جميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يُضطهدون" (2 تي 3: 12). أيوب أيضًا لم يعلن بأقل من هذا: "حياتنا على الأرض تجربة" (أي 7: 1).
* أيوب بدوره ردد قول أليفاز: لكن الإنسان مولود للمشقة (5: 7). ماذا يعني هذا بالنسبة لأيوب؟ لقد جاء إلى النتيجة النهائية بأن هذا ليس هو الظلم الوحيد، بل هو نابع عن طبيعة الإنسان نفسها التي تثير هذه التجارب، كما أن الله يقرر أن حياة الإنسان يجب أن تكون مؤلمة. لكن أيوب أضاف"على الأرض"، إذ لا تكون بعد هكذا "في السماء".
* ما هذه الحياة إلا ملء من الشباك؟
نحن نسلك بين شباك (ابن سيراخ 9: 13)؛ إننا نعيش بين تجارب عديدة. "ما هي حياة الإنسان على الأرض إلا حالة من التجربة" (أي 7: 1 LXX).
حسنًا أضاف "على الأرض"، لأنه يوجد من هو حياته في السماء.
حياته "على الأرض" أجرة أجير، كلها تعبِ وشدةِ، أوهى من القصص الباطلة (أي 7: 1-2، 6LXX )، تسبح في كلمات وتفيض بكلمات.
سكناها في مساكن من طين، والحياة ذاتها وحل. ليس من ثبات للفكر ولا جَلَده. في النهار يتوق الإنسان إلى الليل، وفي الليل يبحث عن النهار (راجع أي 7: 4).
* الشرور التي تحل عليكم ستعبر، وذاك الذي تنتظرونه بصبرٍ سيأتي. أنه سيمسح عرق التعب. أنه سيجفف كل دمعة، ولا يكون بكاء بعد. هنا أسفل يلزمنا أن نئن وسط التجارب، إذ يتساءل أيوب: "ما هي حياة الإنسان على الأرض سوى محنة؟" (أي 7: 1).
* أحزاني الشريرة تناضل مع أفراحي الصالحة، وفي أي جانب تتحقق النصرة؟ لست أعرف.
الويل لي! تراءف يا رب عليٌ!
الويل لي! هوذا لم أخفِ جراحاتي!
أنت الطبيب، وأنا مريض.
أنت رحوم وأنا بائس. أليست حياة الإنسان على الأرض تجربة؟
من يرغب في مصادر الإغاظة والمصاعب؟ إنك تأمر بأن نحتمل المتاعب، لا أن نحبها.
لقد أمرت أن نحتمل لا أن نحبها. فإنه ليس من إنسانٍ يحب ما يحتمله، وإن كان يجب أن يحتمل.
* لا تظنوا أنكم بلا خطية مادمتم في هذه الحياة، إذ نقرأ عن هذا في الكتاب المقدس "أليست حياة الإنسان على الأرض تجربة؟" لهذا مادمنا في هذا الجسد حتما يلزمكم أن تقولوا في الصلاة كما علمنا الرب: "أغفر لنا معاصينا، كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا". تذكروا أن تغفروا سريعًا. ان أخطأ إليكم أحد وسأل الغفران، حتى يمكنكم أن تصلوا بإخلاص وتفوزوا بغفران خطاياكم.
* "الحياة البشرية على الأرض تجربة" (أي 1:7 LXX)، ليس أحد قط في آمان تام، ولا يلزمه أن يكون هكذا حتى يأتي إلى تلك المدينة، حيث لا يخرج منها صديق ما، ولا يلتحق بها عدو ما. الآن ونحن في ذات مجد الكنيسة نتعرف على أصوات تجاربنا، وكأعضاء المسيح نخضع لرأسنا في رباط الحب، ونسند بعضنا البعض بروحٍ مشتركٍ، ونقول من المزامير ما نجده فيها عن الشهداء الذين سبقونا قائلين إن التجارب عامة على كل البشر من البداية حتى النهاية.
* قدر ما يحب (الشخص) وطنه السماوي تصير رحلته الأرضية هي في ذاتها تجربة عظمى... في هذه التجربة، أي في هذه الحياة، من يثبت فوقها يطلب الله.
* أنتن بالفعل تعشن في عفة وقداسة ونقاوة وبتولية، ومع هذا ما هي حياتكن هنا؟ أما تتواضعن عند سماعكن: "ما هي الحياة البشرية على الأرض إلا تجربة" (أي 7: 1 LXX)؟
ألا يسحبكن من الاعتداد بالذات في زهوٍ القول: "الويل للعالم من العثرات" (مت 18: 7)؟
أما ترتعبن لئلا تُحسبن بين الكثيرين الذين تبرد محبتهم بسبب الإثم (مت 24: 12)؟
أما تقرعن صدوركن عند سماعكن: "من يظن أنه قائم فلينظر أن لا يسقط" (1 كو 10: 12)؟
وسط هذه الإنذارات الإلهية والمخاطر البشرية، هل نجد الأمر صعبًا أن نحث العذارى القديسات على التواضع؟
* لا يليق بإنسانٍ ما أن يشعر بالضمان في هذه الحياة، التي في كليتها تُدعى تجربة (أي 1:7). فإن ذاك الذي استطاع أن يبلغ إلى حالٍ أفضل مما كان عليه من السوء، ليته لا يتحول مما هو أفضل إلى ما هو أسوأ. رجاؤنا الوحيد، وثقتنا الوحيدة ووعدنا الأكيد الوحيد هو مراحمك .
* إني أقول: آه! يا ليت لي جناحين مثل حمامة، فأطير بعيدًا وأكون في راحة!
إذن لأتجول بعيدًا وأبقى في البرية.
بل وحتى في البرية ربما سأمارس ذات الخبرة، إذ قيل: "انتظرت ذاك الذي يخلصني من الضعف ومن العاصفة" (مز 5:558 LXX).
حقًا، حياة الإنسان على الأرض هي حياة تجربة .
* ليس أحد يتأكد من الحياة الأبدية هذه التي يعد بها الله غير الكاذب أبناء الوعد قبل أزمنة الأبدية. ليس أحد يتأكد ما لم يكمل حياته التي هي حالة من التجربة على الأرض (أي 7: 1). فإن الله يحثنا على المثابرة فيها حتى نهاية هذه الحياة، إذ نقول له كل يوم: "لا تدخلنا في تجربة" (مت 6: 13).
* لا يوجد إنسان يمكن أن يقول عنه البشر بتأكيدٍ كاملٍ أنه بار حتى يرحل من هذا العالم. فإنه في حياته التي هي تجربة على الأرض يلزم لمن كان قائمًا أن يحذر ألا يسقط (1 كو 10: 12).
* هناك سنكون مثله، نراه كما هو (1 يو 3: 1). أما الآن، مادام الجسد الفاسد يضغط على النفس (حك 9: 15)، والحياة البشرية على الأرض كلها تجربة (أي 7: 1)، فإن في نظره ليس من إنسان حي يتبرر (مز 143: 2).
* لقد ظهر بما فيه الكفاية أنه في هذه الحياة، التي هي بكليتها تجربة، يليق ألا يفتخر أحد كما لو كان قد تحرر من كل الخطايا.
* من سوى المتكبر، يظن أنه قادر أن يعيش هكذا دون حاجة أن يقول لله: "اغفر لنا ما علينا"؟ مثل هذا الشخص ليس بالإنسان العظيم، بل المنتفخ بالباطل، ومقاوم لله الذي يعطي بفيض نعمة للمتواضعين (يع 4: 6، 1 بط 5: 5).
* "أليست أيامه مثل أيام أجير؟"... هكذا أيام الإنسان إذ تتشرب بمعرفة الحق والأبديات تقارن بأيام الأجير، إذ يحسب الحياة الحاضرة طريقه وليست مدينته، هي نضال وليست سعف النصرة. إذ يرى أنه بعيد عن مكافأته، ينسحب بالأكثر ببطء ليقترب من غايته...
الآن قيل بصوت المخلص: "مملكتي ليست من هذا العالم" (يو 18: 36). إذن كلنا نحن الذين وهبنا الرجاء في السماء نرتدي متاعب الحياة الحاضرة، وننشغل بالاهتمام بالغير. إذ غالبًا ما يحدث أننا حتى إن أُكرهنا على خدمة أبناء الهلاك نلزم أنفسنا أن نرد للعالم ما هو له، ونهتم بما للغير لننال المكافأة التي لنا. هكذا ننشغل بأمور الآخرين بأمانة حتى نبلغ إلى مكافأتنا. على عكس هذا يقول الحق للبعض: "إن كنتم لستم أمناء فيما هو للغير، فمن يأتمنكم على ما هو لكم؟" (لو 16: 12).
هكذا يقول مواطنو الأرض العليا لخالقهم كلمات المرتل: "من أجلك نُمات كل النهار" (مز 44: 22). ويقول بولس: "أموت كل يوم يا إخوة لمجدكم" (راجع 1 كو 15: 31)؛ وأيضًا: "لهذا السبب احتمل هذه الأمور أيضًا لكنني أخجل، لأنني عالم وموقن أنه قادر أن يحفظ ما التزم به لأجله إلى ذاك اليوم" (2 تي 1: 12)...
* يليق بنا أن نلاحظ أنه لم يُقل أن حياة الإنسان تلحقها تجربة، بل وُصفت أنها هي ذاتها صارت تجربة. فإنه إذ كان (للإنسان) حرية الإرادة انحرف عن الشكل المستقيم الذي خُلق به وصار خاضعًا إلى حالة الفساد الدنيئة. بينما أنجبت حياة الإنسان من ذاتها الأذى لذاتها، صارت هي نفسها ذات الأمر الذي انحدرت إليه... لقد صارت حياة الإنسان بطريقة ما هي "تجربة". فإننا حتى إن كبحنا أنفسنا لكي لا نخطئ، فإننا ونحن نمارس الأعمال الصالحة يغشانا تذكر الأعمال الشريرة بضباب النفس.
البابا غريغوريوس (الكبير)
يقدم لنا البابا غريغوريوس (الكبير) أمثلة كثيرة كيف صارت حياة الإنسان حتى في جهاده الروحي "تجربة" يعاني منها.
على سبيل المثال يذكر أن الإنسان وهو يجاهد أن يمتنع عن الحياة المترفة المُبالغ فيها، فإن امتناعه هذا أو نسكه يمكن أن يصير تجربة له. فبالنسك يصير وجهه شاحبًا، وإذ يلاحظ الآخرون وجهه الشاحب يحسبونه مستحقًا للكرامة فيمدحونه، وخلال مديحهم له يتسرب المجد الباطل إلى ذهن الناسك.
يقدم لنا مثلًا آخر: قد يوهب لإنسان معرفة الناموس الإلهي، فيبتهج بأنه نال فهمًا أكثر من غيره، فيرتفع ببهجة تحمل أنانية، وبتشامخه يفسد عطية الفهم التي نالها.
ففي يوم الدينونة يكون حاله أسوأ من غيره بذات الأمر الذي بدا فيه أكثر من غيره بهاء في هذه الحياة.
هكذا يقدم أمثلة كثيرة لفضائل متنوعة تتحول إلى تدميره بسبب فساد طبيعته، فيصير ما هو للبنيان هو عينه لهلاكه، لأن حياته "تجربة".
يتساءل القديس أغسطينوس أنه إذ قيل في سفر أيوب "أليست حياة الإنسان على الأرض تجربة؟ (أي 1:7 LXX) فلماذا نصلي: " لا تدخلنا في تجربة؟"
يجيب بأنه يلزم أن نميز بين نوعين من التجارب، النوع الأول الذي فيه حث على الخطية، عن هذا قيل: "لا يقل أحد إذا جُرب أني أجرب من قبل الله" (يع 13:1)، وتوجد تجربة للتذكية هذه التي قيل عنها: "لأن الرب إلهكم يمتحنكم (يجربكم)، لكي يعلم هل تحبون الرب إلهكم من كل قلوبكم ومن كل أنفسكم" (تث 3:13). الله يعلم ما في القلب، إنما يعني هنا "إننا نحن نعلم" ما في قلوبنا"(311).
* هذا أنا أعرفه أن حياة الإنسان على الأرض تجربة (أي 1:7)، وأنه يوجد نير ثقيل على أبناء آدم (ابن سيراخ 1:40). لكن ما يسرني بالأكثر هو أن أناقش السؤال الخاص بهذا البناء، إذ نقول إننا نزلاء أو غرباء على الأرض، إذ وجدنا مدينتنا العليا، حيث ننال هنا العربون، وعندما نبلغها لن نفارقها.
كَمَا يَتَشَوَّقُ الْعَبْدُ إِلَى الظِّلِّ،
وَكَمَا يَتَرَجَّى الأَجِيرُ أُجْرَتَهُ[2].
يشتاق العبد الذي يكد في حر النهار إلى الظل، هكذا يشتاق أيوب إلى الخروج من نهار هذا العالم بالموت ليستظل في القبر.
يشير طول الظل إلى نهاية اليوم بأتعابه، حيث يكون العامل مشتاقًا أن ينهي يومه. في الهند كان يُقاس الزمن حسب طول ظل الشخص. إذ سأل إنسان عن طول يوم عمله يُسال أن يقف في مكان به شمس ويُقاس طول ظله فيخبرونه عن الزمن. فمن يرغب في ترك عمله غالبًا ما يقول كم هو طول ظلي القادم؟
* "أنقذني من أعدائي يا رب، إليك التجأت" (مز 9:143). أنا الذي هربت منك مرة، الآن أهرب إليك. فقد هرب آدم من وجه الله، واختفى بين أشجار الفردوس، فقيل عنه في سفر أيوب: "كعبدٍ يهرب من سيده، ويجد ظلًا" (أي 2:7 LXX). لقد هرب من وجه سيده ووجد ظلًا. الويل له إن استمر في الظل، لئلا يُقال بعد ذلك: "كل الأمور تعبر كظلٍ" (الحكمة 9:5)(314).
* "مثل عبد يشتاق بشغفٍ نحو الظل، وأجيرٍ يتطلع إلى نهاية عمله، هكذا أنا أقتني أشهر الباطل، وأحصي الليالي المتعبة..." يركض بولس لاهثا ليمسك بهذا الظل، مشتاقًا أن ينطلق ويكون مع المسيح (في 1: 13). هذا الظل يقتنيه بالفعل القائلون بكل شهوة قلوبهم: "نحن الذين احتملنا ثقل النهار والحر" (مت 20: 12)... هذا هو السبب الذي لأجله يرتفع بولس على الدوام بجسارة في مواجهة النكبات، فإنه "كالأجير الذي يتطلع إلى نهاية عمله"... إذ يعلن أنه تثقل فوق الطاقة، قائلًا: "إننا تثقلنا جدًا فوق الطاقة حتى أيسنا من الحياة" (2 كو 1: 8). لكن كيف مسح من نفسه مجاري هذا التعب الشديد بمنشفة مكافأته، يخبرنا بنفسه عن هذا قائلًا: "فإني أحسب أن آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن فينا" (رو 8: 18) هكذا كأجير يتطلع إلى نهاية عمله، مهتمًا أن يزيد من المكافأة.
البابا غريغوريوس (الكبير)
هَكَذَا تَعَيَّنَ لِي أَشْهُرُ سُوءٍ،
وَلَيَالِي شَقَاءٍ قُسِمَتْ لِي [3].
حسب أيوب وسط معاناته أنه قد ضاع كل عمره بلا نفع، فظن أن كل أشهر حياته سوءً، ولياليه شقاء. بعد المنحة لم يكن قادرًا في مرضه أن يعمل فنسي كل ما سبق فعمله في أيامه صحته ورخائه، أما الله فلن ينساها. شعر أن وجوده على الأرض يمثل عبئًا على الجماعة، فهو بلا عمل، ولم يدرك كيف يعتز به خالق السماء والأرض، وبه يتبارك الكثيرون.
يشتاق المؤمن إلى الراحة الأبدية كظلٍ يلتجئ إليه بعد معاناته من حرارة شمس التجارب والضيقات في هذا العالم. وهو في هذا يدرك أن حياته رحلة قصيرة لا تبلغ السنة أو السنوات لكنها شهور محصية، شهور باطلة وليالٍ قاسية، ليالي شدة وتعب. إنها حياة عابرة، لكن إلى أبدية مجيدة. كلما أدركنا قصر الزمن عبرنا متهللين إلى الأبدية غير مبالين بثقل الحياة ومتاعبها.
يحسب حياتنا شهور سوء أو شهورًا باطلة، وليالي سوء أو شتاء وتعب، وهي محصية ومحددة "قسمت لنا". يذكر الشهور التي تضم الأيام كما لا ينسى الليالي، فالمؤمن يهتم بخلاصه ككلٍ، أو حياته كوحدةٍ واحدة، كما يهتم بكل ليلة وحدها. يهتم بكل صغيرة وكبيرة في تصرفاته، كما بالحياة في مجملها.
إِذَا اضْطَجَعْتُ أَقُولُ مَتَى أَقُوم.
اللَّيْلُ يَطُولُ، وَأَشْبَعُ قَلَقًا حَتَّى الصُّبْحِ [4].
صارت لياليه طويلة للغاية، لأن النوم لم يجد له فيه مكانًا، فبالكاد تعبر الدقائق، وفي نفس الوقت لا يترقب نهارًا يجد فيه راحة.
ليس المكان ولا الزمان يهبان راحة حقيقية للإنسان، إنما سلام القلب الداخلي، فمن يهرب من الآلام بالنوم ليلًا، يجد في نومه قلقًا وأهوالًا ربما أشد مما يعانيه في نهاره.
يرى البابا غريغوريوس (الكبير) في هذه العبارات صرخات الكنيسة المقدسة مادامت في هذه الحياة المملوءة فسادًا، فتولول غير مقتنعة بما هي عليه من عدم استقرار. تود أن تصعد بالتأمل الدائم في الله لتستقر فيه، وأن تتحصن به لتخدم خالقها بحبٍ، ولا يقدر الفساد أن يقترب إليها ويلمسها. أفسدت الخطية حياة الإنسان وحرمته من الاستقرار، فصار في صراعٍ دائمٍ إن استراح كما بالليل يطلب أن يعمل، وإن عمل يطلب أن يستريح. إذ أفقدته الخطية اقتناء الله لم يعد فكره يجد راحة. راحته الحقيقية هي في الله ينبوع الراحة.
وللبابا غريغوريوس تفسير آخر، وهو أن النوم هنا يشير إلى السقوط في الخطية التي تجلب للإنسان الفساد.
* هذا أيضًا يمكن أن يُفهم بمعنى آخر. فإن النوم هو الانبطاح في الخطية. لو أن النوم ليس رمزًا للخطية ما كان يمكن لبولس أن يقول لتلاميذه: "اصحوا للبرّ ولا تخطئوا" (1 كو 15: 34). ولذات السبب يعهد بسامعه الآتي: "استيقظ أيها النائم، وقم من الأموات، فيضيء لك المسيح" (أف 5: 14). وأيضًا: "إنها الآن ساعة لنستيقظ من النوم" (رو 13: 11).
بموافقتنا للممارسات الشريرة نهلك بالفساد، وأما بالسماح لصور الأعمال الشريرة أن تقوم في القلب، نتدنس بوصمات التراب، لذا يقول: "جسدي يلتحف بقذارة التراب".
البابا غريغوريوس (الكبير)
لَبِسَ لَحْمِيَ الدُّودُ مَعَ الطِّينِ.
جِلْدِي تَشَقَّقَ وَتَقَيَّحَ [5].
قروحه ولَّدت دودًا ملأ جسمه، فصار الدود حول جسمه في جروحه أشبه برداء يلبسه، ولا يقدر الخلاص منه. وقشور القروح صارت مثل أكداس التراب، أما جلده فتقلص وتمزق. هكذا من يقدر أن يصف منظر أيوب الذي صار أشبه بكومة تراب مشحونة بالدود، رائحتها كريهة للغاية، دبَّ الفساد فيها، من ينظر إليه يشمئز تمامًا.
* كانت قروح جسمه تعد له إكليل السماء .
أَيَّامِي أَسْرَعُ مِنَ الْمَكُّوكِ،
وَتَنْتَهِي بِغَيْرِ رَجَاءٍ [6].
إن كان أيوب يشتهي سرعة الموت، فلأن حاله يكشف عن ذلك. اعتقدَ أن ما هو عليه يسرع به إلى نهاية حياته على الأرض، لم يبقَ له سوى أيام قليلة، فبالطبيعة لا يقدر جسمه على مقاومة هذا المرض. حياته تنتهي بلا رجاء في العودة إلى حال رخائه الأول.