|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
اللهُ يَكْفيني أَيُّها الأَحِبَّةُ جَميعًا في الْمَسيحِ يَسوع. إنَّ أوّلَ صُورَةٍ نَجِدُها لله، مَع أُوّلِ أَسْفَارِ الكِتَابِ الْمُقَدَّس، سِفرِ التّكوين، هي صورةُ اللهِ الخَالِق، الّذي أبدعَ في خَلْقِه! والخَلقُ عَمَل، وَالعَمَلُ شيءٌ صالح، عِندَما تكونُ الغايةُ صَالِحةً وبِوَسائِلَ صَالِحة، ويَستَمِدُّ قُدْسِيَّتَهُ مِنَ الله، الّذي مِنهُ يَبتَدِأُ كُلُّ عَمَلٍ صالِح، وَإليهِ يَصيرُ وَيَنتَهي! فَهوَ الْمُبتَدَأُ وَهوَ الغَايةُ لِحَيَاتِنا بِرُمّتِها، وَإِليهِ يُوجِّهُ الْمُؤمِنُ كُلَّ أَعمَالِهُ وَحَركَاتِه. وَاليوم، مع إنجيلِ الأحدِ السّادسِ عَشر، تَطُلُّ عَلينا مَرتا وَمريم، أُختَا لعازر، وَقَد كَانَت العَائِلةُ صَديقَةً لِلمَسيح، تَستَضيفُه وَتُرحِّبُ بِه، بِأَجواءٍ مُفعَمَةٍ بالودِّ والْمَحَبَّة، جَعَلَتْ مَريمَ تَجلِسُ دونَ تَكلُّفٍ عند قَدَميّ الرّبِّ، تَستَمِع إلى كَلامِ النِّعمَةِ الخَارجِ مِن فِيهِ! قُلْنَا أنَّ العَمَلَ بِطَبيعتِهِ شَيءٌ صَالِح، وَلَكنَّهُ يَزدَادُ صَلاحًا عِندَما يُقرَنُ بِالصَّلاةِ والإصغَاءِ لِكَلِمةِ الله، وَكَما يقول الْمزمور التّاسعُ عَشر بعدَ الْمئة: ﴿كَلِمَتُكُ مِصباحٌ لِخُطايَ، وَنُورٌ لِسَبيلي﴾ (مز 105:119). فاللهُ هو الّذي يُوجِّهُ خُطانَا نحوَ سُبُلِ الخيرِ، مُتِمّينَ كُلَّ مَا هوَ صَالِح، مُتَجَنّبينَ مَا خَالفَ الصَّلاح. وَإن كَانَت مَرتا تُمثِّلُ العَمَلَ كَقيمَة، إذ نَراهَا مُهتَمَّةً بِأمورِ الخِدمةِ والضَّيافة، كَأَيِّ سَيّدةٍ شَرقيّة، فَمَريمُ بِدَورِها تُمثّلُ الصَّلاةَ والإصغَاءَ كَقيمَةٍ سَاميةٍ أيضًا. وكِلا القيمَتَانِ مُهمَّتَان لا غِنَى عَنهُما، وكُلٌّ مِنهما تُكمِّلُ الأخرى، وكِلاهُما طَريقَتَانِ لِعِبَادةِ اللهِ. فَالصَّلاةُ الصَّادِقة لا يُمكنُ أن تَدعو إلى الكَسَلِ أَو التّراخي، كَمَا أنَّ العمَلَ الصّادِقَ الأمين، لَدَليلٌ عَلى صِدقِ العِبَادَةِ وَاستِقَامَتِها. لِذلِك، أَبْدَعَ القدّيسُ مبارك Benedictus، أبو الرّهبانِ في الغَرب، لَمّا وَضَعَ للحياةِ الرّهبانيّة شِعَارًا خالِدًا، يَدْمِجُ بينَ القِيمَتَين، هو: ((Ora Et Labora، صَلِّ وَاعمَل)). فالعَملُ بِلا صلاة يَبقى مُجرّدَ وَظيفَة، والصّلاةُ بِلا عَمل كَشَجَرَةٍ خَضراء لَكنَّهَا بِلا ثِمار. فالصّلاةُ تَقديسٌ لِلعَمَل، وَالعَمَلُ تَكليلٌ للصّلاة. لَقَد أَوجَزَ الْمَسيحُ حالَ مرتا بِبضعَةِ كَلِمَات: ﴿إنَّكِ في هَمٍّ وارتِباك بأمورٍ كَثيرة﴾ (لوقا 41:10). هي أُمورٌ جَيّدَة، وَمَع ذَلِك، كانَت كَفيلَةً بِأنْ تحجُبَ رُؤيةَ الرّبِّ، عَن أَعيُنِ نَفسِها! وَفي الوقتِ الّذي كَانت فيهِ مَريمُ مُهتَمّةً بالزّادِ الباقي الّذي يُقدِّمُهُ لَها الرّبُّ مِن خِلالِ كَلامِه إليها، كَانَت مَرتا مَشغولَةً بإعدادِ الزّادِ الّذي يَفنى لإطعامِ الرّب! حَالُ مَرتَا حَالُنا نَحنُ أَيضًا يَا أحبّة، عِندَمَا تَطغَى أَعمَالُنا واهتماماتُنا الدُّنيويّة، عَلَى حَاجَتِنا لله! فَنَحنُ مِثلَ مرتا، نَنْشَغِلُ بِأُمورٍ كَثيرة، تَفكيرُنا مُضطَرِبٌ ومُثقَلٌ بحاجاتٍ عَديدَة، وَنَنْسَى الحَاجةَ لِلأهمِّ والأفضل، أَي لله! صَحيح أنَّ مَرتا كانَت مَشغولَةً بِأَمرٍ نَافِعٍ وجَيّد، وَلَكنَّهَا مِثلَنا في أَغلَبِ الأحيان، نهتمُّ بِالجيّدِ وَنُغفِلُ الاهتِمَامَ بالأجوَد، نَكتَرِثُ بالصّالِح ونُهمِلُ الصّلاحَ عَينَه! كُلُّنا في سَعيٍ وَسِبَاقٍ لِتَلبيةِ حَاجاتٍ أَرضيّة جَيّدة، وَلكنَّها فَانية في نَفسِ الوَقت! كُلَّنَا نبحَث عن الاسْتِزَادَةِ من الخيراتِ الزّمنيّة، وَعِندَ البَعضِ يُصبِحُ الأمرُ هَوَسًا وَمَرَضًا، وَلا نَصرِفُ الاهتمامَ الكَافي والّلازِم لِتَعزيزِ رَصيدِنا من الخيراتِ الرّوحيّةِ البَاقية! يقبَعُ اللهُ في قَاعِ سُلَّمِ الأولويّاتِ وَالحَاجَات، وَلا نَشعرُ بِقِيمَتِهِ وَأَهمّيتِه، إلّا حينَ الشَّدَةِ والْمُصيبَة، فَنَأتيهِ كَمَرتا، إمّا غَاضبينَ مُعَاتِبين، وَإمَّا بَاكينَ مُلتَمِسين! "اللهُ يَكفيني" عُنوانُ كِتابٍ يحتوي مجموعةَ عِظاتٍ للكاردينالِ الرّاحِل كارلو ماريّا مارتيني، عَلّامَة في الّلاهوتِ والكِتاب الْمقدّس. يا تُرَى، مَا مَدى صِدقِ هَذهِ العبارةِ في حَياتِنَا كَمَسيحيّين؟ العبارةُ صَحيحة، وَلَكنَّ الشَّكَ في مَدَى عَيشِهَا في حَيَاتِنا الْمَسيحِيّة! لِنَكُنْ وَاقعيّين: هَل اللهُ فِعلًا يَكفيكَ وَيكفيني؟ أَم أَنّهُ "إكْسِسْوَارَة أُسبوعِيَّة"، تَرتَديها في الأسبوعِ مَرّة، أو رُبّما في السّنةِ مرّة، أَو كُلَّما دَعت الحاجَةُ فَقَط؟! اِختارَت مَريمُ النّصيبَ الأفضل، في الجلوسِ والإصغاءِ لِلمَسيح! وَأنا مَا أو مَن هو نَصيبي الأفضَل؟! يقول الْمَزمورُ السّادِسُ عَشَر: ﴿الربُّ كَأسي وَحِصَّةُ مِيرَاثي، أَنتَ الضَّامِنُ لِنَصيبي﴾ (مز 5:16). هل اللهُ حَقًّا نَصيبي، رأسُ مَالي، رَاحتي، كِفايَتي؟ أَم أنَّ قَلبي مُتعلّقٌ وَرَغبَتي مُوَجّهةٌ صَوبَ أُمورِ الأرض فَقط؟! يا أحبّة، إنَّ الّذي قَالَ في إنجيلِ اليَوم: ﴿مع أنَّ الحاجةَ إلى أمرٍ واحِد﴾ (لوقا 42:10)، هو نَفسُهُ الّذي قالَ في مَوضِعٍ آخر: ﴿أُطْلبوا أوَّلًا مَلكوتَ اللهِ وَبِرَّهُ، تُزَادوا هَذا كُلَّهُ﴾ (متّى 33:6). الخُطورةُ الّتي تُهدّدُ خَلاصَ كُلِّ وَاحدٍ مِنّا، هي عِندَمَا نَطلبُ كلَّ شيءٍ، ولا نَطلبُ الله. نَسعى وَراءَ كُلِّ شيء مَادّي وفانٍ، وَلا نَسعَى لِلظَّفَرِ باللهِ الخَالِد، وَنَيلِ النَّصيبِ الأفضلِ، الّذي أَعدَّهُ اللهُ لِنا! وَكما يقول بولسُ الرّسول في رسالتِهِ الأولى إلى أهلِ قورنتوس: ﴿مَا لَم تَرَهُ عَينٌ، وَلا سَمِعَت بِه أُذُنٌ، وَلا خَطَرَ عَلى قَلبِ بَشر، ذلِكَ مَا أَعدَّهُ اللهُ لِلَّذينَ يُحِبُّونَهُ﴾ (1قور 9:2). أَخْشَى أَنَّ كَثيرينَ لن يُدرِكوا هَذهِ الحَقيقة، إلّا بعدَ مَوتِهم وَحَشرِهم في قَبورٍ اِسمنْتيّة، تَعلوهَا بِضعَةُ قِطَعٍ من الرُّخَام، وَشَاهِدٍ خُطَّ عَليهِ آَيةٌ لِلْدّيكور لَيسَ أكثر، فَأَصحابُها لم يَعمَلوا مِنها شَيئًا، لَمَّا كَانَوا أَحياءً! إذ أَضَاعُوا النّصيبَ الأفضل، بِطَمَعِهم وجَشَعِهم وَسَعيهم للأمورِ الكَثيرة، والّذي لا وَلن يَكتفي وَيَنتَهي، وَلَو مَلَكوا الأرضَ وَما فِيهَا. فَصَدقَ الْمثلُ القائِل: "بني آدم ما بِعبّي عِينه غير تَراب". حينَها لا يَنفَعُ: ﴿البُكاء وَصَريفُ الأسنان﴾ (راجِع متّى 36:13-43). يا أحبّة، في الوَقتِ الّذي وَجَدَت فِيهِ مَريمُ رَاحَتَها عِندَ قَدميّ يَسوع، كَانَت مَرتا مُرتَبِكَةً مَهمُومَة. مريمُ اِستَطَاعَت أن تترُكَ كُلَّ الاهتمامات لِتَحظَى باهتِمام الله، نصيبِهَا الأفضل. أَمّا مرتا فَضَاعَت وأضاعَت الله بَين زحمةِ الانشِغالات! وَإن كَانَت غايةُ حياتِنا هي بُلوغُ الرّاحةِ والسّلام، فلا راحةَ ولا سَلام، في الأرضِ وَخَيراتِها. يَكفي مَرضٌ واحِد يُمرّغُ كبرياءَ الْمُتكبّرين، ويُنزِلُ جَاهَهم وغناهُم إلى أسفلِ أسافِل الأرض. وَلْيذكُر كُلٌّ مِنّا كَلِمَاتِ الحكيمِ سليمان في سفر الجامعة: ﴿لا تَشبَعُ العَينُ مِن النّظر، ولا تَمْتَلئُ الأذُن مِن السّماع﴾ (جام 8:1). فَطوبى لِمَن اختارَ اللهَ نَصيبًا، وَمَلَكَ القَناعَةَ في الحياةِ كَنزًا وَرَصيدًا. . |
|