|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
كتاب التجسد: معناه وأهدافه - القمص متياس فريد وهبة مقدمة عزيزي... إسمح لي أن أسألك سؤالًا: ما الذي يتبادر إلى ذهنك عندما تسمع عن ميلاد المسيح له المجد؟ وفيم تفكر عندما يحل عيد الميلاد المجيد؟ قد تتذكر على الفور صورة الطفل الإلهي وقد ولدته القديسة مريم العذراء في مذود للبقر فيدهشك هذا الإتضاع العجيب!! وقد ترن في أذنيك أصوات الملائكة التي تسبح على مسمع ومرأى من الرعاة الساهرين فتردد معهم "المجد لله في الأعالي وعلى الارض السلام وبالناس المسرة" (لو 2: 14) وقد يروقك منظر النجم السماوي وهو يتحرك ليرشد المجوس الغرباء، وقد تفكر في معنى الهدايا التي قدموها للرب: ذهبًا ولبانًا ومرًا!! قد تتأمل في أمور كثيرة متعلقة بالميلاد من قريب ومن بعيد وكل هذا نافع ومفيد. ولكن اخشى أن يفوتك التأمل في ما هو أسمى وأعظم من كل ذلك.. إنه التجسد نفسه: الموضوع الرئيسي للميلاد. والحدث الهام.. إنتظار الأجيال كلها. والإفتقاد الإلهي الذي حدث في ملء الزمان إذ "أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُودًا تَحْتَ النَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ، لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ." (غلاطية 4: 5،4). بهذا تعيش الميلاد كما يريدك الرب ان تعيشه. فلا يكفي ان تتأمل في ما حول الميلاد نفسه، التجسد، الله الكلمة الذي " صار جسدا وحل بيننا ورأينا مجده" (يوحنا 1: 14). إنه يهمس في أذنك: لقد جئت من أجلك، وتجسدت لأجل خلاصك. أليس هذا هو ما تردده في قانون الإيمان "هذا الذي من أجلنا نحن البشر، ومن أجل خلاصنا، نزل من السماء وتجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء، وتأنس"؟! لا شك انه أمر مذهل في الحقيقة، لا للبشر فحسب، بل وللسمائيين أيضًا الذين أنطلقوا في دهشة يعلنون بشرى الميلاد للناس، ويمجدون إله السلام الذي حل على الأرض وسر بالناس. تعال معي على هذه الصفحات القليلة نتتلمذ على أيدي القديس العظيم الأنبا أثناسيوس الرسولي (298-373م)، بطل الإيمان وحامي الإيمان، الذي بذل حياته كلها – حتى من قبل أن يُقام بطريركًا على كرسي مار مرقس – ثم لم يذق طعم الراحة في حبريته التي دامت حوالي خمسة وأربعون عامًا ونصف. كل هذا دفاعًا عن هذه القضية: أن المولود هو "الله الذي ظهر في الجسد"(1تيموثاوس 3: 16) وأنه لو لم يكن المتجسد هو ابن الله نفسه الذي من جوهر الآب لما استطاع أن يخلصنا!! أتركك الآن لكي تستمع بالعمق الروحي الذي عالج به قديسنا هذا الموضوع الكبير. راجيًا أن تدخل كلماته في أعماقك وتتجسد في حياتك، فتثمر برًا من الله وقداسة وفداء، بصلوات البابا العشرين القديس أثناسيوس الرسولي والبابا المئة والسابع عشر قداسة البابا شنودة الثالث. صل عني، الرب معك. القمص متياس فريد |
09 - 01 - 2023, 06:04 PM | رقم المشاركة : ( 2 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب التجسد: معناه وأهدافه - القمص متياس فريد وهبة *
ما هو التجسد | شابهنا في كل شيء | تجسد وتأنس ما هو التجسد المقصود بكلمة "التجسد" هو ظهور الله في جسد بشري. أي أن الذي جاء إلى عالمنا هو الله نفسه. ابن الله، الذي هو مع الآب والروح القدس جوهر واحد: إله واحد. من هو الكلمة؟ إن كلمة الله، أي حكمته وفكره هو الابن المولود من الآب كما يولد النور من النور.(1) فهي إذن ليست ولادة بالمعنى المادي لكنها ولادة روحية، لأن الله روح. وابن الله مولود قبل كل الدهور(2)، منذ الأزل، قبل أن يبدأ الزمان. أي – بتعبير القديس أثناسيوس – لم يمض وقت لم يكن فيه الابن موجودًا(3)، ردًا على أريوس الذي حرمه الثلاثمائة والثمانية عشر أسقفًا المجتمعون في نيقيه سنة 325م، إذ قال أن الابن ليس من جوهر الآب بل أوجده الآب فيما بعد ليخلق به العالم. وتعليم القديس في هذا الأمر هو أننا لا نستطيع أن نتصور الله بدون فكره، وحكمته وقوته. وإلا فكيف نتصور وجودًا للشمس بلا شعاع أو للنبع بلا ماء؟!! ومتى وُجد هذا الإله بحسب تعبير القديس يوحنا – يُسمى النور (لأن الله نور) - بدون بهاء مجده الحقيقي، حتى أمكن للإنسان أن يدعِي أن الابن لم يكن له وجود في وقت ما؟ لأن من يتجاسر ويقول إن الابن لم يكن موجودًا في وقت من الأوقات، فليعرف تمامًا أنه يدعي أن الله كان بلا حكمة أو بلا كلمة أو بلا حياة(4)!! صار جسدًا: ولأن الله أراد أن يخلصنا "لأجل ذلك جاء إلى عالمنا كلمة الله الخالي من الجسد، والعديم الفساد، وغير المادي، لكي يظهر حنانه علينا ويفتقدنا. وإذ رأى الخليقة العاقلة في طريق الهلاك، أشفق على جنسنا وترفق بضعفنا ورثى لفسادنا... فأخذ لنفسه جسدًا لا يختلف عن جسدنا(5). "أخذ جسدًا من جنسنا. وليس ذلك فحسب، بل من عذراء طاهرة بلا لوم، لم تعرف رجلًا. جسدًا طاهرًا وخاليًا بالحق من زرع بشر. لأنه وهو القادر على كل شيء وبارئ كل شيء أعد الجسد في العذراء كهيكل له وجعله جسده بالذات، وأتخذه أداة له، وفيه أعلن ذاته، وفيه حل"(6). سمو يفوق العقل: ولقد واجه القديس أثناسيوس إدعاءات الأريوسين أن التجسد يتعارض مع مجد الله، فهل يليق بالله في عظمته وعلوه أن يظهر في جسد بشري؟!! وهل ينزل الله في بهائه إلى مستوى المادة فيصير إنسانًا ذا لحم ودم؟!! إلى آخر الأسئلة الساذجة التي تدل على تقصير في فهم التدبير الإلهي. ويجيب القديس: أن الله يملأ الكون كله بكل أجزائه ويدبره ويملك عليه، رغم أن الكون هو مادة أو جسم هائل. فنحن نراه ونرى أجزائه تقع تحت حواسنا. فإن كان كلمة الله في الكون هو جسم، وإن كان قد إتحد - أو سكن – بكل الكون وبكل أجزائه، فما هو وجه الغرابة إن قلنا إنه قد إتحد بالإنسان أيضًا؟!! فإن كان قد لاق به أن يتحد بالكون ويعطي ضياء وحركة لكل ما فيه، إذن يليق به أيضًا أن يظهر في الجسد البشري، وأن يستضئ به ذلك الجسد ويعمل(7). ثم يستطرد في شرحه ويقول: إن الله الذي يضبط كل الأشياء بقدرته لو أراد أن يعلن ذاته بواسطة الشمس أو القمر أو السماء أو الأرض أو المياه أو النار لما تجرأ أحد أن يقول إن ذلك في غير محله... هكذا أيضًا لا يمكن أن يكون سخفًا إن كان وهو ضابط كل الأشياء ومانحها الحياه لما أراد أن يعلن نفسه في البشر إستخدم جسدًا بشريًا كأداة يعلن فيه الحق ومعرفة الآب. لأن البشرية هي بالفعل جزئ من الكل الذي هو الكون(8). أخلى نفسه: وهكذا فإن المسيح الذي قال "أنا في الآب والآب فيَّ" (يوحنا 14: 10) وقال أيضًا "الذي رآني فقد رأى الآب" (يوحنا 14: 9) وقال عنه بولس الرسول إنه "في صورة الله، ولم يحسب خلسة أن يكون مساويًا لله" (فيلبي 2: 6)، لكي يتجسد "أخلى نفسه آخذًا صورة عبد صائرًا في شبه الناس" (فيلبي 2: 7)، ورغم أنه الغني، إلا أنه أفتقر من أجلنا(9). إن الرب الذي هو مانح النعمة صار إنسانًا مثلنا. والمخلص نفسه وضع نفسه وأتخذ "جسد تواضعنا" (فيلبي 3: 21). وأخذ صورة عبد لابسًا ذلك الجسد الذي كان مستعبدًا للخطية(10). شابهنا في كل شيء: إذن لقد أخذ الرب منا جسدًا مماثلًا لطبيعة أجسادنا(11). فهو لذلك "جسد قابل للموت"(12) لأن الله في ذاته هو "الحياة". هكذا قال المسيح عن نفسه (يوحنا 11: 25; 14: 6)، لذلك فلا يمكن أن يموت عن الإنسان ليفديه من سلطان الموت إلا إذا أتحد بمثل هذا الجسد.. وما دام جسد المسيح قد إشترك في ذات الطبيعة مع الجميع، إذ كان جسدًا بشريًا، رغم أنه قد اُخذ من عذراء فقط بمعجزة فريدة، إذن فكان لا بد أن يموت أيضًا كسائر البشر نظرائه. ولكن بفضل أتحاده (بالكلمة) لم يعد خاضعًا للفساد بقتضى طبيعته، بل خرج عن دائرة الفساد بسبب الكلمة الذي أتى ليحل فيه(13). ولما كان مستحيلًا أن يموت (الكلمة) لأنه غير قابل للموت، فقد أخذ نفسه جسدًا قابلاُ للموت، حتى يمكن أن يقدمه نيابة عن الجميع(14)."وإذ كان الجميع تحت قصاص فساد الموت، فقد بذل جسده للموت عوضًا عن الجميع، وقدمه للآب. كل هذا فعله شفقة منه علينا"(15). لا تعثر في ناسوته!! وإن كان الله قد أرسل إبنه مولودًا من إمرأة (غلاطية 4: 4) فإن هذا الأمر لا يسبب لنا عارًا بل مجدًا ونعمة عظمى. لأنه صار إنسانًا وولد من عذراء لكي ينقل إلى نفسه جنسنا الضال، فيجعلنا جنسًا مقدسًا ونصير "شركاء الطبيعة الإلهية" كما كتب بطرس المبارك (2 بطرس 1: 4). لأن الله "أرسل ابنه في شبه جسد الخطية، ولأجل الخطية دان الخطية في الجسد" (رومية 8: 3)(16). وربما يعثر أحد عندما يجد الله يوصف بأوصاف بشرية، ولكنه عندما يرى أعماله الإلهية فإنه يؤمن بلاهوته، لأنه كإنسان يسأل عن لعازر: "أين وضعتموه؟" ولكنه كإله يقيمه من الأموات (يوحنا 11: 43،34). فلا يتضايق أحد عندما يقرأ عن الرب في الإنجيل أنه صار طفلًا ونما قليلًا قليلًا وجاع وعطش وتألم ومات بالجسد، فلأن طبيعته الجسدية مختلفة عن طبيعته الإلهية، فكان لا بد إذ صار إنسانًا أن يظهر كل ما ينسب للإنسان. حتى لا يظن أحد كما ظن أتباع مانيكايوس (ماني) - أن جسده كان خياليًا(17). بل ليت هؤلاء غير المؤمنين يدركون أنه بينما كان طفلًا مضجعًا في مذود سجد له المجوس. وعندما أتى إلى مصر تلاشت من أمامه أوثانها. وإن كان قد صلب بالجسد، إلا أنه أقام الميت بعد أن أنتن(18). التجسد لم يحد من وجوده في كل مكان! ولا يظن أحد أنه أصبح محصورًا في الجسد، أو أن أي مكان آخر صار خاليًا منه، أو أن الكون ظل محرومًا من عمله وعنايته بسبب حلوله في الجسد. ولكن إذ هو الله الكلمة الذي لا يحويه مكان، فهوإذن يحوي كل الأشياء، لأنه وإن كان موجودًا منذ البدء في كل الخليقة، لكنه في جوهره يتميز عن سائر الكون. إذ هو واهب الحياة للكل، يملأ كل الأشياء دون أن يحده شيء منها. إذن حتى مع حلوله في جسد بشري واهبًا له الحياة، فقد كان في نفس الوقت بلا تناقض مانحًا الحياة للكون بأسره حاضرًا في كل عمل من أعمال الطبيعة وهو خارج الكل، فالنفس وإن كانت في الجسد ولكنها بقوة الفكر تستطيع أن تدرك حتى الأشياء البعيدة عنها. فلا يستطيع إنسان وهو جالس في بيته أن يحرك الشمس أو الأجرام السماوية بمجرد التفكير فيها، ولكنه فقط يراها تتحرك دون أن يكون له تأثيرًا عليها. أما كلمة الله فلم يكن محصورًا في الجسد بل كان بالحري يستخدم الجسد. وإن كان قد حل في الجسد، ولكنه في نفس الوقت كان حالًا في كل شيء. وبينما كان يتصرف كإنسان، لكنه كان ككلمة الله يحيي كل شيء، وكإبن الله كان قائمًا في أبيه(19). لم يتدنس بالجسد! وإن كانت الشمس التي خلقها هو لاتتدنس بمجرد لمسها الأشياء التي على الأرض، ولا تنطفئ بظلماتها بل تنيرها وتطهرها، فبالأولى جدًا كلمة الله كلي القداسة، رب الشمس وخالقها، لا يمكن أن يتدنس بمجرد ظهوره في الجسد، بل بالعكس، لأنه عديم الفساد، فقد طهر وأحيا الجسد الذي كان في ذاته قابلًا للفساد، إذ قيل عنه "لم يفعل خطية ولا وجد في فمه مكر" (1بطرس 2: 22)(20). لماذا الجسد البشري بالذات؟ وإذ سأل أحد قائلًا: لماذا لم يظهر الله بواسطة أجزاء أخرى من الخليقة اشرف وأسمى كالشمس أو القمر أو الكواكب.. بدلًا من مجرد إنسان؟ فليعلم أن الرب لم يأتي لكي يتظاهر ويتباهى، بل ليشفي الإنسان الواقع تحت الآلام ويعلمه ويرشده. ومن يطلب أن يشفي ويرشد لا يكتفي بمجرد الظهور، بل يقدم نفسه لمساعدة المحتاجين، كما أنه يظهر في الشكل الذي يحتملونه دون أن ينزعجوا. الأمر الثاني أن الأنسان وحده هو الذي أخطأ دون سائر المخلوقات. فالشمس والقمر وكل الخليقة عرفت "الكلمة" صانعها وضابطها، وهي باقية كما خُلقت. أما البشر وحدهم فقد رفضوا الصلاح وأخترعوا الشر، ولم يريدوا أن يروا أعمال الله في الكون. لذلك جاء وأظهر لهم ذاته كإنسان في الدائرة التي حصروا أنفسهم فيها(21). تجسد وتأنس: وقد يسترعي إنتباهك أننا نقول في قانون الإيمان وفي القداس الإلهي إن ابن الله الكلمة "من الروح القدس ومن مريم العذراء تجسد، وتأنس" وقد تتساءل: هل هناك فرق بين اللفظين؟ أم أنهما مترادفان؟ وهل هناك حكمة في إضافة كلمة: تأنس؟! لقد كان قديسنا يستعمل اللفظين بمعنى واحد دون التفريق بينهما. فما ذكره معلمنا يوحنا البشير أن "الكلمة صار جسدًا" (يوحنا 1: 14) يعني عنده بلا شك أنه صار إنسانًا كاملًا ذا جسد ونفس وروح. وهذا هو المقصود بكلمة "تأنس" أي صار إنسانًا كاملًا. وهكذا كان في كتاباته يستعمل كلمة "جسد" لتعني الإنسان كله اي البشرية الكاملة أو الناسوت الكامل(22). ولكن إبتداء من سنة 362م بدأ البابا أثناسيوس في كتاباته يؤكد بكل وضوح على وجود الناسوت الكامل الذي يتضمن الجسد والنفس والروح(23) وهذا التاريخ هو تاريخ إنعقاد مجمع الإسكندرية الشهير الذي دعا إليه ورأسه القديس بعد رجوعه من النفي الثالث الذي قضى فيه حوالي سبع سنوات بين الآباء الرهبان(24). وفي هذا المجمع أوضح مفهوم كلمة: "هوموأوسيوس ل½پخ¼خ؟خ؟دچدƒخ¹خ؟د‚" ومعناها (من نفس جوهر الآب) ليضم إلى الأرثوذكسية جمعًا من الآباء الذين كانوا يؤمنون بالمبدأ ولكنهم لم يكونوا بعد يقبلون اللفظ قبل ان يوضحه القديس ويبين لهن أنهم متفقون معه في الإيمان وإن اختلفوا في التعبير. إلى أن أدركوا أن هذا اللفظ هو المحك الذي يقف سدًا منيعًا أمام مراوغات الآريوسيين. وفي هذا المجمع أيضًا أدينت بدعة أبوليناريوس التي تقول إن ربنا لم يتخذ إنسانية كاملة بل اتخذ جسدًا فقط دون روح بشرية. ولا تظن يا عزيزي أن الأمر هين. ولا تقل في قلبك ماذا يعنينا من وراء هذا النقاش؟ أو ما الذي يحدث إن كان الرب قد أخذ جسدًا فقط وليس إنسانية كاملة؟.. كلا فالأمر جد خطير لأنه يمس خلاص نفسك. والخلاص هو الموضوع الأساسي الذي لأجله قاوم أباؤنا هذه البدعة التي رأوا في إنتشارها خطورة كبيرة على خلاص الإنسان، باعتباره الهدف الأول من التجسد الإلهي. ولنأخذ البدعة الأبولينارية مثلًا على ذلك، تاركين الحديث عن خطورة الآريوسية على الخلاص إلى مكانها المناسب في هذا المقال. ماذا لو أخذ المسيح جسدًا فقط بلا روح إنسانية؟ أجاب القديس أن الشخص لا يمكن أن يخلص غيره إن كان مختلفًا عنه في جوهره. فالرب لكي يخلصنا بذل جسده من أجل أجسادنا ونفسه من أجل نفوسنا(25). وذلك أنه عندما ساد الفساد على جسد الإنسان قدم الرب جسده. وعندما سيطر الموت على النفس وربطها قدم نفسه. فأستطاع الذي لا يقدر الموت أن يمسكه أن يفك رباطات الموت عن الإنسان بحكم أنه الإله الذي صار إنسانًا(26). إذن فالرب إذ أخذ جسدًا بشريًا فقد خلص أجسادنا. وإذ أخذ روحًا بشرية فقد خلص أرواحنا أيضًا. وذلك بسبب إتحاد لاهوته مع ناسوته إتحادًا كاملًا، فقد كان ربنا كاملًا في لاهوته وكاملًا أيضًا في ناسوته. أما لو كان الرب قد أخذ جسدًا فقط لأقتصر الخلاص على الجسد فحسب ولهلكت أرواحنا!! وهذا المفهوم ردده فيما بعد القديس أغريغوريوس النزينزي "الناطق بالإلهيات"، الذي قال: إن ما يتحد بلاهوت المسيح هو الذي يخلص. فلو كان نصف آدم فقط أي الجسد هو الذي سقط لكان الرب أخذ جسدًا فقط ليخلص هذا النصف. أما وقد سقط الإنسان كله، فقد أخذ الرب بشرية كاملة لكي يقدس الإنسان بكل عناصره(27). أرجو أن يكون قد وضح الآن أن عبارة "تأنس" هي تأكيد لكل هذه المعاني ورد على بدعة أبوليناريوس، وضمان للمفهوم السليم للخلاص، أن الرب اخذ من القديسة مريم ناسوتًا كاملًا وجعله واحدًا مع لاهوته بغير أختلاط ولا أمتزاج ولا تغيير(28)، لكي يخلص الإنسان كله. فإتحاد اللاهوت بالناسوت لم يجعل الناسوت إلهًا أومساويًا للاهوت في الجوهر، بل ظل الناسوت كما هو طبيعة إنسانية دون أن يتحول إلى طبيعة إلهية بالمرة(29) لأن "الكلمة" هو الذي صار جسدًا، وليس الجسد هو الذي صار "الكلمة"(30)!! ولعل هذه الأقوال تلقي ضوءًا على مفهوم الشركة في الطبيعة الإلهية (2 بطرس 1: 4). فالناسوت لم يتحول في المسيح إلى لاهوت ولكنه أتحد به اتحادًا كاملًا. والإنسان إذ يولد من فوق بالماء والروح (يو 3: 5،3) وينال شركة جسد المسيح ودمه (يو 6: 53-58; 1 كورنثوس 10: 16; 11: 23-31) فإنه يتقدس بأتحاده بالقدوس، وتكون له شركة مع الله ولكن دون أن يتحول هو إله في طبيعته أو جوهره. وهذا المفهوم أيضًا يفسر لنا معنى موت المسيح. فالمسيح على الصليب مات كما يموت الإنسان. ولأنه كامل في لاهوته وكامل أيضًا في ناسوته كما أسلفنا، فقد كان موته مثل موت الإنسان، أي نفسه البشرية إنفصلت عن جسده البشري، أما لاهوته فلم ينفصل قط لا عن نفسه ولا عن جسده(31) بل ان نفسه الإنسانية وهي متحده باللاهوت لم يستطع الموت أن يقوى عليها ولا الفساد أن يذلها. والجسد المتحد أيضاَ باللاهوت لم ير فسادًا(32) لأن "لاهوته لم يفارق ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين"(33). |
||||
09 - 01 - 2023, 06:09 PM | رقم المشاركة : ( 3 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب التجسد: معناه وأهدافه - القمص متياس فريد وهبة *
لماذا التجسد بعد أن استوضحنا –على قدر الإمكان– مفهوم التجسد عند القديس أثناسيوس، نأتي إلى نقطة أخرى وهي الغرض من التجسد، والضرورة التي دعت إلى هذا الأمر الجليل!! الخلاص يقول القديس إن الضرورة الأولى للتجسد هي خلاصنا. فليس من مستلزمات طبيعة مخلصنا أن يلبس جسدًا، ولكن لأنه الكلمة منذ الأزل، فقد أرتضى -بتحنن أبيه وصلاحه- أن يظهر لنا في جسد بشري من أجل خلاصنا(1). خِلْقَة الإنسان: والقديس يعلم أنه – لكي نفهم موضوع الخلاص – ينبغي أن نبحث أولًا في خلقة الكون، وعندئذ ندرك أن تجديد الخليقة من عمل نفس الكلمة الذي خلقها في البداية، إذ سوف يتضح أنه من الطبيعي ان يتمم الله خلاص العالم بذاك الذي خلقه به أولًا(2). ثم يكرر – وهذه طبيعته كمعلم لكي يثبت المفاهيم الروحية في الأذهان – أننا إذا أردنا أن نتحدث عن ظهور المخلص بيننا، يتحتم علينا أن نتحدث اولًا عن أصل البشر، لكي نعلم ان نزوله إلينا كان بسببنا، وأن عصياننا أستدعى تعطف الكلمة لكي يسرع الرب إلى إغاثتنا والظهور بين البشر، فقد كانت إغاثتنا هي الغرض من تجسده. فإنه لأجل خلاصنا أظهر محبته العظمى إلى حد أن يظهر ويولد في جسد بشري(3)!! لقد خلق الله الكون بكلمته من العدم دون أن يكون له وجود سابق كما قال على لسان موسى: "في البدء خلق الله السموات والأرض" (تكوين 1:1). أما الإنسان فقد أشفق عليه بصفة خاصة، إذ لم يكتف بمجرد خلقه كما خلق باقي المخلوقات، بل خلقه على صورته ومثاله، وأعطاه نصيبًا حتى في قوة "كلمته". لكي يستطيع وله نوع من ظل "الكلمة"، وقد خلق عاقلًا، أن يبقى في السعادة إلى الأبد، ويحيا الحياة الحقيقية، حياة القديسين في الفردوس(4). الوصية: ولكن لعلمه أن إرادة الإنسان تميل إلى جهة الخير أو إلى جهة الشر، سبق فدعم النعمة المعطاة له بالوصية التي قدمها إليه والمكان الذي وضعه فيه(5). لأنه أتى إلى جنته وأعطاه وصيته، حتى إذا حفظ النعمة وأستمر صالحًا أستطاع الإحتفاظ بحياته في الفردوس بلا حزن ولا آلم ولا هم، فضلًا عن موعد عدم الفساد في السماء(6). أما إذا تعدى الوصية فإنه يجلب على نفسه الفساد بالموت الذي يستحقه بالطبيعة: "لأنك يوم تأكل منها موتًا تموت" (تكوين 2: 17) وما المقصود بقوله "موتًا تموت" إلا أنه ليس هو مجرد موت فقط، بل أيضًا البقاء إلى الأبد في فساد الموت؟(7) دخول الخطية: أما البشر فإن احتقروا ورفضوا التأمل في الله، واخترعوا ودبروا الشر لأنفسهم، فقد إستحقوا حكم الموت الذي سبق تهديدهم به. ومن ذلك الحين لم يبقوا بعد في الصورة التي خلقوا عليها بل فسدوا حسبما أرادوا لأنفسهم (جامعة 7: 29; رومية 1: 22،21)، وملك عليهم الموت (رومية 5: 14)، أي البقاء في حالة الموت والفساد. لأن البشر لم يقفوا في سوء أفعالهم عند حد معين، بل تدرجوا في الشر حتى تخطوا كل حدود، وأصبحوا يخترعون الشر ويتفننون فيه إلى أن جلبوا على أنفسهم الموت والفساد. وإذ توغلوا في الرذيلة، وأخترعوا كل جديد من الشر، فقد أصبحت طبيعتهم مشبعة بالخطية (راجع رومية 1: 18-32)(8). نتيجة مرعبة: وصارت النتيجة في الحال مرعبة حقًا. لأنه: أولًا: كان أمرًا مرعبًا أن يصير الله كاذبًا لو لم يمت الإنسان بعد أن أصدر الله حكمه عليه بالموت لو خالف الوصية!! ثانيًا: وكان أيضًا أمر غير لائق أن الخليقة التي خلقت عاقلة وشاركت الكلمة، يصبح مصيرها الهلاك، فهذا مما لا يتفق مع صلاح الله أن تتلاشى خليقته سواء كان بسبب تعدي أو بسبب غواية الشيطان.. فماذا يفعله الله في صلاحه إذن؟ أيحتمل أن يرى الفساد يسود على البشر، والموت ينشب أظافره فيهم؟ وهل يسمح لصنعة يديه بالهلاك بعد أن خلقهم؟ وما الفائدة إذن من خلقتهم أصلًا؟!!(9) هل التوبة تكفي؟ ولعل قائل يقول: كان يمكن أن يطلب الله من البشر التوبة عن تعدياتهم!.. ولكن التوبة: أولًا: لا تستطيع أن توفي مطلب الله العادل، لأنه أن لم يظل الإنسان في قبضة الموت يكون الله غير صادق. ثانيًا: تعجز التوبة عن تغيير طبيعة الإنسان، فكل ما تستطيع أن تفعله هو أن تقف حائلًا بينه وبين إرتكاب الخطية. وقد تكون التوبة كافية لو كان الأمر مجرد خطأ بسيط إرتكبه الإنسان ولم يتبعه الفساد. أما وقد أنجرف الإنسان في تيار الفساد، حتى دخل الفساد إلى طبيعته، وحُرم من تلك النعمة التي سبق أن أعطيت له، وهي كونه على صورة الله، فمن يستطيع أن يعيد إليه تلك النعمة، ويرده إلى حالته الأولى، إلا "كلمة الله" الذي خلقه في البدء من العدم؟! أنه وحده الذي يستطيع أن يأتي بالإنسان الفاسد إلى عدم فساد، وفي نفس الوقت يوفي مطلب الآب العادل المطالب به الجميع. فهو الذي يقدر بطبيعته أن يجدد خلقه الإنسان، وأن يتحمل الآلام عوضًا عن الجميع، فيكون نائبًا عن الجميع لدى الآب(10). لأجل خلاصنا: لذلك جاء إلى عالمنا كلمة الله العديم الفساد وأخذ جسدًا مثلنا وإذا كان الجميع تحت قصاص فساد الموت، فقد بذل جسده للموت عوضًا عن الجميع، وقدمه للآب، وذلك: أولًا: لكي يبطل الناموس الذي يقضي بهلاك البشر. إذ مات الكل فيه. لأن سلطان الموت قد أكمل في جسد الرب، فلا يعود ينشب أظافره في البشر الذين ناب عنهم. ثانيًا: لكي يعيد البشر إلى عدم الفساد، ويحييهم من الموت بجسده وبنعمة القيامة، وينقذهم من الموت كإنقاذ القش من النار(11). أخذ جسدًا ليموت: وإذ رأى "الكلمة" أن فساد البشرية لا يمكن أن يبطل إلا بالموت كشرط لازم، وإنه من المستحيل أن يموت ابن الله "الكلمة" فهو غير مائت بطبيعته، لهذا أخذ لنفسه جسدًا قابلًا للموت، حتى عندما يتحد هذا الجسد "بالكلمة" الذي هو فوق الكل يكون جديرًا أن يموت عن الكل، ويبقى الجسد في عدم فساد بسبب الكلمة الذي حل فيه. وبهذا يتحرر الجميع من الفساد فيما بعد بنعمة القيامة من الأموات(12). وإذ قدم المسيح نفسه للموت -بهذا الجسد الذي أخذه لنفسه- كمحرقة طاهرة وذبيحة خالية من كل شائبة، فقد رفع حكم الموت عن جميع من ناب عنهم، إذ قدم عنهم جسدًا مثل أجسادهم، وأوفى الدين بموته وإذ إتحد الله عديم الفساد بجميع البشر بإتخاذه طبيعة بشرية مثلهم، فقد ألبس الجميع عدم الفساد بوعد القيامة من الأموات. أمثلة وتشبيهات: الملك المخلص: لو أن ملكًا عظيمًا دخل إلى أحدى المدن الكبرى وأقام في بيت من بيوتها، فإن هذه المدينة تتشح بالشرف الكبير، ولا يعود لص أو عدو ينجح في إخضاعها، بل على العكس تكون جديرة بكل عناية، ذلك لأن الملك أتخذ مقره في بيت من بيوتها.كذلك كان الحال مع ملك الكل. فإنه إذ أتى إلى عالمنا وأقام في جسد مثل أجسادنا فقد أبطل مؤامرة العدو ضد الجنس البشري منذ ذلك الحين، وأزال عنهم فساد الموت الذي كان سائدًا عليهم من قبل (13). وإذا أسس ملك مدينة، ثم أحدق بها اللصوص بسبب إهمال سكانها، فإنه لا يتغاضى عنها بأي حال، بل يقوم وينتقم من العابثين بها لأنها صنعة يديه. غير ناظر إلى إهمال سكانها، بل يعمل كما يليق بذاته. هكذا الله، كلمة الآب كلي الصلاح، لم يهمل الجنس البشري صنعة يديه ولم يتركه للفساد، بل أبطل الموت بتقديم جسده، وعالج إهمالهم بواسطة تعاليمه، ورد بسلطانه كل ما كان للإنسان(14). خليقة جديدة بالمعمودية: وإذ تلطخ الدم المرسوم على الخشب بالأوساخ، فلا بد لإعادته من وجود صاحب الصورة الأصلية نفسه. وعلى هذا المثال أتى إلى عالمنا ابن الله الكلى القداسة، إذ هو صورة الآب، لكي يجدد خلقة الإنسان الذي خلقه مرة على صورته، ويجده كضال ويهيه مغفرة الخطايا. لهذا قال عن نفسه أنه "قد جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك" (لو 19: 10). وقال أيضًا لليهود "إن كان أحد لا يولد ثانية..." (يوحنا 3: 5،3) وهو لا يقصد بهذا - كما ظنوا – الولادة من إمرأة، بل إعادة ميلاد النفس وتجديد خلقتها على مثال صورة الله(15). ماذا يقول الكتاب: والكتاب المقدس الذي كتب بإلهام الروح القدس يقول: "لأن محبة المسيح تحصرنا، إذ نحسب هذا إنه إن كان واحد قد مات لأجل الجميع فالجميع إذن ماتوا. وهو مات لأجل الجميع لكي يعيشوا فيما بعد لا لأنفسهم بل للذي مات لأجلهم وقام" (2 كورنثوس 5: 15،14)، الذي هو ربنا يسوع المسيح. ثم يبين أيضًا لماذا لم يكن ممكنًا لغير الله "الكلمة" نفسه أن يتجسد: " لأَنَّهُ لاَقَ بِذَاكَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ الْكُلُّ وَبِهِ الْكُلُّ، وَهُوَ آتٍ بِأَبْنَاءٍ كَثِيرِينَ إِلَى الْمَجْدِ، أَنْ يُكَمِّلَ رَئِيسَ خَلاَصِهِمْ بِالآلاَمِ." (عبرانيين 2: 10) أي لا يستطيع أحد أن ينقذ البشر من الفساد غير كلمة الله الذي خلقهم أيضًا منذ البدء. ثم يشير الكتاب أن "الكلمة" لكي يقدم ذبيحة عن الأجساد أخذ جسدًا مشابهًا لهم: " فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضًا كَذلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ، وَيُعْتِقَ أُولئِكَ الَّذِينَ* خَوْفًا مِنَ الْمَوْتِ* كَانُوا جَمِيعًا كُلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ الْعُبُودِيَّةِ." (عبرانيين 2: 15،14). إنه بذبيحة نفسه وضع حدًا لحكم الموت، ما أعطانا أيضًا بداءة جديدة للحياة. وإن كان الموت بآدم قد ساد على البشر، فإنه بتأنس كلمة الله قد بطل الموت وتمت قيامة الحياة. لأنه "كما في أدم يموت الجميع، هكذا في المسيح سيحيا الجميع" (1 كورنثوس 25: 22،21)(16). ما لم يكن هو الله؟! إن لم يكن المسيح هو الله الظاهر في الجسد، ما كان في إمكانه أن يخلصنا. لأنه لم يكن ممكنًا أن يحول الفاسد إلى عدم فساد إلا المخلص نفسه الذي خلق كل شيء من العدم منذ البدء، ولم يكن ممكنًا أن يعيد للبشر صورة الله ومثاله إلا "صورة" الآب. ولم يكن ممكنًا أن يلبس المائت عدم موت إلا ربنا يسوع المسيح الذي هو الحياة. لأن تجديد الخليقة لا بد أن يكون من عمل نفس "الكلمة" الذي خلقها أولًا(17). لذلك فأن الرب نفسه الذي قال "أنا في الآب والآب في" (يوحنا 14: 11) هو الذي تجسد من أجلنا ليقدم نفسه للآب عوضًا عنا ويفدينا(18). ولأنه رب الموت إستطاع أن يبطل الموت.. ولكونه "الرب" فإن ما أراده قد أكمله لأجلنا، لأننا قد عبرنا جميعًا من الموت إلى الحياة(19). الأريوسية والخلاص: ومن هذا المنطق حارب القديس أثناسيوس الأريوسية حربًا لا هوادة فيها، إذ رأى بثقب بصره وحسه الروحي أنها تحرم الإنسان من إمكانية الخلاص من سلطان الخطية وفساد الموت. وإستحق لجهاده المجيد أن تلقبه الكنيسة بلقب "الرسولي"، وأن يسميه التاريخ (أثناسيوس ضد العالم)(20). وذلك عندما تحول معظم أساقفة العالم إلى الأريوسية بالإضطهلد الذي أثاره الأمبراطور قسطنطينوس* ابن قسطنطين الكبير وأما أثناسيوس فظل شامخًا كالطرد، راسخًا ومستجذرًا في تربية الإيمان كشجرة باسقة إمتدت جذورها إلى ينابيع الشركة مع الله. أما أغصانها فتآوت تحت ظلها طيور السماء، إذ لم تكد شمس حياته تميل إلى الغروب حتى إجتمع إليه المخلصون من الأساقفة وأنضموا تحت لواء الارثوذكسية التي تم لها النصر على يديه ثم تكلل هذا النصر في مجمع القسطنطينية سنة 381م، ولكن بعد أن مهد له قديسنا الذي رقد في الرب سنة 373م، وكانت الأريوسية تجر أذيالها لتختفي نهائيًا من العالم كله. المخلوق لا يخلص مخلوقًا: وفي منطق لا يبارى يصرخ قديسنا في وجه الأريوسيون وأمثالهم ويقول لهم: كما ان الكلمة نفسه، لأنه الخالق، هو الذي خلق المخلوقات، هكذا أيضًا "في ملء الزمان"(غلاطية 4: 4) لبس جسدًا مخلوقًا لكي يقدر أن يقدسه ويجدده مرة أخرى، لأن المخلوق لا يستطيع ان يخلص مخلوقًا على الإطلاق. وكيف تحصل المخلوقات على أية معونة من مخلوق مثلها هو نفسه يحتاج إلى الخلاص؟!!(21) إن الذي بذل ذاته عنا لم يكن إنسانًا عاديًا، فكل إنسان هو تحت حكم الموت كما قيل لآدم "إنك تراب وإلى التراب تعود" (تكوين 3: 19(. ولا كان هو واحدًا من المخلوقات الأخرى، فكل خليقة هي عرضة للتغيير، بل هو "الكلمة" نفسه الذي قدم جسده الخاص عنا، لكي لا يكون إيماننا ورجاؤنا في إنسان بل في الله الي إذ صار إنسانًا، أستطعنا أن نرى مجده "مجدًا كما لوحيد من الآب مملوء نعمة وحقًا" (يوحنا 1: 14)(22). هل يكفي النطق الملكي؟ وقد يحلو للبعض أن يقولوا: إن أراد الله أن يصلح البشر ويخلصهم ففي إمكانه ذلك بمجرد نطق ملكي كريم، دون حاجة إلى تجسده، أي بنفس الطريقة التي أتبعها قبلًا عندما أوجدهم من العدم. فإن كان قد خلقهم بكلمة فلماذا لا يردهم بكلمة؟! والإجابة المنطقية هي أن الإنسان إذ لم يكن له وجود على الإطلاق، فما كان مطلوبًا لخلقته هو النطق الإلهي ومجرد الإرادة لإتمام ذلك. أما وقد خُلق الإنسان وصار الأمر يحتاج إلى علاج ما هو موجود بالفعل، لهذا دعت الضرورة أن يظهر الطبيب ويتأنس المخلص، ليستخدم جسده أداة بشرية لخلاص الإنسان. ثم يجب أن نعلم أيضًا إن الفساد الذي حدث للإنسان لم يكن خارج الجسد بل لصق به. وكان مطلوبًا أن تلتصق به الحياة عوض الفساد، حتى كما تمكن الموت من الجسد تتمكن منه الحياة أيضًا. فلو كان الموت خارج الجسد لكان ممكنًا ان تتصل به الحياة من الخارج. أما وقد صار الموت ممتزجًا بالجسد، وجب أن تمتزج به الحياة، حتى إذا ما لبس الجسد الحياة بدلًا من الموت، أنتزع عنه الفساد(23). تجديد الطبيعة البشرية: ولو كان الله قد أبعد الموت عن الإنسان بمجرد إصدار الأمر، لظل الإنسان رغم ذلك قابلًا للموت والفساد. فإذا أبعدت النار عن القش، فالقش وإن لم يحترق، ولكنه يظل ضعيفًا أمام النار. بينما لو غلفته بمادة الأسبستوس التي يقال عنها إنها تصمد أمام النار، فإن القش لا يرهب النار فيما بعد إذ قد تحصن بمادة غير قابلة للإحتراق. لهذا لبس المخلص جسدًا لكي يلتقي بالموت في الجسد ويقهره. حتى لا يبقى الإنسان في فساد الموت بل تتجدد طبيعته، ويلبس الفاسد عدم فساد والمائت عدم موت(24). أما لو جاء "الله الكلمة" خارج الجسد لكن الموت قد غُلب منه بحكم طبيعته - إذ ليس للموت سلطان على "الحياة" – في حين ان الفساد اللاصق بالجسد يظل كما هو!! نعمة الله: هذه هي نعمة الله، وهذه هي طرقه في إصلاح الإنسان. فإنه تألم ليخلص الذين يتألمون: تنازل لكي يرفعنا، وجاء ضعيفًا لأجلنا، لنقوم نحن في قوة. وصار إنسانًا ونزل إلى حيث الموت، حتى يحيينا نحن الأموات ويهبنا عدم الموت. فلا يعود الموت يملك علينا كما تعلن الكلمات الرسولية أن الموت لا يسود علينا فيما بعد (راجع رومية 6: 19;14)(25). |
||||
09 - 01 - 2023, 06:12 PM | رقم المشاركة : ( 4 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب التجسد: معناه وأهدافه - القمص متياس فريد وهبة *
معرفة الله وهناك سبب آخر يوضحه معلمنا القديس أثناسيوس كهدف من أهداف التجسد وهو معرفة الله. يقول إن فكر البشر كان قد أنحط نهائيًا إلى الأمور الحسية. لذلك استتر "الكلمة" بظهوره في الجسد حتى يستطيع -كإنسان- أن ينقل البشر إلى ذاته، ويركز إحساسهم في شخصه. وعندما يتطلع إليه البشر كإنسان، فإنهم يقتنعون في نفس الوقت أنه ليس مجرد إنسان بل هو الإله وكلمة الله الحق وحكمته، وذلك بسبب الأعمال التي يعملها. ولكي يتمكن الإنسان من معرفة الله لم يقدم المسيح نفسه ذبيحة عن الجميع -بتقديم جسده للموت وقيامته ثانيًا- بمجرد مجيئه مباشرة، لأنه لو فعل ذلك لما أمكن أن يكون معروفًا لدى البشر. ولكنه بالآيات التي فعلها بمجيئه صار ظاهرًا جدًا، ولم يعد يُعرف بعد كإنسان، بل الله الكلمة. وهكذا بتأنس المخلص تمم عملين من أعمال المحبة: أولًا: رفع الموت عنا وجددنا ثانية.. ثانيًا: أعلن لنا نفسه، وعرفنا ذاته بأعماله أنه "كلمة الآب" وملك الكون ومدبره، بعد أن كان قبلًا غير ظاهر(26). نزل إلى مستواهم: وكما ينزل المعلم الحنون إلى مستوى تلاميذه، هكذا الله إذ رأى البشر قد رفضوا التأمل فيه وأنحطت أفكارهم إلى أسفل باحثين عن الله في الطبيعة وعالم الحس، أخذ لنفسه جسدًا ومشى كإنسان بين الناس، حتى يستطيعوا أن يدركوا الحق بما يعلنه الرب في جسده، ويدركوا الآب فيه. فإذا نظروا إلى الخليقة برهة رأوها تعترف بالمسيح ربًا. وإذا اتُجهت أفكارهم إلى تأليه البشر وجدوا أن أعمال المخلص - إذا قورنت بأعمال الناس – تظهره وحده دون غيره أنه ابن الله. وإذا أنحرفوا إلى الأرواح الشريرة يرون كلمة الله يطردها، فيدركون أنه هو وحده الله. وإذا إنحدرت بهم أفكارهم نحو الأموات يرون في قيامة المخلص أنه هو الإله الحق، كلمة الآب، ورب الموت أيضًا. ولهذا ولد، وعاش كإنسان، ومات وقام، وغطى بأعماله على أعمال كل من سبقوه، حتى إذا اتجهت أفكار البشر إلى أية ناحية استطاع أن يستردهم منها إلى معرفة أبيه الحقيقية، لأنه "قد جاء ليطلب ويخلص ما قد هلك" (لوقا 19: 10)(27). رسم جوهر الآب: وهكذا رأينا في المسيح أنه ابن حقيقي للآب، طبيعي وأصيل من جوهره الذاتي. فهو إله حقيقي واحد مع الآب. وهو بذلك "رسم جوهره" أي التعبير الموضح لذات الآب. نور من نور. إنه قوة الآب ونفس الصورة الحقيقية لجوهر الآب. من أجل ذلك يقول الرب "من رآني فقد رأى الآب" (يوحنا 14: 9)(28). وكما أنه إذا أراد أن يرى الله غير المنظور بطبيعته - لأن الله لا يمكن أن يُرى مطلقًا – فإنه يستطيع أن يعرفه من أعماله، وكذلك من يعجز عن رؤية المسيح وإدراكه بعقله وفهمه، عليه أن يدركه على الأقل من أعماله في الجسد، ليعرف إنها ليست أعمال بشرية بل هي أعمال الله، ويتعجب انه بالوسائل البشرية ظهرت الأمور الإلهية. وبالموت نال الجميع عدم الموت. وبالتجسد اُظهرت العناية الإلهية العامة، كما عرف واهبها وبارئها، كلمة الله نفسه(29). كلمنا في ابنه: ومعلمنا بولس يقول عن المسيح إنه "الكائن على الكل إلهًا مباركًا" (رومية 9: 5)، ويقول عنه إنه "قوة الله" (رومية 1: 16)، ثم يعود فيقول إن أموره غير المنظورة ترى بوضوح منذ خلقة العالم، حتى أن قوته الإلهية ولاهوته يمكن إدراكهما بواسطة الأشياء المخلوقة (رومية 1: 20)، وبولس بكل تأكيد يقصد بقوته الإلهية "الكلمة" بقوته المنظورة في الخليقة، فالإنجيل يقول "كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان" (يوحنا 1: 3). وبالتالي يتحتم أن مَنْ يتأمل الخليقة تأملًا صادقًا سوف يتأمل "الكلمة" الذي خلقها وبواسطته يمكن ان يدرك الآب. لذلك يقول المخلص "ليس أحد يعرف الآب إلا الابن ومن أراد الابن أن يعلن له" (متى 11: 27). كما أن الرب لما سأله فيلبس "أرنا الآب وكفانا" لم يقل له "تأمل في الطبيعة" بل قال له "من رآني فد رأى الآب" (يوحنا 14: 9،8) وهذا يؤكد أن بولس الرسول عندما قال إن قوته الأزلية ولاهوته تدرك بالمخلوقات، إنما كان بحق وأصالة يقصد "الكلمة" الكائن في الخليقة. كما قال عنه الكتاب "كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثًا لكل شيء، الذي به أيضًا عمل العالمين" (عبرانيين 1: 2)(30). في الابن نتأمل لاهوت الآب: وكما أن الله معروف في الخليقة بأعماله، يجب أن يظهر أيضًا في الإنسان ويعمل فيه(31). لذلك إستطاع ان يكشف عن قدرة الله على الإتصال بالإنسان المخلوق علي صورته، والإتحاد به. كما كشف أن المسيح هو الله نفسه الذي صار جسدًا ورأينا مجده (يوحنا 1: 14) لذلك فكل الصفات التي يمكن أن تقال عن الآب قيلت عن المسيح. فالكتاب يذكر أنه الله "وكان الكلمة الله" (يوحنا 1: 1) وإنه قادر على كل شيء "هذا الذي كان والذي يأتي، القادر على كل شيء" (رؤيا 1: 8)، وأنه رب "ورب واحد يسوع المسيح" (1كورنثوس 8: 6)، وأنه "النور الحقيقي" (يوحنا 1: 9;8: 12) وغافر الخطايا "ان لابن الإنسان سلطانًا على الأرض أن يغفر الخطايا" (لو 5: 24). وهكذا فإن كل صفات الآب هي للابن، وصفات الابن هي للآب. يقول الرب "كل ما هو لي فهو لك وما هو لك فهو لي" (يوحنا 17: 10). لذلك يمكن بواسطة الابن أن نتأمل لاهوت الآب، لأن الابن هو من ذات جوهر الآب. يقول المخلص "الذي رآني فقد رأى الآب"،"أنا في الآب والآب فيَّ"،"أنا والآب واحد" (1 يوحنا 14: 10،9;10: 30)(32). وبالإجمال يؤكد القديس أثناسيوس أن من يدير ظهره مبتعدًا عن كلمة الله المتجسد ويصطنع له معرفة أخرى فإنه يسقط حتمًا إلى العدم(33). |
||||
09 - 01 - 2023, 06:12 PM | رقم المشاركة : ( 5 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب التجسد: معناه وأهدافه - القمص متياس فريد وهبة *
وفي ختام هذا المقال نود أن نوجز ما قلناه في كلمات قليله، هي كلمات القديس عينها. إن التجسد في معناه هو أن الله أخذ جسدًا مماثلًا تمامًا لطبيعة أجسادنا، وعاش بيننا كإنسان. ولما كنا جميعًا تحت قصاص فساد الموت، بذل نفسه للموت عوضًا عنا وقدمه للآب. أما عن أهداف التجسد، فإن الرب قد فعل ذلك شفقة بنا وذلك: أولًا: لكي يكمل الناموس ويوفي مطلب الآب العادل الذي كان يقضي بهلاك البشر، فيموت عنهم ويرفع عنهم حكم الموت، إذ يستنفذ سلطانه في جسده ويكسر شوكته بقيامته، فلا يعود له سلطان عليهم، بل ويخلصهم من فساد الموت ويعطيهم حياة أبدية. ثانيًا: لمحبة الله للبشر لم يتركهم في جهلهم بل نزل إليهم ليظهر لهم ذاته. وبهذا أمكن لنا أن نعرف الآب في ابنه يسوع المسيح، الذي هو من نفس جوهر الآب... ليت الرب يجذبنا إليه ويوحدنا به ويعلن لنا ذاته ويأتي إلينا هو والآب، وعندنا يصنع منزلًا (يوحنا 14: 23،20). وليت القديس أثناسيوس الرسولي، الذي عاش في القرن الرابع، ولازال بيننا بروحه في كنيسته في القرن العشرين، يطلب عنا أمام الله لكي نشرب من النبع الصافي الذي عب منه وارتوى.. فروى العالم كله. |
||||
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
كتاب العذراء كل حين (للقديس جيروم) - القمص متياس فريد وهبة |
البابا ينعي القمص متياس غالي |
ما هو التجسد؟ وما هو معناه؟ |
رحيل القمص متياس فريد |
القمص متياس تاوضروس |