|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الطريق الي الفردوس ـ القديس باسيليوس الكبير المقدمة : طريق الكمال : من رسالة القديس باسليوس إلى صديقه إيوستاثيوس في سباستيا: أنا أضعت وقتا كثيرا، وكرست معظم أيام شبابي في اقتناء العلوم الأرضية، التي تظهر لي الآن أنها مثل حماقة أمام الله. وفجأة في يوم استيقظت وكأني كنت في نوم عميق، ورأيت النور الشديد للحقيقة السمائية، وأدركت أن كل الحكمة التي تعلمتها من معلمي هذا العالم كانت باطلة، فبكيت بدموع كثيرة لأسفي على حياتي، وصليت ليعطيني الله بعض الإرشادات التي توصلني إلى حياة الإيمان. أول كل شيء فعلته لأصلح مساري القديم في الحياة هو: إنني أختلط بالفقراء، وأمكث أقرأ في الكتاب المقدس. فكرت أن أفضل طريقة للبدء في طريق الكمال هو أن أعتني باحتياجات هؤلاء الأخوة والأخوات المعدومين، وأن أشترى أطعمه وأوزعها عليهم، ونحّيت جانبا كل متعلقات ومشاكل هذا العالم بعيدا عن عقلي بالكلية، وبحثت عن الذين يشاركونني هذا العمل ويسيرون معي في هذا الطريق، حتى وجدت من أبحر معه في محيط هذا العالم. ووجدت كثيرين في الإسكندرية ومصر وآخرين في فلسطين وسوريا وميزوبوتاميا، وتأثرت كثيراً بطريقة اعتدالهم في تناول الطعام، ومثابرتهم في الأعمال، وطريقتهم في أن يقاوموا النوم بالصلاة والتسبيح. حقاً أنهم يبدون كأنهم قادرين على مقاومة أي قوة في الطبيعة، ودائما يعطون لأرواحهم السهر بالكمال حتى ولو كانوا يعانون من الجوع والعطش والبرد والعرى. لم يستسلموا لأهواء أجسادهم أو حتى يعطوه أي اهتمام، وكأنهم يعيشون في عالم آخر، ويظهرون بأعمالهم أنهم حقا غرباء عن هذه الأرض وموطنهم الحقيقي هو المملكة السمائية. حياة هؤلاء الناس ملأتني بالسعادة والتعجب، لأنهم أظهروا أنهم حاملون في داخلهم جسد المسيح، ولهذا قررت, طالما أنا أستطيع, أن أحاول إتباع مثال حياتهم. المقالة الأولي : الفردوس أولا: جمال الفردوس: “وَغَرَسَ الرَّبُّ الإِلَهُ جَنَّةً فِي عَدْنٍ شَرْقاً وَوَضَعَ هُنَاكَ آدَمَ الَّذِي جَبَلَهُ”(تك 2: 8). ليتنا نفكر الآن يا أصدقائي في طبيعة الفردوس، الذي يعتبر منحة من الله، هذا الفردوس الذي يعكس أسلوب وإرادة الخالق العظيم، فقد كتب: “وَأَنْبَتَ الرَّبُّ الإِلَهُ مِنَ الأَرْضِ كُلَّ شَجَرَةٍ شَهِيَّةٍ لِلنَّظَرِ وَجَيِّدَةٍ”(تك 2: 9). لقد أراد الله أن يكون الإنسان هو وحده متفوقا على كل شكل من أشكال الحياة الأخرى، والمكان الذي هيأه الله للإنسان، والذي خلق فيه كل شيء آخر من أجله، أراد الله أن يجعله بارع الجمال، أرضاً مرتفعة لا يمكن أن يُحجب نورها، فكان ذا جمال رائع في آمان تام، وكان بهاؤه يتألق ببريق يفوق كل شيء وينتشر شعاع ضوئه مثل نجم ساطع، فالمكان الذي غرس الله الفردوس فيه لا توجد فيه رياح عنيفة أو طقس موسمي، كما حافظ فيه على اتزان الحرارة، فلا تكون هناك زوابع ملتهبة أو ريح ثلجية أو عواصف رعدية عنيفة، فلا صيف حار، ولا خريف جاف، بل تناسب تام بين كل الفصول، يتعاقب كل فصل وراء الآخر بهدوء، وكل فصل له عطاياه المفرحة، وكانت الأرض مخصبة غنية تفيض لبنا وعسلاً، وتنتج أثماراً يانعة مختلفة، ومحاطة بمياه عذبة شفافة جميلة، تعطى سروراً للعيون، وتمنح الحياة بالحقيقة “كَانَ نَهْرٌ يَخْرُجُ مِنْ عَدْنٍ لِيَسْقِيَ الْجَنَّةَ”(تك 2: 10). ثانيا: قصد الله من خلقة الإنسان: “وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلَهُ آدَمَ تُرَاباً منَ الأَرْضِ وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْساً حَيَّةً. وَغَرَسَ الرَّبُّ الإِلَهُ جَنَّةً فِي عَدْنٍ شَرْقاً وَوَضَعَ هُنَاكَ آدَمَ الَّذِي جَبَلَهُ.”(تك 2: 7-8). لقد خلق الله آدم، ثم في نفس اللحظة خلق الفردوس، وأدخل آدم إليه، حتى لا يخلق البشرية في عوز وفقر، لقد خلق الكمال منذ البداية، ثم أدخل الإنسان فيه، حتى يعرف الإنسان الفرق بين الحياة في الخارج والحياة التي تحدث في داخل الفردوس، فيدرك تفوق جمال الفردوس، وعاقبة السقوط والطرد منه.“وَأَخَذَ الرَّبُّ الإِلَهُ آدَمَ وَوَضَعَهُ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَهَا وَيَحْفَظَهَا”(تك 2: 15)، لابد أن نفكر في كلمات هذه الآية، وتقارنها بكلمات الرب يسوع المسيح له المجد لتلاميذه القديسين: “أَنَا الْكَرْمَةُ وَأَنْتُمُ الأَغْصَانُ”(يو 15: 5) وتعنى هذه الآية أنهم زُرعوا بيد الله، فينبغي أن نبدأ في النمو في بيت الرب ونمتلئ بالثمار في بيت إلهنا “مَغْرُوسِينَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ فِي دِيَارِ إِلَهِنَا يُزْهِرُونَ”(مز92: 13)، قال أيضا داود النبي “طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي لَمْ يَسْلُكْ فِي مَشُورَةِ الأَشْرَارِ”(مز 1:1)“فَيَكُونُ كَشَجَرَةٍ مَغْرُوسَةٍ عِنْدَ مَجَارِيِِ الْمِيَاهِ الَّتِي تُعْطِي ثَمَرَهَا فِي أَوَانِهِ وَوَرَقُهَا لاَ يَذْبُلُ.”(مز 1: 3) لقد كوّن الله المكان الذي يلائم استقبال البشرية، وغرس فيه كل نوع من الأشجار الجميلة، لتفرح قلب الإنسان. كيف أضع أمام عينيك جمال مسكنك الذي طردت منه، فتشعر ليس بالحزن فقط، بل بالحنين إلى كل شيء فقدته، فتتذكر الجمال والسعادة التي كانت هناك، التي لم تختلط بالألم والتعب. أما الآن في أرض الشقاء التي طُردنا إليها، فإن الزهور تخفى داخلها أشواكاً، فتشعر بالسعادة مع الألم، وذلك يرينا أن السعادة في هذا العالم دائماً ممزوجة بالألم، فلا توجد سعادة كاملة على الأرض، لأنها سرعان ما تشتبك مع الأحزان، الزواج مع الترمل، جلب الأطفال مع المتاعب، الولادة مع الموت، الشرف العظيم مع العار العظيم، الصحة مع المرض. عندما أنظر إلى الزهور أحزن، لأن كل وقت أرى فيه زهرة أتذكر خطيتنا التي سببت فساد الأرض حتى أنبتت “شَوْكاً وَحَسَكا”(تك 3: 18) بل إن الزهرة ينتهي جمالها في وقت قصير جداً، فتتركنا ونحن مازلنا نشتاق إليها، ومن اللحظة التي نقطفها فيها تبدأ تموت بين أيدينا. ولكن في الفردوس كانت الزهور يانعة طوال السنة، ورائحتها الزكية لا تتلاشى، وجمالها البراق لا يزول، فهي تبقى جميلة إلى الأبد. فجمال الزروع كلها يعكس عمل وإبداع الخالق العظيم، فالأغصان الكبيرة والصغيرة تحمل الثمار، سواء ذات الفرع الواحد أو ذوات الأفرع الكثيرة، وأوراقها خضراء جميلة، وتظل خضراء يانعة طوال السنة، حتى التي لا تحمل أثماراً فهي تعطى بهجة وسروراً، ولو قارناها بأي شيء في هذا العالم فمقارنتنا لن تكون كافية لتوصلنا إلى الصورة الحقيقية، فكل شيء هناك هو كامل ومتكامل، “وَرَأَى اللهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدّاً”(تك 1: 31). ففي الفردوس كانت هناك جميع الطيور الجميلة، بريشها البديع بكل أشكاله وألوانه، وتغريدها العذب، فتنعش كل الحواس، ومع الطيور كانت كل أنواع الحيوانات تعيش في سلام وانسجام مع بعضها البعض، فلم يكن الثعبان موضع رعب، ولكنه كان أليفا لا يؤذى، ولم يكن يزحف على الأرض على بطنه، بل كان قائماً يتحرك على أرجله، وجميع الحيوانات التي نعتبرها الآن متوحشة وعدوة للإنسان كانت في هذا الوقت أليفة ورقيقة. في هذه البيئة وضع الله الإنسان الذي خلقه، “وَأَخَذَ الرَّبُّ الإِلَهُ آدَمَ وَوَضَعَهُ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَهَا وَيَحْفَظَهَا”(تك 2: 15). فقد خلق الله آدم في مكان ثم أدخل إلى الفردوس، وبنفس الطريقة خلق أولاً النور ثم ثبته في السماء، خلق الإنسان من الطين، ثم وضعه في الفردوس. في الحقيقة قد أبهجتك بوصفي سعادة الفردوس، ولكن شرحت لك في نفس الوقت الحياة الممزوجة بالألم هنا في هذه الأرض، وبالتأكيد سوف يدرك عقلك مقدار المقارنة، ويشتاق إلى مسكنه الحقيقي ويحاول أن يحصل على هذه السعادة التي وعدنا بها الوحي قائلاً: “مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ: مَا أَعَدَّهُ اللهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ”(1كو 2: 9). ولكن من يستطيع أن يعرف ما لم تره عينه أولاً، وما لم تسمعه أذنه أولاً؟، لأن كل شيء ندركه بالحواس لابد أن يُطبع في الذاكرة، ولكننا عندما نشرح ونصف الفردوس بالطريقة الجسدية التي أشرنا إليها سابقاً، فأننا نستطيع أن نحس روحياً بواسطة الرموز مقدار جمال هذا المكان، لأنه كُتِبَ “وَغَرَسَ الرَّبُّ الإِلَهُ جَنَّةً فِي عَدْنٍ شَرْقاً”(تك 2: 8). فنجد أنه لم يخبرنا بكل شيء عن هذا المكان، ولكننا نستطيع أن نقول أن “عَدْنٍ” هي السعادة أو “المتعة”، من أجل هذا لعلك تستطيع أن تعطى صورة للفردوس في عقلك حيث النور الإلهي، والسعادة الروحية، فإنك لو تخيلت مكاناً على الأرض يعيش فيه القديسون، متألقين بنور فضائلهم، ويتمتعون بنعمة الله، ويعيشون في حياة هادئة بالحق والعدل والسعادة، فهذا المكان لن يكون بعيداً عن الصورة المنطقية للفردوس. ثالثا: السعادة الحقيقية: ولكن ما هي هذه السعادة التي نقصدها؟ أهي الأطعمة التي تدخل الفم وتصل إلى المعدة وتخرج وتنتهي؟ أهذه العطية وهبت لجنس البشر بإحسانات الله، لكى تكون هناك معدة ممتلئة وجسم ممتلئ صحة، وشهوات وقتية؟ أهذا هو ما لا نستطيع أن نعبر عنه بالكلمات؟ هل السعادة الحقيقية هي أن نتكبر بقسوة ونطلب أن نسّمن أجسادنا، ونغرق نفوسنا في ارتكاب الخطايا والشهوات؟ لابد أن نعرف أن هذه كلها، هي بعيدة تماما عن السعادة، وبعيدة عن المعنى الذي من أجلها خلقها الله. إذن ما هو نوع هذه السعادة التي تتفق مع الفضيلة والقداسة، ومع قصد الخالق العظيم ؟ . في الفردوس تجد هناك الجموع الكثيرة من الملائكة الأطهار القديسين، وهناك الأساس المتين لكل الفضائل الروحية، هناك التسبيح الدائم وثماره النقاوة والطهارة، وهناك نهر ماء الحياة، نهر الله، الذي من عرشه تنبع المياه التي تبهج مدينة الله، التي صنعت وشيدت بالله “نَهْراً صَافِياً مِنْ مَاءِ حَيَاةٍ لاَمِعاً كَبَلُّورٍ خَارِجاً مِنْ عَرْشِ اللهِ وَ الْحَمَلِ”(رؤ 22: 1). هذا النهر هو الذي ينبع من عدن ( السعادة الحقيقية ) ويروى الفردوس “وَكَانَ نَهْرٌ يَخْرُجُ مِنْ عَدْنٍ لِيَسْقِيَ الْجَنَّةَ”(تك 2: 10)، هذا هو نهر التمتع الدائم برؤيا الله، والشبع الكامل بالتأمل في مجد المسيح وجماله، وفى سلامنا الدائم من أجل تواجدنا في حضرته. هذه كلها أرشدت القديسين، ولابد لكل المؤمنين أن يقوموا بتداريب روحية صارمة، حتى يصلوا إلى حياة الكمال، هذه التي أرادها الله لكل سكان الفردوس. عندما تفكر في هذا، ستشكر الله صانعها الذي خلق كل هذا لأجل سرورك، وبذل كل جهد حتى يجعلك مستحقا لها. وعندما تتجه إليه، حينئذ سيستنير عقلك وستفهم أساس خلقتنا، ومصير آخرتنا، له المجد إلى الأبد أمين. المقالة الثانية : الآلام والتجارب والأحزان أولا: الله يسمح بالألم لأجل نفعنا: إذا لحقت العواصف والأمواج العاتية بأية سفينة مسافرة في البحار، فإنها تتحطم وتغرق، إلا إذا كان قبطانها الذي يقبض على دفة السفينة خبيرا بالبحار، كذلك كل من يصادفه الضيق والتجارب والأحزان، يمكن أن تتحطم روحه، وأمله في الخلاص أيضا يتحطم، إلا إذا كان يسترشد بتعاليم إلهنا له المجد. مهما كانت مشاكلك، ثقل عليك الفقر، أو فقدت وضعك العالمي، وأجبرت أن تنزل إلى حياة مشينة، أو أصابك مرض أو ضعف، أو فقدت أحد أولادك أو أحبائك، أو ثقل عقلك أو قلبك بالهموم، أو تغطى جسدك بقروح الجذام، أو ابتعد عنك الناس وتجنبوك، لا تسمح لنفسك أن تنكسر بأي من هذه الأحزان الفظيعة، بل إسعى إلى السلام الداخلي في تعاليم الله، وحينئذ ستجد العزاء الكامل، إذا قرأت في تعاليم ووصايا سيدنا له المجد، فستصبح قبطانا جيدا تدير سفينتك إلى ميناء هادئة، وتجد نفسك منقادا إلى الهدوء والسلام الداخلي. ثانيا: الله يؤدبنا لأنه يحبنا: لا تفكر يا صديقي عندما تحل عليك واحدة من هذه المحن أن هذا نتيجة كره الله لك، فأرسل عليك هذه التجارب كعقاب، أو حبه قد تغير نتيجة لأفعالنا، بل إصغي إلى كلام الله من خلال حكمة سليمان في قوله (أم 3: 11), يا أولادي لا تبتعدوا عن التصاقكم بالله عند تأديبه إياكم لأن تأديب الرب هوعلامة حبه لكم (عب 12: 5-11)، الوالدان لا يتوانيان في عقاب الابن المذنب الذي يحبونه جدا وكذلك المدرس غالباً يضرب التلميذ حتى يصلح سلوكه. كذلك الله يؤدب الصدّيق حتى يجعله يعيش حياة أفضل في المستقبل، وأيضا ليؤنبه على أعماله السابقة. أنا سأثبت هذا الكلام من وحى الروح القدس، لكن قبل أن أفعل هذا سأريكم أن الله يسمح للصدّيق بالتجارب، حتى تظهر استحقاقاته بأكثر وضوح، كما قال معلمنا يعقوب في رسالته: “اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ فِي تَجَارِبَ مُتَنَّوِعَةٍ. عَالِمِينَ أَنَّ امْتِحَانَ إِيمَانِكُمْ يُنْشِئُ صَبْراً. وَأَمَّا الصَّبْرُ فَلْيَكُنْ لَهُ عَمَلٌ تَامٌّ، لِكَيْ تَكُونُوا تَامِّينَ وَكَامِلِينَ غَيْرَ نَاقِصِينَ فِي شَيْءٍ.” (يع 1: 2-4)، ثم قال “طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي يَحْتَمِلُ التَّجْرِبَةَ، لأَنَّهُ إِذَا تَزَكَّى يَنَالُ «إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ» الَّذِي وَعَدَ بِهِ الرَّبُّ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ” (يع 1: 12). ولهذا يا أصدقائي لابد أن نفرح عندما نعانى آلاما متعددة، أو نجّرب بحروب عنيفة من قبل الرب إلهنا العادل. فأننا لا نفرح فقط إذا كان كل شيء يسير على ما يرام، بل نفرح عندما يكون كل شيء ضدنا، ونتذكر كلام بولس الرسول “نَفْتَخِرُ عَلَى رَجَاءِ مَجْدِ اللهِ. وَلَيْسَ ذَلِكَ فَقَطْ بَلْ نَفْتَخِرُ أَيْضاًفِي الضِّيقَاتِ عَالِمِينَ أَنَّ الضِّيقَ يُنْشِئُ صَبْراً. وَالصَّبْرُ تَزْكِيَةً وَ التَّزْكِيَةُ رَجَاءً. وَالرَّجَاءُ لاَ يُخْزِي لأَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ قَدِ انْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الْمُعْطَى لَنَا”(رو 5: 2-5) كثيراً من الفوائد تعطى للصديق من خلال خبراته في التجارب، وبنفس الطريقة الأرض لا تثمر وتصبح غنية ما لم يتعب فيها الفلاحون، ويعملون بجهد كبير في زراعتها، وبدون بذل هذا المجهود ليس فقط أن الأرض تقف عن إعطاء ثمرها لجنس البشر، بل ستتحول إلى النقيض وتنبت الشوك والحسك.لهذا إذا لم يتحمل الناس المتضعين الآلام القاسية التي تجلبها عليهم المحن التي يتعرضون لها فأنهم سيقعون باستمرار في الخطية وينحرفون عن الطريق الصحيح. لقد تعلمنا هذا من معلمنا بولس الرسول الذي كان رجلاً فاضلا بحق، وأُخذ إلى السماء الثالثة ودخل الفردوس،“وَسَمِعَ كَلِمَاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا، وَلاَ يَسُوغُ لِإِنْسَانٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا”(2كو 12: 4) ، وأكتشف أن التدبير الإلهي قد أرسل ملاك الشيطان ليعذبه حفظاً له من التكبر، فأعلن ذلك إلى أهل كورنثوس قائلاً: “وَلِئَلاَّ أَرْتَفِعَ بِفَرْطِ الإِعْلاَنَاتِ، أُعْطِيتُ شَوْكَة ًفِي الْجَسَدِ، مَلاَكَ الشَّيْطَانِ، لِيَلْطِمَنِي لِئَلاَّ أَرْتَفِعَ. مِنْ جِهَةِ هَذَا تَضَرَّعْتُ إِلَى الرَّبِّ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ أَنْ يُفَارِقَنِي. فَقَالَ لِي: «تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي الضُّعْفِ تُكْمَلُ». فَبِكُلِّ سُرُورٍ أَفْتَخِرُ بِالْحَرِيِّ فِي ضَعَفَاتِي، لِكَيْ تَحِلَّ عَلَيَّ قُوَّةُ الْمَسِيحِ. لِذَلِكَ أُسَرُّ بِالضَّعَفَاتِ وَ الشَّتَائِمِ وَ الضَّرُورَاتِ وَ الاِضْطِهَادَاتِ وَ الضِّيقَاتِ لأَجْلِ الْمَسِيحِ. لأَنِّي حِينَمَا أَنَا ضَعِيفٌ فَحِينَئِذٍ أَنَا قَوِيٌّ” (2كو 12: 7-10) ليتنا نفرح ونتحمل بصبر كل شيء يجربنا به العالم، ونحن واثقين أننا دائما في الله. لا نكون ساذجين بهذه الدرجة، حتى نتوقع أن بعدما نتمتع في هذه الحياة طوال الوقت برفاهية وفيرة، نأخذ أيضاُ في السماء عطايا في الحياة الأخرى. منْ مِن القديسين استطاع أن يتحاشى أو يتحرر من أخطار هذا العالم ؟! فلو فحصت حياتهم بعناية ستجد أنه لا يوجد قديس واحد هرب من ضيقات هذا العالم، أو لم يعانى من تجارب هذا العالم بصبر، لكى يصل إلى حقيقة المجد الغير قابل للفساد. كان لأب الآباء إبراهيم إيمانا عميقاً وأحب الله واستعد لأن يغمد السكين في جسد ابنه الحبيب إسحق، واختار أن يصير قائلا أفضل من أن يصير غير أمين لوصايا الله، وكأنه سمع مسبقا كلام مخلصنا حينما قال “مَنْ أَحَبَّ ابْناً أَوِ ابْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي”(مت 10: 37) فلكي يكون مستحقا لله اتبع الوصايا الإلهية وقدم ابنه الوحيد كضحية، دون أي إحساس بالأسى. لأنه سوف يقتل وريثه الوحيد. لماذا لم يشعر بالحزن؟ ذلك لأن قلبه كان مفعما بمحبة الله ونار إيمانه حطّم كل الأحزان. هذا هو نوع من الرجال الذين أحبوا الله بالحقيقة، والذي تكلم الله عنه وشهد له قائلا: “الْآنَ عَلِمْتُ أَنَّكَ خَائِفٌ اللهَ فَلَمْ تُمْسِكِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ عَنِّي”(تك 22: 12) كان لا يمكن بدون هذه التجربة والضيقات، وتحمله لكل شيء أن يستحق أن يدعى أبا لكل القديسين. ثالثا: الله الطبيب السمائى: يا أصدقائي لا تيأسوا عندما تصيبكم الأحزان، ولكن كونوا أقوياء شاكرين الله على كل شيء يرسله. عندما يعانى جسدكم جميع أنواع الآلام لا تيأسوا، ولا تسمحوا لأرواحكم بأن تتحطم، أو تصرخوا ضد الله، بل بدلا من ذلك تذكروا مثال أيوب الذي أدهش الجميع بصبره، تذكروا عندما قال كما أراد الله سيكون “فَلْيَكُنِ اسْمُ الرَّبِّ مُبَارَكاً”(أي 1: 21) أنا أعرف أناساً تغطى جسدهم بآثار الجذام، ووصلوا إلى مرحلة من اليأس حتى اعتقدوا أن الله قد تخلى عنهم نهائياً، ولكن يلزم لكل واحد فينا أن يركّز نهارا وليلا ليدرك الأحكام الإلهية، إن الله عادل، وعدله أغلى من الذهب والحجر الكريم وأحلى من العسل، وهو الذي يقوم بالعلاج الحقيقي للأمراض لأن آلام المرض تستمر مدة قصيرة فقط أما الروح المتألمة فتستمر إلى الأبد. صدقني يا صديقي أن الجسد لا يمكن أن يعود نظيفا بعد اتساخه بنفس الدرجة التي تصير إليها الروح بعد أن تنتقى. ألا يحتاج الطبيب الذي يعالج المريض أن يفتح الجلد بالمشرط، أو في بعض الأحيان يحتاج على الكي ليستأصل الألم الذي يسببه المرض؟ إنك لا تعارض الطبيب الذي يفعل هذا، بل تكافئه بمنحة هدية. الله الطبيب السمائى بمشاعره الأبوية لديه الرغبة الأكيدة لمساعدة الذين خلصهم من الموت. لهذا السبب يرسل لنا ضيقات وقتية حتى يحرّر أرواحنا من الضيقات التي تؤدى على موتها الأبدي. لهذا يا أصدقائي مهما أرسل الله من محن، لابد أن نتقبلها بالرضي، وبدون تذمر، حتى نستحق أن نكون في مدينة الله، بل إنك ستشعر بالألم والأسى بالحقيقة، إذا حرمت من هذه المدينة، ولذلك تحمّل كل شيء بحكمة وإتضاع نحو الله، حتى تكون نفسك مستعدة وأهلاً لمواطنة هذه المدينة وهذا الفردوس وتكون إلى الأبد في العرس السمائى. أسألك يا صديقي أن تضع اضطرابك ويأسك جانباً ولا تسمح للألم أن يوصلك إلى اليأس من المستقبل. لا تصدق هؤلاء الناس الأغبياء الذين يعتقدون إنهم سيبعثون مرة أخرى يوم القيامة وأجسادهم ستكون في صورتها الحالية، إن هذه تفاهة وخرافة وليس لها أي أساس. في الحقيقة أنا اسأل من يعتقدون هكذا أن يدلوني في أي صفحة في الإنجيل يوجد هذا، أنا متأكد إنهم لو فحصوا الإنجيل بدقة سوف لن يجدوا هذه الأكذوبة وهذا الخطأ الفاحش. إن الجهل يخلق نفسا متعبة وعقلا فارغا، إن هذا هو دمار رهيب !. دعونا يا أصدقائي نترك هذه الجهالة، ونعود لنجد الحكمة في كلمات الوحي الإلهي، ولننظر إلى القائل: “عَلِّمْنِي يَا رَبُّ طَرِيقَ فَرَائِضِكَ فَأَحْفَظَهَا إِلَى النِّهَايَةِ. فَهِّمْنِي فَأُلاَحِظَ شَرِيعَتَكَ وَأَحْفَظَهَا بِكُلِّ قَلْبِي. دَرِّبْنِي فِي سَبِيلِ وَصَايَاكَ لأَنِّي بِهِ سُرِرْتُ”(مز 119: 33-35)، فإنه إن علمك الله الطريق، فلن تتذبذب مع العواصف التي حولك. رابعا: احتمال الألم عربون القيامة: تذكر الرجاء الذي كان في أيوب في وسط معاناته الصعبة, والقوة التي أظهرها عندما كان جسده ينهار بالألم. لأنه آمن أن الألم يحضر جسده ليوم البعث فقال: “أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ وَلِيِّي حَيٌّ وَالآخِرَ عَلَى الأَرْضِ يَقُومُ. وَبَعْدَ أَنْ يُفْنَى جِلْدِي هَذَا وَبِدُونِ جَسَدِي أَرَى اللهَ. الَّذِي أَرَاهُ أَنَا لِنَفْسِي وَعَيْنَايَ تَنْظُرَانِ وَلَيْسَ آخَرُ”(أي 19: 25-27). أنتم أيضا يا أصدقائي لابد أن يكون فيكم هذا الرجاء، والثقة في أنكم ستصلون إلى بهاء الخلود في العالم القادم، لأنه بهذا الرجاء تصير كل الآلام الحاضرة سهلة وخفيفة لنتحملها. حقاً إن الألم لن يعتبر عقابا ونبعا للحزن، ولكن سيملأ روحنا بالفرح. دعنا نتكلم باختصار على انتقال الجسد، منصتين إلى كلمات معلمنا بولس الرسول التي قالها باستفاضة ووضوح تام، للذين كانوا غير متأكدين بل ومتشككين في هذا الموضوع، سألوه كيف يقوم الموتى، وفى أي شكل؟ فأجاب قائلاً: “يَا غَبِيُّ! الَّذِي تَزْرَعُهُ لاَ يُحْيَا إِنْ لَمْ يَمُتْ. وَالَّذِي تَزْرَعُهُ لَسْتَ تَزْرَعُ الْجِسْمَ الَّذِي سَوْفَ يَصِيرُ بَلْ حَبَّةً مُجَرَّدَةً رُبَّمَا مِنْ حِنْطَةٍ أَوْ أَحَدِ الْبَوَاقِي. وَلَكِنَّ اللهَ يُعْطِيهَا جِسْماًكَمَا أَرَادَ. وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبُزُورِ جِسْمَهُ”(1كو 15: 36-38). حبة الحنطة التي تدفن في الأرض تبدو كأن ليس لها معالم الحياة، ولكن مجرد أن تثبت جذورها في الأرض تدفع بساقها، وتنتج سنابل متعددة، تلبس كل منها ثوبا نباتيا جميلا، هذا يفسر قوله أن الله يعطيها جسما كما أراد، ولكل واحد من البذور جسمه. بنفس الطريقة الجسم الفاسد الذي يدفن في أعماق الأرض، لا توجد له حياة في ذاته، فهو كحبة الحنطة التي تظهر بذور الحياة، وذلك عندما يأمر الله في يوم القيامة أن يأتي، سوف لا يقوم فاسداً وفانياً، بل سيقوم عادم الفساد خالداً، لأنه مكتوب أيضاً “هَكَذَا أَيْضاً قِيَامَةُ الأَمْوَاتِ: يُزْرَعُ فِي فَسَادٍ وَيُقَامُ فِي عَدَمِ فَسَادٍ. يُزْرَعُ فِي هَوَانٍ وَيُقَامُ فِي مَجْدٍ. يُزْرَعُ فِي ضُعْفٍ وَيُقَامُ فِي قُوَّةٍ. يُزْرَعُ جِسْماً حَيَوَانِيّاً وَيُقَامُ جِسْماً رُوحَانِيّاً. يُوجَدُ جِسْمٌ حَيَوَانِيٌّ وَيُوجَدُ جِسْمٌ رُوحَانِيٌّ”(1كو 15: 42-44) هذا يعنى إن الجسد الذي لنا الآن سينتهي مباشرة بعد الموت. ويتعفن ويكون غذاء للدود، بل وحتى قبل الموت يأخذ جسدنا في الانحلال بصفة مستمرة حتى قبل خروج النفس، فجميع أطراف الجسد تبدأ تضعف. وتبدأ في عملية الانحلال. أننا نعانى من الأذى ومن أسقام غير محصاة، جوع، عطش، تعب، شدّ عصبي، درجات مرارة متفاوتة، لأن في هذه الحياة نحن نتكون من جسد طبيعي وروح. في الوقت الحاضر لنا جسم آدمي، ولكن في المستقبل سيكون جسم روحاني، لأنه يوجد جسم حيواني، وجسم روحاني، ويوجد بهاء آدمي وبهاء سمائي. البهاء الآدمي الذي نعيش به على الأرض مؤقت ومحدود، بينما السمائى لا نهائي وغير محدود، سيظهر عندما يتحول الفساد إلى عدم فساد، والفناء يتحول إلى خلود. يا صديقي لا يوجد شك أنك ستحصل على الجسم السمائى، ولا تظن أنه لأن جسدك الحالي مغطى بالقرح الجذامية أو أي تشوه آخر انك تحرم من البهاء السمائى لهذا السبب. على النقيض كأمثلة لعازر وأيوب، إننا سنكون أكثر استحقاقا للدخول إلى الملكوت السمائى. فقط سنمنع من الدخول إلى الملكوت إذا كانت خطايانا تبقى داخلنا، ونحرم من الملكوت إذا فكّرنا أن الله إلهنا القادر على كل شيء لا قوة له. الإنسان الذي يفكر في أن الله لا قوة له هو الإنسان الذي يعتقد أن الله لا يستطيع أن يصلحه ويغيّره. وبالتأكيد أنت لا تعتقد هكذا في الله الذي يمكن له أن يعيد الحياة من جديد وينعش الحياة الجافة ويحيى العظام واللحم. ألا يستطيع أن يحولهم إلى بهاء سمائي؟ أنك لا تستطيع أن توافق أن الله القادر على كل شيء يعجز عن هذا، وتنكر أنه لا قوة له في صنعها. خامسا: التجارب تؤدى إلى النمو الروحي: ربما وصلت مرة من المرات إلى مرحلة اليأس من الحياة، وفكرت في أن كل الناس قد تخلوا عنك، وأنك محاط بالأحزان لأجل الخطايا التي ارتكبتها. ولكن يجب أن تعتبر هذا إعلان عن حب الله لك أكثر من كرهه لك، لأن الرب في هذه الحياة يحب أن يضبطنا لأننا أولاده، لكى تكون أرواحنا في الحياة الأخرى في حالة طهارة ونقاوة. مكتوب في الكتاب المقدس “لأَنَّ الَّذِي يُحِبُّهُ الرَّبُّ يُؤَدِّبُهُ، وَيَجْلِدُ كُلَّ ابْنٍ يَقْبَلُهُ”(عب 12: 6). فلذلك إذا وجدت إنساناً ارتكب أخطاء عظيمة، ولم يعاقبه الله ولم يتألم جسده بأي نوع من الأمراض أو المحن، فتأكد انه متروك من الله لضخامة هذه الخطايا، وهذا الإنسان لا يعاقب من الله لأنه غير مستحق الخلاص. ولكن أنت توبخ حتى لا تُسلم إلى الموت الأبدي، يقول داود النبي “تَأْدِيباً أَدَّبَنِي الرَّبُّ وَإِلَى الْمَوْتِ لَمْ يُسْلِمْنِي”(مز 118: 18). حتى أورشليم عندما ارتكبت جريمة أمام الله بقتلها الأنبياء الذين أرسلوا إليها لخلاصها، عانت من الدمار والسبي إلى بابل حتى يرجع أولادها إلى المسار الصحيح، فهذا تأديب يؤدى إلى الإصلاح، فبعد انقضاء سبعين سنة رجعت المدينة مرة أخرى إلى مجدها السابق، وأظهر الله تحننه وأرسل لها كلمات التعزية على يد رجال الله الأنبياء القديسين قائلاً: “قَدْ رَجَعْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ بِالْمَرَاحِمِ”(زك 1: 16)“وَالرَّبُّ يُعَزِّي صِهْيَوْنَ بَعْدُ وَيَخْتَارُ بَعْدُ أُورُشَلِيمَ”(زك 1: 17). لو كنت مسيحيا بالحق فلابد أن تفرح لو قابلتك المصاعب لأنك ستكون أكثر استحقاقا. ولو كنت خاطئا فلابد أن تفرح لو تألمت لأنه بهذه الطريقة ستنظّف من خطاياك، وتجد عزاء في وقت رجوعك. الآلام ذات فائدة في كل حالة، لأن الروح المنسحقة تعتبر ذبيحة لله، والله لا يحتقر القلب النادم والذليل. إذا أدب الله خاطئا ما، ولكنه رفض أن يغير طريقه القديم، وأنتابه اليأس من الحياة وقال “لا توجد لدىّ فرصة للغفران، الله تخلى عنى، كل حياتي إلى الهلاك ولا أتوقع سلام بعد الموت”. مثل هذا الشخص يظهر علامات موته، ووقوعه تحت سيف اليأس، وينضم على تلك المجموعة التي يقول عنها النبي “لَمْ يَرْضُوا مَشُورَتِي. رَذَلُوا كُلَّ تَوْبِيخِي”(أم 1: 30). يا أصدقائي تحاشوا أن تصيروا هكذا بل لابد أن تستعدوا وترحبوا من كل القلب بحكم الله، كما قال داود النبي: “مَا أَحْلَى قَوْلَكَ لِحَنَكِي! أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ لِفَمِي”(مز 119: 103). سادسا: قساوة التأديب: في بعض الأحيان يظهر التأديب أنه قاسى، ولكنه بعد ذلك يخف وينتهي في المستقبل، هذا التأديب يحولك عن الخطية ويوصلك إلى طريق الفضيلة. بسببه ستقهر الموت وتجد الحياة، ستتحاشى العقاب الفظيع في المستقبل، وتكسب الفرح الأبدي، ستتحول بعيداً عن الكبرياء وتتجه إلى السلام والخضوع لله، تذكر دائما القائل“خَيْرٌ لِي أَنِّي تَذَلَّلْتُ لِكَيْ أَتَعَلَّمَ فَرَائِضَكَ” (مز 119: 71). لو حفظت كل ما قلته لك ووضعته في قلبك، ودمت صادقا في النعمة والبركة، وكنت دوما تشكر الله، فإنك دائما ستشعر بروح الله في داخلك، لأن كل أحد يضع فكره في الله، فإن الله لن يتركه أبدا، سوف يخفف آلام الجسد، ويقوى قدراتك إلى المنتهى، وحتى لو كان جسدك مُغطى كله بجروح متقيحة، تستطيع أن تبقى في هدوء ذهني ونفسي منضبط ومتزن، بمساعدة إلهنا يسوع المسيح الحي الذي له المجد إلى الأبد أمين… المقالة الثالثة : الإيمان الحقيقي أولا: فكر الرب في عقولنا وقلوبنا: يقول داود النبي الرسول: “أَفْكَارَكَ يَا اللهُ عِنْدِي! مَا أَكْثَرَ جُمْلَتَهَا!” (مز139: 17). ويقول معلمنا بولس الرسول : “لأَنَّهُ مَنْ عَرَفَ فِكْرَ الرَّبِّ فَيُعَلِّمَهُ؟ وَأَمَّا نَحْنُ فَلَنَا فِكْرُ الْمَسِيحِ”(1كو 2 : 16). إنه حقاً شيء جيد إن نحتفظ بفكر الله العلىّ في عقولنا، وأي إنسان مسيحي حقيقي لا يتوقف عن أن يفعل هذا. ولكن لكى نعبّر عن هذا الفكر في كلمات، فهذه مخاطرة صعبة جداً، لأن ذكاؤنا غير كاف ليتعامل مع هذا الموضوع، واللغة التي نستطيع أن نعبر بها هي قاصرة وفقيرة عن وصف ذلك. لكن الرغبة في تمجيد الله هي طبيعة موجودة في كل مخلوق عقلاني، إلا أن القدرة للتعبير عن هذا الموضوع بكفاءة ليست متساوية. لا يوجد إنسان إلا ويرى في نفسه أنه قاصر وعاجز تماماً عن إدراك هذا، وكلما تعمق في الفهم في هذا الاتجاه فإنه يشعر أكثر بالجهل. فبالرغم من أن الاثنان إبراهيم وموسى وصلا إلى أعلى قامة ممكن أن يصل إليها فهم البشر، إلا أنهما شعرا بضآلتهما أمام وجه الله، فقال إبراهيم أنى فقط تراب (تك 18 : 27)، وموسى فكّر في أن صوته ضعيف ولسانه متلعثم (خر 4: 10)، لأنه وجده غير قادر على التعبير عن كنه القوة العقلية. ولكن لأن جمهور المستمعين لي قد جاءوا ليسمعوا ما أتكلم به عن الله، ولأن الكنيسة دائما مستعدة أن تسمع، كما هو مكتوب “لاَ تَمْتَلِئُ مِنَ السَّمْعِ”(جا 1: 8)، أنا أشعر إنني مرغم أن أتكلم بأكبر قدر من قدراتي، وسوف لا أتكلم عن الله كما هو، بل سأتكلم عن الله كما نفهم نحن فقط. ولذلك فإذا أردنا أن نتحدث، يعتبر هذا فوق طاقة قدرتنا، لأنه حتى لو كان لدينا لسان الملائكة في كل طبيعتهم الذكية، فلا نستطيع أيضا أن نقدم إلا جزيئات صغيرة في هذا الموضوع لو أردت أن تتكلم عن الله أو تستمع إلى الله فلابد أن تسمو بجسدك وحواسك، وتعلو بعيدا فوق الأرض والبحر، وتترك الغلاف الجوى السفلى ورائك وتسافر فيما وراء الزمن والإيقاع الطبيعي للأرض ونظامها، وتحلّق في الجو فوق الكواكب مع أشكالهم وأحجامهم المذهلة، وكل شيء يجعلها تسير في انسجام، وضوءها والوضع والحركة في التجاذب والتنافر مع بعضهم البعض، وعندما تذهب فيما وراء هذا ارتفع فوق في السماء وزد ارتفاعا وانظر حولك، وعقلك يفكر في هذا الجمال الذي هناك. الله وجموع المرنمين من الملائكة ورؤساء الملائكة، ومجد هذه المنطقة، صفوف العروش، القوة، السلطة، الكرامة، وبعد أن مررت بكل هذا تأمل كل واحد منهم بعقلك. في النهاية ستصل إلى الطبيعة الإلهية التي مازالت ثابتة، وهادئة، لا تتغير، بسيطة، نقية، واحدة لا تتجزأ، قوة تفوق الوصف، ومقدار غير محدود من المجد الذي لا يعبّر عنه، جمال لا يمكن أن تتصوره، الذي هو أداة جذابة حقيقية لأرواحنا المجروحة، ولكن لا تعبر عنها بالكلمات. ثانيا: جمال الله: الآن ما هو أعظم من الجمال الإلهي؟ ما هو أبهج من التفكير في روعة الله؟ ما هو أقوى من اشتياقات النفس التي تحل عليها نعمة من الله؟ تلك التي تنقيها من الشرور، وهى صارخة بالحب الحقيقي “إِنِّي مَرِيضَةٌ حُبّاً” (نش 2: 5) ! بريق الجمال الإلهي يفوق كل عبارات ووصف، فالكلمات لا تستطيع أن تعبر عنه، وقوىّ السمع لا يستطيع أن يستقبلها، فلا تستطيع أن تقارنه بإشعاعات كوكب الصبح أو القمر المضيء أو ضوء الشمس في نصف النهار، كل هذه المقارنات بالتأكيد تفشل في أن تعبر عن الطبيعة الحقيقية لهذه الإضاءة السمائية. كمثل مقارنة ظلام الليلة الغير قمرية الدامس مع شمس ساطعة في منتصف النهار. الجمال الحقيقي لا يرى بالعين البشرية، ولكن يلتقط فقط بالروح والعقل، عندما يحدث ويشع في واحد من القديسين، ويترك وراءه اشتعالا من الحنين الذي لا يحتمل، والقديسون الذين يدركون حقيقة هذه الحياة الحاضرة يصرخون دائما وحسرتاه لقد طالت حياتي هنا ، أو “مَتَى أَجِيءُ وَأَتَرَاءَى قُدَّامَ اللهِ!”(مز 42: 2) ، أو “أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ الْمَسِيحِ. ذَاكَ أَفْضَلُ جِدّاً” (في 1: 23) أو “عَطِشَتْ نَفْسِي إِلَى اللهِ إِلَى الإِلَهِ الْحَيِّ” (مز 42: 2) ، أو “الآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ يَا سَيِّدُ حَسَبَ قَوْلِكَ بِسَلاَمٍ” (لو 2: 29) . لأن هذه الحياة تظهر وكأنها سجن لأرواحهم، التي تلامست بالإشتياقات الإلهية، فأصبحوا نادراً ما يستطيعون أن يتحكموا في رغبتهم الملحّة للانطلاق، ورغبتهم ليروا جمال السماء الذي لا يشبعوا منه، ويتضرعون أن يستمر تفكيرهم في محبة الله بدون انقطاع في الحياة الأبدية. طبيعتنا البشرية تحب الجمال، والصلاح دائما جميل، ويستحق الحب، الله هو الصلاح وكل الأشياء تحتاج إلى الصلاح وبالتالي كل الأشياء تحتاج لله… ثالثا: معونات الرب يسوع المسيح: من خلال الابن الوحيد جاءت كل أنواع المعونات للإنسان، وكل واحدة منها أخذت اسما خاصا بها. فعندما يجتذب إليه النفوس الطاهرة، التي لم يشوبها شائبة ولا نجاسة، مثل “عَذْرَاءَ عَفِيفَةً”(2كو 11: 2) ، فهو عندئذ يدعى ” عذراء النفوس”. وعندما يؤدب ويعالج النفوس التي إنجرحت من ضربات الشيطان الذي أسقطها في الخطية، ففي هذه الحالة يدعى ” طبيب النفوس”. إن كل اهتماماته العظيمة بنا لا تجعلنا نستهين بقوته العظيمة أو بمحبته الكاملة للبشرية، تلك التي جعلت مخلصنا له المجد يعانى معنا أسقامنا، وأن ينزل إلى حالتنا التي في الضعف. لأنه لا السماء ولا الأرض ولا كل البحار والمحيطات ولا المخلوقات التي تعيش في الماء أو على الأرض، ولا أي من النباتات، ولا النجوم ولا الهواء ولا كل الفصول، ولا كل الموجودات المختلفة التي في الكون، تستطيع أن تظهر جيداً سمو قوته. لأنه بالحقيقة هو الإله الغير محدود، الذي استطاع بغير استحالة أن يقابل الموت من خلال جسده، وبآلامه الخاصة، منحنا الحرية من المعاناة كما قال معلمنا بولس الرسول “لَكِنَّنَا فِي هَذِهِ جَمِيعِهَا يَعْظُمُ انْتِصَارُنَا بِالَّذِي أَحَبَّنَا”(رو 8: 37). هذه العبارة لا توحي ببساطة هذه المهمة التي قام بها ربنا له المجد، ولكن على العكس تبين لنا عظم المساعدة التي أعطيت لنا بقوة لاهوته، حتى نحصل على انتصارنا. إن كلمة الله الخالق وحيد الجنس، هو مانح المعونة، وهو موزع مساعداته المتنوعة والكثيرة لكل الخليقة كل حسب احتياجه: فالمحبوسون في ظلام الجهل يعطيهم النور، لذلك هو يدعى “النُّورُ الْحَقِيقِيُّ”(يو 1: 9). عندما يقبل التائبين فهو عندئذ الديان، ولذلك يدعى “الدَّيَّانُ الْعَادِلُ”(2 تي 4: 8) ، “لأَنَّ الآبَ لاَ يَدِينُ أَحَداً بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ الدَّيْنُونَةِ لِلاِبْنِ”(يو 5: 22). عندما يقيم الساقطين من الحياة إلى أسفل الخطية، فهو يدعى “الْقِيَامَةُ”(يو 11: 25) ، لأنه هو الذي قام من الموت وبعث الحياة، هو “الخالق” لكل الأشياء بلمسة من قوته وإرادته الإلهية، هو “الرَّاعِي”(يو 10: 11) ، هو “الْمُنِيرُ”(رؤ 22: 16) ، هو “المغذى”، هو “المقوي”، هو “المرشد” (حك 7: 15) ، هو ” الشافي “، هو “الْمُقِيمِ”(مز 113: 7) ، هو الذي “يدْعُو الأَشْيَاءَ غَيْرَ الْمَوْجُودَةِ”(رو 4: 17) ، وهو الذي “يثبت كل الخلق”(سي 42: 17). لذلك كل المعونات الجيدة تأتينا من الله خلال ابنه الوحيد الجنس، الذي يعمل في كل حالة بسرعة عظيمة أسرع من أن ينطقها اللسان، فلا البرق، ولا سرعة الضوء في الهواء، ولا لمحة العين، ولا حتى حركة الفكر، تماثل سرعة استجابته، لأن القدرة الإلهية تفوق كل هذا. رابعا: الباراكليت: الروح القدس لا يستريح في النفس البشرية إلا بعدما تبتعد هذه النفس عن المؤثرات والأهواء التي أتت عليها نتيجة مرافقتها للجسد، والتي أدت بالتالي على انتزاعها من صداقتها لله. فعندما يتنقى الإنسان من العار الذي أصابه بوقوعه في الرذيلة، ويرجع إلى الجمال الأصلي لطبيعته، التي هي الصورة الملوكية النقية، وترجع النفس إلى شكلها الأصلي، بعد هذا يمكن لها أن تقترب إلى ” الباراكليت “، الذي هو مثل الشمس، يجعل عينيك النقية ترى الصورة الحقيقية، صورة الله الغير مرئي، وتنظر الصورة المباركة لله، وتقترب من صورة الجمال الغير منطوق به ” للباراكليت “. من خلال ” الباراكليت ” ترتفع القلوب إلى أعلى، والضعيف يقوده من يديه إلى الطريق السليم، والذين يحاولون أن يتقدموا في حياتهم الروحية يصل بهم إلى حالة الكمال. هو يشع على الذين نقّوا أنفسهم من كل دنس، ويجعلهم روحانيين بمرافقته لهم، تماما مثل الأشياء اللامعة والبراقة، التي عندما تسقط عليها أشعة الشمس، تظهر وكأنها أكثر لمعانا وبريقا، كذلك كل النفوس التي تحمل الروح القدس، تصبح مضيئة بالروح القدس، وهم أنفسهم يصبحوا روحانيين، ويشعوا على الآخرين بنعمتهم. ” الباراكليت ” هوالقدوس واهب النبوة وفهم الأسرار، وإدراك الأشياء الخفية، والحصول على العطايا السماوية، ومواطنة السماء، هذا المكان الذي فيه جنود الملائكة، والسعادة التي لا تنتهي، الإتحاد بالله، ونصبح شبه الله، بل والأعلى من كل هذا هو أن نصبح آلهة، هذه فقط بعض من أفكارنا التي تتعلق بالروح القدس، التي تعلمنا أن نتمسك بها، فيما يخص عظمته وعزته وجلاله وأفعاله، التي ننطق بها بنعمة الروح القدس. خامسا: إنعامات روح الله القدوس: من هم الذين لا تنتعش أنفسهم عندما يسمعون كلمة “الروح القدس” ؟!، ومن هم الذين لا يرتفع تفكيرهم إلى الكائن الأسمى؟!، لأنه يدعى “رُوحَ اللهِ”(أف 4: 30) ، “رُوحُ الْحَقِّ” (يو 14: 17) ، “الَّذِي مِنْ عِنْدِ الآبِ يَنْبَثِقُ”(يو 15: 26)، “رُوحاً مُسْتَقِيما”(مز 51: 10)، ” الروح المرشد “. إن كل هذه الصفات المقدسة هي مندمجة ومتحدة ولا تتجزأ، فإن المرأة السامرية التي كانت تعتقد أننا سنسجد لله في مكان معين، فإن مخلصنا الصالح – لهذا الاندماج الغامض – قال لها “اَللَّهُ رُوحٌ”(يو 4: 24). عندما نسمع عن الروح القدس، فإننا من المستحيل أن نعتبره طبيعة محدودة، ويتعرض للتغيير والتبديل، مثل أي مخلوق، ولكننا لابد أن نعلوا بعقولنا إلى العلو التام، ونؤمن بكل قوة على اعتباره جوهر عاقل لقوة غير محدودة، وعظمة لا نهائية، لا تقاس بالأوقات ولا العصور. إن الروح القدس هو كريم في عطاياه لكل المواهب الحسنة، إن لجأ إليه أحد يطلب منه المعونة التي يحتاجها للقداسة، أو يطلب منه أن يعيش في حياة الطهارة والفضيلة، فإنه يهبهم كلهم بعطاياه وهباته ومساعداته، حتى يصلوا إلى الطبيعة التي يريدونها، والنهاية الحسنة التي يرغبونها. إن الروح القدس يكمل كل الأشياء، ولكنه هو بنفسه لا ينقص شيئا، لا يحتاج إلى إعادة حياة، وهو الذي يهب الحياة، لا ينمو بالتدريج، ولكنه كامل وثابت، ويوجد في كل مكان، هو منبع القداسة، وضوء العقل، ينير بذاته لكل عقل يطلبه بعد الإيمان به. يتعذر الوصول إليه بالطبيعة الجسدية، وصلاحه يشمل كل الخليقة، يحتوى كل الأشياء بقوته ويحل فقط في الذين هم مستحقين، لا يوزع هباته بمكيال واحد، ولكنه يوزعها بقدرته حسب درجة إيمان كل واحد. هو روح بسيط، ولكنه يهب هبات مختلفة، كله موجود في كل واحد، وكله موجود في كل مكان. هو يُقسّم بدون أن يشعر بألم، يوزع على الكل بدون أن ينتهي، ولكنه يبقى كاملا إلى الأبد، مثل أشعة الشمس التي تلقى بخيراتها على كل شخص فيتمتع بها، كما لو كانت الشمس قد وُجدت له وحده، وفى نفس الوقت هي تضيء على الأرض والبحار وتخترق الأجواء. هكذا أيضا يكون الروح القدس لكل الذين يستقبلونه، كأنه قد أعطى لهم وحدهم، وبهذا يسكب قوة كافية ونعمة غير ناقصة على الكل، ويتمتع به كل الذين يشتركون فيه، ليس حسب قدرة الروح القدس، فهو قادر على كل شيء، ولكن بقدرة طبيعة هؤلاء الأشخاص واستعدادهم ونموهم. سادسا: الامتلاء بالروح القدس: بالروح القدس يتم رجوعنا إلى الفردوس وصعودنا إلى الملكوت السمائى، وتعود بنوتنا الحقيقية كأولاد وبنات الله، وتكون حريتنا كاملة لندعوا الله أبانا، وتتم مشاركتنا في نعمة المسيح، ويطلق علينا مرة أخرى أولاد النور، لنشارك في المجد السماوي. وباختصار امتلاؤنا بالنعمة في هذا الدهر، والدهر الآتي، ونحظى بالأشياء الجميلة المعدة لنا بالوعد، والتي ننظر نعمتها كما في مرآة، ونحن بشوق ننتظرها بالإيمان، كما لو كانت موجودة بالفعل. إذا كان هذا هو العربون فما أعظم المكافأة النهائية؟! وإذا كانت هذه هي الثمار الأولى فما أعظم الامتلاء؟! سابعا: قوة الروح القدس: ما هي أعمال الروح القدس التي لا توصف في عظمتها، ولا تحصى في عددها لكثرة تعددها؟ كيف نستطيع أن نكوّن فكرة على هذا الذي يمتد عبر الأزمان ؟ ما هو وظائفه قبل االتي سيصنعها والتي ليس باستطعاتنا أن نتخيلها ؟ ما هي أعظم النعم التي سيصنعها ؟ ما هي مقدار القوة التي سيصنعها عبر الأزمان التي تأتى ؟ .هو كائن، وقد كان، وسيكون فيما بعد، مع الآب والابن من قبل كل العصور. لو استطعت أن تكوّن فكرة عما يمتد فيما وراء الزمان ؟! فأنك ستجد الروح القدس فيما وراء هذا !. لو فكّرت في الخليقة فإن القوات السمائية قد أقسمت بالروح القدس، وإقامتهم في الحقيقة يكمن في أنهم لا يستطيعون أن يتركوا الصلاح. لأنه بالروح القدس، هذه القوات ترافق الله على الدوام، وهى هناك لا تستطيع أبداً أن تتجه إلى الشر، بل تثبت في القداسة إلى الأبد. حينما تجسد ربنا يسوع المسيح، حيث الروح القدس كان هو الفاعل، ومجيئه كان بالجسد، ولكن الروح القدس لم ينفصل عنه. أعمال المعجزات ومواهب الشفاء كانت تصنع بالروح القدس، الشياطين كانت تخرج بروح الله، الشيطان أنحدر إلى الجحيم في حضرة الروح القدس، الخطايا غفرت بنعمة الروح القدس، أنت أيضاً اغتسلت وتقدست وتبررت في اسم الرب يسوع المسيح، وفى الروح الذي لإلهنا، الروح القدس هو الذي يعطى التبعية لله، “أَرْسَلَ اللهُ رُوحَ ابْنِهِ إِلَى قُلُوبِكُمْ صَارِخاً: يَا أَبَا الآبُ”(غل 4: 6)، إقامة الموتى هي عملية الروح القدس “تُرْسِلُ رُوحَكَ فَتُخْلَقُ. وَتُجَدِّدُ وَجْهَ الأَرْضِ.”(مز 104: 30). لو فهمنا عملية الخلق بأنها تعنى أن ترجع الحياة للذين كانوا قد ماتوا، إذاً كم هو عظيم عمل الروح القدس، الذي يمنحنا الحياة في القيامة، ويجعل النفس تعيش في انسجام مع الحياة الروحية ( التي هي عتيدة في القيامة ). إن نفوسنا ترتفع متعجبة بشدة من أن عملية الخلق هذه تعنى التغيير إلى الأفضل، لهؤلاء الذين سقطوا في الخطية، كما يقول معلمنا بولس الرسول: “إِذاً إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ” (2كو 5: 17)، التغيير في هذه الحالة يعنى التجديد في هذه الحياة، والتحول من الشهوات العالمية إلى الطريق السمائى الذي يحدث بفعل الروح القدس. بالنظر إلى كل هذه الأشياء، بالحقيقة أخشى إن أكون قد تعديت الحدود في شرح الشرف العظيم الذي للروح القدس، أو أكون قد أنقصت منه، لأن أفكارنا البشرية هي قاصرة عن أن تفهم ذلك الذي هو أعظم الأسماء ( الروح القدس). ثامنا: الروح القدس يغيرنا: ليتنا نعود للموضوع الأساسي، عندما ننقى العقل من كل الاهتمامات العالمية، ونترك وراءنا كل أشكال الحياة المحسوسة ونرتفع بأنفسنا مثل سمكة من الأعماق إلى السطح، الآن ومن خلال خليقة نقية، نستطيع أن نرى الروح القدس والآب والابن الذي في نفس الطبيعة والجوهر، يظهر نفس الخير والصلاح والقداسة والوجود. فقد قال داود النبي “رُوحُكَ الصَّالِحُ”(مز 143 : 10)، وقال أيضاً “رُوحاً مُسْتَقِيما”(مز 51: 10) وقال معلمنا بولس الرسول أنه المعطى الحياة بفعل الروح ( رو 8: 11 ). كل هذا ليس مستحدثاً أو جاء في الوجود متأخراً، لأن الدفيء لا ينفصل عن النار، ولا التألق عن الضوء، وأيضا قوة التقديس وإعطاء الحياة، مع صفة الخير والصلاح لا يمكن أن تنفصل عن الروح، لأن هنا تسكن الروح في الكيان الإلهي، وبالتالي لا نستطيع أن نحصيها في صيغة الجمع ولكن تظهر فقط في وحدانية الثالوث، وبدون انقسام. فبما أن الآب واحد والابن واحد كذلك الروح القدس أيضا واحد. الملائكة القديسين الذين يسهرون على خدمة الروح القدس يظهروا لنا بشكل خاص أنهم يفوقوا العدد، ولكننا لا يجب أن ننظر إلى الخليقة بهذه الطريقة، بما يحدث خارجها، ونحكم على القداسة بالذين يُقدّسون، لأن الروح يملأ الملائكة ورؤساء الملائكة وهو يقدس قوتهم ويعطى كل شيء الحياة. فالروح القدس ينتشر من خلال كل الخليقة، ويعطى من جوهره بدون أن ينقص بمضي الزمان، ويوزع نعمته لكل شيء ولكن هو بالذات لا يتشتت، ولكن باستمرار يعيد امتلاء كل الذي يزوره( المؤمنين به ) بدون أن يفقد أي شيء من نفسه، بالضبط مثل الشمس يشع ضوءها على كل شيء، وتعطى من نفسها،، ولكن لا يمكن أن تنقص بمرور الوقت، فالروح يجود بعطاياه ويبقى كاملاً غير منقسم، هو يضيء طريق الله لكل الذين يطلبونه، يلهم الأنبياء يعطى الحكمة للمشرعين، وروح الإرشاد للكهنة، يعطى القوة للملوك والثقة للنبلاء والحكام، يشفى المرضى ويقيم الموتى، يعتق الذين في القيود، يعول الذين لا عائل لهم . إذا وجد عشاراً يجعله تلميذاً، وإذا قابل صياد سمكٍ يجعله ناطقا بالألوهيات، وإذا وجد مضطهدا للكنيسة يصيّره رسولاً ينشر الإيمان ويكون أداته المختارة. وهكذا يعمل الروح الضعيف يصير إلى القوة، والفقير يصبح غنيا، والجاهل يتحول إلى حكيم. رغم أن بولس كان ضعيفا، ولكن وجود الروح القدس بداخله أعطاه قوة، حتى ثيابه كانت تشفى الأمراض. وعندما كان بطرس محاطاً بالمرضى، كان ظله إذا وقع على أي مريض شفى في الحال من أسقامه. بطرس ويوحنا كانا رجلان فقيران لا يملكا ذهبا أو فضة، ولكنهما أعطيا عطية شفاء الأمراض التي تعتبر ذات قيمة أفضل من أكوام من قطع الذهب. فقد كان هناك رجل مقعد، الذي أخذ مالاً من كثيرين، ولكنه استمر يعطى، ولكن بمجرد أن أخذ عطية بطرس قفز مثل الغزال يمجد الله ولم يعد يستعطى مرة أخرى. يوحنا الذي كان يجهل حكمة العالم كان قادرا وشاكرا على قوة الروح حتى أظهر الحكمة التي تفوق حكمة الحكماء. الروح في السماء ولكنه يملأ الكون، وحاضر في كل مكان، ولا يمكن أن يكون مقيداً، هو كله موجود في كل شيء وكله أيضا موجود مع الله. يوزع العطايا ولكنه يختلف عن أي أحد آخر يعطى، لأنه يعطى بكامل سلطته، كما قال ربنا يسوع له المجد : “لأَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ يُعْطَى فَيَزْدَادُ”(مت 25: 29). فإنه يجعل توزيعه بإرادته وبرغبته الحرة، ليتنا نصلى أن يكون دوما فينا، ولا يتركنا إلى الأبد، بنعمة إلهنا يسوع المسيح له القوة والمجد إلى الأبد آمين… تاسعا: إيماننا ثابت: أصدقائي الأعزاء رغم أننا صغار وضعفاء، إلا أننا كلنا متساويين أمام نعمة الله، التي لا يمكن أن تتغير بالظروف أو الأحداث، لأنه لا يوجد إيمان في سيلوكيا، وآخر في القسطنطينية، واحد في زيلا، واحد في لامبساكيوس وواحد في روما، والذين في المناطق المحيطة لا يختلفوا عن ذلك، لأن كل الإيمان واحد وغير مختلف، كلنا تعمدنا كوصية الرب يسوع، ولدينا إيمان ثابت لأننا تعمدنا على اسم الثالوث ونعبد الله كما نؤمن به.نحن لا نفصل الروح القدس عن الآب أو الابن، ولا ندّعى أنه أكثر أهمية من الآب أو الابن كبعض الهراطقة، الذين يحاولون أن يدّعو ذلك، من يتجاسر أن يرفض قوانين الله أو يقدر أن يرتب أسماؤه بالأوليات ؟! وأيضا لا ندّعى أن الروح القدس وُجد بعد الآب والابن، ولا أن دوره في الإرشاد بطريقة أو بأخرى أقل أهمية. أننا نتأكد بالكلمات التي قالها الله “كُلُّ خَطِيَّةٍ وَتَجْدِيفٍ يُغْفَرُ لِلنَّاسِ وَأَمَّا التَّجْدِيفُ عَلَى الرُّوحِ فَلَنْ يُغْفَرَ” (مت 12: 31) “لاَ فِي هَذَا الْعَالَمِ وَلاَ فِي الآتِي” (مت 12: 32). احترس من التجديف على الروح القدس. استمر ثابتا على إيمانك وعندما تنظر حول الكنيسة تأكد أن جزءاً فقط منها هو المريض، أما الباقين كلهم استقبلوا الأخبار الجيدة إلى أبعد مدى وقبلوا هذا الإيمان الجيد والصحيح الذي نعلمّه. نحن نصلى ألا نلقى خارجاً معهم في يوم الدينونة، عندما يوزع إلهنا يسوع المسيح مصيرنا كلّ حسب أعماله. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــ |
17 - 05 - 2012, 08:55 PM | رقم المشاركة : ( 2 ) | ||||
..::| العضوية الذهبية |::..
|
موضوع جميل ربنا يباركك
|
||||
|