منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 28 - 07 - 2022, 04:59 PM
الصورة الرمزية Mary Naeem
 
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  Mary Naeem متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,275,577

العناية الإلهية والثقة الانسانية

العناية الإلهية والثقة الانسانية



يا من تُدبّر أمور جميع المخلوقات وتعتني بها، ساعدنا ان نبحث عنك قبل كل شيء





الأحد الثامن من السنة (متى 6: 24-34)

يصف انجيل متى (متى 6: 24-34) عناية الله بحياتنا ومعيشتنا ومستقبلنا، حيث يطلب يسوع المسيح ان نثق في الله تعالى كأبٍ سماوي يعولنا وينزع منا كلَّ قلقٍ ووهم ٍلنعيش في طمأنينة تحت تدبيره تعالى، هو الذي يهتم حتى في الطيور وعشب الحقل. كم نحن بحاجة الى تجديد ثقتنا في العناية الإلهية لأننا نعيش في مجتمع تسوده الأمور المادية، حيث يعبد كثيرون المال حيث ان شهوتهم للمال تفوق كثيرا التزامهم لله وللأمور الروحية. وهكذا يدعونا المسيح اليوم الى طلب الله وملكوته قبل كل ما من طلب الحياة اليومية واحتياجاتها. ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص وتطبيقاته.

أولا: وقائع النص الانجيلي (متى 6: 24-34)

24 ما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أَن يَعمَلَ لِسَيِّدَيْن، لأَنَّه إِمَّا أَن يُبغِضَ أَحَدَهُما ويُحِبَّ الآخَر، وإِمَّا أَن يَلزَمَ أَحَدَهُما ويَزدَرِيَ الآخَر. لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا لِلّهِ ولِلمال.

تشير عبارة "يَعمَلَ" في الأصل اليوناني δουλεύειν الى خدمة العبادة؛ أمَّا عبارة "ما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أَن يَعمَلَ لِسَيِّدَيْن" فتشير الى نمطَي حياةٍ متناقضين: النمط الدنيوي ونمط الإنجيل. إن روح العالم ليس هو روح يسوع. لا يجوز اشراك أي شيء في الحياة مع حب الله، لانَّ قلب الانسان لا يستطيع ان يحب ربَّين معا، لانَّ قلب الانسان لا يتَّسع إلآّ لربٍ واحدٍ لا لربّين، ولا يستطيع ان يحبَّ المال إلاّ على حساب الله، لان قلب الانسان لا يقدر ان يكون مُكرَّسا بكامله إلاّ لهدف واحد كما هو واضح في الوصية الأولى من الوصايا العشر "لا يَكُنْ لَكَ آِلهَةٌ أُخْرى تُجاهي"(الخروج 20: 3)؛ وفي هذا الصدد يعلمنا القدّيس يعقوب الرسول: "أَلا تَعلَمونَ أَنَّ صداقَةَ العالَمِ عَداوةُ الله؟ فمَن أَرادَ أَن يَكونَ صَديقَ العالَم أَقامَ نَفْسَه عَدُوَّ الله" (يعقوب 4، 1). وتوضح القدّيسة كلارا "لأنّنا حين نتمسّك بأمور هذه الدنيا نفقد ثمار المحبة، ثمار خدمتنا لله" (الرّسالة الأولى إلى القدّيسة أغنِس من براغ المعترفة). أمَّا عبارة "المال" في الاصل اليوناني μαμωνᾷ (معناها ما هو ثابت وأمين)، وفي الآرامية "ماموناه " (معناها المخبّأ أو المطمون) فتشير إلى المُقتنيات الماديّة بشكل عام، وما يعتزّ به الإنسان من مال وثروة، لكن مفهومها تطوّر للدلالة على المال كإله وسلطان يستعبد قلب الانسان (لوقا 16: 9)، وبالتالي الى عبادة المال كما جاء في تعليم بولس الرسول " الطَمَعٍ هو عِبادَةُ الأَوْثان" (قولسي 3: 5). ويؤكد الحكماء أنه باطل الاعتماد على الغنى "مَنِ اْتَكَلَ على غِناه يَسقُط" (أمثال 11: 28)، وفي الواقع يبدو المال تجاه الله أنه إله كاذب، أي إنه صنم يتعبّد له الانسان، وبالتالي يُشكل خطراً عليه. ولكن عندما نعطي المال نتغلب على الخطر. لذلك نسمع يسوع يدعو الشاب الغني ان يتبعه بهذه لكلمات "إِذا أَرَدتَ أَن تكونَ كامِلاً، فاذْهَبْ وبعْ أَموالَكَ وأَعْطِها لِلفُقَراء، فَيكونَ لكَ كَنزٌ في السَّماء، وتَعالَ فاتبَعْني" (متى 19: 21). ويُعلق القديس ايرونيموس "الشيطان يَعد بمملكة وغنى ليحطّم الحياة، والرب يَعد بالفقر لكي يحفظ الحياة!" أمَّا عبارة "لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا لِلّهِ ولِلمال" فتشير الى الانسان الذي لا يستطيع ان يُكرِّس نفسه في خدمة المال للحصول على اللذة في الحاضر، وفي خدمة الله للأمن في المستقبل. إذ ما يأمر به الواحد ينهى عنه الآخر وكل منهما يطلب خدمة تامة دائمة لا يشاركه غيره فيها. لان الله لا يقبل خدمة جزئية مشتركة إذ محبة العالم عداوة له. وليس للإنسان الاّ قلب واحد. ألم يقل يسوع " كُلُّ واحدٍ مِنكم لا يَتَخَلَّى عن جَميعِ أَموالِه لا يَستَطيعُ أَن يكونَ لي تِلْميذاً" (لوقا 14: 33). واعمالنا تشهد بأنا عبيد لمن نخدم كما ورد في تعليم بولس الرسول "لا تَعلَمونَ أَنَّكم، إِذا جَعَلتُم أَنفُسَكم عَبيدًا في خِدمَةِ أَحَدٍ لِتَخضَعوا لَه، صِرتُم عَبيدًا لِمَن تَخضَعون: إِمَّا لِلخَطيئَةِ وعاقِبَتُها المَوت، وإِمَّا لِلطَّاعَةِ وعاقِبَتُها البِرّ؟" (رومة 6: 16). جمع المال لا يمنعنا من خدمة الله بل يجعل قلوبنا عليه واكتسابه غايتنا العظمى. فكل إنسان مُجبر ان يختار بين هذه السيدين، فعدم اختيار الله انما هو اختيار العالم وما فيه من المال. من الضروري ان لا نجعل من أنفسنا عبيداً للمال، بل نرفض كل سيد عدا الله الذي قدرته وحكمته وحبه الأبوي الذي يستوجب منّا ثقة مطلقة (متى 6: 24-34). وحين نجعل ملكوت الله اهتمامنا الأول، فإنما نجعل يسوع سيدا وملكا على حياتنا وعملنا وممتلكاتنا وخططنا وعلاقاتنا وعليه اتكالنا. وفي هذا الصدد يقول صاحب المزامير " مَلْعونٌ الرَّجلُ الَّذي يَتَّكِلُ على البَشَر ويَجعَلُ مِنَ اللَّحمِ ذراعاً لَه وقَلبُه يَنصَرِفُ عنِ الرَّبّ. مبارَكٌ الرَّجُل الَّذي يَتَّكِلُ على الرَّبّ ويَكونُ الرَّبّ مُعتَمَدَ " (إرميا 17: 5 ،7).

25 لِذلكَ أَقولُ لكُم: لا يُهِمَّكُم لِلْعَيشِ ما تَأكُلون ولا لِلجَسَدِ ما تَلبَسون. أَلَيْسَتِ الحَياةُ أَعْظَمَ مِنَ الطَّعام، والجَسدُ أَعظَمَ مِنَ اللِّباس؟

تشير عبارة "لِذلكَ أَقولُ لكُم" الى كلام يسوع لتلاميذه والجموع كمعلم مقدِّما لهم ما هو جوهري وطالبا منهم بان لا يقلقوا بشان طعامهم او لباسهم؛ أمَّا عبارة "لا يُهِمَّكُم" في الأصل اليوناني μὴ μεριμνᾶτε (معناها لا تهتموّا) فتشير الى تعيين السيّد المسيح موقف التلاميذ إزاء حطام الدنيا ، وهو الاضطراب الذي يوَّلد القلق، والشك، لكنه لا يقصد بها عدم الاهتمام في أمر معيشتنا ولا التشجيع على الكسل واللامبالاة بل قصد أن يُدرّب الناس على الثقة بالله كما جاء في تعليم بولس الرسول "إذا كان أَحدٌ لا يُريدُ أَن يَعمَل فلا يَأكُل " (2 تسالونيقي3: 10). والمطلوب هو عدم الاهتمام أكثر من الواجب باحتياجاتكم الجسدية والاتكال على الله والثقة به غير خائفين من هموم المستقبل لكن دون اللامبالاة او الكسل او الخمول والاتكالية (لوقا 12: 50) التي تجعلهم عبئا ثقيلا على أكتاف الآخرين ومتطفلين عليهم، كما يؤكد ذلك بولس الرسول "فإِنَّكم تَذكُرونَ، أَيُّها الإِخوَة، جَهْدَنا وكَدَّنا فقَد بَلَّغْناكم بِشارةَ الله ونَحنُ نَعمَلُ في اللَّيلِ والنَّهار لِئَلاَّ نُثَقِّلَ على أَحَدٍ مِنكم" ( تسالونيقي 2: 9) وتشير العبارة أيضا الى عدم القلق والاتكال المعبّر عنه في الصلاة (متى 6: 11) المرفوعة الى الله، الآب السماوي الذي يُحرّر الإنسان من القلق الذي يُنسيه أن حياته هي في يد الآب (متى 16: 5-12)، وكأن الرب يسوع يقول "لا تقلقوا" بل ثقوا في عناية الله المُحب الذي يهتم بأبنائه (لوقا 12: 22-31). وقد وردت هذه عبارة في هذا النص ست مرات لأهميتها (متى 6: 25، 27، 28، 31، 34)، ويُعلق القديس ايرونيموس "وُضع علينا أن نعمل من أجل الضروريّات، لكن لا نقلق؛ أمَّا عبارة " لِلْعَيشِ " فتشير الى لوازم حياة الانسان واحتياجاته هنا في هذا العالم. اما عبارة " أَلَيْسَتِ الحَياةُ " فتشير الى صيغة الاستفهام كي تكون عقولنا شاهدة على ما يقول، وهي ان الله الذي منحنا هذه الحياة يعتني بها، والذي اعطانا اجسادنا لا يتركها تحتاج الى لوازمها من الطعام والرعاية والحماية. أمَّا عبارة " الحَياةُ " في الأصل اليوناني ψυχή (معناها النفس المرادفة بالعبرية נפְשְׁ والتي تعني الشخص او الذات) فتشير الى الحياة الطبيعة، وحياة الذات بالمقارنة مع الحياة الروحية (العبرانيين 4: 12). ان النفس هي مركز العواطف والرغبات، وفي الكتاب المقدس يُعتبر الاكل والشرب من وظائف النفس. فالحياة هي هبة من الله، ولا يقدر أن يعطيها إلاّ الربّ الذي «بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ» (أعمال 17: 28)، والجسد هو هيكل لله، أمَّا الطعام واللباس فهما وسيلة فقط. فإن كان الله أعطى الانسان الحياة فلا بد أنه سيعطيه ما يحفظ هذه الحياة، ويضمن له الطعام والشراب. واضحٌ هنا أن السيّد المسيح لا ينهى عن التفكير في احتياجات الجسد، فقد علَّمنا أن نصلي "أُرزُقْنا خُبزَنا كَفافَ يَومِنا" (لوقا 1: 3)، لكن السيّد المسيح يمنعنا من القلق على طعامنا وشرابنا وكسائنا، لأنه هو يعتني بنا. ويُوضح القديس يوحنا الذهبي الفم "لا يُطلب الخبز خلال قلق الروح بل تعب الجسد". المال سيد فاسد عندما يستعبد الانسان نفسه له ويصرف جلَّ وقته يفكر فيه، وقد يحصل عليه بطرق خاطئة فيصبح "المال خادما جيّدا وسيّدا فاسد" كما قال الكاتب الفرنسي ألكسندر دوما. وتكمن المشكلة هنا ان الإنسان يهتم بالأشياء أكثر من اهتمامه بخالق الأشياء ومعطيها. يهتم بالأكل والشرب والملبس أكثر من اهتمامه بالحياة ذاتها وبالرب الذي هو مصدر الحياة وما عندنا من مال.

26 أُنظُرُوا إِلى طُيورِ السَّماءِ كَيفَ لا تَزرَعُ ولا تَحصُدُ ولا تَخزُنُ في الأَهراء، وأَبوكُمُ السَّماويُّ يَرزُقُها. أَفَلَسْتُم أَنتُم أَثْمَنَ مِنها كثيراً؟

تشير عبارة "أُنظُرُوا" الى التأمل في عجائب الرب كما ترنّم صاحب المزامير "ما أَعظَمَ أَعْمالكَ يا رَبّ لقد صَنعتَ جَميعَها بِالحِكمة فاْمتَلأَتِ الأَرضُ مِن خَيراتِكَ... الجَميعُ يَرْجونَكَ لِتُعطِيَهم طعامَهم في أَوانِه، تُعْطيهم فيَلتَقِطون تَبسُطُ يَدَكَ فخيرًا يَشبَعون" (مزمور 104: 24-28)؛ وهذا هو السبب الثاني لعدم اهتمامنا بالدنيويات نتعلمه من اعتناء الله بالطيور حيث يُعلمنا يسوع ان نتق بالله لأنه يعتني بنا. أمَّا عبارة " طُيورِ السَّماءِ " فتشير الى الحيوانات التي لها اجنحة ورجلين ويبلع عددها نحو 10،000 نوع من الطيور، وسُمِّيت طيور السماء لأنَّها تطير في الجو. والله يرزقها كما ورد في الكتاب المقدس "مَن يَرزُقُ الغُرابَ صَيدَه إِذ تَنعَبُ فِراخُه إِلى الله وتَهيمُ لِعَوَزِ القُوت؟ "(أيوب 38: 41). أمَّا عبارة "لا تَزرَعُ ولا تَحصُدُ ولا تَخزُنُ في الأَهراء" فتشير الى اتعاب الانسان الثلاثة لتدبير معيشته وهي: الزرع والحصاد والجمع الى المخازن بعكس الطيور كما يقول صاحب المزامير:" يَرزُقُ البَهائِمَ طَعامَها وفِراخَ الغِرْبانِ حينَ تَصرُخ" (مزمور 147: 9). أمَّا عبارة "أَبوكُمُ السَّماويُّ يَرزُقُها" فتشير الى الله، ابوكم وليس الى أبو الطيور. فكأنه يقول إذا كان خلق الله للطيور يجعله يعتني بها، فكم يعتني بنا نحن أبناؤه وهو ابونا. أمَّا عبارة "أَفَلَسْتُم أَنتُم أَثْمَنَ مِنها كثيراً؟" فتشير الى قيمة الانسان عند الله الذي تفوق طيور السماء. فإذا كان الله يهتم بالطيور ويرزقها طعامها، أتراه لا يهتم بأبنائه؟ توضّح هذه الآية مدى رعاية الله بالكون خاصة بالإنسان وروحه وجسده وحتى بأكله وشربه وملبسه، واهتمامه أيضا بطيور السماء التي خلقها لأجل الإنسان. ويعلق القديس ايرونيموس "إن كانت الطيور بلا تفكير والتي توجد اليوم ولا تكون غدًا يعولها الله بعنايته كم بالأحرى يهتم بالبشر الذين وعدهم بالأبديّة؟!". وقد اكّد الرب اهتمامه بالإنسان بقوله الى يشوع بن نون "لا أُهمِلُكَ ولا أَترُكُكَ" (يشوع 1: 5). فإن كان قد أعطى الله الحياة للإنسان (أعمال 17: 28)، فلا بد أنه سيعطيه ما يحفظ هذه الحياة، ويضمن له الطعام والشراب.

27 ومَنْ مِنكُم، إِذا اهْتَمَّ، يَستَطيعُ أَن يُضيفَ إِلى حَياتِه مِقدارَ ذِراعٍ واحِدة؟

عبارة "ومَنْ مِنكُم، إِذا اهْتَمَّ، يَستَطيعُ أَن يُضيفَ إِلى حَياتِه مِقدارَ ذِراعٍ واحِدة" تشير الى عجز الانسان عن مساعدة نفسه فهو لا يقدر ان يطيل قامته ذراعاً واحدة مما يقلق الانسان ويزيد متاعبه ويضاعف مخاوفه. لذلك يوصينا صاحب المزامير " أَلقِ على الرَّبِّ حِملَكَ وهو يَعوُلكَ ولا يَدَعُ البارَّ يَتَزَعزَعُ لِلأَبد" (مزمور 55: 22). اما عبارة "حَياتِه" في الأصل اليوناني ἡλικία (معناها القامة) الى القامة وليس الى العمر. امَّا عبارة "اهْتَمَّ" فتشير الى تعلق الفكر بشيء وتأمل فيه بغير استقرار والعمل على تحقيق. وأمَّا عبارة "ذِراعٍ واحِدة؟" فتشير الى نصف متر تقريبا. وعليه فإن زيادة نصف متر الى قامة الانسان فلا معنى لها وليس بالأمر القليل (لوقا 12: 26)، تدل على زيادة نصف متر الى القامة او الى مسافة رحلة العمر. ومن هنا نستنج ان معنى قول يسوع أنكم لا يمكنكم أن تزيدوا إلى طول قامتكم او عمركم شيئا.

28 ولماذا يُهمُّكُمُ اللِّباس؟ إِعتَبِروا بِزَنابقِ الَحقْلِ كيفَ تَنمو، فلا تَجهَدُ ولا تَغزِل.

لا تشير عبارة "زَنابقِ الَحقْلِ" الى الزنبق بالمعنى الحقيقي فقط (هوشع 14: 6)، بل بالمعنى الجماعي أي الى عدة انواع من الفصيلة الزنبقية وأزهار من فصائل أخرى وهكذا في أيام المسيح كانت لفظة الزنبق تدل على أنواع شتى من الزهور. قصد المسيح بهذه العبارة الى الإشارة إلى جمال الأزهار لا إلى أسمائها العلمية. ويدل الزنبق على بياضها ونقائها كمالها. وتبيّن هذه الآية الى اهتمام الله بالإنسان. فإن كان الله يهتم بالزنابق قصيرة العمر، والتي لا حياة أبدية لها، فكم يهتم بالإنسان الذي له حياة أبدية في الدهر الآتي.

29 أَقولُ لكُم إنَّ سُلَيمانَ نَفسَه في كُلِّ مَجدِه لم يَلبَسْ مِثلَ واحدةٍ مِنها.

تشير عبارة "سُلَيمانَ" الى الملك سليمان بن داود وغناه كما اشارت إليه ملكة سبأ "ورَأَت مَلِكَةُ سَبَأ كُلَّ حِكمَةِ سُلَيمان والبَيتَ الَّذي بَناه، وطَعامَ مائِدَتِه ومَسكِنَ مُوَظَّفيه وقِيامَ خُدَّامِه ولباسَهم وسُقاتَه ومُحرَقاتِه الَّتي كان يُصعِدُها في بَيتِ الرَّبّ، فلَم يَبقَ فيها رُوح" (1ملوك 10: 4). أمَّا عبارة " لم يَلبَسْ مِثلَ واحدةٍ مِنها" فتشير الى "الزنابق الملوكية" كما ورد في المِشنة. ومن اسمها الملوكية أخذ المسيح المثل وقارن بينها وبين ملابس سليمان الملك.

30 فإِذا كانَ عُشبُ الحَقْل، وهُوَ يُوجَدُ اليومَ ويُطرَحُ غداً في التَّنُّور، يُلبِسُه اللهُ هكذا، فما أَحراهُ بِأَن يُلبِسَكم، يا قَليلي الإيمان!

تشير عبارة "فإِذا كانَ" الى الاستنتاج وهو إن كان الله يهتم بالمخلوقات، أفلا يهتم بكم؟؛ أمَّا عبارة "عُشبُ الحَقْل " الى النباتات الصغرى كالحشائش الجافَّة والأشواك وفروع الأشجار الصغيرة القصيرة الحياة والتي كانت تستخدم كوقود بسبب ندرة الخشب؛ وامَّا عبارة " يُوجَدُ" فتشير الى العشب الحي والنامي والزاهي.أمَّا عبارة "اليومَ ويُطرَحُ غداً" فتشير الى اصطلاح يدل على مدتين زمنيتين قريبتين وبالتالي رمز الزوال؛ أمَّا عبارة "التَّنُّور" فتشير الى الفرن الطيني التي يخبز بها الخبز، وفي فلسطين يُسمَّى طابون؛ غاية هذه المثل إظهار الفرق بين فترة حياة العشب وحياة الإنسان. إذا كان الله يهتم بالعشب القصير الحياة فلا داعي للقلق فإنه لا بد ان يعتني بأبنائه الذين خُلوقا للحياة الأبدية. أمَّا عبارة " يا قَليلي الإيمان!" فتشير الى تحذير يسوع من أن نكون «قَلِيلِي الإِيمَانِ» تجاه عناية الربّ بنا. وهذه العبارة مأخوذة من أقدم التقاليد (لوقا 12: 28) التي أوردها متى الإنجيلي ليُبيّن كيف ان التلاميذ الذين يتبعون المسيح مُعرّضون لعدم الايمان، والتلاميذ قليلي الايمان هم الذين لا يحيون بالنور الذي يأتيهم من إيمانهم، ولذلك فهم يتركون الهموم تستولي عليهم كما حدث مع بطرس الرسول لدى غرقه في بحيرة طبرية كما ورد في انجيل متى " مَدَّ يسوعُ يَدَه لِوَقْتِه وأَمسكَه وهُو يقولُ له: يا قَليلَ الإِيمان، لِماذا شَكَكْتَ؟ " (متى 14: 31). هذه الأمثلة وكثيرة من الأمثلة تحيط بنا تعلمنا الثقة بالله والايمان به ومع ذلك لا نزال نشك في الله وبعنايته الالهية.

31 فلا تَهْتَمُّوا فَتقولوا: ماذا نَأكُل؟ أو ماذا نَشرَب؟ أو ماذا نَلبَس؟

تشير عبارة "فلا تَهْتَمُّوا" الى طلب يسوع لتلاميذه ان يُبعدوا عنهم كل ريب وخوف وقلق من جهة احتياجاتهم الجسدية. أمَّا عبارة " فَتقولوا: ماذا نَأكُل؟ أو ماذا نَشرَب؟ أو ماذا نَلبَس؟ " فتشير الى أكثر الاحتياجات الأولى التي يسألها اليوم أكثر البشر. وإذاً قلقنا على اكلنا وشربنا ولبسنا، يكون اهتمامنا إهانة لأبينا السماوي وإقراراً منا بضعف ثقتنا به. والواقع ما ينقص تلميذ المسيح هو الايمان والثقة التامة بالله الذي يعرف ما نحتاج اليه، فيعطينا خبزنا حين نطلب ذلك، بل قبل ان نطلب؛ وهنا يتساءل بولس الرسول " إنَّ الَّذي لم يَضَنَّ بابْنِه نَفسِه، بل أَسلَمَه إِلى المَوتِ مِن أَجْلِنا جَميعًا، كَيفَ لا يَهَبُ لَنا معَه كُلَّ شَيء؟" (رومة 8: 32). الربّ الذي وهب الانسان الجسد يهبه ما يغديه من الطعام والشراب وما يكسوه من لباس كما جاء في تعليم بولس الرسول " اللهِ يَجودُ علَينا بِكُلِّ شَيءٍ لِنَتَمَتَّعَ بِه" (1طيموثاوس 6: 17). ويؤكد ذلك صاحب المزامير " اْمتَلأَتِ الأَرضُ مِن خَيراتِكَ. الجَميعُ يَرْجونَكَ لِتُعطِيَهم طعامَهم في أَوانِه. تُعْطيهم فيَلتَقِطون تَبسُطُ يَدَكَ فخيرًا يَشبَعون" (مزمور 104: 24، 27-28).

32 فهذا كُلُّه يَسْعى إِلَيه الوَثَنِيُّون، وأَبوكُمُ السَّماويُّ يَعلَمُ أَنَّكم تَحْتاجونَ إِلى هذا كُلِّه.

تشير عبارة "فهذا كُلُّه يَسْعى إِلَيه الوَثَنِيُّون" الى السبب الخامس لعدم تعلق تلاميذ يسوع بالدنيويات، لانَّ تلاميذ المسيح واتباعه عندما يهتمون بالمستقبل يكونون كالوثنيين الذين لا يعرفون عناية الله ومحبته الأبوية. امَّا عبارة "الوَثَنِيُّون" في الأصل اليوناني ἔθνη (معناها أمم لا تعبد الله) فتشير الى الأمم الوثنية كمثال للمَسْلك الدنيوي وغير الروحي. فهم ليسوا قادرين على النظرة الإيمانية الهادئة والواثقة في الله، حيث أن أفكارهم قاصرة عن الله وعنايته، ويطلبون ما يظنونه لسعادتهم أي الأكل والشرب والملبس. لذلك لا ينبغي على تلاميذ المسيح ان يسلكوا كالذين لا يعرفون الله أباً لهم بل عليهم ان يعلموا ان الله يهتم بكل احتياجاتهم كما جاء في تعليم بولس الرسول "وَصِّ أَغنِياءَ هذِه الدُّنْيا بِألاَّ يَتعَجرَفوا ولا يَجعَلوا رَجاءَهم في الغِنى الزَّائِل، بل في اللهِ الَّذي يَجودُ علَينا بِكُلِّ شَيءٍ لِنَتَمَتَّعَ بِه" (1طيموتاوس 6: 17). أمَّا عبارة " أَبوكُمُ السَّماويُّ " فتشير الى الله كونه أبا يحب المؤمنين كحب الوالد لأبنائه، وهو قادر ان يعتني بهم بعكس الاب الأرضي الذي لا يستطيع أحيانا ان يؤمِّن كل احتياجات أولاده. امَّا عبارة " يَعلَمُ أَنَّكم تَحْتاجونَ " فتشير الى الله الذي خلقنا وأحبنا ويعلم كل احتياجاتنا كما صرّح لنا يسوع المسيح " أَنَّ أَباكُم يَعلَمُ ما تَحتاجونَ إِلَيه قبلَ أَن تَسأَلوه" (متى 6: 8). وهو قادر ان يشبعنا من خيراته.

33 فَاطلُبوا أَوَّلاً مَلَكوتَه وبِرَّه تُزادوا هذا كُلَّه.

تشير عبارة "اطلُبوا أَوَّلاً مَلَكوتَه" الى إحدى العبارات الاساسية والمألوفة في الانجيل، وتعني ان نطلب أولا الأمور الروحية في صلواتنا واتعابنا وهدفنا ونبذل جهدنا للدخول في الملكوت بأنفسنا، ونجذب الآخرين اليه لأنها أعظم قيمة وأكثر أهمية من الأمور المادية؛ أما عبارة " أَوَّلاً" فتشير الى سلّم الأولويات، حيث يريد يسوع منا الانتباه الى ما هو أساسي في جداول اعمالنا اليومية دون أن يُبعدنا عن مسؤولياتنا وواجباتنا الزمنية، حيث لا يجوز الاهتمام برزق الحياة على حساب الله، ويعلق القديس أوغسطينوس "فبقوله كلمة "أولًا" أشار إلى طلبنا هذه الأشياء، ولكننا لا نطلبها أولًا، لا من جهة الزمن بل حسب الأهمّية، فملكوت الله نطلبه كخير نسعى نحوه، أمَّا الضروريّات الحياة فنحن طلبها كضرورة نحتاج إليها لتحقيق الخير الأعظم الذي نسعى نحوه"؛ امَّا عبارة "مَلَكوتَه" فتشير الى النظام الذي أتى المسيح ليشيده في هذا العالم وينظمه (متى 4: 17)، ويدل أيضا على مجد المسيح وسلطانه (متى 16: 28) وسلطان الله على الكل (متى 6: 10)، وأرسل المسيح تلاميذه ليبشِّروا بهذا الملكوت ويطلبوا تقدُّمَه وانتشاره. أمَّا عبارة " بِرَّه" “فتشير الى برّ المسيح الكامل الذي ينسبه الى الله لكل مؤمن. كما جاء في تعليم بولس الرسول "هو بِرُّ الله وطَريقُه الإِيمانُ بِيَسوعَ المسيح، لِجَميعِ الَّذينَ آمَنوا" (رومة 3: 21-22)؛ حيث ان البر الذي نطلبه من الله هو مطابقة إرادته الإلهية حيث اننا نصبح نظراء الله في القداسة والمحبة. أمَّا عبارة "تُزادوا هذا كُلَّه" فتشير الى ضروريات الحياة فيما نشرب وما نأكل وما نلبس (متى 6: 25، 31) والتي يسهل ان ينشغل الانسان بها على حساب الله وملكوته. هذه الآية تدعو الى طلب ملكوت الله بخيره الروحي قبل خيرات هذا العالم. إذا كان الله قد أعطى الناس حياة الروح فهو كفيل ان يعطيهم حياة الجسد، وما يحفظها ويصونها. كما قال الله الى سليمان الحكيم "حتَّى ما لَم تَسأَلْه قد أَعطَيتُكَ إِيَّاه مِنَ الغِنى" (1 ملوك 3: 13)؛ فينبغي ان نعمل ونكد ونبحث عن القوت ولكن بدون قلقٍ وهمٍّ، فالله هو الرازق كما يقول بطرس الرسول "أَلقُوا علَيه جَميعَ هَمِّكم فإِنَّه يُعنى بِكم" (1بطرس 7:5). الاهتمام باحتياجاتنا الروحية هو العلاج الشافي للاهتمام بأمورنا الجسدية. وقد طوَّب يسوع هؤلاء الذين يشعرون بحاجتهم ان يعتمدوا على الله لتيسير ضروريات الحياة الروحية " طوبى لِفُقراءِ الرُّوح فإِنَّ لَهم مَلكوتَ السَّمَوات"(متى 5: 3). اما عبارة "هذا كُلَّه" فتشير الى احتياجات الجسدية والزمنية لهذه الحياة كالطعام والشراب والملبس والتي يعلم الآب السماوي اننا حاجة اليها ويَعد بها كثواب للتقوى وليس بالغنى الجزيل كما يؤكد صاحب المزامير" كُنتُ شابًّا وقد شِختُ ولم أَرَ بارًّا مَتْروكًا ولا نَسلَه يَلتَمِسُ خُبزا" (مزمور 37: 25) 19) ويوضح ذلك أيضا دعاء بولس الرسول "إِلهي يَسُدُّ حاجاتِكم كُلَّها على قدْرِ غِناه بِالمَجدِ، في المسيحِ يسوع" (فيلبي 4: 19). قول المسيح في هذه الآية لا يمنع من وجوب الصلاة للحصول على الاحتياجات الزمنية، بل يمنع ان نطلبها أولا ونجعلها أولى طلباتنا.

34 لا يُهِمَّكُم أمرُ الغَد، فالغَدُ يَهتَمُّ بِنَفْسِه. ولِكُلِّ يَومٍ مِنَ العَناءِ ما يَكْفِيه.

تشير عبارة "لا يُهِمَّكُم أمرُ الغَد" الى عدم حمل هموم المستقبل، والواقع "لم يقل لا يُهِمَّكُم أمرُ اليوم" نظراً لضرورة العمل والجهاد من أجل قوتنا، كما جاء في حياة بولس الرسول "ونَحنُ نَعمَلُ في اللَّيلِ والنَّهار لِئَلاَّ نُثَقِّلَ على أَحَدٍ مِنكم" (1 تسالونيقي 2: 9). وأفضل استعداد لإتمام واجبات الغد هو إتمام واجابتنا اليوم. ويسمح الله لنا أن نهتم بالحاضر كيلا نقلق في المستقبل؛ لان المستقبل في يد الله ولا يعلم أحد غيره بكل ما يحدث فيه، فبالأيمان بالله يطمئن القلب بشأن هم المستقبل، ولكن يُنذر يعقوب الرسول الأغنياء الذين يتكلون على أنفسهم دون الله "يا أَيُّها الَّذينَ يَقولون: (سنَذهَبُ اليَومَ أَو غَدًا إِلى هذه المَدينَةِ أَو تِلكَ فنُقيمُ فيها سَنَةً نُتاجِرُ وَنَربَح)، أَنتُم لا تَعلَمونَ ما تكونُ حَياتُكم غَدًا. فإِنَّكم بُخارٌ يَظهَرُ قَليلاً ثمَّ يَزول. هَلاَّ قُلتُم: ِن شاءَ الله، نَعيشُ ونَفعَلُ هذا أَو ذاك!" (يعقوب 4: 13-15)؛ أمَّا عبارة "لِكُلِّ يَومٍ مِنَ العَناءِ ما يَكْفِيه" فتشير الى الاتعاب والمشقات والهموم اليومية التي تواجهنا. لذلك يكفي الانسان ان يحمل هم كل يوم بيومه لان الله يعطي نعمة قوة ونعمة لكل يوم بيومه. فمن يُعيننا اليوم لا يتركنا غدا. أمَّا عبارة "العَناءِ" في الأصل اليونانيκακία (معناها شر) فلا تشير الى شرّ الخطيّة، وإنما الى "التعب" والمشاكل التي نقابلها. فلا نهتم بما سنتعبه غدًا، إنّما يكفي أن نتعب اليوم ونجاهد، وكأن الله يمنعنا من القلق في المستقبل، ويَحثّنا على الجهاد في الحاضر. وهذا ما حدث مع الشعب العبري في خروجه الى الصحراء وهو بحاجة الى الخبز اذ قالَ لَهم موسى: "لا يُبْقِ أَحَدٌ مِنه شَيئاً إِلى الصَّباح" (خروج 16: 19). وخلاصة القول تُعتبر هذه الآية مثلا مقتبسا من أمثال الحكمة الشعبية القديمة الذي ينص بعدم تكديس الهموم ليوم غدٍ، بل لنعش هموم اليوم الحاضر فقط، وسياتي الغد بهمومه. لكن يسوع أعطى هذه الحكمة بُعداً جديداً، فالإيمان بالله الآب يُخلص الانسان من قلق الغد، لن يكون الانسان غدا وحده، لان نعمة الله ستكون معه. نحيا يومنا ونترك غدنا لنعمة إلهنا. لذلك من الخطأ ان نقلق او نرتبك بخصوص المستقبل. فالعبادة الحقيقية هي حياة بلا قلق كما يقول صاحب المزامير "أَلقِ على الرَّبِّ حِملَكَ وهو يَعوُلكَ ولا يَدَعُ البارَّ يَتَزَعزَعُ لِلأَبد" (مزمور 55: 23). هذه الآية هي خلاصة ما سبق بحيث لا نهتم بالاحتياجات المستقبلية بل لنثق بالله وبعنايته الإلهية.

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 6: 24-34)

بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي وتحليله (متى 6: 24-34)، نستنتج انه يتمحور حول العناية الالهية التي تتطلب من الانسان الثقة الكاملة والثبات في الأمانة. ومن هنا نتساءل ما هو مفهوم العناية الإلهية؟ وما هي مضمون متطلباتها خاصة الثقة والثبات في الأمانة؟


ما هو مفهوم العناية الالهية؟


يقدِّم لنا السيد المسيح شخص الله بصفات الآب الذي يسهر على خلائقه ويُوفِّر لها حاجاتها: يرزق الله الطيور مثلما يرزق البشر "أُنظُرُوا إِلى طُيورِ السَّماءِ كَيفَ لا تَزرَعُ ولا تَحصُدُ ولا تَخزُنُ في الأَهراء، وأَبوكُمُ السَّماويُّ يَرزُقُها. أَفَلَسْتُم أَنتُم أَثْمَنَ مِنها كثيراً؟" (متى 6: 26). وتتلخص هذه الاعتبارات بلفظ "العناية". ويؤكد أيوب البار رعاية الخالق نحو خلائقه بقوله "حَياةً ونعمَةً آتيتَني وحَفِظَت عِنايَتُكَ روحي" (أيوب 10: 12).

والواقع لم ترد لفظ "العناية" في الكتاب المقدس في اللغة العبرية، إنَّما وردت في الترجمة السبعينية اليونانية بلفظ πρόνοια. في سفر الحكمة "عِنايَتَكَ، أيها الآبُ هي الَّتي تَقودُه" (حكمة 14: 3). العناية الإلهية هي الوسيلة التي يحكم من خلالها الله كل شيء في الكون حيث لديه السيطرة التامة على كل شيء. وهذا يشمل الكون ككل (مزمور104)، والعالم المادي "يُطلِعُ شَمْسَه على الأَشرارِ والأَخيار، ويُنزِلُ المَطَرَ على الأَبرارِ والفُجَّار."(متى 45:5)، وشؤون الأمم (مزمور 7:66)، وميلاد البشر ومصائرهم كما اختبره بولس الرسول نفسه " لَمَّا حَسُنَ لدى اللهِ الَّذي أَفرَدَني، مُذ كُنتُ في بَطْنِ أُمِّي، ودَعاني بنِعمَتِه" (غلاطية 15:1)، ونجاح البشر وفشلهم كما جاء في ترنيمة تعظم " حَطَّ الأَقوِياءَ عنِ العُروش ورفَعَ الوُضَعاء." (لوقا 52:1)، وحماية شعبه كما ترنمّ صاحب المزامير "قُمْ يا رَبِّ خَلِّصْني يا إِلهي فإِنَّكَ لَطَمتَ جَميعَ أَعْدائي وحَطَّمتَ أَسْنانَ الأَشْرار. (مزمور 8:3: 8) وتتعارض فكرة العناية الإلهي تماما مع فكرة أن الصدفة (أي المصادفة وهي حدثٌ دون علة، أو غايّة) أو القدر يحكم الكون. والعناية الإلهية لا تدمر حريتنا. ولكن، تُمكِّننا من استخدام هذه الحرية بشكل صحيح.


ما هي متطلبات العناية الإلهية

تقوم عناية الله بالإنسان على طريقة أب يطالب ابنه بان يكون شريكا له في العمل. وهذه الشراكة تتطلب من الإنسان الثقة الكاملة والثبات في الأمانة:

ا) الثقة الكاملة

دعا السيّد المسيح تلاميذه في انجيل اليوم الى الثقة من خلال ستة مبادئ:

المبدأ الأول: لا يُهِمَّكُم لِلْعَيشِ

"لا يُهِمَّكُم لِلْعَيشِ ما تَأكُلون ولا لِلجَسَدِ ما تَلبَسون. أَلَيْسَتِ الحَياةُ أَعْظَمَ مِنَ الطَّعام، والجَسدُ أَعظَمَ مِنَ اللِّباس؟ أُنظُرُوا إِلى طُيورِ السَّماءِ كَيفَ لا تَزرَعُ ولا تَحصُدُ ولا تَخزُنُ في الأَهراء، وأَبوكُمُ السَّماويُّ يَرزُقُها. أَفَلَسْتُم أَنتُم أَثْمَنَ مِنها كثيراً؟ (متى 6: 25-26). إذا كان الربّ قد أنعم عليكم بالحياة الطبيعيّة، فهل يبخل عليكم بالطعام الّذي تطلبه هذه الحياة. إنّ الّذي وهبكم الأجساد لا يبخل عليكم بإطعام هذه الأجساد وسترها بالكساء. ومن أجل أن يوضِّح هذا المبدأ أقام من طيور السماء برهان على جودة الربّ وعنايته بالمخلوقات.

المبدأ الثاني: لماذا يُهمُّكُمُ اللِّباس؟

"لماذا يُهمُّكُمُ اللِّباس؟ إِعتَبِروا بِزَنابقِ الَحقْلِ كيفَ تَنمو، فلا تَجهَدُ ولا تَغزِل (متى 6: 28). واستمدّ الربّ يسوع من عالم النبات مثالاً لتعزيز المبدأ الثاني، فقال تأمّلوا زنابق الحقل". يذكر السيّد المسيح النتيجة الّتي يُتوّج بها بالزنابق، وهي أنّ الإنسان الخالد أفضل من الزنابق التي تهب عليها الريح فتزول. وهُي توجَدُ اليومَ وتُطرَحُ غداً في التَّنُّور.

المبدأ الثالث: فلا تَهْتَمُّوا فَتقولوا: ماذا نَأكُل؟

"فلا تَهْتَمُّوا فَتقولوا: ماذا نَأكُل؟ أو ماذا نَشرَب؟ أو ماذا نَلبَس؟ فهذا كُلُّه يَسْعى إِلَيه الوَثَنِيُّون، وأَبوكُمُ السَّماويُّ يَعلَمُ أَنَّكم تَحْتاجونَ إِلى هذا كُلِّه. (متى 6: 31 -32)."لا تهتمّوا ... ولا تقلقوا". لأنّه من شأن شعوب غير المؤمنة والذين ليس لديهم ثقة بالربّ ولا مطمح لهم في الوجود سوى أن يأكلوا ويشربوا وغداً يموتون. أمّا أنتم فتؤمنون بحياة خالدة لا نهاية لها تلي هذه الحياة الزائلة. فإذا كان الله قد أعطانا حياة الروح فهو كفيل أن يعطينا ما هو دونها، حياة الجسد، وما يحفظها ويصونها.

المبدأ الرابع: أَبوكُمُ السَّماويُّ يَعلَمُ أَنَّكم تَحْتاجونَ إِلى هذا كُلِّه

"هذا كُلُّه يَسْعى إِلَيه الوَثَنِيُّون، وأَبوكُمُ السَّماويُّ يَعلَمُ أَنَّكم تَحْتاجونَ إِلى هذا كُلِّه" (متى 6: 32). لا تهتموا لأنّ الربّ الإله أبوكم. فمن طبيعة الله كآب أن يعلم ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه. لدينا آب في السماء يُفكّر فينا أكثر بكثير من تفكيره بزنابق الحقل وطيور السماء. إذاً والحالة هذه، يكون قلقنا باحتياجاتنا الجسدية إهانة لأبينا، وإقراراً منا بضعف ثقتنا به. ما هو مطلوب منّا هو أن نقوم بكلّ ما في استطاعتنا للتعامل مع الشدائد، وأن نكل ما يتبقّى إلى العناية الإلهيّة.

نستنتج مما سبق ان يسوع يدعو الانسان ان يضع ثقته فيه تعالى، من خلال هذه المبادئ الواردة أعلاه؛ وما دام الله يعتني بالإنسان، يتوجب على الانسان ان يحيا في جو ثقة في الله. فالإنسان بحاجة الى ثقة في الله في مواجهته لمسئوليات الحياة ومخاطرها لكيلا يشله القلق، ولكي يثبت رغم التجارب، ولا يفقد الأمل في بلوغ هدفه. وهذا المطلب يقتضي سلم الأولويات. لذلك يقول الرب " فَاطلُبوا أَوَّلاً مَلَكوتَه وبِرَّه تُزادوا هذا كُلَّه" (متى 6: 33). من يثق بالله عليه ألا يضع الأولوية في الاكل والشرب واللبس والحاجات المادية التي وعد الله ان يمدهَّ بكل ما يلزم حياته، بل عليه ان يتكل عليه تعالى والله لا يهمل من يتكل عليه.

المبدأ الخامس: لا يُهِمَّكُم أمرُ الغَد

لا يُهِمَّكُم أمرُ الغَد، فالغَدُ يَهتَمُّ بِنَفْسِه. ولِكُلِّ يَومٍ مِنَ العَناءِ ما يَكْفِيه (متى 6: 34). وهناك تحديات يريدنا الله ان نواجها خاصة القلق. والقلق يجعل الفرد منقسماً في داخله، ويشغل كلّ أفكاره ويؤثّر سلبيّاً في أسلوب معاملته للآخرين، وبالتالي ان قلقنا بالغد يعرقل جهودنا لليوم ويُقلل من قدرتنا على الاتكال على الله "أُنظُرُوا إِلى طُيورِ السَّماءِ كَيفَ لا تَزرَعُ ولا تَحصُدُ ولا تَخزُنُ في الأَهراء، وأَبوكُمُ السَّماويُّ يَرزُقُها. أَفَلَسْتُم أَنتُم أَثْمَنَ مِنها كثيراً؟" (متى 6: 26)، والقلق يضر ولا يفيد ويدل على عدم الثقة والايمان بالله. فهذا كُلُّه يَسْعى إِلَيه الوَثَنِيُّون، وأَبوكُمُ السَّماويُّ يَعلَمُ أَنَّكم تَحْتاجونَ إِلى هذا كُلِّه" (متى 6: 32).

وان الحياة يوما بيوم، تحفظنا من ان يضنينا القلق "لا يُهِمَّكُم أمرُ الغَد، فالغَدُ يَهتَمُّ بِنَفْسِه. ولِكُلِّ يَومٍ مِنَ العَناءِ ما يَكْفِيه" (متى 6: 34). حسن ان نصرف وقتا في التخطيط للغد ولكن من الخطأ ان نعتمد على طرقنا دون الاتكال والثقة بالله الذي خلق الكون ويحبنا، ويعلم ما نريد، وما نحتاج اليه. أمَّا الوقت الذي نصرفه في القلق على الغد، فهو وقت ضائع. فالتخطيط يستلزم تفكيرا مقدماً في الأهداف والخطوات وجدولة ذلك مع الاتكال على إرشاد الله.

وباختصار يقول لنا صاحب المزامير: "فَوَضْ إِلى الرَّبَ طَريقَكَ وتَوَكَّلْ علَيه، وهو يُدَبّرُ أَمرَكَ " (مزمور 37: 5). وفي هذا الصدد يقول بولس الرسول: "وإِنَّنا نَعلَمُ أَنَّ جَميعَ الأشياءِ تَعمَلُ لِخَيْرِ الَّذينَ يُحِبُّونَ الله " (رومة 8: 28، ولن يستطيع أي شيء أن يفصل المؤمن عن محبة الله له في ربنا يسوع المسيح كما يصرّح بولس الرسول "وإِنِّي واثِقٌ بِأَنَّه لا مَوتٌ ولا حَياة، ولا مَلائِكَةٌ ولا أَصحابُ رِئاسة، ولا حاضِرٌ ولا مُستَقبَل، ولا قُوَّاتٌ، ولا عُلُوٌّ ولا عُمْق، ولا خَليقَةٌ أُخْرى، بِوُسعِها أَن تَفصِلَنا عن مَحبَّةِ اللهِ الَّتي في المَسيحِ يَسوعَ رَبِّنا"(رومة 8: 31-39). تلاميذ المسيح يعلمون على مَن اتكلوا (2 طيموتاوس 1: 12).

المبدأ السادس: الثقة بالله لا بالمال

"ما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أَن يَعمَلَ لِسَيِّدَيْن، لأَنَّه إِمَّا أَن يُبغِضَ أَحَدَهُما ويُحِبَّ الآخَر، وإِمَّا أَن يَلزَمَ أَحَدَهُما ويَزدَرِيَ الآخَر. لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا لِلّهِ ولِلمال." (متى 6: 24).كشف يسوع هنا للبشر أبوة الله لهم، وما تتطلب عنايته الإلهية، وذكّر يسوع بضرورة الاختيار منذ البداية، الاختيار بين كنوز الأرض وكنوز السماء. بين الله والمال، والمال يعني هنا قوة استعباد. ولا يمكن ان نخدم إلا سيداً واحداً، وإلاّ يجد الانسان نفسه مُمزَّقاً بين خدمة المال وخدمة الربّ. ومن هنا جاء قول الرب يسوع: "ما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أَن يَعمَلَ لِسَيِّدَيْن، لأَنَّه إِمَّا أَن يُبغِضَ أَحَدَهُما ويُحِبَّ الآخَر، وإِمَّا أَن يَلزَمَ أَحَدَهُما ويَزدَرِيَ الآخَر. لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا لِلّهِ ولِلمال" (متى 6: 24).

وتكمن تجربة الانسان الكبرى في خلق "إله" على قياسه ومزاجه يكون ند الله الاله الحقيقي والوحيد وهو إله المال حيث يصرف جلَّ وقته يفكر فيه، ويجعله في المقام الأول، ويهتم به أكثر من اهتمامه بخالق الأشياء ومُعطيها. وعندما يجد نفسه ممزقاً بين خدمة المال وخدمة الربّ يفقد الإنسان طُمأنينته. فالعلاقة مع الله لا تصحّ الا بثقة كاملة به. أمَّا إذا اتخذ الانسان المال كإله الذي يعطيه الأمان والحياة، عندئذ يستعبد المال الانسان فلا يصبح المال في خدمة الانسان، بل الانسان في خدمة المال. اذ يستملك المال على أفكاره وعواطفه ومشاعره وإرادته، فلا يعيش الانسان الاّ لهدف واحد وهو المال. وفي هذا الصدد يقول يعقوب الرسول "أَلا تَعلَمونَ أَنَّ صداقَةَ العالَمِ عَداوةُ الله؟ فمَن أَرادَ أَن يَكونَ صَديقَ العالَم أَقامَ نَفْسَه عَدُوَّ الله" (يعقوب 4: 4).

ان المال ليس إلها في ذاته، ولا هو شرّ نتجنّبه، فالمال جزء من الرزق إنّما يصير هكذا حينما يسحب المال القلب إلى الاهتمام به والاتكال عليه، فيفقده سلامه ويدخل به إلى ظلمة القلق. فيصبح المال سيد صعب ومخادع وذو قوة وسلطة ينتزع مكانة الله في حياتنا. إذ يجعل من يَعبده يتخلى عن الله وعن ضميره وأحبائه جاريا وراء المال لان "أحُبَّ المالِ أَصْلُ كُلِّ شَرّ، وقَدِ استَسلَمَ إِلَيه بَعضُ النَّاس فضَلُّوا عنِ الإِيمان وأَصابوا أَنفُسَهم بِأَوْجاعٍ كَثيرة" (1 طيموتاوس 6: 10). ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " يُسمَّى حب المال سيدًا ليس بطبيعته الخاصة به، وإنَّما بسبب بؤس المنحنين له".

ويدعو الله الانسان ان يضع ثقته فيه تعالى ايضا في كل ما يتعلق بالتمييز بين الخير والشر (تكوين 2: 17). فالإيمان بالكلمة الإلهية معناه أن نختار بين حكمتين. والمطلوب منا أن نضع الثقة في حكمة الله، ونعدل عن الاعتماد على حكمتنا الذاتية كما يقول سفر الامثال "تَوَكَّلْ على الرَّبَ بِكُلِّ قَلبِكَ ولا تَعتَمِدْ على فِطنَتِكَ" (أمثال 3: 5)، لذا لا بد من الثقة بقدرة الخالق ضابط الكل، وبعنايته، لأن كل ما في السماء وعلى الأرض هو من صنع يديه (تكوين 1: 1). إنه يسهر على نظام العالم (تكوين 8: 22). ويضمن خصوبة الأرض (أعمال 14: 17)، ويطلع شمسه وينزل غيثه للجميع، أبراراً كانوا أم أشراراً (متى 5: 45)، ويُدبِّر كلّ شيء، بحيث يطلبه الجميع (أعمال 17: 24-28)، ويُسخِّر الشرّ في خدمة الخير كما اكّد يوسف ابن يعقوب " فالآن لم تُرسِلوني أَنتُم إِلى ههُنا، بَلِ اللهُ أَرسَلَني، يقول يوسف لأخوته(تكوين 45: 8) واردف يوسف قائلا "أَنتُم نَوَيتُم عَلَيَّ شَرًا، واللهُ نَوى بِه خَيرًا، لِيَهَبَ الحَياةَ لِشَعبٍ كَثير" (تكوين 50: 20).وبحسب أقوال "الحكماء" أيضاً " لِلإِنْسانِ إِعْدادُ القَلْب ومِنَ الرَّبِّ جَوابُ اللِّسان" (أمثال 16: 1). كما تقول الحكمة الشعبية " الإنسان في التفكير والرب في التدبير. فعقل الإنسان يسعى في تخطيط طريقه والرب يوجه خطواته.

ونجد صدى هذا الثقة في صلاة المزامير. إنّ الله الذي يتسلط على خلقه ويمنح له الخصب (مزمور 65: 7-14)، ويحفظ شعبه في كل شيء وفي كل حين (مزمور 121) وبدونه، باطل هو مجهود البشر وباطلة حراستهم "إِن لم يَبْنِ الرَّبُّ البَيتَ فباطِلاً يَتعَبُ البَنَّاؤون. إِن لم يَحرُسِ الرَّبُّ المَدينة فباطِلاً يَسهَرُ الحارِسون" (مزمور 127: 1). وهو، كراع صالح، يقود نعاجَه مطمئنّة إلى قلب الظلمات نحو السعادة (مزمور 23). فلا عجب أن صاحب المزامير يطلق نداءاته بثقة: " وأَنا بائسٌ مِسْكين السَّيِّدُ يَهتَمُّ لي" (مزمور 40: 18)، " وأَنا توكَّلتُ على رَحمَتِكَ " (مزمور 13: 6)، " أمَّا المُتَوَكِّلُ على الرَّبِّ فالرَّحمَةُ تَحوطُه " (مزمور 32: 10)، " فطوبى لِجَميعِ الَّذينَ بِه يَعتَصِمون" (المزمور 2: 12). والمزمور 131 هو التعبير الصادق عن هذه الثقة المتواضعة، التي سوف يعطيها يسوع كمالها الأخير.

ويعطي يسوع الثقة كمالها طالبا من تلاميذه ان يصلوا "يا أبانا، أُرْزُقْنا اليومَ خُبْزَ يَومِنا" (متى 6: 11)، وألاّ يقلقوا بالغد، ولا يخشوا على حياتهم، لاًن "أباكم يعلم " كل ما تحتاجون إليه وكل ما يحدث (متى 6: 25-34). وفي الواقع، ان يسوع يدعو تلاميذه للانفتاح كأطفال لعطية الله "مَن لم يَقبَلْ مَلكوتَ اللهِ مِثْلَ الطِّفل، لا يَدخُلْه"(مرقس 10: 15)، حينئذ ستكون الصلاة الى الآب السماوي على يقين من نيل كل شيء " اِسأَلوا تُعطَوا، اُطلُبوا تَجِدوا، اِقرَعوا يُفتَحْ لَكم. لأَنَّ كُلَّ مَن يَسأَلُ ينال، ومَن يَطلُبُ يَجِد، ومَن يَقرَعُ يُفتَحُ له. فأَيُّ أَبٍ مِنكُم إِذا سأَلَه ابنُه سَمَكَةً أَعطاهُ بَدَلَ السَّمَكَةِ حَيَّة؟ أَو سَأَلَهُ بَيضَةً أَعطاهُ عَقرَباً؟ فإِذا كُنتُم أَنتُمُ الأَشرارَ تَعرِفونَ أَن تُعطوا العَطايا الصَّالِحَةَ لأَبنائِكم، فما أَولى أَباكُمُ السَّماوِيَّ بِأَن يهَبَ الرُّوحَ القُدُسَ لِلَّذينَ يسأَلونَه "(لوقا 11: 9-13).

ب) الثبات في الأمانة

لا تتطلب العناية الإلهية الثقة الكاملة فحسب، إنما أيضا الثبات في الأمانة. إن هذه الثقة التي لا تتزعزع، هي أحد شروط الأمانة، كما جاء في تعليم بولس الرسول " فقَد صِرْنا شُرَكاءَ المسيح، إِذا احتَفَظْنا بِالثِّقَةِ الَّتي كُنَّا علَيها في البَدْء ثابِتَةً إِلى النِّهاية، فلا نَدَعُها تَتَزَعزَع"(عبرانيين 3: 14)، لان عناية الله لا تقوم على طريقة قَدَر محتوم يؤدي بالإنسان الى سحق حريته، بل تتطلب منه ان يكون شريكا في العمل من خلال ثباته في الأمانة. ويدبِّر الله حاجات من يدعوهم ليكونوا أبناءه، لكي يساعدهم على الثبات في الأمانة نحو دعوتهم كشهود لمحبته. ونرى صدى لهذا التصرف في حكمة صاحب المزامير: " تَوَكَّلْ على الرَّبً ومارِسِ الإِحْسان" (مزمور 37: 3).

كشف يسوع للناس عن المحبة اللانهائية التي تعبّر عنها العناية الإلهية، وعلّمهم أيضاً، بمثله وكلامه كيفية التجاوب مع هذه العناية. فيكون هذا التجاوب في البحث، قبل كلّ شيء، عن محبة الله، ورفض الخضوع لأي سيد آخر غيره “فَاطلُبوا أَوَّلاً مَلَكوتَه وبِرَّه تُزادوا هذا كُلَّه. (متى 6: 33).

وتقوم التجاوب مع العناية الإلهية في التوسل إلى الآب بأن تتمَّ مشيئته على الأرض كما هي في السماء. وتقوم التجاوب أيضا على أن ننتظر من الله، خبزنا كفاف يومنا، وكل ما يحتاج إليه أبناء الله، لينفّذوا مشيئة أبيهم "لِيَأتِ مَلَكوتُكَ لِيَكُنْ ما تَشاء في الأَرْضِ كما في السَّماء."(متى 6: 10).

ويحتاج أبناء الله، قبل كل شيء، إلى الثبات في الشدائد التي لمّا عانى منها يسوع نفسه الذي عرف شعور الخذلان من أبيه كما صرّح بعض الحاضرين عند الجلجلة "دَعْنا نَنْظُرُ هل يَأتي إِيليَّا فيُخَلِّصَه!" (متى 27: 46)، وإذ كان مُطيعاً حتى الموت، أكّد ثقته البنوية بكلمته الأخيرة على الصليب: "يا أبتاه، في يديك أجعل روحي" (لوقا 23: 46). بهذه الأمانة المقترنة بالثقة، عبر يسوع المسيح الموت، وأعطانا الضياء الوحيد الذي يسمح لنا بأن نعبر ظلمات الشر والشقاء.

وباقتداء التلميذ بالمسيح، سيتبعٍ هو بدوره سبل العناية، ويحظى بفرح الشرف أن يكون شاهدا للحب الذي وضع ثقته فيه وشريكاً أميناً له في العمل كما أعلن بولس الرسول "إِنِّي على يَقينٍ مِن أَنَّ ذاكَ الَّذي بَدَأَ فيكم عَمَلاً صالِحًا سيَسيرُ في إِتمامِه إِلى يَوم المسيحِ يسوع (فيلبي 1: 6).

الخلاصة

يمكننا ان نبحث عن العناية الإلهية ونُدركها من خلال النظر والتأمل في كلمات يسوع "أُنظُرُوا إِلى طُيورِ السَّماءِ كَيفَ لا تَزرَعُ ولا تَحصُدُ ولا تَخزُنُ في الأَهراء، وأَبوكُمُ السَّماويُّ يَرزُقُها. أَفَلَسْتُم أَنتُم أَثْمَنَ مِنها كثيراً؟ (متى 6: 26)؛ وإذا نظرنا بإيمان سندرك ان الله الاب يعرف ما نحن بحاجة اليه. "إنَّ الَّذي لم يَضَنَّ بابْنِه نَفسِه، بل أَسلَمَه إِلى المَوتِ مِن أَجْلِنا جَميعًا، كَيفَ لا يَهَبُ لَنا معَه كُلَّ شَيء؟" (رومة 8: 32). فلا داعي للقلق إنما يسوع يدعونا للتعزية، إذ لدينا آب في السماء يُفكّر فينا أكثر بكثير من تفكيره بزنابق الحقل وطيور السماء، ويدعونا أيضا الثبات والأمانة عن طريق صلاة الطلب " فَاطلُبوا أَوَّلاً مَلَكوتَه وبِرَّه تُزادوا هذا كُلَّه" (متى 6: 33).

ونستنتج مما سبق ان الله يدعونا الاَّ نخدم إلا الله، سيداً مطلقاً ويدعونا الاتكال عليه اتكال طيور السماء وزنابق الحقل ودعوته هذه تستكمل دعوة الله للإنسان الأول " بِعَرَقِ جَبينِكَ تأكُلُ خُبزًا" (التكوين 3: 19) ولا تتعارض معا، لكنها تجعل خبز الدنيا بعد ملكوت الله " اطلُبوا أَوَّلاً مَلَكوتَه وبِرَّه تُزادوا هذا كُلَّه" (متى 6: 33).ولذلك الله ليس ضد المال، ولكن الله ضد أن نكون عبيداً للمال مُتَّكلين على المال كضمان للمستقبل كما صرّح يسوع للشاب الغني "يا بَنِيَّ، ما أَعسَرَ دُخولَ مَلَكوتِ الله!" (مرقس 24:10).

ومن الواضح ان يمكن للمال أن يشتري سريرا ولكنه لا يشتري النوم، يمكن أن يشتري ساعة لكنه لا يشتري الزمن، يمكن أن يشتري كتابا لكنه لا يشتري المعرفة، يشتري الدواء لكنه لا يشتري الصحة، نفهم من ذلك أن الحياة لن تستقيم بالمال وحده إذا غابت القيم والاخلاق والغذاء الروحي. ولا يمكن لأي قدر من المال ان يهب الانسان الصحة والسعادة والحياة الأبدية فهده الأمور هبة من الله. فكم يكون أفضل لنا لو اتخذنا الله، لا المال سيدا لنا، متبعين وصية صاحب الرسالة الى العبرانيين "تَنَزَّهوا عن حُبِّ المال واقنَعوا بما لَدَيكم. قالَ الله: لن أَترُكَكَ ولَن أَخذُلَكَ "(عبرانيين 13: 5).

دعاء

أيها الاب السماوي، يا من تُدبّر أمور جميع المخلوقات وتعتني بها، ساعدنا ان نبحث عنك قبل كل شيء، ونضع ثقتنا في عنايتك الإلهيّة، وخاصة أثناء الشدائد والاضطهادات فنثبت في الأمانة في سيرنا نحو ملكوتك، ملكوت بِرٌّ وسَلامٌ وفَرَحٌ في الرُّوحِ القُدُس" (رومة 14: 17). آمين.

قصة: حوار العصافير والعناية الالهية

يقول عصفورٌ لزميله العصفور: "أريد أن أعرف لماذا يقلق البشر؟ فأجابه زميله: لا بد أنه ليس عندهم أب سماوي مثل أبينا السماوي! لنتعلم من العصافير ان ننبذ القلق لأننا نؤمن ان أبانا السماوي ساهرٌ علينا كما يترنم صاحب المزامير "بِسلام أَضَّجعُ ومِن ساعَتي أَنام لأَنَّكَ وَحدَكَ يا رَبُّ في أمانٍ تُسكِنُني" (مزمور 4: 8)، ولا نتردد ان نسير على وصية صاحب رسالة العبرانيين "تَنَزَّهوا عن حُبِّ المال واقنَعوا بما لَدَيكم. قالَ الله: لن أَترُكَكَ ولَن أَخذُلَكَ. فيُمكِنُنا القَولُ واثِقين: "الرَّبُّ عَوْني فلَن أَخاف" (عبرانيين 13: 5-6).



الأب لويس حزبون - فلسطين



رد مع اقتباس
إضافة رد


الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
صلاة التسليم للمشيئة الإلهية والثقة بالمعونة الإلهية في زمن المحن :
قد ثابرا على بثّ روح الإيمان والثقة في الوعود الإلهية
الأمن والثقة بيسوع وبالقدرة الإلهية التي تعمل بواسطته
العالم تصونه العناية الإلهية، إذ لا يوجد مكان لا تدركه هذه العناية
العناية الإلهية


الساعة الآن 07:25 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024