|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
تجربة يسوع كما رواها متى الإنجيلي
أيها الاب السماوي امنحنا القوة في مقاومة التجارب والانتصار عليها، فنبقى أبناء أمناء لك على مثال ابنك الأحد الأول من الزمن الاربعيني (متى 4: 1-11) يصف انجيل متى (متى 4: 1-11) مشهد تجارب يسوع التي تركز على مواجهة مغريات الشيطان التي تُبعده عن الله أبيه السماوي وخطة الخلاص. وبما ان رسالة المسيح هي الفداء والخلاص، فلا بد من الدخول في صراع مع الشيطان الذي يريد هلاك الانسان " إِنَّ إِبليسَ خًصْمَكم كالأَسدِ الزَّائِرِ يَرودُ في طَلَبِ فَريسةٍ لَه"(1 بطرس 5: 8). لذا تحتل التجربة دورًا رئيسيًا في خلاصنا، إذ يتوجب على كل مسيحي كابن لله بالمعمودية ان ينتصر على التجربة كما انتصر المسيح. ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص وتطبيقاته. أولا: وقائع النص الانجيلي (متى 4: 1-11) 1 ثُمَّ سارَ الرُّوحُ بِيَسوعَ إِلى البَرِّيَّةِ لِيُجَرِّبَه إِبليس تشير عبارة "ثُمَّ" في اليونانية Τότε الى صلة بيت فقرتين، بين فقرة المعمودية (متى 3: 13 – 17) وفقرة التجربة (متى 4: 1-11)، بعد خبرة عماد يسوع في نهر الأردن، يخرج يسوع من النهر ممتلئاً من الروح القدس، والروح القدس ذاته يقوده إلى البرّية لِيُجَرِّبَه إِبليس كما يظهر من انجيل مرقس (مرقس 1: 12). فبالمعمودية كرّس يسوع نفسه لطريق الصليب، وفي التجربة، عرض الشيطان على يسوع طرقا لإنجاز خدمته دون الصليب، ويقول أحد الباحثين في الكتاب المقدس "ان يسوع كان في المعمودية عاملا؛ أمَّا في التجربة فكان معنا منقادا من الروح. في المعمودية أكمل البِرِّ، وفي التجربة كان برُّه تحت الامتحان". أمَّا عبارة" سارَ الرُّوحُ" في الأصل اليوناني ἀνήχθη (صعد به الى الأعلى) فتشير الى طاعة المسيح الى الروح القدس الذي نزل حينئذٍ واستقر عليه يوم عماده على يد يوحنا المعمدان "فرأَى رُوحَ اللهِ يَهبِطُ كأَنَّه حَمامةٌ ويَنزِلُ علَيه" (متى3: 17) وهنا نجد تأثير قوة الروح القدس في يسوع كي يذهب الى البرية لمجابهة سلطان الشيطان وفقا للخطة الإلهيّة. الروح القدس هو الّذي يقود خطواته. وما يفعله يسوع إنّما هو تحقيق لإرادة الروح التي هي واحدة مع إرادة الآب وإرادة الابن. فيسير يسوع بدافع الروح القدس الذي ناله في المعمودية. هل أنت على استعداد لاتّباع الهامات الروح القدس حيث يريد هو أن يقودك؟ أمَّا عبارة " البَرِّيَّةِ" فتشير الى مكان قفر عاري من النبات والخالي من الناس ومسكن الوحوش (مرقس 1: 13) وارتأى ابعض الباحثين أنها البرية الواقعة الى الجنوب الغربي من أريحا، وهي رمز الى مكان الشر. والبرية بحسب المفهوم اليهودي هي مسكن للشياطين، فهي أماكن خربة وقبور، والمسيح ذهب الى البرية ليحارب الشيطان في عرينه. ويعُلق القديس يوحنا الذهبي الفم "انظر أين يصعده الروح عندما أخذه لا إلى مدينة ولا إلى مسرح عام، بل إلى برية. بهذا كان يجتذبه الشيطان معطيًا إيّاه فرصة ليس فقط بجوعه، وإنما خلال الموضع أيضًا". وقد بدأت التجربة بعد اقامته في الصيام في البرية بحسب متى الإنجيلي، أمَّا حسب انجيل مرقس فإن التجربة ظلت طيلة اقامته في البرية " أَقام فيها أربَعينَ يَوماً يُجَرِّبُهُ الشَّيطانُ" (مرقس 1: 13). أمَّا عبارة " لِيُجَرِّبَه" في الأصل اليونانيπειρασθῆναι فتشير الى هدف سيره الى البَرِّيَّةِ، وهو مواجهة تجربته العظيمة منفردا مع ابليس وفقا لإرادة الله الآب. وقَبِل يسوع ان يجرّبه ابليس كما يجرّب كل إنسان كي يتضامن يسوع مع الوضع البشري حيث وردت الكلمة في صيغة الفعل (يُجَرِّبَه) في الكتاب المقدس أكثر من 50 مرة. فالتجربة حدثت حقيقة ولم تكن رؤيا او تمثيل محاربة داخلية في أفكار يسوع. ناسوت يسوع جعل تجربته ممكنة، ونيابته عنا جعلت ذلك ضرورياً خاصة كون الانسان قابل لتجربة وقبولها. ولا ينتظر أحد العفو من التجربة، لان المسيح قد جُرب وليس تلميذ أفضل من معلمه. أمَّا عبارة " إِبليس "فتشير الى اللفظة اليونانية διάβολος, (معناها المُشتكي)، الى الذي لا عمل له إلا أن يشتكي علينا، ليَصدّ مراحم الله عنّا إنه عدو الله وعدو الانسان . وكما يقول الرسول "إنَّ إِبليسَ خًصْمَكم كالأَسدِ الزَّائِرِ يَرودُ في طَلَبِ فَريسةٍ لَه " (1 بطرس 5: 8). أبليس وشيطان اسمان يدلان على العدو الذي يعارض الله وإقامة ملكه بين البشر عن طريق مقاومة الإنسان، وأبليس هو أحد أسماء الحية الأصلية التي جلبت السقوط للإنسان في جنة عدن كما جاء في رؤية يوحنا "فأُلقِيَ التِّنِّينُ الكَبير، الحَيَّة القَديمة، ذاكَ الَّذي يُقالُ لَه إِبْليسُ والشَّيطان، مُضَلِّلُ المَعْمورِ كُلِّه، أُلقِيَ إِلى الأَرضِ وأُلقِيَ معَه مَلائِكَتُه" (رؤيا 12: 9)، ويدعى أيضا بَعلَ زَبول (مرقس 3: 22) وبَليعار (2 قورنتس 6: 15). وهو رئيس مملكة الظلمة كما أوضح يسوع" أَمَّا على الدَّينونة فَلأَنَّ سَيِّدَ هذا العالَمِ قد دِين" (يوحنا 16: 11) وهو أيضا "سَيِّدِ مَملَكَةِ الجَوّ" (أفسس 2: 2). فالشيطان إذاً هو حقيقة وليس رمزا، وهو في حرب مستمرة ضد من يتبعون الله ويطيعونه. 2 فصامَ أَربَعينَ يوماً وأَربَعينَ لَيلةً حتَّى جاع تشير عبارة "صامَ" الى الإمساك عن الطعام. ولم يَرد الصوم لفظاً في أسفار موسى الخمسة ولكن كان يوم واحد معين للصوم وهو "يَومُ التَّكْفير"، يوم الكفارة (الاحبار 16: 29) وكان اليهود ينقطعون عن الطعام غالباً من غروب الشمس إلى الغروب التالي. وكانوا يلبسون المسح على أجسادهم وينثرون الرماد على رؤوسهم ويتركون أيديهم غير مغسولة ورؤوسهم غير مدهونة. وكانوا يصرخون ويتضرعون ويبكون (أشعيا 22: 12). لكن يسوع اظهر في صيامه انه في اقصى ضعفه يستطيع ان يجابه ويقهر ابليس في اقوى حالاته. أمَّا عبارة "أَربَعينَ " فتشير إلى عمر جيل كامل وهي فترة زمنية طويلة يعقبها خير أو عقوبة كما هو واضح من كلام الله لنوح " إِنَّني، بَعدَ سَبعَةِ الأُمٍ، مُمطِرٌ على الأَرضِ أَربَعينَ يَومًا وأَربَعينَ لَيلَةً، وماحٍ عن وَجهِ الأَرضِ كُلَّ كائِنٍ صَنَعتُه " (التكوين 7: 4)، فجاء الطوفان. وتشير إلى الوقت الذي قضاه موسى على الجبل " أَقامَ موسى هُناكَ عِندَ الرَّبِّ أَربَعينَ يَوماً وأَربَعينَ لَيلَةً"(خروج 34: 28) ليستلم شريعة العهد القديم. وتشير أيضا الى الأربعين سنة التي قضاها إسرائيل في البرية " وبَنوكم يَكونونَ رعاةً في البَرِّيَّةِ أَربَعينَ سَنةً " (عدد 14: 34)، وتشير إليها مسيرة إيليا أربعين يوما "فقامَ وأكَلَ وشَرِبَ وسارَ بِقُوَّةِ تِلكَ الأَكلَةِ أَربَعينَ يَومًا وأربَعينَ لَيلَةً إلى جَبَلِ اللهِ حوريب" (1ملوك 19: 8). بعد ان صام يسوع أربعين نهاراً وأربعين ليلة بدأ إعلان بشارة الإنجيل. وقد أخذت بعض الكنائس من حياة السيد ورفيقيه في التجلي موسى وإيليا هذه الفترة الأربعينية وجعلت الصوم الأربعيني السابق لعيد الفصح قانوناً وذلك في المجمع الخامس ثم في السادس المنعقد في السنة الـ 682. أمَّا القديس أوغسطينوس فيرى في رقم 40 معنى رمزيًا، "أن رقم 40 يحوي رقم "عشرة" أربع مرّات، ولما كان رقم 10 يُشير إلى كمال تطويبنا أو إلى المعرفة (3 = معرفة الله و7 = معرفة الانسان الكاملة) و"أربعة" تُشير إلى الزمن (صيف وشتاء وخريف وربيع)، فإن رقم 40 يُشير إلى كمال زماننا في حياة مطوّبة ومملوءة معرفة". اما عبارة "" في الأصل اليوناني (معناها أخيرا) الى نهاية أربعين يوما ونستنتج من ذلك ان يسوع لم يجع في عضونها فانقطاعه عن الطعام كل تلك المدة امر خارق الطبيعة. أمَّا عبارة " جاع " فتشير الى يسوع المسيح دليلا على حقيقة ناسوته، انه انسان، وليس خيالا حيث ان جسد المسيح كان جسدًا كاملًا حقيقيًا يجوع ويعطش ويتألم كما يخبرنا يوحنا الإنجيلي (يوحنا 4: 6-7). هذه اول مرة ذكر الانجيل ان سيدنا يسوع شاركنا في الاحتياجات الجسدية؛ احتمل الجوع لأجلنا في البرية والعطش على الصليب، وهكذا شابهنا في كل شيء ما عد الخطيئة كما يصرّح صاحب الرسالة الى العبرانيين "لَيسَ لَنا عَظيمُ كَهَنَةٍ لا يَستَطيعُ أَن يَرثِيَ لِضُعفِنا: لَقَدِ امتُحِنَ في كُلِّ شَيءٍ مِثْلَنا ما عَدا الخَطِيئَة" (عبرانيين 4: 15). 3 فدَنا مِنه المُجَرِّبُ وقالَ له: إِن كُنتَ ابنَ الله، فمُرْ أَن تَصيرَ هذِه الحِجارةُ أَرغِفة تشير عبارة " المُجَرِّبُ " الى ابليس الذي ورد ذكره في الآية الأولى (4: 1) والذي يقوم بتجربة الاغراء على الخطيئة وارتكاب الاثم لذلك دعي الشيطان عدو الجنس البشري. جرّب إبليس يسوع. وهناك مُجرِّبون كثيرون امتحنوا يسوع مدة حياته مثل الفريسيين والصدوقيين الذين سألوه ان يُريهم آية من السماء (متى 16: 1)؛ أمَّا عبارة " ابنَ الله " فتشير الى الصوت الذي سمعه يسوع وقت عماده فاستعمله الشيطان " نَزَلَ الرُّوحُ القُدُسُ علَيه في صورةِ جِسْمٍ كَأَنَّهُ حَمامَة، وَأَتى صَوتٌ مِنَ السَّماءِ يَقول: ((أَنتَ ابنِيَ الحَبيب، عَنكَ رَضِي " (لوقا 3: 22). يستعيد المُجرِّب ما قيل في عمل يسوع ليُشكك ببنوّة يسوع الإلهية، ينطلق من هذه البنوّة إذا كان يسوع ابن الله لينتزع الارتباط بالآب الذي أرسل ابنه الى العالم ليُخلّص العالم؛ وردت كلمة مجرب 4 مرات. قد دخل الشيطان العالم مُجرِّبا " فاللهُ عالِمٌ أَنَّكُما في يَومِ تأكُلانِ مِنه تَنفَتِحُ أَعيُنُكُما وتَصيرانِ كآلِهَةٍ تَعرِفانِ الخَيرَ والشَّرّ " فقالتِ الحيَةُ لِلمَرأَة: فاللهُ عالِمٌ أَنَّكُما في يَومِ تأكُلانِ مِنه تَنفَتِحُ أَعيُنُكُما وتَصيرانِ كآلِهَةٍ تَعرِفانِ الخَيرَ والشَّرّ " (التكوين 3: 5)، فلا ريب إنا إذا جُرّبنا كان ذلك به. اما عبارة "وقالَ له " فتشير الى شخص اتى الي يسوع إمَّا بصة بصورة انسان او بصورة ملاك نور (2قورنتيس 11: 14). اما عبارة " إِن كُنتَ ابنَ الله " فتشير الى هوية يسوع كونه الابن الحبيب كما شهد له صوت الآب الذي اتى من السماء وقت معمودية يسوع (متى 3: 17)، لكن هنا يدل على ريب في الامر كأنه يقول الشيطان هل يمكن ان يكون ابن الله عرضة للجوع! فمن كان ابن الله يقدر ان يستخدم سلطاته لينجو من الجوع ويحفظ حياته من الموت. أراد ابليس ان يُجرب يسوع كي يجعله ان يثق بنفسه كانسان عوضاً عن الوثوق بالله الآب (تكوين 2، 16-17 و3، 1-6) أمَّا عبارة " فمُرْ أَن تَصيرَ هذِه الحِجارةُ أَرغِفة" فتشير الى الحجارة القريبة منهما. تكمن التجربة هنا في عدم الاتكال على الله وعدم الثقة بعنايته تعالى، وأكثر من ذلك انها ايحاء ليصير يسوع مصلحا اجتماعيا شهيرا بمعجزته بدل ان يكون مخلصا للإنسان بصليبه. 4 فأَجابَه: مكتوبٌ: ليسَ بِالخُبزِ وَحدَه يَحيْا الإِنْسان بل بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخرُجُ مِن فَمِ الله تشير عبارة "أَجابَه" إلى رد يسوع على تجربة المُجرّب وذلك بصفته انسان وليس بصفته ابن الله؛ أمَّا عبارة " مكتوبٌ " فتشير الى ما ورد في الكتاب المقدس " لا بالخُبزِ وَحدَه يَحْيا الإِنْسان، بل بِكُلِّ ما يَخرُجُ مِن فَمِ الرَّبِّ يَحْيا الإِنْسان " (تثنية الاشتراع 8: 3). شهد يسوع لصدق اسفار موسى النبي باستناده الى كلام الله. قبل السيد المسيح العهد القديم كوحي إلهي وبالتالي الحجة المستمدة منه كان لها قوة ملزمة، لأنها من الوحي الإلهي كما جاء في تعليم بولس الرسول " فكُلُّ ما كُتِبَ هو مِن وَحيِ الله، يُفيدُ في التَّعْليمِ والتَّفنْيدِ والتَّقْويمِ والتَّأديبِ في البِرّ" (2 طيموتاوس 3: 16). وقد استعمل يسوع كلمة الله كسيف الروح لمقاومة التجربة كما يؤكد ذلك بولس الرسول "اتَّخِذوا لَكم خُوذَةَ الخَلاص وسَيفَ الرُّوح، أَي كَلِمَةَ الله" (افسس6: 17)؛ ويسوع يعلمنا بذلك كيف نقاوم تجارب الشيطان بواسطة كلمة الله. وهذا الامر يتطلب منا ان نعرف اقوال الكتاب المقدس حسناً لكي نقدر على مقاومة ابليس بواسطة تلك الآيات الكريمة. أمَّا عبارة " ليسَ بِالخُبزِ وَحدَه يَحيْا الإِنْسان " فتشير الى اقتباس من سفر تثنية الاشتراع حيث يقول موسى النبي للشعب "فذلَّلَكَ وأَجاعَكَ وأَطعَمَكَ المَنَّ الَّذي لم تَعرِفْه أَنتَ ولا عَرَفَه آباؤكَ، لِكَي يُعْلِمَكَ أَنَّه لا بالخُبزِ وَحدَه يَحْيا الإِنْسان، بل بِكُلِّ ما يَخرُجُ مِن فَمِ الرَّبِّ يَحْيا الإِنْسان " (تثنية الاشتراع 8: 3)؛ وكما اعطى الله المنّ طعاماً جسدياً لشعبه في البرية لكي يرتبط به ارتباطا روحيا، هكذا يرتبط يسوع بأبيه وينتظر منه كل شيء. كان يجب عليه أن ينبذ إرادته في صالح مشيئة أبيه. فلم يشأ يسوع ان يستخدم قوته الإلهية لإشباع حاجته الطبيعية للطعام. الطعام شيء طيب ولكن التوقيت كان خاطئا. لا يستخدم يسوع قوى روحية لغايات دنيوية شخصية. وهذه الإجابة يُمكن لأي إنسان ان يقدمها. وتدل هذه الآية ان للإنسان حاجات روحية بالإضافة الى الحاجات المادية. لذا فالواجب الأول ليسوع هو ان يكرز بكلمة الله، دون أن يُهمل الحاجات المادية كإطعام الخمسة الاف مثلا (متى 14: 13-21). يسوع يرد على التجربة بتجديد الثقة بالله الآب. طعام الجسد مهم، ولكن الخضوع لمشيئة الاب السماوي أهم، وفي هذا الصدد قال صاحب المزامير "إِلى اللهِ وَحدَه تَطمَئِنُّ نَفْسي ومِن عِندِه خَلاصي" (مزمور 62: 2). 5 فمَضى بِه إِبليسُ إِلى المدينَةِ المُقدَّسة وأَقامَه على شُرفَةِ الهَيكل تشير عبارة "فمَضى به" في الأصل اليوناني Τότε παραλαμβάνει αὐτὸν (ثم اخذه) الى اخذ إِبليس يسوع الذي انقاذ اليه برضى واخيتاريه كما رضي يسوع ان يُقاد من مكان الى آخر للجلد والصلب؛ واما بعض الباحثين يقولون ان ابليس مضى بيسوع بالفكر والايحاء يسوع. اما عبارة " المدينَةِ المُقدَّسة " فتشير الى اورشليم لكونها المركز المقدس "مَدينةُ المَلِكِ العَظيم" (متى 5: 35) وسفره الى اورشليم لم يكن رؤيا بل حقيقة ولعله أتى من البرية اليها. اما عبارة " أَقامَه " فتشير الى إيقاف يسوع على الشرفة ليس بقوة او بسلطة. أمَّا عبارة " شُرفَةِ " في الأصل اليوناني πτερύγιον فتشير إلى سطح الهيكل الى امامه او من رواق سليمان الذي بني على وادي قدرون من علو شاهق. ويقول المؤرخ اليهودي كان علو جناح الهيكل نحو 365 م يطل منه الى أسفل الوادي. جناح الهيكل في المدينة المقدسة اورشليم. والأرجح ان جناح الهيكل كان سور الزاوية الناتئ من سفح التل المشرف على أسفل وادي قدون. وقد طلب إِبليس من يسوع ان يُلقي بنفسه من الشرفة ليُظهر للجموع التي تحتشد عادة في ذلك المكان انه هو المسيح المنتظر؛ أمَّا عبارة " الهَيكل " فتشير الى أقدس موضع من المدينة المقدسة وهو المركز الديني لكل الآمة اليهودية، والمكان الذي كان اليهود ينتظرون مجيء المسيح اليه (ملاخي 3: 1) وقد جدّد هيرودس الكبير الهيكل مع أروقته مؤملاً ان يحظى بثقة اليهود كما جاء في حوار اليهود مع يسوع "بُنِيَ هذا الهَيكَلُ في سِتٍّ وأَربَعينَ سَنَة، أوَ أَنتَ تُقيمُه في ثَلاَثةِ أيَّام؟ " (يوحنا 2: 20). لا تخلو التجارب حتى في أقدس الأماكن. 6 وقالَ لَه: إِن كُنتَ ابنَ الله فأَلقِ بِنَفسِكَ إِلى الأَسفَل، لأَنَّه مَكتوب: يُوصي مَلائكتَه بِكَ فعلى أَيديهم يَحمِلونَكَ لِئَلاَّ تَصدِمَ بِحَجرٍ رِجلَكَ تشير عبارة "ابنَ الله" الى لقب يسوع وقد استعمله إِبليس كي يُجرّب الرب يسوع كما جرّب الشعب العبراني الله في البرية قائلين: "هَلِ الرَّبُّ في وَسْطِنا أَم لا؟ " (خروج 17: 7)؛ أمَّا عبارة " فأَلقِ بِنَفسِكَ إِلى الأَسفَل" فتشير الى طرح يسوع نفسه من شرفة الهيكل الى الوادي دون خوف طمعا بالحماية الإلهية وحفظ الملائكة له. جربة تعرض على يسوع ان يكون صانع معجزات شهير. ويُعلق القديس ايرونيموس "هذه هي كلمات إِبليس دائمًا إذ يتمنى السقوط للجميع"؛ أمَّا عبارة "لأَنَّه مَكتوب" فتشير الى استناد إِبليس على الكتاب المقدس وهي من سفر المزامير (مزمور 91: 11) ليُوقع يسوع في التجربة، حيث ان مضمونها طمأنينة أتقياء الله في كل الضيقات وهو وعد لجميع المُتكلين عليه، لكن ذلك لم يكن وعدا بالوقاية من أخطار نأتيها اختيارا ؛ أمَّا عبارة " يُوصي مَلائكتَه بِكَ فعلى أَيديهم يَحمِلونَكَ لِئَلاَّ تَصدِمَ بِحَجرٍ رِجلَكَ" فهي آية اقتبسها إِبليس من سفر المزامير "على أَيديهم يَحمِلونَكَ لئَلاَّ تَصدِمَ بحَجَر رجلَكَ" (مزمور 91: 12). جرَّب ابليس المسيح ليمتحن صدق الوعد ويبرهن انه هو المسيح. لم يخطئ ابليس في اقتباس النص الكتابي، إنما اساء تطبيق النص وتفسيره ليجعل يسوع ان يتكل اتكالا اجباريا على الله بدل ان يعني الايمان. والأسوأ من ذلك ان إِبليس لم يكمل المزمور نفسه الذي ينتهي بالوعد بالانتصار عليه "يَدعوني فأُجيبُه أَنَّا معه في الضِّيقِ فأُنقِذُه وأُمَجِّدُه. بِطولِ الأيامِ أُشبِعُه وأُريه خلاصي"(مزمور 91: 15-16). وهو مزمور يصّليه المؤمن حين يحتاج عون الله. ومن هنا نستنج ان الشيطان يتلاعب بآيات الكتاب المقدس لأغراضه الخاصة بعيدا عن معناها الجوهري ومدلولها الأساسي. لا يعد الله الحماية الإلهية متى دخل الانسان في الخطر عمدا. اما عبارة " مَلائكتَه " فتشير الى وظيفتهم باعتبار أنهم أرواح للخدمة كما جاء في تعليم صاحب الرسالة الى العبرانيين " أَما هُم كُلُّهم أَرواحٌ مُكَلَّفونَ بِالخِدْمَة، يُرسَلونَ مِن أَجْلِ الَّذينَ سَيَرِثونَ الخَلاص؟" (العبرانيين 1: 14). اما عبارة " يَحمِلونَكَ لِئَلاَّ تَصدِمَ بِحَجرٍ رِجلَكَ" فتشير الى كلام مستعار يمثل عمل الوالدين بأولادهم في الأماكن الصعبة خشية من عثورهم. إن هذا الانتصار الذي أحرزه السيد في هذه التجربة هو استباق لانتصاره الأخير الذي حققّه في اورشليم على الصليب. 7 فقالَ له يسوع مَكتوبٌ أَيضاً: لا تُجَرِّبَنَّ الرَّبَّ إِلهَكَ تشير عبارة " فقالَ له يسوع مَكتوبٌ أَيضاً " مقاومة يسوع هذه التجربة كما قاوم التجربة الأولى بجواب ن كتاب الله. اما عبارة " لا تُجَرِّبَنَّ الرَّبَّ إِلهَكَ " فتشير الى تجربة الانسان لله المألوفة في العهد القديم بعصيانه تعالى لمعرفة مدى صبره، كما صرّح موسى النبي: ((لِماذا تُخاصِموَنني ولماذا تُجَربونَ الرَّبّ؟ " (خروج 17: 2)، فقد خاصم بني إسرائيل موسى، ومن خلاله جرّبوا الله. ولكن المسيح رفض ان يجرّب الله كما طلب منه إِبليس فعاد الى ما ورد في الكتاب المقدس على لسان موسى " لا تُجَرِّبوا الرَّبَّ إِلهَكم " (تثنية الاشتراع 6: 16). أمَّا عبارة " لا تُجَرِّبَنَّ الرَّبَّ إِلهَكَ " فتشير الى "تجربة الرب " بحيث يُعرّض المرء نفسه للخطر، وبعد ذلك يُرغم الله بان يُنجِّيه من الخطر. ولكن المسيح لم يدخل في التجربة من تلقاء ذاته، وبالتالي يجب علينا ان لا نعرِّض ذواتنا للتجارب ونجرِّب عناية الله الآب وصدقه بطرح نفسه من فوق الى أسفل في خطر لا لزوم للدخول فيه. قد يضع الانسان يده في النار ثم يشتكي لان الله لم يحفظها من ان تحترق. طلب علامات من الله هو محاولة تحريك الله كما تشاء، في حين يريدنا الله ان نحيا بالإيمان. لم يُجرِّب يسوع الله أبيه السماوي بان يرُغمه بعمل معجزة، بل عرف كلمة الله واطاعها. أمَّا الشيطان فيعرف كلمة الله ولا يطيعها. أن كلمة الله هي سلاح مثل سيف ذي حدين كما صرّح كاتب الرسالة الى العبرانيين "إِنَّ كَلامَ اللهِ حَيٌّ ناجع، أَمْضى مِن كُلِّ سَيفٍ ذي حَدَّين " (العبرانيين (عبرانيين 4: 12). 8 ثُمَّ مَضى بِه إِبليس إِلى جَبَلٍ عالٍ جدّاً وأَراهُ جَميعَ مَمالِكِ الدُّنيا ومَجدَها تشير عبارة " جَبَلٍ " الى أهمية الجبل في انجيل متى وذلك للدلالة على الجبل (جبل سيناء) حيث استلم موسى الشريعة وعلى جبل (نيبو) حيث رأى موسى ارض الموعد ولم يدخل اليها " أَراه الرَّبُّ الأَرضَ كلها: مِن جِلْعادَ إِلى دان" (تثنية الاشتراع 34: 1). لذا وضع متى الإنجيلي تجربة على الجبل في المرحلة الثالثة والاخيرة لأهمية موضوع الجبل في تعليمه، في حين ان لوقا وضع في اورشليم التجربة على الجبل في المرحلة الثالثة، لان هذه مدينة اورشليم هي البداية والنهاية في انجيله الطاهر. ويحتمل ان الجبل المذكور هو جبل نبو (تثنية الاشتراع 34: 1) او طابور، او جبل حرمون (جبل الشيخ). لكن المكان التقليدي للمكان التجربة هو جبل قرنطل قرب اريحا. وهناك رأيه يقول انه بما انه لا يوجد جبل يمكن منه رؤية جميع العالم فيُستنتج ان هذه التجارب التي مرّ بها الرب كانت ذهنية باطنية. أمَّا عبارة "أَراهُ جَميعَ مَمالِكِ الدُّنيا ومَجدَها " فتشير الى ممالك فلسطين التي كانت أمام عينيه بما فيها من الغنى والسلطان التي كان يتمتع بهما إِبليس. ولكن تجاه ممالك الدنيا، هناك ملكوت الله، وتجاه مجد هذا العالم، هناك المجد الآتي من الله. إن الخبث في هذه التجربة يكمن في ان الشيطان وضع تأثيره الشخصي في العالم تحت تصرف يسوع في سبيل تقدم الملكوت المسيحاني. لكن يسوع رفض السيطرة الارضية على العالم، لان رسالته كانت تبشير الفقراء بالخلاص كما تنبأ عنه أشعيا النبي " الفُقراءُ يُبَشَّرون" (متى 11: 5). 9وقالَ له: أُعطيكَ هذا كُلَّه إِن جَثوتَ لي سـاجداً تشير عبارة "أُعطيكَ هذا كُلَّه" الى السلطان السياسي على حكومات وممالك العالم كما قال الشيطان ليسوع “لِأَنَّه سُلِّمَ إِليَّ وأَنا أُولِيه مَن أَشاء" (لوقا 4: 6) حيث يعرضه الشيطان على يسوع ليكون المسيح الدنيوي الذي ينتظره معاصروه؛ لكن سلطان الشيطان مُهدّد (لوقا 10: 1)، ومدته قصيرة (لوقا 22: 53). أمَّا سلطان يسوع فلا يستمّده إلاّ من أبيه السماوي "قَد سَلَّمَني أَبي كُلَّ شَيء" (لوقا 10: 22). فجوهر التجربة ان يكون يسوع ذلت المسيح الذي اتوقعه اليهود بدون ان يحتمل الالام والموت. أمَّا عبارة " إِن جَثوتَ لي سـاجداً " فتشير الى الشرط الوحيد الذي يضعه إِبليس على يسوع لكي يعطيه الحكم والسلطان على ممالك الدينا. ويدل السجود على الخضوع التام الذي لا يليق إلاّ بالله (متى 2: 2). أمَّا السجود للشياطين فهي عبادة الاصنام كما قال بولس الرسول " أمَّا ذُبِحَ لِلأَوثانِ شَيء أَمِ الوَثَنُ شَيء؟ لا، ولكِن لمَّا كانَ ما يُذبَحُ إنَّما يُذبَحُ لِلشَّياطينِ لا لله" (1 قورنتس 10: 19-20)؛ أمَّا عبارة " سـاجدا" ً προσκυνήσῃς (معناها تقبيل اليد او ركوع على الركبتين احتراما) فتشير الى الخضوع التام المؤدي الى نتائج عملية " كما حدث مع المجوس الذين قالوا: ((أَينَ مَلِكُ اليهودِ الَّذي وُلِد؟ فقَد رأَينا نَجمَه في المَشرِق، فجِئْنا لِنَسجُدَ لَه" (متى 2: 2) وكما حدث ايضاً مع التلاميذ الاثني عشر بعد القيامة "لَمَّا رَأَوهُ سَجَدوا له" (متى 28: 17)؛ ويبدو ان التجربة تقوم على عبادة الشيطان التي تولِّي السلطة والمجد عن طريق تجنّب الصليب. فحاول الشيطان ان يحوّل يسوع عن هدفه، بجعله يركز بصره على السلطة العالمية وليس على مخطة الله وملكوته. لكن يسوع يُظهر بوسائل الفقر لا بظاهر العظمة أنه ابن الله حقا. ولا يزال الشيطان يجعل أمجاد هذا العالم ومحبة حب الرئاسة فخاً يصيد به الناس. فهو يعدهم بربح العالم على حساب خشارة نفوسهم. 10 فقالَ له يسوع: اِذهَبْ، يا شَيطان! لأَنَّه مَكتوب: لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسجُد وايَّاهُ وَحدَه تَعبُد تشير عبارة " اِذهَبْ" في الأصل اليوناني Υπαγε (معناه انسحب) الى كره المسيح للمجرب ومقته له على جسارته بالتجديف في هذه التجربة وقد جاوب المسيح بطرس بمثل هذه الجواب "إِنسَحِبْ! Υπαγε وَرائي! يا شَيطان، فأَنتَ لي حَجَرُ عَثْرَة، لأَنَّ أَفكارَكَ لَيسَت أَفكارَ الله، بل أَفكارُ البَشَر "(متى 16: 23). إذ أراد ابليس ان يجدِّد التجربة بواسطة بطرس حيث أراد ان يمنعه عن طرق الآلام المعينة له. وهكذا طرد يسوع التجربة وهكذا فعل مع بطرس الذي دعاه كيلا يكون عائقا للرب في طريقه الى الصلب والموت والقيامة. أمَّا عبارة " يا شَيطان! " في الأصل اليوناني Σατανᾶς (معناها المقاوم) فتشير الى خصم لا يتوقّف عن مقاومتنا، كما تلمح اليها اللفظة العبرية הַשָּׂטָן. (معناه المقاوم) وابليس مرادفة الى لفظة شيطان. وهو خصم يرفع الدعوى على ابناء الله متهماً إياهم امام محكمة السماء" فقالَ الرَّبُّ لِلشَّيطان: ((ها إِنَّ كُلَّ شيَءٍ لَه (أيوب) في يَدِكَ، ولكِن إِلَيه لا تَمدُدْ "(أيوب 1: 12)؛ اما عبارة " لأَنَّه مَكتوب " فتشير الى استشهاد يسوع من الكتاب المقدس (التثنية الاشتراع 6: 13)، لأنه في الكتاب المقدس يوجد كل ما نحتاج اليه لمقاومة الشيطان وردَّه. أمَّا عبارة "لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسجُد وايَّاهُ وَحدَه تَعبُد " فتشير الى النهي عن كل أنواع العبادة لغير الله واكد يسوع باتباع الله وعمل مشيئته كما ورد في تثنية الاشتراع " الرَّبَّ إِلهَكَ تَتَّقي وإِيَّاه تعبُدُ " (6: 13)، لذلك بيّن يسوع من هذا الكلام ان حياته العلنية منذ بدايتها هي سجود وعبادة لله وحده، ورفض السجود للشيطان كي يسود العالم سيادة سياسية. فالسجود والعبادة هي مبدا أساسي من مبادئ الدين الواردة في الكتاب المقدس. أمَّا عبارة " تَعبُد" فتشير الىعادة تكريم الإنسان وخشوعه والتعبير عن خضوعه لله، أو للآلهة الذين يؤمن بهم. وقد وُجدت العبادة منذ أن عرف الإنسان الله، ومنذ آمن الإنسان بالله أو بآلهة أخرى غير الله. وفي الكتاب المقدس وصف لنوعين من العبادة، أولهما عبادة الأوثان، وما كان يرافقها من بناء المذابح وإشادة المعابد وتقديم الضحايا وإشعال النيران والرقص والغناء، عند العبرانيين أنفسهم أو عند جيرانهم في فلسطين وسورية ومصر واليونان والرومان. أمَّا النوع الثاني فعبادة الله الواحد. وقد كان اليهود يخلعون أحذيتهم وقت العبادة (وهي عادة شرقية لا تزال متبعة عند المسلمين حتى اليوم). ويطأطئون رؤوسهم ويحنون أجسادهم ويسجدون حتى تمس رؤوسهم الأرض. ولما جاء المسيح قابله بعض أتباعه بالطريقة نفسها. ويخبرنا الكتاب أن قرنيليوس سجد لبطرس هكذا (اعمال الرسل 10: 25). غير أن المسيحية حاولت، منذ نشوئها، أن تجعل العبادة أمراً طبيعياً، وأن تزيل منها الشكليات المتكلفة التي تصرف العابد عن غايته الحقيقية (وهي الاقتراب من الله والاتصال به) وهي أن أمور نظامية وظاهرية وطقسية بعيدة عن غاية العبادية. يبيّن يسوع تواضعه والتزامَهُ مشيئة أبيه الذي أرسله ليخلّص العالم من سلطة إبليس ويؤسس مملكته الأبدية. 11 ثُمَّ تَركَه إِبليس، وإِذا بِمَلائكةٍ قد دنَوا منهُ وأَخذوا يَخدُمونَه تشير عبارة "تَركَه إ" الى انقطاع الشيطان عن تجربة يسوع الى حين (لوقا 4: 13) حيث انه عاد يجربه بعد ذلك في بستان الجسمانية "لأَنَّ سيِّدَ هذا العالَمِ آتٍ ولَيسَ لَه يَدٌ علَيَّ" (يوحنا 14: 30) وعلى الصليب. لكل تجربة حدا ونهاية (رؤيا 2: 10). اما عبارة "المَلائكة" فتشير الى مرسلي الله للدلالة على حضور الله والعون الذي يحمله الى أتقيائه، والملائكة هم في خدمة يسوع في حياته على الأرض حيث أعلنوا مولده لمريم البتول (لوقا 1: 35)، واكَّدوا الامر ليوسف (متى 1: 20) وأعلنوا ان اسمه يسوع (متى 1: 20) ومولده للرعاة لوقا 2: 11) وحافظوا على يسوع لدى هروبه الى مصر (متى 2: 13) وقاموا بخدمته في الجسمانية (لوقا 22:43)؛ أمَّا عبارة "بِمَلائكةٍ قد دنَوا منهُ وأَخذوا يَخدُمونَه " فتشير الى الخدمة التي يقوم بها الملائكة وهي العون الإلهي. ينال يسوع من الله عن يد الملائكة الطعام الذي رفض ان يؤمّنه لنفسه كما طلب منه الشيطان، وهكذا يعلم يسوع تلاميذه ان يطلبوا طعامهم من الآب السماوي "أُرْزُقْنا اليومَ خُبْزَ يَومِنا" (متى 6: 11). أمَّا عبارة "بِمَلائكةٍ قد دنَوا منهُ " فتشير الى حضور الملائكة دلالة على انتصار يسوع على التجربة. ويعلق القديس ايرونيموس "التجربة تسبق لكي تتبعها نصرة، وتأتي الملائكة فتخدم لتثبت كرامة المنتصر". أمَّا عبارة "يَخدُمونَه" فتشير الى خدمة المائدة وتقديم الطعام كما جاء في المزمور " فأَكَلَ الإِنْسانُ خُبزَ الأَقوِياء وأرسَلَ إِلَيهم زادًا حتَّى شَبِعوا" (مزمور 77: 25). وهنا نتذكر شفاء يسوع لحماة بطرس " فنَهضَت وأَخذَت تَخدُمُه "(متى 8 :15). وهكذا اليوم يرسل الله لشعبه علامات محبته بعدما يفتقدهم بالضيقات ولا تزال مقاومة الشيطان تفتح بابا لخدمة الملائكة. ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 4: 1-11) بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي وتحليله (متى 4: 1-11)، نستنتج انه يتمحور حول تجارب يسوع. ومن هنا نتساءل ما هو واقع التجربة؟ كيف واجه يسوع التجربة وكيف نواجه التجربة؟ 1) ما هو واقع التجربة؟ وُجدت التجربة لدى وجود الانسان على الارض. فمنذ البداية الشيطان يوسوس ويخدع كما يقول بولس الرسول "يَخدَعَنا الشَّيطان، ونَحنُ لا نَجهَلُ وَساوِسَه"(2 قورنتس 2: 11) وهو كالأسد الزائر كما يصفه بطرس الرسول "إنَّ إِبليس خًصْمَكم كالأَسدِ الزَّائِرِ يَرودُ في طَلَبِ فَريسةٍ لَه" (1بطرس 5: 8). ويصف بولس الرسول التجربة " شوكة في الجسد" كما صرّح الى اهل قورنتس " ومَخافَةَ أَن أَتَكَبَّرَ بِسُمُوِّ المُكاشَفات، جُعِلَ لي شَوكَةٌ في جَسَدي: رَسولٌ لِلشَّيطانِ وُكِلَ إِلَيه بِأَن يَلطِمَني لِئَلاَّ أَتَكبر"(2 قورنتس 12: 7). ونبّه السيد المسيح من وقوع ما تعرّضه التجربة للخطيئة "الوَيلُ لِلعالَمِ مِن أَسبابِ العَثَرات! ولابُدَّ مِن وجُودِها، ولكِنِ الوَيلُ لِلَّذي يكونُ حَجَرَ عَثرَة!"(متى 18: 7). فالخطيئة تسكن فينا كما يعترف بولس الرسول قائلا" لأَنَّ الخَيرَ الَّذي أُريدُه لا أَفعَلُه، والشَّرَّ الَّذي لا أُريدُه إِيَّاه أَفعَل. فإِذا كُنتُ أَفعَلُ ما لا أُريد، فلَستُ أَنا أَفعَلُ ذلِك، بلِ الخَطيئَةُ السَّاكِنةُ فِيَّ "(رومة 7: 14-25). أمَّا مراحل التجربة فهي ثلاثة. المرحلة الأولى: الاغراء من الخارج، والمرحلة الثانية: التأثير على الإرادة من الداخل، والمرحلة الثالثة: اتخاذ القرار. فإذا ما قبلنا التجربة وقبلنا الإغراء الذي يستهوينا كانت التجربة خطيئة وموتا وهلاكاً. لكن إن رفضنا التجربة وقاومناها، كانت لنا التجربة سبب اجرٍ وثوابٍ. التجربة بحد ذاتها ليست خطيئة، لكن السقوط فيها خطيئة. الشيطان يجرّب والله يختبر. فالتجربة هي عادة إغراء شخصٍ ما للقيام بما هو خطأ أو ممنوع هدفها ابعاده عن الله، وأمَّا الاختبار فهو بمثابة امتحان هدفه إثبات وتنقية شخصاً ما للتحقّق من جاهزيّته للواجب الّذي في متناول اليد. يختبر الربّ شعبه لمعرفة إنّ كانوا مُستعدّين لاتّباعه وخدمته دون تحفّظ أو مساومة مثل اختبار لله لإبراهيم في تقديم ابنه إسحاق قائلا له " خُذِ اَبنَكَ وَحيدَكَ الَّذي تُحِبُّه، إِسحق، وآمضِ إِلى أَرضِ المورِيِّا وأَصعِدْه هُناكَ مُحرَقَةً على أَحَدِ الجِبالِ الَّذي أريكَ" (التكوين 22: 2). ونحن نعلم ان الشيطان اغوى حواء وآدم فتمردا على الخالق (تكوين 3: 1-6)، وجرّب الشيطان يهودا الإسخريوطي "دَخَلَ الشَّيطانُ في يَهوذا المَعْروفِ بِالإِسْخَرْيوطِيّ، وهو مِن جُملَةِ الاِثَنيْ عَشَر فخان المعلم ( لوقا 22: 3)، وغربل الرسل فتفرّقوا وتركوا المعلم وحده كما صرّح الرب "سِمعان سِمعان، هُوذا الشَّيطانُ قد طَلَبكُم لِيُغَربِلَكُم كَما تُغَربَلُ الحِنطَة"( لوقا 22: 31)، ودخل الشيطان في حنانيا وزوجته سفيرة فكذبا على الروح القدس كما أوضح بطرس الرسول " لِماذا مَلأَ الشَّيطانُ قَلبَكَ فكذَبتَ على الرُّوحِ القُدُس"( اعمال الرسل 5: 3) ولكن بولس الرسول يُعلمنا انه مع التجربة هناك وسيلة للنجاة " لم تُصِبْكُمْ تَجرِبَةٌ إِلاَّ وهي على مِقدارِ وُسْعِ الإِنسان. إِنَّ اللهَ أَمينٌ فلَن يأذَنَ أَن تُجَرَّبوا بما يفوقُ طاقتَكم، بل يُؤتيكُم مع التَّجرِبَةِ وَسيلةَ الخُروجِ مِنها بِالقُدرةِ على تَحَمُّلِها" (1 قورنتس 10: 13). إن تجربة يسوع كانت قسما ضروريا من اتضاعه في اجرائه عمل الفداء وجزء من محاربته العظيمة الذي تنبأ الله بها في بدء التكوين " فقالَ الرَّبُّ الإِلهُ لِلحيَّة: أَجعَلُ عَداوةً بَينَكِ وبَينَ المَرأَة وبَينَ نَسْلِكِ ونَسْلِها فهُوَ يَسحَق رأسَكِ وأَنتِ تُصيبينَ عَقِبَه " (التكوين 3: 15). وبما ان يسوع أتى العالم لكي ينقض اعمال ابليس كما جاء في تعليم يوحنا الرسول " إِنَّما ظَهَرَ ابنُ اللهِ لِيُحبِطَ أَعمالَ إِبْليس" (1يوحنا 3: 8) اقتضى ان يغلبه أولا. والمسيح بتجربته جعل علاقة متينة بينه وبين شعبه المُجرَّب لأنه فيما هو قد تألم يقدر ان يعيين المُجرَّبين " لأَنَّه قَدِ ابتُلِيَ هو نَفسُه بِالآلام، فهو قادِرٌ على إِغاثَةِ المُبتَلَين" (العبرانيين 2: 18). وهكذا لم ينجو يسوع من تجربة الشيطان، فقد جرّب الشيطان المسيح نفسه (متى 3: 1-11). وهو يُجرّبنا في كل حين. 2) كيف واجه يسوع التجربة جُرب يسوع في البرية في أحلك الظروف حيث كان وحيدا ومتعبا وجائعا بعد صومه أربعين يوما. جرَّبه الشيطان على دفعات ثلاث محاولاً ان يختبر موقفه البنوي تجاه ابيه السماوي من خلال بث أفكاره المسمومة من تشكيك، وإثارة شهوات. أمَّا يسوع فأظهر الطريقة التي اعتمدها كابن الله ليكون مسيحا، إذ أختار العلاقة والطاعة البنويّة وعبّر عنها بطريق آلامه وموته وقيامته كما ورد في الكتب المقدسة "بَدأَ يسوعُ مِن ذلِكَ الحينِ يُظهِرُ لِتَلاميذِه أَنَّه يَجِبُ علَيهِ أَن يَذهَبَ إِلى أُورَشَليم ويُعانِيَ آلاماً شَديدة مِنَ الشُّيوخِ وعُظَماءِ الكَهَنَةِ والكَتَبَة ويُقتَلَ ويقومَ في اليومِ الثَّالث. فَانفَرَدَ بِه بُطرُس وجَعلَ يُعاتِبُه فيَقول: حاشَ لَكَ يا رَبّ! لن يُصيبَكَ هذا! "(متى 16: 21 -23). أمَّا الطريقة التي يعرضها عليه إِبليس والتي يريد اليهود ان ينسبوها اليه هي ان يكون مسيحا سياسيا أرضيا. فردّ يسوع هذه التجارب التي تلخص تجارب ادم في الفردوس وبني اسرائيل في الصحراء. ا) تجارب آدم في الفردوس التجارب الثلاث التي واجهها السيّد المسيح وغلبها، إنّما هي ذات التجارب التي واجهت آدم وسقط فيها وهو في الفردوس، (التكوين 2: 7-9، 3: 1-7). وهذه التجارب هي: شهوة الجسد، وشهوة العين والكبرياء. في تجربة الجسد كما جرّب إِبليس آدم بان يأكل من شجرة المعرفة والخير كذلك جرّب يسوع في تحويل الحجارة لخبز. آدم غلبه إِبليس إذ أكل، والمسيح هزم إِبليس إذ امتنع عن الأكل. وفي التجربة شهوة العين كما جرَّب الشيطان آدم بالشجرة التي كانت شهية للنظر وبهجة للعيون، كذلك جرّب الشيطان يسوع إذ أراه كل ممالك الأرض. وفي تجربة الكبرياء كما عرض الشيطان على آدم ان يصير هو وزوجته كآلِهَةٍ قائلا: "فاللهُ عالِمٌ أَنَّكُما في يَومِ تأكُلانِ مِنه تَنفَتِحُ أَعيُنُكُما وتَصيرانِ كآلِهَةٍ تَعرِفانِ الخَيرَ والشَّرّ" (تكوين 3: 5)، كذلك عرض على المسيح ان يلقى نفسه ولا يصيبه أذى. "أَلقِ بِنَفسِكَ إِلى الأَسفَل، لأَنَّه مَكتوب: (يُوصي مَلائكتَه بِكَ فعلى أَيديهم يَحمِلونَكَ لِئَلاَّ تَصدِمَ بِحَجرٍ رِجلَكَ) (متى 4: 6). ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم ان التجارب الثلاث تتلخص بتجربة " عبوديّة البطن، والعمل من أجل المجد الباطل، والخضوع لجنون الغنى". وما سقط فيه آدم الأول غلب فيه آدم الثاني، وصار لنا الهلاك الأبدي خلال آدم الأول، وصار لنا المجد الأبدي خلال آدم الثاني. يسوع هو ادم الجديد. المسيح كرأس للخليقة الجديدة دخل المعركة وغلب، لأن آدم رأس الخليقة القديمة دخل المعركة وهُزِمَ. دخل الربّ يسوع طوعاً إلى البرّية كي يستعيد الفردوس الّذي فقده ابوينا الاولين آدم وحواء. ب) تجارب بني إسرائيل في الصحراء اظهر متى الإنجيلي في مشهد التجارب ان يسوع هو إسرائيل الجديد، الذي مرّ في البرية وانتصر، وهو وموسى الجديد الذي صامَ أَربَعينَ يوماً وأَربَعينَ لَيلةً (الخروج 24: 18). ويرينا متى الإنجيلي ان يسوع عاش في البرية تلك التجارب التي عاشها الشعب في أثناء خروجه من مصر. فقد عرض الشيطان على يسوع التجارب الكبرى التي سقط فيها بني إسرائيل فيما مضى كما ورد في سفر الخروج كتجربة المنّ (خروج 16) وتجربة الأصنام وعجل الذهب (خروج 32-34) وتجربة المعجزات والآيات (خروج 17). إنّ تجربة إسرائيل هي تجربة يسوع، وهي تجربة البشرية كلها، وهي تجربتنا نحن أيضا. فظهر يسوع في مشهد التجارب بمظهر شعب اسرائيل الذي جُرّب في البرية كما تدل الاقتباسات الصريحة المأخوذة من سفر تثنية الاشتراع (8: 3، 6: 13، 6: 16). التجربة الأولى: حاجة جسدية: "إشباع الجوع" تشتدُّ شهوة الإنسان للطعام مع الجوع، وهي لحظة ضعف للجسد حيث استغل الشيطان جوع يسوع (متى 4: 2) ليجرِّبه حتى يرضي احتياجاته الجسدية "إِن كُنتَ ابنَ الله، فمُرْ أَن تَصيرَ هذِه الحِجارةُ أَرغِفة" (متى 4: 3). فالشيطان يريد ان يُشكك يسوع في محبة الآب له، فهو يقصد أن يقول، إن كان الله الآب هو أبوك حقًا، وهو إله خير مُحب، فلماذا يتركك جائعًا. إذًا فليحوِّل لك الحجارة إلى خبز. ويُعلق القديس ايرونيموس "يقصد إِبليس بكل هذه التجارب أن يعرف إن كان هو ابن الله!". وكأن الشيطان يتساءل: هل الله الآب قادر ان يزوّد ابنه يسوع بالطعام؟ بل أكثر من ذلك وكأني بالشيطان يهمس في أذني يسوع: أنت جائع ويجب على الآب أن يُطيعك. اتَّكل يسوع على الله الآب وأجابه مستشهدا في الكلمة الإلهيّة المكتوبة "لا بالخُبزِ وَحدَه يَحْيا الإِنْسان، بل بِكُلِّ ما يَخرُجُ مِن فَمِ الرَّبِّ يَحْيا الإِنْسان"(تثنية الاشتراع 8: 3). رفض الربّ يسوع الطعام كي يُثبت اعتماده على خبز السماء، كلمة الربّ، الّذي يُغذي حياة الابن، ولذلك هو يطيعه (متى 4: 3-4). وهكذا اثبت يسوع هو "ابنُ الله" بقدر ما يحقّق طاعتِه لأبيه، كما يقول الواعظ الشهير كلود تاسّين. اعتزم يسوع أن يقهر إِبليس لا بالجبروت (تحويل الحجارة خبزًا)، وإنما بالتواضع ملتجأ الى كلمة الله. ومن لا يتغذّى بكلمة الله لا يحيا. أراد إِبليس أن يجذب المسيح للاهتمام بالماديات فحوَّل المسيح الماديات إلى الروحانيات. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "أننا نغلب الشيطان لا بعمل المعجزات، وإنما بالاحتمال وطول الأناة، فلا نفعل شيئًا بقصد المباهاة والمجد الباطل". أن المسيح يُشبع الجموع بمعجزة ولا يعمل معجزة لأجل نفسه بالرغم انه كان جائعا. فالمسيح لا يريد أن ينحصر في ذاته بل هو يسلم بكل ما يريده للآب، هو لا يريد أن يستخدم مشيئته بعيداً عن مشيئة الله. وبهذا انتزع سلاح الشيطان الذي يقوم على استخدام مشيئة الإنسان بعيداً عن مشيئة الله كما أعلن يسوع يوما امام الجمع "فقَد نَزَلتُ مِنَ السَّماء لا لِأَعمَلَ بِمَشيئتي بل بِمَشيئَةِ الَّذي أَرسَلَني." (يوحنا 6: 38). التجربة الثانية: حاجة نفسية: الأمان. استغل الشيطان حاجة الأمان فجرّب يسوع بان يطرح نفسه الى أسفل متحدِّيا بذلك قوانين الجاذبية والقدرة البشرية قائلا" إِن كُنتَ ابنَ الله فأَلقِ بِنَفسِكَ إِلى الأَسفَل، لأَنَّه مَكتوب: "أَوصى مَلائِكَتَه بِكَ لِيَحفَظوكَ في جَميعِ طرقِكَ على أَيديهم يَحمِلونَكَ لئَلاَّ تَصدِمَ بحَجَر رجلَك " (مزمور 91: 12). أستخدم الشيطان كلمة الله بطريقة مضللة ومحرّفة وجعلها أساسًا للتجربة. إذ يستخدم المزمور ولكنه لم يكمله، فالباقي ليس في مصلحته كما يُعلق القديس جيروم" يفسّر الشيطان المكتوب تفسيرًا خاطئًا... كان يليق به أن يكمّل ذات المزمور الموجَّه ضدّه إذ يقول: "تطأ الأَسَدَ والأفعى تدوسُ الشبلَ والتنين" (مزمور 91: 13). فهو يتحدّث عن معونة الملائكة كمن يتحدّث إلى شخص ضعيف محتاج للعون، ولكنه لم يذكر أنه سيُداس بالأقدام". أستخدم الشيطان هذه الآية بخدعة لكي يدفع السيّد المسيح ليجرِّب أباه السماوي ويفسد رسالته بتجنب حمل الصليب مهتمّا باستعراض إمكانيّاته والمجد الباطل، وذلك بطلب الملائكة لتحفظه عِوض الدخول في حياة الألم. ونستنتج مما سبق ان يسوع هو “ابنُ الله" لاقتدائه بأبيه الكلي الرحمة والتواضع (متى 11: 11: 27-29) 29)، وذلك تسليم نفسَه للعناية الإلهيّة وحرصه على ألاّ نضع الله في التجربة لكي نتحقّق من عنايته لنا "لا تُجَرِّبَنَّ الرَّبَّ إِلهَكَ" (متى 4: 7). إن هذه التجربة هي التجربة الدائمة التي كان معاصرو يسوع يطرحونها عليه طيلة حياته العلنية: اصنع المعجزات، أعطنا آية من السماء، (لوقا 11: 29) أظهِر لنا بقدرتك ومعجزاك أنك المسيح المنتظَر (يوحنا 2: 18)، انزل عن الصليب! (متى 27: 42). والشيطان يقول ليسوع الآن "أَلقِ بِنَفسِكَ إِلى الأَسفَل" (متى 4: 6)، ولو فعل يسوع المعجزة بإلقاء نفسه الى الأسفل فأنه يقع في الكبرياء وآمن به الجميع بسبب هذه المعجزة الخارقة، ولكن يسوع رفض ذلك واظهر انه طريقه هو طريق الصليب. اراد الشيطان ان يشكك يسوع في علاقته مع الله ابيه كي يفقد ثقته بالآب! هل الله قادر ان يحميه؟ وكأني بالشيطان يقول ليسوع: أنت تستطيع فعل كلّ شيء. افعل ما تشاء، وهكذا تجبر الآب على أن يخلّصك، وأن يبادر إلى معونتك إن كان أبا حقيقيا! أما موقف يسوع فهو قادر ان يفعل كل شيء لكن يحافظ على موقفه البنوّي مع الله الآب مركِّزا على خطته الابوية " لا تُجَرِّبوا الرَّبَّ إِلهَكم" (تثنية الاشتراع 6: 16). يجب ان لا نستغرب أن نُجَرَّبَ بدورنا بنفس التجربة المأساوية، تجربة فقدان الثقة بالله والإحساس بتخلّي الربّ عنا! وهذه أخطر التجارب؛ إنها تجربة الإلحاد: "فلو كان الله موجودا، لما حصل معي هذا!". وأن مشكلة الشر والألم في العالم هي وراء فقدان الثقة بالله، ولكننا نؤمن بأنّ يسوع "معنا"، وأنه كان الأوّل في الانتصار على هذه التجربة ببقائه على الدوام أمينا للربّ حتى وهو "مسمّرٌ على الصليب". التجربة الثالثة حاجة اجتماعية: "السلطة الأرضية" الشيطان هو رئيس هذا العالم، وهو يغوي المؤمنين بملذات وأمجاد هذا العالم الباطلة التي يملكها ويتحكم فيها، والثمن هو السجود له أي التبعية الكاملة له التي تصل لحد عبادته. أنه "كذَّابٌ وأَبو الكَذِب " (يوحنا 44:8)، فهو يغوي المؤمنين بعالم فانٍ زائل. وقد استغل الشيطان هذه السلطة ليجرّب يسوع كي يعبده، وبذلك يأمره بالخضوع الكامل له قائلا " وأَراهُ جَميعَ مَمالِكِ الدُّنيا ومَجدَها، أُعطيكَ هذا كُلَّه إِن جَثوتَ لي سـاجداً " (متى 4: 8 -9). وحاول الشيطان ان يُطبِّق المثل العامي "حسنة وأنا سيدك". فالشيطان أبو الكذب ظنّ أنه قادر أن يخدع الرب يسوع " أُعطيكَ هذا كُلَّه" فلا حاجة إلى الصليب كي تكوّن مملكة من العالم، إنّما يكفي أن تسجد لي. وكان هذا هو طلب اليهود أيضا معاصري يسوع الذين أرادوا منه أن يكون مسيحا سياسيا، "ملِكا لهذا العالم" متزعّما مع الثوار الغيورين حركة استعادة "السلطة" والمجد من المحتل الروماني كما جاء في انجيل يوحنا "وعَلِمَ يسوعُ أَنَّهم يَهُمُّونَ بِاختِطافِه لِيُقيموهُ مَلِكاً، فانصَرَفَ وعادَ وَحدَه إلى الجَبَل "(يوحنا 6: 15). وحاول الشيطان ان يشكك يسوع في علاقته بالله ابيه السماوي: فهل يرشده الله؟ أجابه يسوع دون تساهل مع الشيطان مستشهدا في كلمة الله "لرَّبَّ إِلهَكَ تَتَّقي وإِيَّاه تعبُدُ" (تثنية الاشتراع 6: 13). ولم ينخدع يسوع، لأنه يعرف حقيقة سلطان أبيه، وأن ما لأبيه إنّما هو له كما صرّح "جَميعُ ما هو لي فهو لَكَ وما هو لَكَ فهو لي" (يوحنا 17: 10). ويُعلق القديس ايرونيموس "إن إِبليس لا يملك العالم كلّه ليعطي ممالكه، وإنما الله هو الذي يهب الملكوت لكثيرين". ويثبت يسوع انه "ابنُ الله" لأنه هو المسيح الملك كما جاء في المزامير "قالَ لي: أَنتَ اْبني وأَنا اليَومَ وَلَدتُكَ. سَلْني فأُعطيَكَ الأمَمَ ميراثًا وأَقاصِيَ الأَرض مِلْكً." (مزمور 2: 7-8). رفض يسوع الملكية الأرضية او "المسيحانية الأرضية " بما فيها من الشرّ والعنف الموجودين وراءَ سيطرة سياسيّة تعاكس المتطلّبات الإلهيّة، وفضّل يسوع أن يكون ذلك "العبد الفقير المتألّم" كما بيّن ذلك في غسل اقدام تلاميذه (يوحنا 13 :1-20). وجعل من نفسه ضعيفا، واختار "الصليب الذي كان عِثارٍ لِليَهود وحَماقةٍ لِلوَثنِيِّين"(1قورنتس 1: 23). إنّ تجربة السلطة هي تجربتنا نحن أيضا؛ إنها تجسّد ميلنا إلى السيطرة وفرض الرأي وتقديم مصلحتنا الخاصة. واجه يسوع التجارب الثلاثة بكلام الله مستشهدا من سفر تثنية الاشتراع. ظهر المسيح خادما لله، خاضعا تمام الخضوع لمشيئته الالهية. بهذا تغلب يسوع على إِبليس: انه "ربط القوي" لكي يسترجع امتعته (مرقس 3: 27). ان انتصار يسوع على المُجرِّب في الصحراء هو استباق لانتصار الالام، وبالتالي خضوع محبته البنوية للاب. واثبت يسوع انه ابن الله بطاعته الكاملة وبتغلبه على الشيطان. جُرّب فعرف ضعفنا، وصار "رئيس كهنة رحيما أمينا" (عبرانيين 2: 17). واستطاع ان يساعد المُجرَّبين" (عبرانيين 2: 18). ولذا رأى صاحب الرسالة الى العبرانيين في السيّد المسيح ليس مثالًا خارجيًا نتمثل به في وقت التجارب فحسب، إنّما هو المثل الحيّ الذي يفيض علينا بإمكانيّات نصر كما جاء في رسالته "قَدِ ابتُلِيَ هو نَفسُه بِالآلام، فهو قادِرٌ على إِغاثَةِ المُبتَلَين" (عبرانيين 2: 18). ويُعلق القديس غريغوريوس الكبير "يسوع يغلب تجاربنا بتجارب". في هذه التجارب الثلاث اختار يسوع الاستماع إلى الآب وحده، والوثوق بالآب به، وعبادته دون غيره. نستنتج مما سبق أن الشيطان يُغرينا من خلال أجسادنا وأرواحنا، كما فعل مع يسوع. لكنه يُعلمنا طرق مكره وخبثه، إنه "كذَّابٌ وأَبو الكَذِب " (يوحنا 44:8)، وكثير من وعوده كاذبة؛ ليس لديه سلطة، وأما يسوع المسيح فهو صاحب القوة والسلطة ة الحقيقة الذي يفي بوعوده. 3) كيف نواجه التجربة التجربة في حد ذاتها ليست خطيئة، فإننا نخطئ عندما نستسلم للتجربة ونعصي الله. لذلك قال الآباء "ليس الخطأ أن تحوم الطيور حول رؤوسنا، بل الخطأ أن تتخذ الطيور من رؤوسنا أوكارًا لها". وفي الواقع، تدخل التجربة في مخطط الله الذي لا يريدنا ان نسقط، بل ليمتحن حبنا (أيوب 1-2). إنها شرط ضروري للفضيلة المجربة "لأَنَّه لابُدَّ مِنَ الشِّقاقِ فيما بَينَكُم لِيَظهَرَ فيكُم ذَوُو الفَضيلةِ المُجَرَّبة" (1 قورنتس 11: 19). ولا يمكنُ أن تخلوَ حياتُنا في غربتِنا الأرضيّةِ هذه من المحنةِ أو التجربة. لأنَّ تقدُّمَنا يتمُّ عن طريقِ التجربة. وفي هذا الصدد يقول القديس أوغسطينوس "لا أحدَ يقدرُ أن يَعرِفَ نفسَه إلا إذا مرَّ بالتجربة، ولا يمكنُ أن يُكلَّلَ بالمجدِ إلا إذا غَلَبَ" القديس أوغسطينوس (CCL 39، 766). التجربة تُمكّـنُ الإنسان من التعبير عن الحرية المعروضة الى الحرية المعاشة، من الاختيار الى العهد. يسمح الله التجارب ولكنه يُعيننا على الخروج منها مملوئين من الروح القدس، وصورة أكثر قوة وصلابة وخبرة وتواضعاً، إذ ندرك ضعْفنا واثقين في وعود الله، مختبرين قوته ونصرته على الشيطان وأسلحته.لذلك لا يمكنُ أن تخلوَ حياتُنا في غربتِنا الأرضيّةِ من التجربة. لأنَّ تقدُّمَنا يتمُّ عن طريقِ التجربة. وفي هذا الصدد يقول القديس اوغسطينوس "لا أحدَ يقدرُ أن يَعرِفَ نفسَه إلا إذا مرَّ بالتجربة، ولا يمكنُ أن يُكلَّلَ بالمجدِ إلا إذا غَلَبَ. ولا يمكنُ أن يَغلِبَ إلا إذا جاهد، ولا يمكنُ أن يجاهدَ إلا إذا تعرّضَ له أعداءٌ وتجارِبُ". لنتعلم من المسيح كيف نواجه التجربة، فتلميذ المسيح يسير على خطاه، ويقتدي بسيرته وانتصاره. كيف يمكننا التغلّب على التجربة؟ يمنحنا الربّ يسوع روحه القدّوس كي يعيننا في ضعفنا "فإِنَّ الرُّوحَ أَيضاً يَأتي لِنَجدَةِ ضُعْفِنا" (رومة 8: 26) وكي يكون مرشدنا ومُعزّينا في التجارب والشدائد كما علم بولس الرسول "لم تُصِبْكُمْ تَجرِبَةٌ إِلاَّ وهي على مِقدارِ وُسْعِ الإِنسان. إِنَّ اللهَ أَمينٌ فلَن يأذَنَ أَن تُجَرَّبوا بما يفوقُ طاقتَكم، بل يُؤتيكُم مع التَّجرِبَةِ وَسيلةَ الخُروجِ مِنها بِالقُدرةِ على تَحَمُّلِها" (1 قورنتس 10: 13). ويعلق القديس اوغسطينوس "فإن جُرِّبْنا مع المسيح، فمعه نحن سوف ننتصرُ على إبليس. كانَ بوِسعِه أن يمنعَ الشيطانَ من الاقترابِ منه. ولكنَّه لو لم يُجرَّبْ لمَا علَّمَك كيف تنتصرُ حينَ تُجرَّبُ (القديس أوغسطينوس (CCL 39، 766). ويمنح الربّ النعمة للمتواضعين كي يُقرّوا باعتمادهم عليه "إِنَّ اللهَ يُكابِرُ المُتَكَبِّرين ويُنعِمُ على المُتَواضِعين" (يعقوب4: 6)، وهو يساعدنا في الوقوف في مقاومة الشيطان، الّذي يريد أن يُدمّرنا "إِنَّ إِبليسَ خًصْمَكم كالأَسدِ الزَّائِرِ يَرودُ في طَلَبِ فَريسةٍ لَه، فقاوِموه راسِخينَ في الإِيمان. فإِن إِلهَ كُلِّ نِعمَة، الإِلهَ الَّذي دَعاكم إِلى مَجْدِه الأَبَدِيِّ في المسيح، هو الَّذي يُعافيكمَ ويُثَبِّتُكم ويُقَوِّيكم ويَجعَلُكم راسِخين" (1 بطرس 5: 8-10). يريد الربّ لنا أن "نجاهد في الإِيمانِ جِهادًا حَسَنًا" (1 طيموتاوس 6: 12). تقدم لنا تجارب يسوع مثالا يحتذى به عندما نتعرض للتجربة حيث يسوع واجه التجربة ولكنه لم يستسلم لها، بل تغلّب عليها من أجلنا كما يصرِّح كاتب الرسالة الى العبرانيين " فلَيسَ لَنا عَظيمُ كَهَنَةٍ لا يَستَطيعُ أَن يَرثِيَ لِضُعفِنا: لَقَدِ امتُحِنَ في كُلِّ شَيءٍ مِثْلَنا ما عَدا الخَطِيئَة" (عبرانيين 4: 15). ويعرف يسوع معرفة كاملة ما نتعرض نحن له، وهو قادر وعلى استعداد ان يُعيننا في تجاربنا، فعلينا ان نطلب منه القوة عندما نتعرض للتجربة. واجه يسوع المُجرّب كما يواجه كل واحد منا وذلك بامتلائه بالروح القدس واستعمال سلاح كلمة الله والصلاة والصوم والتواضع. وبهذا علمنا كيف يجب أن نقاوم تجارب الأرواح الشريرة بالرغم انه هو نفسه لم يكن بحاجة إلى هذه الامور لأنه هو الله. ا) التسلح بالروح القدس: يروي لنا لوقا الإنجيلي "رَجَعَ يسوعُ مِنَ الأُردُنّ، وهو مُمتَلِئٌ مِنَ الرُّوحِ القُدُس، فكانَ يَقودُه الرُّوحُ في البرِّيَّةِ" (لوقا 4، 1) ويؤكد ذلك متى الإنجيلي بقوله "وسارَ الرُّوحُ بِيَسوعَ إِلى البَرِّيَّةِ لِيُجَرِّبَه إِبليس" (متى 4: 1). فاستطاع يسوع ان يواجه ابليس وتجاربه وينتصر عليها بقوة الروح. لذلك يُوصينا بولس الرسول: "تَسلَّحوا بِسِلاحِ الله لِتَستَطيعوا مُقاوَمةَ مَكايدِ إِبليس" (أفسس 6: 10-12). وهذا السلاح هو " دِرْع البر وخوذَةَ الخَلاصِ، ورداء الغيرة وترس القداسة"(أشعيا 59: 17). الروح القدس هو قوة رادعة للشيطان، والمسيح أرسل لنا الروح القدس لنتغلب على الشيطان وندحره. فالشيطان قوي ومغرياته قوية، لكننا بالروح القدس الذي فينا نكتشف ألاعيبه ونهزمه ونرفض عروضه ومغرياته الخبيثة. إنه يُعيننا في ضعفنا كما جاء في تعليم بولس الرسول "فإِنَّ الرُّوحَ يَأتي لِنَجدَةِ ضُعْفِنا "(رومية 8، 26) ويكون مرشدنا ومُعزّينا في التجارب والشدائد (1 قورنتس 10، 13) ويساعدنا في الوقوف في وجه تجارب الشيطان، الّذي يريد أن يُدمّرن كما يصرّح بطرس الرسول " إِنَّ إِبليس خًصْمَكم كالأَسدِ الزَّائِرِ يَرودُ في طَلَبِ فَريسةٍ لَه"(1 بطرس 5، 8). ومن هنا جاءت توصية بولس الرسول "اسلُكوا سَبيلَ الرُّوح فَلا تَقْضوا شَهوَةَ الجَسَد، لأَنَّ الجَسَدَ يَشتَهي ما يُخالِفُ الرُّوح، والرُّوحَ يَشتَهي ما يُخالِفُ الجَسَد: كِلاهُما يُقاوِمُ الآخَرَ" (غلاطية 5: 16-17). فالنعمة التي وهبها الله لنا أعظم وأقوى وقادرة أن تتغلب على شهوات الإنسان الخاطئة (يعقوب 4: 6). ولا ننسى اننا في رتبة المعمودية عندما يحلّ علينا الروح القدس نكفر بالشيطان، مبدا الخطيئة والشر، وهذا معناه أن المؤمن سيدخل في تحدٍ مع الشيطان وعليه ان يرفضه ويرفض أعماله وإغراءاته وأباطيله. ب) التسلح بالكتاب المقدس عاد يسوع الى الكتاب المقدس تلاث مرات في دحضه تجارب الشيطان الثلاث. كان كل مرّة يجابهه قائلا "مكتوبٌ " (متى 4: 3-10). ويقول كاتب الرسالة الى العبرانيين "إِنَّ كَلامَ اللهِ حَيٌّ ناجع، أَمْضى مِن كُلِّ سَيفٍ ذي حَدَّين" (عبرانيين 4: 12). ولذلك فإن تلميذ المسيح عليه ان يدحر المُجرِّب مثلما دحره المسيح مستعينا بكلمة الله لكي يختبر ما هي إرادة الله الصالحة لمرضية الكاملة كما جاء في تعليم بولس الرسول “لِتَتَبيَّنوا ما هي مَشيئَةُ الله، أَي ما هو صالِحٌ وما هو مَرْضِيٌّ وما هو كامِل"(رومة 12: 2)؛ والوعد في اختبار كلمة الله لمن له الايمان كما ورد في المزامير " إِنِّي أعَلِّمُكَ وأُرشِدُكَ في الطَّريقِ الَّذي تَسلُكُه وأكون ناصِحًا لَكَ" (مزمور 32: 8). كلمة الله هي وسيلتنا للتغلب على الشيطان وتجاربه. لذلك يدعونا بولس الرسول ان نتسلح بكلمة الله لنَستَطيعَ مُقاومة مَكايِدِ إبليس: " تَسلَّحوا بِسِلاحِ الله لِتَستَطيعوا مُقاوَمةَ مَكايدِ إِبليس ...واحمِلوا تُرْسَ الإِيمانِ في كُلِّ حال، فبِه تَستَطيعونَ أَن تُخمِدوا جَميعَ سِهامِ الشِّرِّيرِ المُشتَعِلَة. واتَّخِذوا لَكم خُوذَةَ الخَلاص وسَيفَ الرُّوح، أَي كَلِمَةَ الله " (أفسس 6: 11-17). ويُعلق القدّيس أنطونيوس على كلمات يسوع الرب "اذهب يا شيطان". إنها مِنحة يقدّمها السيّد لمؤمنيه، يستطيعون كمن لهم سلطان أن ينطقوا بالمسيح الذي فيهم ذات الكلمات، إذ يقول: ليخزى الشيطان بواسطتنا، لأن ما يقوله الرب إنّما هو لأجلنا، لأنه عندما تسمع الشيّاطين منّا كلمات كهذه تهرب خلال الرب الذي انتهارها بهذه الكلمات". ج) الالتجاء الى الصوم استعد يسوع لمجابهة تجارب إِبليس بالصوم "صامَ يسوع أَربَعينَ يوماً وأَربَعينَ لَيلةً" ((متى 4: 3). يُعلمنا يسوع هنا أننا لا نستطيع أن نَقوى على التجربة وننتَصِرَ عليها إلاّ بالصوم، لأننا في هذه الحياة " فلَيسَ صِراعُنا مع اللَّحمَ والدَّم، بل مع أَصحابِ الرِّئاسةِ والسُّلْطانِ ووُلاةِ هذا العالَم، عالَمِ الظُّلُمات، والأَرواحِ الخَبيثةِ في السَّمَوات" (أفسس 6: 12-13). أن العدوّ يهاجم القلب عن طريق امتلاء البطن. بالصوم ننزع من إِبليس رئيس هذا العالم سلاحه الذي هو ملذات العالم، لان الصوم هو الزهد عن ملذات هذا العالم. وكما صام يسوع قبل مواجهته التجربة هكذا علينا ان نصوم. الصوم هو من أقوى الأسلحة التي بها نقاوم الشيطان كما جاء في تعليم يسوع المسيح "وهذا الجِنسُ مِنَ الشَّيطانِ لا يَخرُجُ إِلاَّ بالصَّلاةِ والصَّوم "(متى21:17). ويُعلق القديس أوغسطينوس "عندما يوجد صراع متزايد من المُجرّب يلزمنا أن نصوم، حتى يقوم الجسد بالواجب المسيحي في حربه ضدّ (شهوات) العالم". فالصوم يرفع وعينا الروحي، ونتيجة لذلك، يُنشط الروح القدس حياتنا. ويُشدد البابا فرنسيس في رسالته لعام 2017 على الصوم "إنَّ الصوم هو الزمن المناسب لنتجدّد في لقائنا بالمسيح الحيّ في كلمته، والأسرار والقريب". فالصوم هو انكار للذات. فهل نقدِّم بعض التضحيات وإنكار الذات في صيامنا؟ وهل نفرض على أنفسنا بعض الإماتات الطوعية؟ د) التمسك بالصلاة يُعلمنا يسوع ان الصلاة ضرورية لمجابهة تجارب إِبليس "إِسهَروا وصَلُّوا لِئَلاَّ تَقَعوا في التَّجرِبَة"(متى 26: 41). يسبر الله غور القلوب ويختبرها (1 تسالونيقي 2: 4) ويسمح فقط بالتجربة (1 قورنتس 10: 13) التي يثيرها المُجرّب (اعمال الرسل 5:3) خلال العالم (1 يوحنا 5: 19) وخصوصا خلال المال (1 طيموتاوس 6: 9). ولذلك نطلب الا ندخل في التجربة كما علم يسوع تلاميذه في الصلاة الربانية "ولا تَترُكْنا نَتَعرَّضُ لِلتَّجربة بل نَجِّنا مِنَ الشِّرِّير" (متى 6: 12). فالصلاة هي شركة واتحاد مع الله، لذا فهي تُعد من أقوى الأسلحة لمقاومة الشيطان، إذ تربطنا بالله الذي يرعب الشياطين كما جاء في تعليم يسوع المسيح " وهذا الجِنسُ مِنَ الشَّيطانِ لا يَخرُجُ إِلاَّ بالصَّلاةِ والصَّوم"(متى21:17). التجأ يسوع نفسه الى الصلاة في أقسى تجاربه في أورشليم، سيما تلك التجربة المأساوية التي فيها تمنّى لو يتخلّص من الموت فقال: "يا أَبتِ، إِن شِئْتَ فَاصرِفْ عَنِّي هذِه الكَأس… ولكِن لا مَشيئَتي، بل مَشيئَتُكَ!" (لوقا 22: 42). ه) السهر للحذر يوصي يسوع أن نكون دائما على حذر من هجمات الشيطان كما اوصانا يسوع "فاحذَروا أَن يُثقِلَ قُلوبَكُمُ السُّكْرُ والقُصوفُ وهُمومُ الحَياةِ الدُّنيا، فَيُباغِتَكم ذلِكَ اليَومُ كأَنَّه الفَخّ " (لوقا 21: 34-35). ويلفت بولس الرسول الى أهمية الحذر "حَذارِ أَنتَ مِن نَفْسِكَ لِئَلاَّ تُجرَّبَ أَنتَ أَيضًا" (غلاطية 6: 1). ويؤكد ذلك متى الإنجيلي ان التجربة آتية، لذا يوصي بان نكون متيقظين مستعدين لها حتى لا تغلبنا "الرُّوحُ مُندَفع وأَمَّا الجَسدُ فضَعيف" (متى 26: 41). هل نكرّس ربع ساعة في الأسبوع للصلاة والتأمل والتفكير على خطى السيد المسيح؟ وقت الصلاة هو أيضا وقت "التجربة والاختبار"، يختبر الإنسان نفسه، كي يكتشف قدراته الحقيقية، وقت الصلاة هي أفضل وقت لنصلي صلاة أبانا طالبين ان "لا تدخلنا في التجارب، لكن نجنا من الشرير"، كي لا ندع التجارب تنتصر علينا وتخضعنا للشرير بل ننتصر عليها. وباختصار، المسيح هو الطريق، ففيه اعتمدنا وفيه نلنا قوة الروح القدس وفيه نصوم ونزهد في العالم، وفيه نُقْتاد إلى التجارب غير هيَّابين، وفيه نغلب ونخرج من التجارب منتصرين. لذلك يجب على كل تلميذ ليسوع ان ينتظر مجابهة مماثلة لمجابهة يسوع للتجربة، وان يتمتع بغلبة مماثلة. فنحن في حربنا ضد الشيطان وتجاربه لسنا نحارب بقوتنا بل أن المسيح الغالب يغلب فينا. أنه حطّم أسلحة إِبليس وقوته لحساب الإنسان الجديد والخليقة الجديدة التي هو رأسها كما وعدنا "تُعانونَ الشِدَّةَ في العالَم ولكن ثِقوا إِنِّي قد غَلَبتُ العالَم " (يوحنا 16: 33). ويُعلق القديس أوغسطينوس "ومع المسيحِ أنتَ جُرِّبْتَ، لأنَّ المسيحَ منكَ أخذَ لذاتِه جسدًا، ومن ذاتِه وهبَ لك الخلاص. منكَ له التجربة، ومنه كان لك النصر". فإن جُرِّبْنا معه، فمعه نحن سوف ننتصرُ على إِبليس. وقد ربط متى الإنجيلي التجربة بالعماد (متى 3: 13 –4: 1-11). ليدل على ان المؤمن هو ابن الله الذي انتصر على إِبليس منذ عماده. فلا يبقى له الا ان يجعل الانتصار واقعا ملموسا بربنا يسوع وقوة صليبه المنقذ وموته المحيي وقيامته المجيدة. الخلاصة كانت تجارب يسوع من قِبل ابليس في بدء خدمته على الأرض إغراءً له، لكن يسوع انتصر على قوات الجحيم واسترد الفردوس الذي فقده آدم الاول. ويلخص التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية تجرب يسوع بقوله "التجربة في الصحراء تظهر يسوع مسيحا متواضعا يتغلب على إِبليس بانصياعه الكلي لتصميم الخلاص الذي أراده الاب (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 566). اقترح الشيطان علي يسوع في الصحراء كلّ شيء: الحياة والسلطة والنجاح. ولكن التجربة تكمن في توليّ يسوع بنفسه السلطة دون اللجوء الى الآب السماوي المانح الحياة وموزِّع المواهب. يريد الشيطان ان يستقل يسوع عن ابيه السماوي ويفصله. فقاوم يسوع هذه التجارب باللجوء الى الطاعة لله الذي يهبنا كل شيء كما يشهد على ذلك كاتب الرسالة الى العبرانيين "أَيَّدَته شهادةُ اللهِ بِآياتٍ وأَعاجيبَ ومُعجِزاتٍ مُختَلِفَة وبِما يُوَزِّعُ الرُّوحُ القُدُسُ مِن مَواهِبَ كَما يَشاء" (عبرانيين 2: 4). ولم تكن التجارب يسوع في الصحراء إلاّ البداية! وسيُجرَّب يسوع من جديد في أورشليم؛ فالمجابهة الحقيقية ستحصل هناك، ساعة الآلام، إذ "دَخَلَ الشَّيطانُ في يَهوذا المَعْروفِ بِالإِسْخَرْيوطِيّ، وهو مِن جُملَةِ الاِثَنيْ عَشَر" (لوقا 22: 3). وتجربة يسوع، هي تجربة البشرية كلها، وهي تجربتنا نحن أيضا؛ إذ ما زلنا نحن أيضا نشكّ في الربّ لأنه لا يُظهِر لنا ذاته، وبالتالي نضع ثقتنا في "آخرين"! أمّا جواب يسوع فكان مختصرا وقاطعا: "لا أحد سوى الله!". إن هدف تجربة الشيطان، منذ بداية التاريخ المقدس، هو أن يوحي للإنسان أن هناك إلها مختلفا عن الإله الّذي كشف عن ذاته كأب. فيحاول يجرب الانسان بإله غير محبّ، ولا يقدّم كلّ شيء، ولا يمكن الوثوق به تماماً، ولذلك يجب أن نقوم بتدبير أنفسنا بأنفسنا، ويجب أن نُخلّص أنفسنا بأنفسنا وننفصل ونستقل عنه. لكن انتصار يسوع على التجارب يُعلمنا ان نسير على خطى يسوع، كما يقل اللاهوتيّ كلود تاسّين، إنها "التجارب المَثَل للمسيحي". ونحن لا نريد نعبد او ان نضع ثقتنا لا في المال، ولا في اللذة، ولا في السلطة، ولا في النظريات السياسية، ولا في هذا العالم، إنما نريد لِلرَّبِّ إِلهِنا تَسجُد وايَّاهُ وَحدَه تَعبُد على خطى يشوع بنون في عهده مع الله " أَمَّا أَنا وبَيتي فنَعبُدُ الرَّبّ ". دعاء أيها الاب السماوي، إملاءنا بروحك القدّوس كي تكون لديّنا الثقة الكاملة بك وبعمل مشيئتك، ونبذ كل ما هو نقيض لها، وامنحنا القوّة في مقاومة التجارب والانتصار عليها، فنبقى أبناء أمناء لك على مثال ابنك الذي كان امينا منذ بداية رسالته حتى نهايتها وهو "مسمّرٌ على الصليب" ونحيا بكل كلمة تخرج من فم الله. آمين". قصة الملك يوشافاط والتجربة هناك قصة من العهد القديم تشرح فكرة التجارب. فقد جاء يوشافاط كملك قديس على يهوذا، فأثارت قداسته ثائرة إِبليس فأهاج الأعداء ضده واجتمع عليه جيش عظيم. إذًا سمح الله بتجربة هذا الملك القديس. فماذا فعل يوشافاط؟ نجده يصلي ويسبح ويصرخ لله، ونجد الله يتدخل ويزيل العدو من أمامه، ويعود يوشافاط وشعبه ومعهم غنائم كثيرة، عادوا أعظم من منتصرين (2 اخبار الأيام 1:20-30)؛ لم ينتصر يوشافاط فقط بل عاد وشعبه ومعهم غنائم. والمسيح أتى ليفتتح ملكوت الله في صميم العالم وهذا معناه اقتحام سلطة الشيطان رئيس هذا العالم ونهب داره أولًا، داره الذي سلَّحه بأسلحة الخطيئة المتعددة من شهوات وملذات العالم (متى 28:12-29). الأب لويس حزبون - فلسطين |
|