منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 23 - 07 - 2022, 01:48 PM
الصورة الرمزية Mary Naeem
 
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  Mary Naeem غير متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,275,577

أساس عيش الفرح المسيحي





أساس عيش الفرح المسيحي



أولاً- المقدمة:

الإنسان كائن متأمل، والفرح يأتي من التأمل الدائم بجمال الكون المنظور، وأقدس وأهم وأغنى تأمل ينجذب إليه هو تأمل الله وخليقته، وهذا يثير في الإنسان فرحاً يغمر قلبه فيقول مـع داود: "يلذّ له تأمّلي، وأنا أفرح بالرب" (مز34:104). لأن "الرب يفرح بأعماله" (مز31:104). هذا الفرح نناله أيضاً عندما نرضي الرب. فصاحب الوزنات في مثل يسوع، يمتدحه الله لأنه صاحب العمل الجدي حيث يقول له: "ادخل إلى فرح ربك" (متى21:25). في حين أن الله لا يرضى عن الإنسان غير الصالح فيقول: "اطرحوه في الظلمة الخارجية حيث البكاء وصرير الأسنان"(متى30:25). أي أن البكاء يقابل حالة الفرح السعيدة.

وللحفاظ على هذا الفرح المجبول بالعجينة الإلهية، نستلهم من كتب رجال الكنيسة وقديسيها ما يساعدنا على فتح قلوبنا لمثل هذا الفرح، وإن لم نفعل ذلك فإننا نخسره، كما عبّر عن ذلك يوسف الهدوئي: (كثيرون طردوا الفرح لما كفروا به بحماقة فلم يعد إليهم البتة). أما الذين يسعون في حياتهم للوصول إلى استجابة الرب لهم، فهم ينالون الفرح نتيجة ذلك، كمؤلِّف كتاب "عظمة حياة الصلاة" الذي قال في التعبير عن ذلك : (وجدت نفسي فرحاً في أحيانٍ كثيرة بسبب استجابة الرب لإحدى صلواتي، وكان فرحاً نقياً من عند الله بالذات، فرحاً مباركاً).

أما الشيخ باييسيوس الآثوسي فيعلّمنا بأن نحافظ على فرحنا لأننا أحياء، ونتمسك بذات الفرح لدى موتنا. فهو يخاطبنا قائلاً : (إن الإنسان يفرح لأنه يعيش وكذلك يشعر بنفس الفرح لأنه سيموت، لأن الفردوس أفضل حالاً. لأن ما يعطيه الله من الفرح ههنا، هو جزئي بالنسبة لذاك الذي في الفردوس). من هنا يأتي فرح الشهداء وعدم مبالاتهم بعذابات استشهادهم. وهو ما عبّر عنه ثيوفان الحبيس بالقول التالي: (فالشهداء كانوا يُطربون في خضم عذابات الاستشهاد، وعبّروا عن هذا الفرح العارم لا بمجرد الكلمات، بل بطريقة فعلية). لأنه بحسب الأب فيكتور شلحت: (من يتّحد بموت المسيح يتّحد أيضاً بقيامته). لقد وجّه بطرس الرسول إلى المسيحيين الإرشاد التالي: "افرحوا بقدر ما تشاركون المسيح في آلامه، حتى إذا ما تجلّى مجده كنتم في فرحٍ وابتهاج" (1بط4و13).

ولقد برهن الرسل على ذلك بصورة عملية، إذ إنهم بعد أن جُلدوا بأمر من المجلس: "انصرفوا مسرورين وذلك بعد أن وُجدوا أهلاً لأن يَلقوا الهوان من أجل اسم يسوع" (أع41:5). وقد خبر القديس بولس أيضاً هذا الاختبار الغريب، فأثناء سجنه بروما كتب إلى مسيحيي كولوسي: "يسرّني الآن ما أعاني لأجلكم، فأنتم جسدي ما نقص من آلام المسيح في سبيل جسده الذي هو الكنيسة" (كولو24:1)، فزمن الألم والعذاب في نظر المسيحي هو أيضاً زمن الفرح، لأنه زمن الحب.

الفرح مسيحياً يرتبط بعالم الأرض، وفي عالم الأبدية والخلود أيضاً، وإن كان الفرق بينهما شاسعاً. فالفرح الثاني ـــ كما عبّر القديس يوحنا الذهبي الفم ـــ أرحب بكثير من الفرح الأول، حيث يقول: (الحياة الحاضرة حلم بأفراحها وملذاتها الزائلة إن قارناها بالحياة الآتية وفرحها الذي لا ينتهي، كل شيء هو حلم مقارنة بالأشياء الأبدية.. كل شيء هو قطرة ماء صغيرة مقارنة بالمحيط الذي لا ينتهي).

ثانياً- الفرح ضروري لحياتنا:

غالباً ما يكون اهتمامنا منكبّاً على صحة الجسد دون الاكتراث بصحة الروح، في حين أن الروح ينادي الإنسان منا طالباً منه أن يسعفه بمعطيات يقدّمها له الروح القدس، الذي يتحرك بالقرب منا لنأخذ منه احتياجاتنا الأساسية، التي تبعث على البهجة في قلب الإنسان وكيانه. من هنا علينا أن ننظر إلى هذه الحاجة الضرورية التي تجدد وجودنا، وتعيد تشكيل حياتنا وروحنا.

إنه سرور صامت لنيلي هبات الله التي تحقق لي بهجةً مبدئية، مرشدةً إياي إلى أفراح الملكوت المدعو لأحياه في دنياي. لذا يجب على كل شخص منا أن يتقوى، ويقتحم أبواب السماء، ويحاصر الله ويغزوه، ويجعله هدفاً لرغباته ومقاصده الدفينة داخله. وما التقوية التي تدفع بالإنسان إلى مثل تلك المنجزات إلا الصلاة، التي يقول فيها بولس الرسول: "جاهدوا معي في صلواتكم" (رو3:15).

فيشعر المصلّي بدفءٍ كبيرٍ في القلب، ويصير راغباً في معانقة الله، لأن صلاته تجعله محبّاً لله، فيناديه بفرحٍ عارمٍ: (بحسب مشيئتك أحيا يا ألله). فيُغمر المصلّي بفرحٍ لا يوصف، لأن الصلاة تعطينا فرح المسيح، إضافةً إلى أمور أخرى كثيرة. أما إذا كنا نصلي ولا ننال الفرح، فهذا يعني أن هناك شيئاً ما بداخلنا ليس على ما يرام. لذا علينا تفحّصه. فالصلاة الصحيحة ينبع الفرح منها بالنعمة في داخل قلب المصلّي، ويُشع لمن حوله، ويفرحهم بفرحه بفضل صلاته. المصلّي يعلو على وجهه الفرح بصورة دائمة. فالراهب ــ إجمالاً ــ رغم جديته ورصانته، إلاّ أنه في العمق ينكشف أنه إنسان الفرح الدائم. لماذا؟ لأن الصلاة التي هي وليدة مشاركة المصلّي مع الله هي هم هذا الراهب. وهنا نتساءل ما هو مصدر الفرح المتحقق؟ الجواب هو أن الصلاة سعي للوصول إلى حياة النقاوة، التي يتم فيها الظفر بعد الجهاد، ضد الخطيئة وضد الأهواء القابعة في داخل الإنسان. فالصلاة بمشاركتها لله تطرد بقوة، بواسطة النعمة الإلهية، كل هذه الشوائب، وتعطي القداسة للمصلّي، فلا يبقى في كنزه إلا النقاوة الجالبة للفرح، بل هي الفرح بعينه. وبحسب تعليم الآباء: (الصلاة هي قضية فرح وشكر).

وقد عبّر أحدهم عن هذا بقوله: (هل تريدون معرفة إن كانت صلاتكم حقيقية؟! لاحظوا هذا الأمر: هل تقفز قلوبكم من البهجة، وتدفعكم لتقديم الشكر؟ إن حدث هذا وقت الصلاة وشعرت بفرحٍ عارم يغطي كل شيء، عندها فأنت في الحقيقة وجدت الصلاة). هذا فيما يخص الصلاة عامة، أما إذا انتقلنا في الحديث عن تاج الصلوات، والذي هو سر الأفخارستيا، فالفرح عنه أكثر عمقاً، لأنه تعبير عن الحياة، ووصول إلى نهايتها، من حيث هي (سعي إلى السعادة) بصورة يرضى بها العقل، علاوةً على منهجها المنظّم الذي يعالج بواسطة الصليب قضايا الحياة من قلق ويأس ولا معقول، وتقديم أسلوب حياة يتبنى الفرح، مقابل الشقاء النفسي والجسدي. وأختم كلامي بمقطع للأب شميمن من كتابه "من أجل حياة العالم" يقول فيه: (كانت المسيحية منذ بدايتها إعلاناً عن الفرح الوحيد الممكن على الأرض.. بشّرت المسيحية بفرحٍ جديدٍ شامل.. وبما أن الكنيسة هي فرح انتصرت في العالم، لكنها خسرت العالم عندما خسرت ذلك الفرح، عندما كفّت عن الشهادة، بثقة لذلك الفرح، إن أفظع اتهام يوجّه للمسيحيين هو ذاك الذي صدر عن نيتشه حين قال أن المسيحيين لا يعرفون الفرح).

(الفرح العظيم) هو الذي منه نما كل ما في المسيحية وصار له معنى، "فها أنا أبشركم بفرح عظيم" (لو10:2) هكذا يبدأ الإنجيل وهكذا ينتهي: "فسجدوا له ورجعوا إلى أورشليم بفرح عظيم" (لو52:24). وهذا الفرح هو ما علينا أن نستعيد معناه وأن نشترك فيه ما أمكن.

على أن الفرح لا يمكن تحديده ولا تحليله، الفرح ندخل إليه: "ادخل إلى فرح ربك" (متى21:25). ولا سبيل لنا للدخول إلى هذا الفرح وفهمه، إلا من خلال عمل واحد هو الكنيسة، من حيث هي مصدر الفرح وملؤه. عنيت به سر الفرح (الأفخارستيا)... إن الأفخارستيا هي دخول الكنيسة إلى فرح ربها، لأن الكنيسة هي حب ورجاء وفرح.

ثالثاً- السعادة والفرح:

ننطلق من التطويبات كما في (متى5: 3 ـ 12) وكذلك في (لوقا6: 2 ـ 32) متجاوزين النظر في تفاصيل التطويبات ومضمونها. نبدأ من معنى كلمة (طوبى)، وهي كلمة بالآرامية تعني (يا لسعادة) أو (السعادة الحقيقية). وفي الإنجيل تسع تطويبات، وكل واحدة من هذه التطويبات التسع تبيّن لنا (طريق السعادة). إنما السعادة هنا لا تعني مطلقاً الضحك أو السرور أو النجاح الدنيوي. وذلك لأن الرب يسوع يقلب فكرة العالم عن السعادة بمعناها الدنيوي هذا، ليصير معناها الرجاء والفرح وعدم الاتكال على الظروف الخارجية. فالرجاء والفرح هما أعمق أشكال السعادة. والإنسان يشعر بهما عندما يزداد قرباً من الله عن طريق خدمته وطاعته.

ترشدنا التطويبات عن الطريق الذي نتّبعه لنكون من أبناء ملكوت الله. ويسوع يبين لنا من خلالها أن على الإنسان أن يعيش بنهج يختلف عن النهج الذي ينادي به غير المسيح. فذاك النهج فيه سعيٌ وراء منافع ومكافآت للوصول إلى سعادة لا يطول أمدها، أما سعادة المسيح فهي متصفة بسعيٍ وراء فرح الله الذي لا ينتهي أجله. في الأولى تقترن السعادة بالأنانية والأثرة، وفي الثانية تكون السعادة تعبيراً عن المحبة والتضحيات والالتصاق بالله.

وقد يتساءل سائل: أليس المال والممتلكات المادية مجلبة للسعادة أيضاً؟ والجواب السريع والقريب هو نعم . ولكن الحقيقة أننا نخدع أنفسنا، عندما نقيس سعادتنا في الحياة بكمية ما نمتلكه من ثروة. فعندما نضع الغنى على قمة قيمنا، فإن طمأنينتنا الآنية تحجب القيمة الأبدية لعلاقتنا بالله، فنظن أننا سنكون سعداء وراضين دائماً عندما نغتني، ولكن سرعان ما نكتشف أن الغنى لا يجلب سوى سرور وقتي زائل. فالمقياس الصحيح للسعادة، إنما هو المقياس الأبدي. هذا يعني أن علينا أن يضع كل إنسان منا غناه الأبدي فوق كل غنى أرضي، وحينها يجد السعادة الحقيقية.

وأهم مثل نقدّمه في هذا المجال نأخذه من مذكرات سليمان الحكيم في الإصحاح الأول من سفر الجامعة الذي يكتب فيه عن حياته الشخصية. فقد اكتشف أن كل ثروته وسلطانه ومركزه وزوجاته وإنجازاته لم تجعله سعيداً. لأنه ليست جميع خبرات الحياة سعيدة دائماً. وخطورة السعادة أن العالم يقول لنا دائماً أن نطلب السعادة، وأن نفعل كل ما نستطيع لبلوغها. ولنعلم أن السعادة تحمل هدفاً مخادعاً، لأن الناس والظروف في تغير سريع. فلا تثبت السعادة على حال. فهي دائماً تتغير مرتكزاتها أو تتحطّم من تحتها. في حين أن السعادة الحقيقية دائمة ولا تأتي إلا بإرضاء الله، ولذلك فالسعادة لا يمكن اكتسابها، ولكن يمكن أخذها من خلال علاقة سليمة مع الله، لأن الله وحده يعرف ما هو الأفضل لنا. فما الحل إذن؟ إنه بكل بساطة السعي وراء الله، حيث سنجد فرحاً لا نهاية له. أما السعي وراء السعادة فستزول بزوال أغراضها.

نعود إلى الفرح لننشد مع داود النبي قوله: "جعلت الرب أمامي دائماً فإنه عن يميني لئلا أتزعزع. لذلك فَرِح قلبي وتهلّل لساني حتى إن جسدي سيرقد على رجاء" (مز8:16-9). في هذا النص/ كما في غيره من بين عشرات المزامير التي تتحدث عن الفرح/ نجد أن داود اكتشف هذا السر العظيم للفرح. فالفرح الحقيقي أعمق من السعادة الخارجية. فيمكن أن نشعر بالفرح في وسط أشد الصعاب، بل ونملكه بالرغم من وجود هذه الصعاب. فالسعادة الخارجية وقتية لأنها مبنية على الظروف الخارجية، أما الفرح فدائم لأنه مبني على وجود الله في داخلنا. نشعر بسببه بالشبع والامتلاء مع تأملاتنا بوجوده اليومي في حياتنا. وهذا يدعونا //إن كان الفرح يهمنا// أن نبني حياتنا على الله، وليس على الظروف.

أجمل شاهد على الفرح نجده في رسالة بولس الرسول لأهل فيليبي. وعلى الرغم من أن الرسول كتب هذه الرسالة وهو في السجن، فإن الفرح هو الموضوع البارز فيها. وسر فرحه هو علاقته بالمسيح. لذا على المؤمنين أن يكونوا فرحين في كل الظروف، حتى عندما تسوء الأمور، وحتى عندما يُنتزع الفرح من كل الناس،فليكونوا هم على ثقة من امتلاكهم لفرحهم، لأن المسيح هو المهيمن على كل شيء، والفرح ينبع من معرفة المسيح معرفة شخصية، تلك المعرفة الجالبة للفرح، والتي عبّر عنها بولس بقوله: "افرحوا في الرب دائماً، وأقول أيضاً افرحوا" (في4:4) والتي يكملها بفرحه هو بهم قائلاً لهم: "يا اخوتي الأحباء، والمشتاق إليهم، يا فرحي وإكليلي، هكذا اثبتوا في الرب أيها الأحباء" (في1:4). إذن يمكننا أن نستمتع بالفرح حتى في وسط الصعاب. لأن الفرح لا يأتي من الظروف الخارجية، بل من القوة الداخلية. وعلينا كمسيحيين ألا نعتمد على خبراتنا ومالنا في الحصول على الفرح، بل على المسيح فينا.

رابعاً- الفرح:

الحزن النفسي والضيق والألم والقلق كلّها أمواج محيط غُمرت البشرية فيه، ولكنها لم تكن منذ البدء، بل دخلت إلى حياة الإنسان نتيجة السقوط الذي حصل بسبب أنانيته. تلد نتانة الأنا الضيق في النفس، بينما حالتها الطبيعية هي الفرح، لأن الله هو سلام وفرح، والإنسان هو نسمة الله المخلوقة منه، فيكون الضيق أمر غريب عن الحياة البشرية.

واليوم، عندما لا نجد إنساناً فرحاً، فهذا يعني أننا لا نجد إنساناً متوازناً، أي هادئاً وطبيعياً. فالضيق(هذا المرض المخيف) هو المنتشر في أرجاء المسكونة. إنه جحيم حياتنا برمتها.

الفرح هو برهان على حضور الله في حياتنا، أما غيابه فيدل على غياب الله من وسط شعبه. وبغيابه فإن الإنسان صار يبتهج في عالمه بأمور عابرة. ولهذا نجده يفرح بالشهوات، والقضايا الباطلة، فيحصل بالتالي على متعة عابرة وهي لا بد أنها سطحية. وإذا ما تأملنا بإمعان واقعه، فسنرى حياته يتحدد مسارها بين الحزن والضيق. يشهد على ذلك بولس الرسول بقوله: "حزن وضيق على كلّ نفس إنسانٍ يفعل الشر" (رو9:2) لأنه لا يمكن أن يوجد فرح حيث يوجد تجاوز لوصية الله، وبالمقابل فإن من غير الممكن أن يوجد ضيق عند تطبيق ناموس الله.

إذا عشنا في وسطٍ يكتنفه الانحطاط والكذب والعيش بالخطيئة، أي في ظلمة الضمير الباطني للوجود الإنساني حيث يكون أفراده ناكري الله في حياتهم اليومية، وإن كان البعض منهم يذهب إلى الكنيسة حسب تعوّده الاجتماعي؛ مثل هؤلاء إذا صدف ورأوا إنساناً فرحاً يتساءلون متعجبين: (أحقاً أنت فرحٌ؟) وكأن الفرح أمر غريب!! في حين أنه هو الطبيعي والمساعد في الحياة الروحية.

الحياة مع الله أمر يستدعي في بدايته جهداً وتعباً، لكنه ينتهي بفرح. ففي حديث للأم سينكليتيكي تقول: (جهاد وتعب كثير للقادمين إلى الله في البداية، لكن فيما بعد فرحٌ لا يوصف). نعم ينال الإنسان بعد تعبه الروحي (فرحٌ لا يُعبَّر عنه). يقترن بالتخشع القلبي، ويشعل في الداخل نار المحبة الإلهية. ولنعلم /بحسب خبرة الآباء القديسين/ بأن حالة الألم والدمع المرافقين للفرح تحقق للإنسان ابتهاجاً لا يوصف، بينما الإنسان البعيد عن ذلك، إذا حصل له ضيق وحزن، وصار متألماً ومتشائماً، حينها تتحول حالته إلى مرض نفسي، يصير بموجبه عاجزاً عن عيش المحبة الإلهية بصورة مختلفة عن حالة الإنسان الروحي.

خامساً- الفرح هو قضاء على الحزن

بمقدور الفرح أن يقضي على الحزن، عندما لا تفارق الإنسان المحبة، ولا يبتعد عنه الصبر. حينها يستقر الفرح، ويكون حالة مستمرة في قلب الإنسان. ولنعلم أن الحزن (والذي هو نقيض الفرح) يأتي إلينا مفاجئاً ومباغتاً، فيؤثّر في الإنسان نفساً وجسداً. وهو غالباً يأتي إلينا من الشرور، وعلى رأسها الخطيئة وعداوة الآخرين. ولكن الفرح المبني على حياة الروح بداخلنا يجعل لهذا الحزن نهاية، فهو بالنسبة لنا كالدرع بالنسبة للمحارب. هو يحمينا من مثل تلك الهجمات المؤذية التي تعكّرنا. إن فرحنا الذي نحافظ عليه، ينزل بتلك الأحزان اندحاراً أو فناء.

مهما كانت الضغوط المتولِّدة في النفس نتيجة الحزن، والمسببة انقباضاً نفسياً لصاحبها، والتي بها تصير النفس يابسة متحجرة، وكذلك القلب والعقل والذهن والفكر. وتجعل من تنزل به كإنسان ذابل مُهان. هنا ينبعث دور الفرح في طيّات أنفسنا، فيبزغ إنسان الروح ليبدد هذا الحزن ويطرده، ويحوِّل الإنسان بعدها إلى إنسان شكور، رغم أنه في ذروة مصائبه.

حتى المصائب التي تأتينا من حولنا، وأحياناً بشكل متتابع، فنضطر بادئ ذي بدء إلى البحث عن مخرج منها، فنخبّئ رؤوسنا وعقولنا وقلوبنا، لتتحول حياتنا إلى حالة أقرب إلى الحزن والغم، فلا نعود نستطيع أن نفعل شيئاً. فنشعر أننا مقيّدون. إنها مصيبة حقاً. لكن إنسان الفرح يبزغ حينها رغم هذه الشدائد، ويجابه هذه المصائب بالقوّة المحرِّكة التي بداخلنا، لأن الفرح هو القوة العظمى. ومتى استطاع أن يتحرّر هذا الإنسان بفضل محرِّكه، فإنه يصير قادراً على شكر الله، فيتجلّى فرحه برونق جديد، ويشعر ببهجة حقيقية بالرغم من وجود المصائب، وذلك لأنه يرى صاحب الدور المحرك (الذي هو إصبع الله). فالنتيجة كما نرى ترتبط بعلاقة الإنسان بالله فيولد عنده الفرح، الذي هو ثمرة من ثمار النعمة الإلهية.

الله يتحرك من أجلي عندما أكون متضايقاً، وعندما تداهمني المصائب، إلا أن حركته هذه مرتبطة برغبتي أولاً، فما عليّ إلا أن أطلب منه العون بجدية مقرونة بطاعة، وذلك بأن أُحقق ما يمليه عليّ. فاكتشف محبة الله أكثر، فيزداد فرحي، فأعبّر له بفيض من الفرح في تسابيح وتماجيد.

سادساً- فرح المؤمن:

عيش الإيمان في حياة الإنسان المسيحي يستدعي نكران الأنانية، وجعل إرادة المسيح تحلّ فيّ مكان إرادتي، وتصبح بديلاً عن رغباتي وذاتي. وهذا يعني بشكل عام أن أتبع المسيح. وهذه التبعية لا تكتمل إذا لم يرافقها الفرح، لأن الفرح هو لقاح الإيمان. وهذا اللقاح يعني اتحاد شيئين في جسم واحد. فلا نعود نستطيع فصل الفرح عن الإيمان. فالمؤمن بفرحه ملتزم بالخضوع والطاعة لمنشئ إيمانه ربنا يسوع المسيح. فالإيمان الذي به نسلّم ذواتنا لله بواسطته، يتواجد فيه الفرح كنتيجة لثقة المؤمن بالله، لأن الفرح ينبع من الثقة بالله، أي من عيش الوحدة مع المسيح التي تحقق التواصل مع باقي الناس.

إنسان بدون فرح، هو إنسان منفصل عن المسيح، إيمانه كاذب مهما يفعل، وحتى التوبة والمحبة الركنان الأساسيان لحياة الإيمان، يكون عيش هذا الإنسان لهما بزيف غير حقيقي إذا لم يكن فرحاً. كل فعل أقوم به يعطيني فرحاً. أن أصوم! برغم حرماني الأطعمة اللذيذة فأنا فرح. أن ألتقي مع مَن أحبهم، برغم توديعي لهم يبقى الفرح مرافقي، أما إذا حزنت فأنانيتي النتنة هنا تلعب دوراً بديلاً من الفرح، لأنه فيها يكون مخادعاً لنفسه لأنه لا يمت بصلة مع الفرح. وكذلك محبتي للفقراء أيضاً حسب وصية المسيح، ولكن إن لم أشعر عند تقديم العطاء بالفرح في قلبي، يتحول العطاء إلى شكليات اجتماعية خارجة. كل عمل يقوم به المؤمن يجعله يشعر بالفرح في قلبه. الفرح هو دليل وبرهان على أن كل شيء أقوم به هو حقيقي. وباختصار؛ إن علاقة المؤمن بالله وتجرّده عن كل شيء متوقف على الفرح، هذا الفرح الذي يصير الغذاء الحقيقي للمؤمن، لأنه يغذي النفس والروح والذهن، فتسمو نفسية المؤمن، ويصير قادراً أن يعطي ذاته لله.

هنالك في الإيمان خصوصية قد لا يصل إليها كثيرون، وهي حالة يصفها الآباء القديسون بأنها: (الدموع المعزّية). ذلك لأن الفرح الذي يقتنيه الإنسان في نفسه ينبت لصاحبه (دموعاً روحيةً) مقرونة بالتوبة والإدراك ومعرفة الذات، لتكون أفضل ما يصل إليه المؤمن في حياته الإيمانية. لذا فمثل هذه الدموع لا تمت بصلة لدموع الحزن والألم، إنما هي دموع محبة الله، التي تخرجها النفس الفَرِحة عندما تريد أن تقترب من الله، وتكون معياراً لتحديد كم هو صاحبها بعيد بأعماله عنه، فينسج صاحبها حياته بالمسيح من جديد.

سابعاً- ينابيع الفرح أو سبل الاتحاد بالله:

من جهة أقول ينابيع الفرح، ومن جهة أخرى أقول هبات الفرح، فالفرح يهبنا الشعور بابتسامة الآخر المقدمة لنا، وبعطف الآخر، ومديحه أيضاً. كذلك الزهرة تعطي فرحاً، والجبل بهضابه وتلاله يعطي فرحاً، والنور الطبيعي يعطي فرحاً، وأصغر صلاة أيضاً تعطي فرحاً. كل رجاء يعطي فرحاً، وكذلك حضور الأب يعطي فرحاً، ومثله حضور الأم أيضاً، فهي فرح بحد ذاتها، وكذلك النوم أيضاً يعطي فرحاً. إن الله قد ملأ العالم بأمور تقدر أن تعطينا فرحاً.

ولكن علينا ألا نهمل دور المحبة باقترانها مع الفرح، لا بل هي أيضاً رديف الفرح. إنها الوجه الآخر للفرح. فالمحبة والفرح صنوان لا يفترقان. لذا بإمكاننا القول إن كل محبة هي كاذبة إذا لم تحوِ الفرح. من هذا الفرح بكل أوجهه المتعددة، نصل إلى الفرح الكامل الذي هو المسيح نفسه. وأوجز ما ذكرناه بكلمات جديدة بذات المعنى،وهو أن على الإنسان أن يكتسب الفرح، وسيصعد مرتفعاً ليصل إلى المحبة، وذلك بعد جهادٍ وأتعابٍ كثيرةٍ، ومشقاتٍ ومصائبَ وصلوات وآلام وأعمالِ خيرٍ، وحياة إيمان، وإضافة غرباء، ودموع وغيرها. يجب أن نعبُر كل هذه الأمور لكي نقدر أن نحب الله. أما الضمان للنجاح في عبور كل هذه الأمور فهو الفرح. وعندما يكون الفرح رديف المحبة فحينئذٍ هو الذي يُتْحِدنا بالله.

يرتبط كل من الفرح والمحبة بثمار الروح، فالمحبة هي الأولى، والفرح هي الثانية (غلا22:5). الإنسان المؤمن يحب ويفرح، بينما ذاك الذي عنده سمّ الحسد والشر لن يختبر الفرح مطلقاً رغم إيمانه، بينما إنسان المحبة، ذا القلب الرحب والمزاج الحسن، هو إنسان فرح. لذلك اعتبر بولس الرسول أن الذين اقتبلوا كلمة الله قد صاروا رغم الضيق الحال بهم يعيشون: "بفرح الروح القدس" (1تس6:1) فالفرح صار وليد المحبة التي حلّت في قلوبهم. ولأهل رومية كشف لهم أن "ملكوت الله هو برّ وسلام وفرح في الروح القدس" (رو17:14).

فالفرح الحقيقي هو فرح نقيّ ثابت ودائم، تخلقه في النفس محبة الله ومحبة المخلص، يعبِّر عن ذلك حبقوق النبي: "أنا في الرب ابتهج، وأسرّ بالله مخلّصي" (حب18:3) أما أشعياء النبي فيقول: "فرحاً أفرح بالرب، تبتهج نفسي بإلهي لأنه ألبسني ثوب الخلاص" (أش10:60).

وقد تكلّم الرب يسوع كثيراً مع تلاميذه عن الفرح وقت آلامه الخلاصية: "قلت لكم هذه الأشياء كلها ليكون بكم فرحي، فيكون فرحكم تاماً" (يو11:15) لهذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: (الفرح بالرب هو الفرح الذي امتلكه الرسل) وورثته الكنيسة عنهم.
إنه سر حياة الكنيسة. وعندما لا يختبر الإنسان لذة (الفرح الإلهي)، أي عندما لا يحقق هذا الإنسان الفرح، فإنه يتألّم عند الحديث عن متعة هذا الفرح. لأنه لم يذق طعمه قبلاً. أما الآخر، إنسان الفرح، فإن فرحه يقوده إلى فرح الله المقدس. أي إلى الفرح الآتي من الالتصاق الشخصي بالله، حينها ستكتسب عيوننا فرحاً يكشف المسرّة التي عند الله. وهذا يحصل غالباً عندما أطرد من داخلي كل ما ليس بذي علاقة بالله، عندها أحصل على لذة الفرح.

أما إن لم يحصل هذا، وأُخرج من ذاتي ما لا يريده الله (أي الخطيئة)، فسيحصل لي ما حصل لقايين عندما قتل هابيل، حيث قال له الله: "ماذا فعلت؟" (راجع تكوين4: 8- 11) لماذا اغتظت؟ لماذا تعبس؟ لماذا سقط وجهك؟ لماذا تنـزعج؟ اهدأ!! نعم إن مثل هذا الإنسان سوف لن يعرف الفرح. الإنسان الذي يطرد الفرح من أمارات وجهه وشغاف قلبه، هو قايين جديد. أرجو بأن لا يتصف أحد بهذه التسمية. ويبقى قايين بعبوسه خارج إطار حياتنا.

ثامناً- خاتمة:

يبقى علينا أن نقول بأن الفرح هو المسيح، هو النور الحقيقي والسعادة. المسيح هو الكل. إنه عشقنا. وعشق المسيح لا ينقص، ومنه ينبع الفرح. ولما كان المسيح هو الفرح بالذات، فهذا يعني أنه فرح، ويجعل الإنسان فينا إنساناً آخر. إنه جنون روحي ولكن في المسيح، يُسكرك كالخمر الصافي وبحسب قول داود: "... وكأسك تُسكرني كالخمر" (مز5:23). الخمر الروحي هو خمر صاف لا غش فيه، قوي جداً، وعندما تشربه يُسكرك. هذا السكر الإلهي هو عطية من الله، عطية مفرحة تُمنح "لأنقياء القلوب" (متى8:5).

فلنصُم قدر ما نستطيع، ولنصنع ما أمكننا من السجدات، ولنتمتع بما نشاء من السهرانيات، ولكن علينا أن نكون فرحين، أي أن نمتلك فرح المسيح، وهو فرح يدوم إلى الأبد، وبهجته أبدية. إنه فرح ربنا الذي يعطي الهدوء والابتهاج، والسرور الكليّ الطرب.

إنه الفرح الذي يفوق كل فرح، لأن المسيح يريد ويُسرّ في أن يتعمم الفرح، وأن يغتني المؤمنون به. وبحسب يوحنا الحبيب: "أن يكون فرحكم كاملاً" (1يو4:1). والمعيار السليم لفرح المسيح عندنا، هو أن حياتنا كلها تصبح فرحاً به حتى في أشد المصائب قسوة، وذلك بحسب تعبير بولس الرسول الذي يقول: "أفرح في شدائدي" (كو24:1). هذه هي عبادتنا، وإلى هناك يجب أن نسعى، وبعدها يصبح كل شيء سهلاً.

أيضاً، مع ترداد الصلاة في الذهن يزداد الفرح في داخل الإنسان. فمثلاً عند قولنا: (أيها الرب يسوع المسيح ارحمني) نشعر أن ذهننا يبتهج متراقصاً مع القلب فينا. فيشعر أحدنا أن ذهنه نزل إلى قلبه، هناك يحدث الفرح الذي يشعره مثل هذا الإنسان، عند ترداده للصلاة، ومع استمرارية هذه الصلاة التي ينطلق فيها الذهن للقلب، فيأتي الفرح ويغمر صاحبه. وتتدخل النعمة الإلهية بهذه الصلاة، (أو في أي صلاة) فيدخل الفرح من جديد، وحينها تبدأ الحياة في سلام، وتصبح أشد قوة بالنعمة الإلهية. ومن دلائل وجودها الصحيح هو أن الإنسان المغمور بمثل هذا الفرح يفتقد الغضب والاستياء، ولا يعود يسيء الظن ولا يدين، ويقبل الجميع بمحبة: "لأن المحبة لا تفرح بالظلم، بل تفرح بالحق، وتحتمل كل شيء... وترجو كل شيء، وتصبر على كل شيء، المحبة لا تسقط أبداً" (1كو4:3-8).

أيضاً مثل تلك الصلاة التي تجلب الفرح لصاحبها تنقّي النفس، وتحفظ الذهن، وتنجز تغييراً كاملاً يحدث في أعماق النفس. وكم وكم من الناس تحوّلوا بفضل تغيير مماثل، فوصلوا إلى مقام أبناء الله، بالرغم من كونهم وصلوا إلى أعماق هلاكهم. فالصلاة التي تملأ القلب فرحاً وابتهاجاً هي الصلاة المرتفعة إلى الله بشوق ومحبة، وبوداعة وورع. خاصة إذا تُليت بتأن وتواضع ولطف وعشق إلهي. وحينها بإمكاننا القول إن الفرح هو المسيح، والمسيح يحوِّل الأهواء إلى فرح. هذه هي كنيستنا، هذه هي ديانتنا، هذا هو فردوسنا، هذا هو فرحنا.
رد مع اقتباس
إضافة رد


الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
أساس إيماننا المسيحي
الفرح هو أساس المسيحية
أساس الفرح
القيامة أساس الإيمان المسيحى
أساس إيماننا المسيحى القيامة


الساعة الآن 06:33 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024