من أجل حب الله ـ القديس اسحق السرياني
كلُّ إنسانٍ تدبيرُه رديءٌ حياةُ هذا العالمِ عنده شهيةٌ, ويَلي ذلك قليلُ المعرفةِ. حقاً لقد قيل إن مخافةَ الموتِ ترُعب الرجلَ الناقصَ، أما الذي له في نفسِه شهادةٌ صالحةٌ فإنه يشتهي الموتَ كالحياةِ. لا يُعتبر عندك حكيماً ذاك الذي من أجلِ حياةِ هذا العالمِ يستعبدُه فكرُه للأرضيات. كلُّ الملذاتِ والشرور التي تعرضُ للجسدِ لتكن عندك شبهَ الأحلامِ، لأنه ليس بموتِ الجسدِ فقط تنحلُّ منها بل كثيراً ما يمكنك رفضها والهروب منها قبل الموتِ. فإن كان لك منها شيءٌ مشتركٌ في نفسِك فاعلم أنه مكنوزٌ لك إلى الأبدِك لأنها تذهبُ معك إلى العالمِ العتيد فإن كان ما اكتنزتَه من الطالحاتِ الرديئاتِ فاحزن وتنهد واطلب الابتعادَ عنها ما دمتَ في الجسدِ. ليكن معلوماً عندك أن كلَّ خيرٍ لن يكونَ مقبولاً إلا إذا عُمل في الخفاءِ. بالحقيقةِ إن المعموديةَ والإيمانَ هما أساسُ كلِّ خيرٍ، فبهما دُعيتَ ليسوعَ المسيحِ بالأعمالِ الصالحةِ. شُكر الذي يأخذُ يحرِّكُ الذي يعطي إلى بذلِ العطايا التي هي أعظمُ من الأوائل. مَن لا يشكرُ على القليلِ فهو كاذبٌ وظالمٌ إن قال إنه يشكرُ على الكثيرِ.
المريضُ الذي يعترفُ بمرضِهِ شفاؤه هين. كذلك الذي يُقرُّ بأوجاعِه فهو قريبٌ من البَرْءِ. أما القلبُ القاسي فتكثُر أوجاعُه. والمريضُ الذي يُخالفُ الطبيبَ يَزيدُ عذابُه. ليست خطيةٌ بلا مغفرةٍ إلا التي بلا توبة. وليست موهبةٌ بلا نموٍ وازديادٍ إلا التي ينقصها الشكرُ. الجاهلُ جزاؤه دائماً في عينيه صغيرٌ. تذكَّر الذين هم أعلى منك في الصلاحِ كي ما تَحسب نفسَك ناقصاً بالنسبةِ لهم. تأمَّل دائماً في البلايا الصعبةِ وفي الذين هم في شدةٍ ومذلَّةٍ، وبهذا التأمُّل يمكنك أن تقدمَ الشكرَ إزاء البلايا الصغيرةِ التي تنتابُك، وحينئذ تستطيع أن تصبرَ عليها بفرحٍ. في الوقتِ الذي تكون مغلوباً مقهوراً وفي مللٍ وكسلٍ، وقد قيَّدك عدوك بسماجةِ فعلِ الخطيةِ، اذكر الأوقات القديمة التي فيها تنشطَّت، وكيف كنتَ مهتماً حتى بصغائرِ الأمورِ، وكيف كنتَ تتحرك بالغيرةِ على الذين يعوِّقون مصيرَك. وتنهَّد على أقلِ شيءٍ فاتك من عملِ الفضائلِ. وكذلك اذكر كيف كنتَ تحظى بإكليلِ الغلبةِ على الأعداءِ. فبمثل هذه التذكارات تتيقَّظ نفسُك كمثلِ مَن في نومٍ عميقٍ وتلبس حرارةَ الغيرةِ. وكمثل مَن في الموتِ تقومُ النفسُ من سقطتِها وتصلب ذاتَها كي تعودَ إلى طقسِها الأول بالجهادِ الحارِ قبالةِ الشيطانِ والخطيةِ. اذكر كيف سقطَ الأقوياءُ لكي ما تتَّضع بصلاحِك. اذكر عِظمَ خطايا القدماءِ الذين سقطوا ثم تابوا ومقدار الشرف والكرامة اللذين نالوهما من التوبةِ بعد ذلك لكي ما تتعزى في توبتِك. كن مضيِّقاً على نفسِك ومحزناً لها لكي ما يُطرد العدو من أمامِك. اصطلح أنت مع نفسِك فتصطلح معك السماءُ والأرضُ.
محبُ الصلاحِ هو الذي يحتملُ البلايا بفرحٍ. استر على الخاطئ من غير أن تَنْفِر منه لكي ما تحملك رحمةُ الربِّ. اسند الضعفاء وعزِّ صغيري النفوس كي ما تسندَك اليمينُ التي تحملُ الكلَّ. شارك الحزانى بتوجعِ قلبِك كي يُفتح بابُ الرحمةِ لصلاتِك. دع الصغارَ تنال الكبارَ. كن ميتاً بالحياةِ لا حياً بالموتِ. لا تطلب الأمورَ الحقيرةَ من العظيمِ القادرِ على كلِّ شيءٍ لئلا تهينَه. اسأل المواهبَ الكريمةَ من الله فيُنعم عليك بها. لقد سأل سليمان من الله الحكمةَ فأعطاه معها الغنى ودوامَ السلامةِ، وسأل إسرائيل الحقيرات فرُذل لأنه ترك تمجيدَ عجائبِ الله وطلب شهوةَ بطنِهِ، وإذ الطعامُ في أفواهِهم أتى رِجزُ الله عليهم كما هو مكتوبٌ. اطلب من الله ما يلائم مجدَه لتكونَ كريماً عنده، ولا تسأل الأرضيات من السمائي فقد كُتب اطلبوا ملكوتَ الله وبرَّه وهذا كلُّه تزدادونه. لا تسأل أن تجري الأمورُ حسب هواك لأنه أعرف منك بالأصلحِ لك. لا تكره الشدائدَ فباحتمالها تنال الكرامةَ وبها تقترب إلى الله، لأن النياحَ الإلهي كائنٌ داخلها. قبل البلايا يُصلِّي الإنسانُ للهِ كغريبٍ، فإذا قبِلها من أجلِ حبِ الله، حينئذ يصيرُ من أحبائِه وخواصهِ المحاربين لعدوه حباً في رضاه، ويُصبح كمن وجب حقهُ عليه.
توكَّل على اللهِ وسلِّم نفسَك له وادخل من البابِ الضيقِ وسِر في الطريقِ الكربةِ. فذاك الذي كان مع يوسف ونجاه من الزانيةِ وجعله شاهداً للعفةِ، والذي كان مع دانيال في الجبِّ ونجاه من الأسودِ، والذي كان مع الفتيةِ ونجاهم من أتونِ النارِ، والذي كان مع إرميا وأصعده من جبِّ الحمأةِ، والذي كان مع بطرس وأخرجه من السجنِ، والذي كان مع بولس وخلَّصه من مجامعِ اليهودِ… وبالجملةِ فإن الذي كان في كلِّ زمانٍ وفي كلِّ مكانٍ مع عبيدِهِ في شدائدهم ونجاهم وأظهرَ فيهم قوَّته، هو يكونُ معك ويحفظك. فخذ لك يا حبيب غيرةَ الأنبياءِ والرسلِ والشهداءِ والقديسين قبالة الأعداءِ الخفيين، واقتنِ غيرةَ الذين ثبتوا قائمين في النواميسِ الإلهية، فطرحوا الدنيا وأجسادَهم إلى ورائهم وتمسكوا بالحقِّ فلم يُهزموا في الشدائدِ التي انتابتهم في أنفسِهم وأجسادِهم، إذ فازوا بالقوةِ الإلهية وكُتبوا في سفرِ الحياةِ، وأُعدت لهم ملكوتُ السماوات التي نؤهَّل لها كلُّنا برأفتِهِ وتحننهِ تعالى. له المجد إلى الأبد، آمين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ