|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
قُلْ الحقَّ ولا تَخَفْ
الاحد الثاني عشر من السنة: قُلْ الحقَّ ولا تَخَفْ (متى 10: 26-33) يُسلط إنجيل الاحد الأضواء على توصيات يسوع لتلاميذه الذين أرسلهم للتبشير في إنجيله الطاهر (متى 10: 26-33) ليكونوا على استعداد للرفض الذي سيتعرض له الكثيرون منهم كونهم تلاميذه مما يخلق رد فعل عند الآخرين الذين يقاومون الله. فهو يطلب منهم الثقة بعناية الله المُحِب من ناحية، وقول الحق بدون خوف والشهادة لله تعالى من ناحية أخرى؛ ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص وتطبيقاته. أولا: وقائع النص الانجيلي وتحليله (متى 10: 26-33) 26 لا تَخافوهُم إِذاً! فَما مِن مَستُورٍ إِلاَّ سَيُكشَف، ولا مِن مَكتومٍ إِلاَّ سَيُعلَم. تشير عبارة "لا تَخافوهُم" في الأصل اليوناني φοβηθῆτε وفي العبرية תִירְאוּ (معناه المخافة التي تختلف عن خوف العبيد والرعدة) الى القلق والاضطراب تحسبا لوجود تهديدات محتملة (متى 10: 26) او اذى جسدي (متى 10: 28) او سخرية علنية او رفض ذويهم لهم (متى 10: 34-37) كل ذلك قد يؤدي الى التوتر؛ ويُكرر يسوع هذه العبارة ثلاث مرات في هذا النص كي يؤكد لنا ان الله حاضر في كل صغيرة وكبيرة من حياتنا. فلا تسقط شعرة من رؤوسنا دون علمه تعالى. إنه تعالى يحب كل خلائقه، وكم بالأحرى الانسان الذي اتخذه ابنا حبيباً وتلميذا مرسَلا. لان الحبّ الكامل ينفي الخوف، خوف العبيد والخشية من القصاص كما يؤكد لنا يوحنا الرسول “لا خَوفَ في المَحبَّة بلِ المَحبَّةُ الكامِلةُ تَنْفي عَنها الخَوف لأَنَّ الخَوفَ يَعْني العِقاب ومَن يَخَفْ لم يَكُنْ كامِلاً في المَحَبَّة" (1يوحنا 4: 18). ويعلق البابا فرنسيس "لا تخافوا!" عبارة مطمئنة ولكنها في الوقت عينه دعوة ليغيّر المرء حياته. أمَّا عبارة "فَما مِن مَستُورٍ إِلاَّ سَيُكشَف" فتشير الى سر الله الخفي الذي يكشف عنه يسوع في اول الامر للتلاميذ؛ أمَّا عبارة "ولا مِن مَكتومٍ إِلاَّ سَيُعلَم" فتشير الى قول مشهور يستعمله السيد المسيح هنا لبيان انتشار الكرازة، ان سر الملكوت لا بد ان يُعلن. المستور والمكتوم يشيران الى سر يسوع وملكوته كما ورد في المزمور "يُظهِرُ كالنُّورِ بِرَّكَ وكالظَّهيرة حَقَّكَ" (مزمور 37: 6). والمسيح لم يكن له تعاليم سرية تخصّ بعضًا من الناس وتكون سرًا على العامة، إنما أراد يسوع كنيسة واضحة المعالم مكشوفة الأوراق وذات الشفافيّة؛ وقد تشير هذه الآية أيضا من ناحية أخرى الى كل مؤامرات الفريسيين في الظلمة التي صارت في نور المسيح مكشوفة، وتشير أيضا الى شر الشيطان الذي يفضحه الرب كما جاء في تعليم بولس الرسول "خَلَعَ أَصحابَ الرِّئاسةِ والسُّلْطان وشَهَّرَهم فسارَ بِهِم في رَكْبِه ظافِراً" (قولسي 2: 15) اما الابرار فيظهرون بالمجد "فإِذا ظَهَرَ المسيحُ الَّذي هو حَياتُكم، تَظَهَرونَ أَنتُم أَيضًا عِندَئِذٍ معَه في المَجْد" (قوسي 3: 4). ونجد هنا السبب الأول لعدم الخوف هو ان التلميذ هو الشاهد للكلمة وخادم لها ليس مصدرها، فالكلمة لها قوة وحيوية في حد ذاتها، كي تنمو وتنضج تماماً مثل البذرة. وتلميذ الرب هو مجرّد خادم يزرع الكلمة في كل مكان، ولا يستطيع إلاّ أن يشهد على قوتها وحيويتها. 27 والَّذي أَقولُه لَكم في الظُّلُمات، قولوه في وَضَحِ النَّهار. والَّذي تَسمَعونَه يُهمَسُ في آذانِكم، نادوا بِه على السُّطوح. تشير عبارة "أَقولُه لَكم في الظُّلُمات" الى اقوال السيد المسيح التي يُعلِّمها لتلاميذه على انفراد في الخُفيَّة؛ وأمَّا عبارة "قولوه في وَضَحِ النَّهار" فتشير الى ضرورة أن يُكرِّر التلاميذ علنيا بكل ما سمعوه من السيد المسيح وما علمه السيد المسيح الآن للتلاميذ سرًا، يتوجب عليهم أن يذيعوه. وبمفهوم متى الانجيلي إن واجب المُرسل أنه يُعلم بكل ما سمعه من المسيح، وأن تكون حياته نقيَّة متفقة مع ما يُعلم به، وألاّ تكون له تعاليم سرِّية. أمَّا عبارة "الَّذي تَسمَعونَه يُهمَسُ في آذانِكم" فتشير الى كلام مجازي جاري مجرى المثل يراد به المخاطبات السرِّية ويراد به هنا ما قاله المسيح لتلاميذه فقط في جلسات خاصة. أمَّا عبارة "نادوا بِه على السُّطوح" فتشير إلى المكان المألوف في الشرق للمحادثات ونشر الاخبار. فاستعمال السطوح يدل على ضرورة سماع الجميع، لان ملكوت الله للجميع. كان تعليم يسوع في البدء للتلاميذ ومن التلاميذ الى الشعب اليهودي. بعد ان كانت رسالة يسوع في البدء محصورة في الشعب اليهودي تتجّه الآن الى جميع الشعوب. فبعد ان كان صوت التلاميذ خافتا وسريا قبل العنصرة، انطلق في زمن الكنيسة وأصبحت الكرازة علنية على السطوح لجميع شعوب الأرض. ومن هذا المنطلق، ان مقاومة العالم للتلاميذ تكون واسطة انتشار الحق فالذي علَّمهم إياه المسيح ليس بكنز يخفونه لأنفسهم بل هو نور يُنشر ليبدِّد الظلام. 28 لا تَخافوا الَّذينَ يَقتُلونَ الجَسد ولا يَستَطيعونَ قَتلَ النَّفْس، بل خافوا الَّذي يَقدِرُ على أَن يُهلِكَ النَّفْسَ والجَسدَ جَميعاً في جَهنَّم. تشير عبارة" لا تَخافوا" الى تكرار الخوف مرة ثانية مما يذكِّرنا كلام أشعيا "ولا تَخافوا خَوفَهم ولا تَفزَعوا" (أشعيا 8: 12)، ويدل هنا على الخوف الذي كان مسيطرا على التلاميذ بسبب الضيق والاضطهاد. يوصي يسوع بعدم الخوف والاضطراب كما يؤكد ذلك بطرس الرسول " لا تَخافوا وَعيدَهم ولا تَضطَرِبوا" (1 بطرس 3: 14)، وكذلك يوحنا الرسول يوصي مؤمني كنيسة إزمير بقوله "لا تَخَفْ ما ستُعاني مِنَ الآلام. ها إِنَّ إِبْليسَ يُلْقي مِنكُم في السِّجنِ لِيَمتَحِنَكم، فتَلقَونَ الشِّدَّةَ عَشرَةَ أَيَّام. كُنْ أَمينًا حَتَّى المَوت، فسأعْطيكَ إِكْليلَ الحَياة " (رؤيا 2: 10). أمَّا عبارة " الَّذينَ يَقتُلونَ الجَسد " فتشير الى الأعداء الذين قد يكونوا من السلطات (متى 10: 18-19)، او مِن بين أهل بيت التلاميذ وذويهم (متى 10: 21)، او من قساة القلوب الذين استمعوا إلى كلمات الرب ولكنهم يدّعون معرفة طرق الخلاص (متى 10: 17) فاخذوا يحتجزون شهود الكلمة ويزدروهم ويزُّجوهم في السجن ويقلتونهم. هذا هو مصير تلميذ الرب والشاهد للحق، ومصير الّذين يقفون وسط الناس بقلب مستقيم، متجهين نحو الربّ. ويعلق البابا فرنسيس "المسيحيّون يحبّون ولكنّهم ليسوا محبوبين على الدوام. يضعنا يسوع منذ البداية أمام هذا الواقع: إعلان الإيمان يتم في جوّ من العدائيّة" (28 /6/ 2017). أمَّا عبارة "الجَسد" في الأصل اليونانيσῶμα فتشير الى السبب الثاني لنفي خوف التلاميذ من اعدائهم الأشرار، إذ ان قوة ضررِهم على الجسد فقط، ولا تبلغ النفس، ليس هناك سيّد يتحكم بحياة التلميذ، وليس لأحد السلطة المطلقة على حياته. يمكن العدو ان يقتله جسديا (متى 10: 28) لكن لا يستطيع أحد قتل نفسه، أو انتزاع روحه. وهذا دليل على ان النفس لا تموت مع الجسد؛ أمَّا عبارة "النَّفْس" في الأصل اليونانيψυχὴνفتشير الىمبدأ الحياة لكل جسد، وتدلّ على شخصية الانسان او هويِّته الذاتية؛ أمَّا إنجيل لوقا لا يميز بين الجسد والنفس ولا يذكر إلاّ الجسد" لا تَخَافوا الَّذينَ يَقتُلونَ الجَسَد ثُمَّ لا يَستَطيعونَ أَن يَفعَلوا شَيئاً بَعدَ ذلك (لوقا 12: 4). يستطيع المُضطهدون ان يقتلوا الجسد فيحرمون المؤمنين الحياة على هذه الأرض، ولكنهم لا يستطيعون ان يحرموهم من الحياة مع الله. أمَّا عبارة "بل خافوا" في الأصل اليوناني φοβεῖσθε فتشير الى الخوف من الله لا من الشيطان، لان لله وحده السلطان ان "يُهلِكَ النَّفْسَ والجَسدَ جَميعاً في جَهنَّم"، وغالبا ما ركّز لوقا على هذا الامر (لوقا 1: 50، 18: 2، 2: 40). ولا ترد آية يُقال فيها ان نخاف الشيطان وإنما ان نقاومه بشدة " قاوِموا إِبليسَ يُوَلِّ عنكُم هارِبًا" (يعقوب 4: 7)؛ فمن يخالف أوامر الله ويُهمل واجباته خوفا من الناس يجلب على نفسه وجسده خوفا أعظم، لان لله قوة على النفس والجسد الى الابد بان يهلكهما في جهنم؛ أمَّا عبارة "جَهنَّم" في الأصل اليوناني γέεννα مشتقة من العبرية גֵיהִנּם، فتشير الى اسم وادي هنّوم الواقع في جنوب اورشليم حيث كانت فيه النيران مشتعلة دوما لحرق نفايات المدينة. وفي ذلك صورة للهلاك الأخير الذي يدل على الموت الثاني أي الهلاك الابدي. ونجد في هذه الآية المفارقة بين هذا العالم والعالم الآتي. ورأى يسوع هنا ان الاضطهاد من نصيب المؤمنين ولذلك يطلب من تلاميذه الاّ يخافوا من يقتل الجسد. 29 أمَّا يُباعُ عُصفورانِ بِفَلْس؟ ومعَ ذلِك لا يَسقُطُ واحِدٌ مِنهُما إِلى الأَرضِ بِغَيرِ عِلمِ أَبيكم. تشير عبارة "فَلْس" في الأصل اليوناني ἀσσάριον ربع، وبالعبرية אִסָּר (تعني ربع آس)، الى الفلس الروماني في زمن سيدنا يسوع المسيح الذي هو جزء من ستة عشر جزءاً من الدينار وقيمته نحو أربعة مليمات ونصف. وهي من أصغر النقود الرومانية المتداولة في ذلك الوقت؛ وأصبح الفلس يشكل الجزء المئوي من عدة عملات عربية حديثة، وفي بعض اللهجات يقصد أيضا بكلمة "فلوس" النقود بشكل عام؛ أمَّا عبارة "أما يُباعُ عُصفورانِ بِفَلْس؟" فتشير في إنجيل لوقا الى خمس عصافير بفلسين (لوقا 12: 5). ويبدو أن أربعة عصافير كانت تباع بفَلسين ويعطى لمن يشترى أربعة، عصفورًا زيادة البيع مجانًا، فحتى هذا العصفور الذي بلا ثمن لا ينساه الله. وبناء على ذلكـ يعتني الله ي بأصغر خلائقه بما فيها الطيور، كم بالحري يعتني بالإنسان بمحبة ابوية. أمَّا عبارة "واحِدٌ مِنهُما " فتشير الى قلة قيمة العصافير وبخس ثمنها حتى أنها لا تُباع الاّ كمجموعة. أمَّا عبارة " بغَيرِ عِلمِ أَبيكم " في الأصل اليوناني ἄνευ τοῦ πατρὸς ὑμῶν (معناها من دون ابيكم) فتشير الى السبب الثالث لنفي الخوف في اتمام الشهادة، لان حياة الشاهد تخص الله الذي يعتني به ويحفظه، ويعرفه حتى في أدق تفاصيل حياته، ولذلك لن يسمح الله أن تذهب حياة تلميذه هباءً بل يهتم به ويحرسه كما يؤكده الكتاب المقدس "قال: حَيٌّ الرَّبّ! أَنَّها لا تَسقُطُ شَعَرَة مِنِ آبنِكِ على الأَرض"(1صموئيل 14: 45). ان موت التلاميذ لن يكون عرضا، لانه مرتبط بمشيئة الله. كما ان طائراً صغيرا لا يموت بدون إرادة الله، التلاميذ لا يموتون بدون علم ابيهم السماوي، وكما ان الله يهتم بالعصفور، هكذا يكون معنا في الحياة والممات. امَّا عبارة " أَبيكم" فتشير الى تسمية الله أبا للتلاميذ كمحبة الاب لأولاده. فإذا كان الله يعتني بما ليس لهم قيمة كالعصافير فكم بالحري يعتني بالناس. وإذا كان يعتني بكل الناس فكم بالحري يعتني بمن هم بمنزلة اولاده. اننا أعزاء جداً على الله حتى أنَّه أرسل ابنه الوحيد ليموت عنا (يوحنا 3: 16). فحوى هذه الآية انه يجب ان نتق بمحبة الله وعنايته فلا نخشى التهديدات الشخصية او التجارب العسيرة لكن يجب ان نخشى غضبه. 30 أَمَّا أَنتُم، فشَعَرُ رُؤُوسِكم نَفسُه مَعدودٌ بِأَجمَعِه. تشير عبارة "فشَعَرُ رُؤُوسِكم نَفسُه مَعدودٌ بِأَجمَعِه" الى كلام جار مجرى المثل الذي يُراد به العلم الكامل والعناية الشاملة. وبهذا الكلام يحثُّ يسوع تلاميذه الى الثقة بالله حيث " لا يَفقِدُ أَحَدٌ مِنكُم شَعرَةً مِن رأسِه" (اعمال الرسل 27: 34). حتى أنَّ شعرة واحدة من رؤوسنا لا تهلك إلاّ بالسماح منه ولَن تُفقَدَ شَعْرَةٌ مِن رُؤُوسِكم" (لوقا 18:21). شعرة واحدة أي أصغر شيء فينا، وان فُقدت لا نشعر بها، ومع ذلك الله مهتم بها. ويعلق البابا فرنسيس وفي خضمِّ العداء يجب على المسيحي ألا يفقد الرجاء أنه تعالى يرى كل آلام الإنسان حتى تلك الصغيرة والخفيّة. فالله يرى ويحمي (28/6/2017). اما عبارة "مَعدودٌ بِأَجمَعِه" فان شَعر الرأس قليلة القيمة حتى لا يهتم أحد بإحصائها، لكن عناية الله شاملة الى هذا الحد حتى انه أحصاها، وهو يعتني بما لا نظنه يستحق العناية من أمورنا. 31 لا تَخافوا، أَنتُم أَثمَنُ مِنَ العَصافيرِ جَميعاً. تشير عبارة "أَنتُم أَثمَنُ مِنَ العَصافيرِ جَميعاً" الى مقارنة بين الانسان والعصافير حيث يثبِّت بها السيد المسيح اهتمامه بنا، لذلك نحن لا نخاف من أي تهديد او أذلال جسدي او سخرية او اضطهاد. هذا لا يعني ان الله يريد موت مؤمنيه، ولكن إن فرض عليهم ان يجابهوا الموت، يكون الله معهم فيجعل من موتهم شهادة واستشهاد على مثاله هو. وهذا لن يكون موت التلاميذ صدفة، بل له معنى شبيه بموت المسيح. هذه الآية هي خلاصة العدد السابق، فإذا اعتنى الله بالعصافير فكم بالحري يعتني برسل المسيح الذين هم أولاده. لا يعتمد تلميذ المسيح في شهادته لإنجيل الرب على قواه الشخصية، بل على علاقة بالمسيح وهو الضمان الّذي لا يخيّب صاحبه أبداً. إن معرفته برعاية الله تخوّله أن يتخطّى الخوف. 32 مَن شَهِدَ لي أَمامَ النَّاس، أَشهَدُ لَه أَمامَ أبي الَّذي في السَّموات. تشير عبارة "مَن" في الأصل اليوناني Πᾶς οὖν ὅστις (معناها فكل مَن) الى كل أحد بلا استثناء. امَّا عبارة " شَهِدَ " في الأصل اليوناني ὁμολογέω (معناها اعترف) فتشير إلى الاعتراف علناً بيسوع انه سيده ومعلمه بالقول والفعل ويترك كل ما لا يليق بهذا الإقرار بالرب انه يخصّه. وقد يؤدي الاعتراف به الى سفك الدم والموت (لوقا 12: 8-9) وبالتالي ربط مصير التلميذ بمصير المسيح. أمَّا عبارة "أَشهَدُ لَه أَمامَ أبي الَّذي في السَّموات" فتشير السبب الرابع لعدم خوفهم وهو ان معاملة الله لهم في المستقبل متوقعة على أمانتهم له في الحاضر، إذ يُنصّب يسوع ذاته وسيطا بيننا وبين الآب ويشهد أمام ابيه للذين شهدوا له وتضامنوا معه على الأرض. ويؤكد يوحنا الرسول هذا التصريح بقوله "سأَشهَدُ لاسمِه أَمامَ أَبي وأَمامَ مَلائِكَتِه" (رؤية 3: 5). وشهادة يسوع تتم يوم الدينونة وهذا الامر يذكّرنا في قول الله في العهد القديم "لأَنَّ الَّذينَ يكرِموننَي أُكرِمُهم والَّذينَ يَستَهينونَ بي يُهانون" (1صموئيل 2: 30)، ويُعلق القدِّس غريغوريوس بالاماس (1296 -1359)، راهب وأسقف ولاهوتي "كخادم للربّ، يشهد كلُّ قدّيس من القدّيسين، أمام البشر الفانين، بأنّه ينتمي للمسيح في هذه الحياة العابرة، ويفعل ذلك في فترة زمنيَّة قصيرة وبوجود عددٍ قليل من الناس. بينما ربّنا يسوع المسيح يشهد لنا في عالم الحياة الأبديّة، أمام الله أبيه" (عظة لعيد جميع القدّيسين). امَّا عبارة " أَمامَ أبي " فنشير الى السماء او في اليوم الأخير. 33 ومن أَنْكَرَني أَمامَ النَّاس، أُنْكِرُه أَمامَ أَبي الَّذي في السَّمَوات. تشير الآية "ومن أَنْكَرَني أَمامَ النَّاس، أُنْكِرُه أَمامَ أَبي الَّذي في السَّمَوات" الى تكرار الآية السابقة لكن بصورة إنكار زيادة للإيضاح. اما عبارة " أَنْكَرَني " فتشير الى جَهِلَ المسيح واِدَّعَائه عَدَمَ مَعْرِفَتِهِ كما فعل بطرس في بيت عظيم الكهنة "إِنَّي لا أَعرِفُ هذا الرَّجُل"(متى 26: 72). قد يكون الانكار بالقول او بالفعل، وقد يكون بالسكوت حين وجوب التكلم. أمَّا عبارة "أُنْكِرُه أَمامَ أَبي الَّذي في السَّمَوات" فتشير الى جهل يسوع في الدينونة الأخيرة هؤلاء الذين جهلوه وادَّعوا عدم معرفته على الارض حيث يقول يسوع لهم " ما عرَفْتُكُم قَطّ" (متى 7: 23)، لا يعدّ يسوع من أنكره عضواً من أعضاء جسده، ولا يشمله برحمته، ويُحرمه من المجد السماوي. وهناك تصريح مماثل في انجيل مرقس " لأَنَّ مَن يَسْتَحْيِي بي وبِكَلامي في هذا الجيلِ الفاسِقِ الخاطِئ يَسْتَحْيِي بِه ابنُ الإِنسان، متى جاءَ في مَجدِ أَبيهِ ومعَه المَلائِكَةُ الأَطهار" (مرقس 8: 38)، ولم يتردَّد بولس الرسول ان يردِّد نفس الكلمات الى تلميذه طيموتاوس الجندي الصالح " إِذا أَنكَرْناه أَنكَرَنا هو أَيضًا وإِذا كُنَّا غَيرَ أُمَناء ظَلَّ هو أَمينًا لأَنَّه لا يُمكِنُ أَن يُنكِرَ نَفْسَه " (2 طيموتاوس 2: 12 -13). فمن أنكر المسيح لا يستطيع ان يرفع دعواه الى الآب لان من رفض الرحمة لا يعفو عنه العدل. ومع ذلك فقد غفر يسوع لبطرس عندما تاب (يوحنا 21:15-19). وسيغفر للأشخاص الذين ينكرونه في الاضطهاد بسبب ضعفهم. ان الكنيسة تقبل رحمة من يجحد إيمانه، لأنها تعرف ضعفه. فالخلاص لمن هو ثابت في المسيح. ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 10: 26-33) بعد دراسة وقائع النص الإنجيلي وتحليله (متى 10: 26-33)، نستنتج انه يتمحور حول رسالة التلاميذ بالتبشير في ملكوت الله. ومن هنا نتساءل: ما هي مقومات رسالة التبشير بالمسيح؟ ان رسالة الملكوت ضرورة لخلاص النفوس، وهي مبادرة من الله الآب، لكنها تنبع من قلب يسوع الذي " رأَى الجُموعَ فأَخذَته الشَّفَقَةُ علَيهم، لأَنَّهم كانوا تَعِبينَ رازِحين، كَغَنَمٍ لا راعيَ لها" (متى 9: 36). وقد أعلن يسوع بأقواله واعماله ملكوت الله، والآن يُرسل تلاميذه يُبشِّرون بهذا الملكوت. وقد يتعرض حامل هذه الرسالة الى الرفض والتهديدات والاضطهادات. لذلك وجّه يسوع إرشادات الى تلاميذه ليكونوا على استعداد للرفض والاضطهادات التي يتعرض لها الكثيرون منهم بصفتهم مسيحيين حاملين رسالة الانجيل كما جاء ف نبوءة يسوع "يُبغِضُكم جَميعُ النَّاسِ مِن أَجلِ اسمي" (متى 10: 22). ويأتي الاضطهاد من الخارج من السلطات والحكومات والمحاكم كما تنبأ السيد المسيح "تُساقونَ إِلى الحُكَّامِ والمُلوكِ مِن أَجلي، لِتَشهَدوا لَدَيهِم ولَدى الوَثَنِيِّين" (متى 10: 18)، وقد تأتي المقاومة من المتديِّنين تدين زائف مثل الفريسيين المرائيين "إحذَروا النَّاس، فسَيُسلِمونَكم إِلى المَجالس، وَيجلِدونَكم في مَجامِعِهم"(متى 10: 17)، وقد يأتي الاضطهاد من الداخل كالأصدقاء والعائلات “سَيُسلِمُ الأَخُ أَخاهُ إِلى الموت، والأَبُ ابنَه، ويَثورُ الأَبناءُ على والِدِيهم ويُميتونَهم" (متى 10: 21). فالعيش لله كثيرا ما يجلب الاضطهاد، ولكن ذلك يتيح الفرصة للمناداة ببشارة الخلاص. وبناء على ذلك أعطى يسوع المسيح لتلاميذه توصيات خاصة بشأن الرفض والاضطهادات التي يتعرضون لها اثناء تبشيرهم بالملكوت. فأوصاهم" يسوع في الأصل اليونانيّةπαραγγείλας كما يوصي القائد الأعلى جيشه في معركة دائمة ضدّ إبليس وكل أعماله. فعلى تلاميذه أن يتهيؤوا للجهاد الروحي المستمر والقتال ليس ضدّ بشر، وإنما ضدّ الشيطان والقوات الروحيّة الشرّيرة " تَسلَّحوا بِسِلاحِ الله لِتَستَطيعوا مُقاوَمةَ مَكايدِ إِبليس، فلَيسَ صِراعُنا مع اللَّحمَ والدَّم، بل مع أَصحابِ الرِّئاسةِ والسُّلْطانِ وولاةِ هذا العالَم، عالَمِ الظُّلُمات، "والأَرواحِ الخَبيثةِ في السَّمَوات"(أفسس 6: 11-12). واوصاهم يسوع كما يوصي الصديق أصدقاءه للمساندة، وأوصاهم كما يوصي المعلم تلاميذه ليحملوا فكره، اوصاهم كما يوصي الإمبراطور او الملك الذي يرسل سفراءه، يحملون سمات شهادة حق له، ويعلنون دستوره الروحي في حياتهم كما في كرازتهم. ومن أهم هذه التوصيات، هي: 1) الجهاد في سبيل اعلان ملكوت الله(متى 10: 26-27) تلميذ المسيح له رسالة، ورسالته هي نقل انجيل الملكوت الى الناس أجمعين. والإنجيل هو الشهادة للربّ يسوع المسيح أمام العالم مما يستوجب إقراراً واعترافاً علنيّاً، واضحاً. لذلك يطلب يسوع من تلاميذه جهاداً في سبيل الملكوت. يطلب منهم ان يقولوا الحق، دون مُوَارَبَةٍ او رياء، وان يبذل كل واحد نفسه كما "بَذَلَ يسوع نفْسَه في سَبيلنِا. فعلَينا نَحنُ أَيضًا أَن نَبذُلَ نُفوسَنا في سَبيلِ إِخوَتِنا" (1 يوحنا 3: 16). وبناء على ذلك يتوجب على التلميذ ان يسلك بروح معلمه "الحمل الحقيقي". ويُحسب التلميذ حملًا باتّحاده بالمسيح، فيلتزم المسيح برعايته والعمل من خلاله معلنًا قوّته في الضعف، كما قال للرسول بولس: " َ حَسبُكَ نِعمَتي، فإِنَّ القُدرَةَ تَبلُغُ الكَمالَ في الضُّعف "، ويتابع بولس الرسول قوله: " فإِنِّي بِالأَحرى أَفتَخِرُ راضِيًا بِحالاتِ ضُعْفي لِتَحِلَّ بي قُدرَةُ المَسي. ولِذلِك فإِنِّي راضٍ بِحالاتِ الضُّعفِ والإِهاناتِ والشَّدائِدِ والاِضطِهاداتِ والمَضايِقِ في سَبيلِ المسيح، لأَنِّي عِندَما أَكونُ ضَعيفًا أَكونُ قَوِيًّا " (2 قورنتس 9-10). ونستنتج مما سبق انه لا يكون للتلميذ وجود ومصير إلا بوجود سيّده ومصيره، " فَحَسْبُ التِّلميذِ أَن يَصيرَ كَمعلِّمِه والخادِمِ كَسيِّدِه، فإِذا لَقَّبوا ربَّ البَيتِ بِبَعلَ زَبول، فَما أَحْراهم بِأَن يَقولوا ذلك في أَهْلِ بَيتِه؟ " (متى 10: 24-25). ولذلك وعد يسوع تلاميذه بقوة روحية تساعدهم على الثبات، إن هم ظلوا أمناء حتى لو تهدّدت حياتهم البشرية. 2) الاضطهاد والموت (متى 10: 28) جاء المسيح ليُخلص العالم، كما ورد في انجيل يوحنا "فإِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إِلى العالَم لِيَدينَ العالَم بل لِيُخَلَّصَ بِه العالَم (يوحنا 3: 17) ومع ذلك قد ابغضه العالم بل بلغ الاضطهاد ذروة في آلامه (متى 23: 31-32)، وسوف يكون الاضطهاد نصيب تلاميذه ايضاً كما تنبأ المسيح " إِذا اضطَهَدوني فسَيَضطَهِدونَكم أَيضاً"(يوحنا 15: 20). والمسيح يضع نفسه كمثال، فإن كان قد تألَّم، وهو رب المجد، أفلا نقبل الألم، بل قيل عنه أنه قد اكتمل بالألم كما جاء في الرسالة الى العبرانيين " فذاكَ الَّذي مِن أَجْلِه كُلُّ شَيءٍ وبِه كُلُّ شَيء، وقَد أَرادَ أَن يَقودَ إِلى المَجْد ِكَثيرًا مِنَ الأَبناء، كانَ يَحسُنُ به أَن يَجعَلَ مُبدِئَ خَلاصِهم مُكَمَّلاً بِالآلام "(عبرانيين 10:2). أفلا نقبل الألم لنكون كاملين. فما يسمح به الله هو لأجل أن نتكمل. يسوع يكتمل بالألم ليشابهنا في كل شيء، ونحن نتكمل بالألم لنَكتمُل ونُشبهه. كما أرسل الله ابيه للعالم، كذلك أرسل سيدنا يسوع المسيح تلاميذه، وأخبرهم مقدمًا بالآلام التي ستواجههم من قِبلِ العالم الشرير حتى إذا ما رأوا تحقيق ذلك لا يفزعوا ولا يفاجئوا، بل يطمئنوا ويزداد إيمانهم، حيث ان من يعرف المستقبل هو يستطيع أن يحميهم "لقَد أَنبَأتُكم مُنذُ الآنَ بِالأَمرِ قَبلَ حُدوثِه حَتَّى إِذا حَدَثَ تُؤمِنون" (يوحنا 14: 29). إن المشكلة في الاضطهاد انه يصيب التلاميذ، لأنهم تلاميذ ابرار؛ وبواسطة الاضطهاد يحاول العالم الشرير ان يعرقل مخطط الله في خلاص النفوس ويُفصل التلاميذ عن الله الذين ينقلون لهم الانجيل، حيث يقاومونهم ويعارضونهم بشدة ويُوجِّهون إليهم الاتهامات. إذ كثيرا ما يُطلق على الخير شراً، فإذا كان يسوع الكامل قد دعي شيطانا، فلا بد ان يتوقع اتباعه ان توجَّه إليهم مثل هذه الاتهامات (متى10: 10: 25)، وربما يقتلونه بغير رحمة، لان الرسالة قد تثير صراع بينهم وبين أنفسهم. أمَّا التلميذ البار الذي احتمل الاضطهاد فهو قادر على غلبة العالم كما صرّح يسوع السميح " تُعانونَ الشِدَّةَ في العالَم ولكن ثِقوا إِنِّي قد غَلَبتُ العالَم"(يوحنا 16: 33). ويدل الاضطهاد على ان تلاميذ المسيح لا ينتمون الى العالم الجائر المُضطهد كما صرّح يسوع "لو كُنتُم مِنَ العالَم لأَحَبَّ العالَمُ ما كانَ لَه. ولكِن، لأَنَّكم لَستُم مِنَ العالَم إِذ إِنِّي اختَرتُكم مِن بَينِ العالَم فلِذلِكَ يُبغِضُكُمُ العالَم"(يوحنا 15: 19)، ولكنهم يُحصون بين أولئك الذين فيهم يتمجّد الرب يسوع، يوم ينتصر على كل اضطهاد كما جاء في تعليم بولس الرسول "أَن يُجازِيَكم أَنتُمُ المُضايَقينَ وإِيَّانا بِالرَّاحَة عِندَ ظُهورِ الرَّبِّ يَسوع، يَومَ يَأتي مِنَ السَّماءِ تُواكِبُه مَلائِكَةُ قُدرَتِه"(2 تسالونيقي 1: 7). وإذا قتل الناس تلميذ المسيح، فإنهم لا يقتلون الا جسده، "لا تَخافوا الَّذينَ يَقتُلونَ الجَسد ولا يَستَطيعونَ قَتلَ النَّفْس" (متى 10: 28). لا يصيب الاضطهاد والموت الاّ الجسد (متى 10: 28)، ولا يستطيعون ان يقتلوا حب المسيح. لقد قال القديس يوستينوس النابلسي الشهيد لقاتليه " أنتم تستطيعون قتلي. لكنكم لا تستطيعون إيذائي". لان الأذى عنده بقتل النفس. إن أشر ما يستطيع أعداؤنا ان يفعلوا هو ان يبيدوا حياتنا الجسدية، ولكن هذا لا يمنع قيامة مباركة لحياة أبدية. ولا يزال الرب القائم من الاموات يوجّه دوما هذه الرسالة الى تلاميذه " لا تَخَفْ ما ستُعاني مِنَ الآلام. ها إِنَّ إِبْليسَ يُلْقي مِنكُم في السِّجنِ لِيَمتَحِنَكم، فتَلقَونَ الشِّدَّةَ عَشرَةَ أَيَّام. كُنْ أَمينًا حَتَّى المَوت، فسأعْطيكَ إِكْليلَ الحَياة" (رؤيا 2: 10). وما أجمل أن نشعر أننا في يد الله الرحيم، وأنه لا سلطان لأحد علينا ما لم يكن الله قد أعطاه هذا السلطان (يوحنا 19: 11). فحياة التلاميذ ليست في يد مُضَّطهديهم، بل في يد الله الذي له سلطان ليس فقط على أجسادهم بل على نفوسهم. فمن يُنكر المسيح لأنه خائف من العذاب سينقذ جسده لأيام، ولكن سيكون قد خسر نفسه أبديًا. الله اقوى الموت الثاني الذي هو الهلاك الأبدي. 2) عدم الخوف (متى 20: 29) يحتاج التلاميذ في مواجهتهم لمسؤوليات التبشير برسالة الانجيل الى الثقة كيلا يشلّهم القلق من ناحية، ولكي يثبتوا رغم الصعاب والاضطهادات، ولا يفقدون الأمل في تبليغ رسالتهم من ناحية اخرى. لذلك يوصي يسوع تلاميذه "لا تخافوا!" وهي عبارة اطمئنان، وفي الوقت عينه دعوة ليغيّر المرء حياته إذ تبعث الثقة في الانسان، حيث ان الثقة بالله تزيل من القلب كل خوف " كما يصرّح صاحب المزامير إِنِّي ولَو سِرتُ في وادي الظّلمات لا أَخافُ سُوءًا لأَنَّكَ مَعي" (مزمور 23: 4). يعلّمنا يسوع ان لا نخاف ممن يخيف وأن نخاف ممن لا يخيف (الله)، حيث ان المؤمن لا يخاف (الانسان او الشرير)، لأنّه يخاف الله. يذكر يسوع عدة اسباب لعدم خوف تلاميذه في التبشير: السبب الأول يقول يسوع " لا تَخافوهُم إِذاً! فَما مِن مَستُورٍ إِلاَّ سَيُكشَف، ولا مِن مَكتومٍ إِلاَّ سَيُعلَم" (متى 10: 26)، فالتلميذ هو الشاهد للكلمة وخادم يزرع الكلمة في كل مكان، ولا يستطيع إلاّ أن يشهد على قوتها وحيويتها. فالكلمة لها قوة وحيوية في حد ذاتها، كي تنمو وتنضج تماماً مثل البذرة. السبب الثاني يقول الرب "لا تَخافوا الَّذينَ يَقتُلونَ الجَسد ولا يَستَطيعونَ قَتلَ النَّفْس، بل خافوا الَّذي يَقدِرُ على أَن يُهلِكَ النَّفْسَ والجَسدَ جَميعاً في جَهنَّم. (متى 10: 28). تلميذ المسيح لا يخاف من اعدائه الأشرار، إذ ان قوة ضررِهم على الجسد فقط، ولا تبلغ النفس، ليس هناك سيّد يتحكم بحياة التلميذ، وليس لأحد السلطة المطلقة على حياته. يمكن العدو ان يقتله جسديا (متى 10: 28) لكن لا يستطيع أحد قتل نفسه، أو انتزاع روحه. ويُسند السيّد المسيح تلاميذه ليقبلوا الضيق والاضطهادات والموت بلا خوف، معلنًا لهم أن حياتهم الداخليّة لن تؤذى بل ولا تؤذي أجسادهم بدون إذن أبيهم السماوي "أَمَّا أَنتُم، فشَعَرُ رُؤُوسِكم نَفسُه مَعدودٌ بِأَجمَعِه"(متى 10: 30). ومن هذا المنطلق، يعرف التلاميذ ان الله معهم في كل الظروف لكي يحميهم وينقذهم (ارميا 1: 8)، ويعلمون على مَن اتكلوا كما جاء على لسان بولس الرسول "مِن أَجْلِ ذلِكَ أُعاني هذِه المِحَن، غَيرَ أَنِّي لا أَستَحيِي بِها، لأَنِّي عالِمٌ على مَنِ اتَّكَلْتُ وموقِنٌ أَنَّه قادِرٌ على أَن يَحفَظَ وَديعَتي إِلى ذلِكَ اليَوم" (2 طيموتاوس 1: 12)، ويُعلق القديس أوغسطينوس لمن يريد اضطهاده: “إنّني لن أخاف من وعيدك حتى بالنسبة لجسدي، فإنه وإن كان لك سلطان عليه لكن حتى شعر رأسي مُحصى لدى خالقي". السبب الثالث لعدم خوف تلاميذ المسيح في اتمام الشهادة: قول الرب " أمَّا يُباعُ عُصفورانِ بِفَلْس؟ ومعَ ذلِك لا يَسقُطُ واحِدٌ مِنهُما إِلى الأَرضِ بِغَيرِ عِلمِ أَبيكم. .30 أَمَّا أَنتُم، فشَعَرُ رُؤُوسِكم نَفسُه مَعدودٌ بِأَجمَعِه. (متى 10: 29-30). يدل قول الرب على انَّ حياة الشاهد تخص الله الذي يعتني به ويحفظه، ويعرفه حتى في أدق تفاصيل حياته، ان موت التلاميذ لن يكون عرضا، لأنه مرتبط بمشيئة الله. كما ان طائراً صغيرا لا يموت بدون إرادة الله، التلاميذ لا يموتون بدون علم ابيهم السماوي، وكما ان الله يهتم بالعصفور، هكذا يكون معنا في الحياة والممات. يقوم عدم الخوف أساسًا على اكتشاف الإنسان لرعاية الله به كأبٍ مُحبٍّ؛ فيهتمّ به كما يهتمّ بالخلقية من أجله. هذه الرعاية تمتد في حياتنا من إحصائه لشعور رؤوسنا جميعها إلى اهتمامه بالمجد الذي يعدّه لنا في السماوات ويُسند السيّد المسيح تلاميذه ليقبلوا الضيق والاضطهادات والموت بلا خوف، معلنًا لهم أن حياتهم الداخليّة لن تؤذى بل ولا تؤذي أجسادهم بدون إذن أبيهم السماوي "أَمَّا أَنتُم، فشَعَرُ رُؤُوسِكم نَفسُه مَعدودٌ بِأَجمَعِه"(متى 10: 30). ومن هذا المنطلق، يعرف التلاميذ ان الله معهم في كل الظروف لكي يحميهم وينقذهم (ارميا 1: 8)، ويعلمون على مَن اتكلوا كما جاء على لسان بولس الرسول "مِن أَجْلِ ذلِكَ أُعاني هذِه المِحَن، غَيرَ أَنِّي لا أَستَحيِي بِها، لأَنِّي عالِمٌ على مَنِ اتَّكَلْتُ وموقِنٌ أَنَّه قادِرٌ على أَن يَحفَظَ وَديعَتي إِلى ذلِكَ اليَوم" (2 طيموتاوس 1: 12)، ويُعلق القديس أوغسطينوس لمن يريد اضطهاده: “إنّني لن أخاف من وعيدك حتى بالنسبة لجسدي، فإنه وإن كان لك سلطان عليه لكن حتى شعر رأسي مُحصى لدى خالقي". السبب الرابع الذي يذكره يسوع لعدم خوف تلاميذه في الشهادة لكلمته قوله تعالى "مَن شَهِدَ لي أَمامَ النَّاس، أَشهَدُ لَه أَمامَ أبي الَّذي في السَّموات." (متى 10: 32). إن الله يعامل تلاميذه في المستقبل بقدر أمانتهم له في الحاضر، إذ يُنصّب يسوع ذاته وسيطا بيننا وبين الآب ويشهد أمام ابيه للذين شهدوا له وتضامنوا معه على الأرض. ويرسل يسوع تلاميذه للرسالة والتبشير ويوصيهم بالاّ يخافوا وألا يفقدوا رباطة الجأش امام جميع الصعاب التي قد يواجهونها خلال عملهم بالبشارة بالإنجيل. "لا تَخَفْ أَيُّها القَطيعُ الصَّغير، فقد حَسُنَ لدى أَبيكم أَن يُنعِمَ عَليكُم بِالمَلَكوت"(لوقا 12: 32). ويُردِّد يسوع على مسامع تلاميذه الذين ينتظرهم الاضطهاد الا يخافوا أولئك الذين خاصة يقتلون الجسد (متى 10: 26-31)، ففي وسط الاضطهاد يستطيع تلميذ المسيح ان يطمئنهم، لان الرب يسوع قد غلب العالم " قُلتُ لَكم هذِه الأَشياء لِيكونَ لَكُم بيَ السَّلام. تُعانونَ الشِدَّةَ في العالَم ولكن ثِقوا إِنِّي قد غَلَبتُ العالَم " (يوحنا 16: 33) (يوحنا 10: 22). وعلى التلميذ ان لا يخاف من الناس (متى 10: 26) لان غلبة الأشرار الى حين ونميمتهم او شكايتهم الكاذبة لا بد ان تظهر يوما شريطةً ان يثبت التلميذ في المسيح كما تنبا "يُبغِضُكم جَميعُ النَّاسِ مِن أَجلِ اسمي. والَّذي يَثبُتُ إِلى النِّهاية فذاكَ الَّذي يَخلُص" (متى 10: 22). فالثبات هو دليل أنك كرّست نفسك وحياتك ليسوع وانجيله. ويعلق البابا القديس يوحنا الثالث والعشرون" الإيمان كان دائما سبب الاضطهاد، لكن من يؤمن لا يخاف". وعلى التلميذ ان لا يخاف من يقتلون الجسد (متى 10: 28) ولا ان يتراجع حتى امام الموت، لان موت التلميذ مرتبط بمشيئة الله.الله وحده يمتلك السلطان ان يلقي الجسد والنفس في جهنم (لوقا 12: 5). إذ يُعلّمنا الوحي ان نخاف ممَّن يُخيف وهو الله، وألا نخاف ممَّن لا يخيف وهو الشيطان. فالتلميذ لا يخاف الاَّ من الله وحده، ولكن خوفه خوف الابناء، لا خوف العبيد (لوقا 23: 40). فمخافة الله تساهم في توجيه سير الانسان نحو إيمان أعمق، إيمان يتخلى عن الضمانات الشخصيّة ويعتمد على حبّ الله الذي يعتني به. وعلى التلميذ ان لا يخاف من الشيطان حيث لا توجد آية يُقال فيها ان نخاف من الشيطان، وإنما القول بان نقاومه بشدَّة كما جاء في توصيات يعقوب الرسول "قاوِموا إِبليسَ يُوَلِّ عنكُم هارِبًا "(يعقوب 4: 7) وكذلك جاء أيضا في تنبيهات بطرس الرسول " قاوِموه راسِخينَ في الإِيمان، عالِمينَ أَنَّ إِخوَتَكمُ المُنتَشرينَ في العالَم يُعانونَ الآلامَ نَفْسَها" (1 بطرس 5: 9). وعلى التلميذ ان لا يخاف من الموت لان مصيره هو في يد من غلب الخوف من الموت لأنّه يؤمن بربّ الحياة الذي أقامه من قبر الشكّ واليأس والتردّد. أن حياتنا كريمة وعظيمة في عينيّ الربّ، هو معنا لذا ينزع عنّا كلّ خوف التي يتأتى من الموت. ولن نتغلّب على الموت إلا إذا متنا عن أنفسنا لنحيا في مَن مات وقام من أجلنا (2قورنتس5: 5)؛ فالشرير يستطيع أن يقتل مسكن الروح أي الجسد، لكن هل يمكنك أن يقتل الساكن فيه؟ ويعلق القدّيس أوغسطينوس" لا تخف ولا يضعف قلبك ولا تنزعج عندما يُسحب منك المال أو الطعام أو الشرّاب أو الملذّات أو الملابس أو السكن أو جسدك ذاته، بل خف العدوّ الذي يسحب نفسك من الإيمان والاتّكال على الله ومحبّة الله والقريب، عندما يبذر في قلبك الكراهيّة والعداوة والارتباط بالزمنيّات والكبرياء وغير ذلك من الخطايا". فالإيمان يعني دائمًا التخلّي عن الضمانات الشخصيّة والاعتماد على حبّ الله الذي يعتني به، والذي يحصي شعر رؤوسنا كلّه حتّى أنّ شعرة واحدة لا تسقط بدون علمه. نستنتج مما سبق ان الله أوصى " لا تخف لكل نبي ورسول وتلميذ له: إبراهيم (التكوين 15: 1)، والى موسى (عدد 21: 34) والى يشوع بين نون (يشوع 8: 1) والى داود (1 صموئيل 23: 17) والى إيليا النبي (2 لموك 1: 15) والى زكريا والد يوحنا المعمدان (لوقا 1: 13) والى سمعان بطرس (لوقا 5: 10)، والى السيدة مريم العذراء، والى بولس الرسول (اعمال الرسل 27: 24) ولتلاميذه يقول المسيح " لا تخافوا". واليوم يقول لنا ما قاله لكل تلميذ قبلنا: لا تخف. المسيح يُزيل من قلبنا كل أسباب الخوف ودواعي القلق والاضطراب. 4) عناية الرب وحمايته (متى 10: 30-31) يقوم عدم الخوف أساسًا على اكتشاف الإنسان لرعاية الله به كأبٍ مُحبٍ؛ ويهتمّ به كما يهتمّ بالخلقية من أجله. هو معنا لذا ينزع عنّا كلّ خوف، ويحبّنا حبًّا لا يمكننا فهمه أو إدراكه،وتمتد هذه الرعاية في حياتنا من إحصائه لشعر رؤوسنا جميعها إلى اهتمامه بالمجد الذي يعدّه لنا في السماوات. إنه تعالى يهتم بعصافير لا قيمة لها، كما يقول الرب "أمَّا يُباعُ عُصفورانِ بِفَلْس؟ ومعَ ذلِك لا يَسقُطُ واحِدٌ مِنهُما إِلى الأَرضِ بِغَيرِ عِلمِ أَبيكم" (متى 10: 29)، فكيف لا يهتم بتلاميذه المُبشرين باسمه! إننا اعزاء على الله حتى أنه أرسل ابنه الوحيد للموت عنا " فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة"(يوحنا 3: 16). فلا حاجة بنا ان نخشى التهديديات الشخصية او التجارب العسيرة او الاضطهادات، فكل هذه لا يُمكن أن تنزع محبة الله او روحه منا كما صرّح بولس الرسول " فمَن يَفصِلُنا عن مَحبَّةِ المسيح؟ أَشِدَّةٌ أَم ضِيقٌ أَمِ اضْطِهادٌ أَم جُوعٌ أَم عُرْيٌ أَم خَطَرٌ أَم سَيْف؟" (رومة 8: 35) ومن ناحية أخرى، بقى لزاما علينا ان لا نظن ان الله سيزيل كل المتاعب كوننا تلاميذ الرب؛ بل مطلوب من تلاميذه التبشير بالوداعة تجاه العنف، والحكمة والفطنة تجاه الشراسة "هاءَنذا أُرسِلُكم كالخِرافِ بَينَ الذِّئاب فكونوا كالحَيَّاتِ حاذِقين وكالحَمامِ ساذِجين" (متى 10: 16) ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " ما دمنا نحن غنم، فإنّنا سنغلب بالرغم من وجود الذئاب تجول حولنا لافتراسنا، أمّا إذا صرنا ذئابًا فسنُهزم إذ يفارقنا عون راعينا، الذي لا يعول الذئاب بل الغنم، بهذا يتركنا وينسحب حيث لا تسمح لقدرته أن تظهر فينا". 5) المكافأة (متى 10: 32-33) إذا سمح السيد المسيح بالألآم والاضطهادات والموت مطالبًا إيّانا ألاَّ نقلق، فهو يتقبّل الآلام فينا، واهبا إيانا النصرة والإكليل. اذ وعد يسوع تلاميذه الذين يقاسمونه الصعوبات من أجل الملكوت، بقوة روحيّة تتيح لهم ان يظلوا ثابتين في الايمان والشهادة حتى لو تعرضت حياتهم للتهديدات والسخرية والخطر والموت. فالذين يثبتون في المسيح رغم كل المتاعب، لهم قيمة أبدية ويفوزون بمكافآت عظمية كما وعدهم بها السيد المسيح "طوبى لكم، إِذا شَتَموكم واضْطَهدوكم وافْتَرَوْا علَيكم كُلَّ كَذِبٍ مِن أَجلي، اِفَرحوا وابْتَهِجوا: إِنَّ أَجرَكم في السَّمَواتِ عظيم، فهكذا اضْطَهدوا الأَنبِياءَ مِن قَبْلِكم" (متى 5: 11-12). وفي هذا الصدد كتاب الاقتداء بالمسيح "إنّ كلّ مَن يحكم على الأمور من خلال ما يستحقّه من حكمٍ وليس من خلال كلمات الناس وظنونهم، لهو حقًّا حكيم ومتعلّم من الله" (الجزء الثّاني، الفصل الأوّل). الخلاصة يقدم يسوع توجيهات ضروريّة لتلاميذه لكي ينجحوا في مسيرة نشر الانجيل المقدس ويقول لنا" الَّذي أَقولُه لَكم في الظُّلُمات، قولوه في وَضَحِ النَّهار. والَّذي تَسمَعونَه يُهمَسُ في آذانِكم، نادوا بِه على السُّطوح"، هذه هي البشارة! والبشارة تتطلب منا شجاعة حقيقية في عيش هذا الجهاد الداخليّ، وتضعنا أمام صعوبات تسببها لنا "شوكة الشيطان"، وهذا ما يسمى استشهادًا، والاستشهاد هو جهاد يومي للشهادة خلال ألفي عام، حيث بذل عدد هائل من الرجال والنساء حياتهم ليبقوا أمناء ليسوع المسيح وإنجيله. وانجيل الرب ليس كنزا نحتفظ به لأنفسنا لتتمتَّع به وحدنا، بل إنَّه نور يجب أن يُنشَر ليُبدِّد الظلام ويعطي السلام ويمنح الخلاص الى العالَم. وما يطلبه المسيح منا هو أن نقبله ونبشرّ به، كما ترنم صاحب المزامير "سأُبَشِّرُ أُخوَتي باْسمِكَ وفي وَسْطِ الجَماعةِ أُسَبِّحُكَ" (مزمور 22: 23) وكان بولس الرسول خير مُبشر باسم المسيح كما جاء على لسانه "إِذا بَشَّرتُ، فلَيسَ في ذلك لي مَفخَرَة، لأَنَّها فَريضةٌ لا بُدَّ لي مِنها، والوَيلُ لي إِن لم أبَشِّر!" (1 قورنتس 9:16). وكل تلميذ شهد أمام البشر، بأنّه ينتمي للمسيح في هذه الحياة العابرة، وثبت في إيمانه حتّى النهاية، يشهد له السيد المسيح في عالم الحياة الأبديّة، أمام الله أبيه فيما تحيط به الملائكة ورؤساء الملائكة، وبحضور جميع البشر ويكلِّلُ بالمجد. يدعو يسوع تلاميذه الى التبشير بثقة وبدون خوف بقوله لهم: "لا تخافوا!”؛ في الواقع، لا يجب أن نخاف من شيء لأنه" ما مِن مَستُورٍ إِلاَّ سَيُكشَف، ولا مِن مَكتومٍ إِلاَّ سَيُعلَم". إن كنّا مع الآب، فنحن إذا على طريق المحبة كما قال بولس الرسول "فمَن يَفصِلُنا عن مَحبَّةِ المسيح؟ أَشِدَّةٌ أَم ضِيقٌ أَمِ اضْطِهادٌ أَم جُوعٌ أَم عُرْيٌ أَم خَطَرٌ أَم سَيْف؟ فقَد وَرَدَ في الكِتاب: إِنَّنا مِن أَجْلِلكَ نُعاني المَوتَ طَوالَ النَّهار ونُعَدُّ غَنَمًا لِلذَّبْح. ولكِنَّنا في ذلِكَ كُلِّه فُزْنا فَوزًا مُبيناً، بِالَّذي أَحَبَّنا. وإِنِّي واثِقٌ بِأَنَّه لا مَوتٌ ولا حَياة، ولا مَلائِكَةٌ ولا أَصحابُ رِئاسة، ولا حاضِرٌ ولا مُستَقبَل، ولا قُوَّاتٌ، ولا عُلُوٌّ ولا عُمْق، ولا خَليقَةٌ أُخْرى، بِوُسعِها أَن تَفصِلَنا عن مَحبَّةِ اللهِ الَّتي في المَسيحِ يَسوعَ رَبِّنا (رومة 8: 35-39) دعاء "أيّها الربّ يسوع، إنّه من دواعي الفرح أن نكون من تلاميذك، امنحنا القوّة ان نعلّم الجميع كلمتك بكل جرأة وان نشهد لفرح الإنجيل أمام الآخرين، وأعطنا الشجاعة أن نحتمل أيّ صعوبة وأيّ ألم قد يعترض طريقنا في زرع الايمان في قلوب الآخرين. آمين. الأب لويس حزبون - فلسطين |
|