|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
هَنيئًا لَكَ أَيُّها الحمار
غريبٌ هو الله في نَظرتِه للأمور والوقائِع وَتَقيمِه للأشخاصِ والكائِنات! عظة أحد الشّعانين أيُّها الأحبّة إخوةٌ وأخواتٌ، ها نَحن نعودُ للاحتفالِ بِأُسبوعِنا الْمقدّسِ العَظيم، وَسطَ أجواءٍ من الرّاحةِ إلى حَدٍّ كَبير، بَعدَ سَنَتينِ ثِقالٍ، خَيّمت عَلينا فيهِما أجواءٌ خانِقة، مِن الْمُعَاناةِ والخَوف، الّذي فَرَضَتهُ جَائِحةُ كورونا. وَمع ذلك، لا نَكادُ نخرجُ من أَزمةٍ أو مِن عُنقِ زُجاجة، حتّى نَدخلَ في أزمةٍ أُخرى، وكأنَّ الحياةَ لا تُعطي فُرصًا طويلةً للتّنفّسِ والانبساط، بَل هي سِلسلةٌ من الشّدِّ والانقِباض! أُسبوعُ الآلامِ الّذي مرَّ بِهِ يسوع واجتَازَه، هو صورةٌ لأسابيعَ وأعوامٍ وعقودٍ من الآلام، يمرُّ بها الأفرادُ تَارة، وتجتازُها البشريّةُ والخليقةُ جمعاء تارة أُخرى. لِذلك، وَإن كُنَّا قَد بَدَأنا اِحتِفَالَنا اليوم، بِذكرى دُخولِ الرّبِّ المجيدِ إلى القُدسِ، أَو مَا نُسمِّيه بِأحدِ الشّعانين، وَسطَ مَظاهرِ البَهجةِ والفَرح، وَأناشيدِ السّرورِ والانتِصار، إلّا أنّنا مُباشرةً نَبدأُ بتلاوةِ قِرَاءاتٍ تَتَحدّثُ عَن المسيحِ الْمُتَألّم، وُنُتَوِّجُها بِتلاوةِ إنجيلِ الآلام! فأجواءُ هذا اليوم كحالةٍ من عَدمِ الاستقرار، فِيه تنقلِب الأجواءُ سريعًا، من مُشمِسةٍ صافية، إلى غائِمةٍ مُكفَهِرّة! فالكنيسةُ لا تُريدنا أن نغفلَ عن حقيقةِ أنَّ طريقَ المسيحِ نَحوَ القيامةِ والمجد، كان مُعبَّدًا بالآلامِ والعَذابات، وكأنّها ضرورة it is a must، أن يمرَّ المسيحُ بدربِ الصّليب، لِيَكتمِلَ فعلُ الخَلاص العَظيم. وهذا ما يُؤكّدُهُ صَاحبُ الرّسالةِ إلى العبرانيّين، إذ يقول: " كان يَحسنُ بِه أن يجعلَ مُبدِئَ خلاصِهم مُكَمَّلًا بالآلام" (عبرانيين 10:2). أَحَدُ الشّعانين أيّها الأحبّة، هو البابُ الّذي نَدخُلُ مِنهُ مع المسيح، ليسَ فَقَط لنُنشِدَ وَنُرنّم، إِنّما أَيضًا لنَعيشَ مَعَهُ هذا الأسبوعَ الثّقيل والْمرِهق، مُتَأمّلينَ بِسِلسِلةٍ مِن الأحداثِ والمؤامراتِ والدَّسائسِ والخياناتِ والنُّكران! أَضِف إلى ذلك، مَا وَاجَهَهُ المسيحُ من تَعَسُّفٍ وعُنفٍ وظُلمٍ وافتِراءٍ وبُهتان. فَكُلُّهم تَكالَبوا عَليه، عبدِ الله البارِّ المتألّم، كَما يَصِفُه أشعيا النّبي، في قراءةِ يوم الجمعةِ العَظيمة (13:52-12:53) وَكَما يقولُ صاحبُ المزامير: "مُلوكُ الأرضِ قَاموا، والعُظماءُ على الرّبِّ وَمَسيحيِه تَآمَروا" (مزمور 2:2). في يومِ دخولِ المسيحِ إلى القُدس، بَسطَ النّاسُ أَردِيَتَهم على الطّريق، وبعضُهم جاءَ بأغصانِ الشّجرِ، يَفرشونَ بها الأرضَ الّتي سارَ عَليها الْمَسيح. وهذه علاماتُ تَرحيبٍ واحترامٍ وإكرام. أَلا نَفرشُ نحنُ البُسُطَ لِلضّيوفِ، عندَمَا يحلّونَ على مضارِبِنا وفي بيوتِنا، إكرامًا وترحيبًا؟ وَلَكنَّ المسيحَ يا أحبّة، بِدُخُولِه الاحتفاليّ إلى القُدس، كانَ يَستعِدُّ ليفرِشَ لنا طَريقَ الخلاصِ، لَيسَ بِبِساطٍ ولا برداءٍ، إنّما بِدِمِه هو! وَهَا هو يُرحِّبُ بِنا بِذِراعَيهِ الْمَمدودَتين الْمُسَمَّرَتينِ على الصّليب، وقطراتِ دمِه أرديةُ الفداءِ، والطّريقُ الْمؤدّيةُ صَوبَ الخلاص! بَسطَ النّاسُ أَردِيَتَهم! والرّداءُ غالي على صاحبِه. فالإنسانُ يرتدي أجملَ ما يملِك، لِيظهرَ دومًا بِأبهى هِيئَة، وهذِهِ حالُ القادمينَ اليوم إلى الكنيسة. والرّداءُ أيضًا يعني سِترًا يحميني ويُغطّيني. والرّداءُ عندَ العَربي (الثّوب) مظهرٌ من مظاهِر الشِّيخة والزّعامة. كلُّ هَذه المعاني أَراها تَسقط اليوم! فأجملُ هيئةٍ وأبهى حُلّةٍ لِلمسيحي، هي عندما يرتدي المسيحَ ثوبًا، كَما يقولُ بولسُ الرّسول في رسالتِهِ إلى أهل رومة: "اِلبسوا الرّبَّ يسوعَ المسيح" (رومة 14:13). وأنا مع المسيح، لَستُ بحاجةٍ إلى أَردِيةٍ تَستُرُني، فالمسيحُ يعرفِني كما أنا: بِضعفي وخطيئتي وإثمي. بل، أنا بحاجةٍ إلى خَلعِ كلِّ رداء، وإزالةِ كُلّ قِناع، أُحاوِلُ الاختِباءَ خَلفَه! ربّما تُفيدُني أَرديةُ الغِشّ والادّعاء والنّفاق، مَع النّاسِ السُّذج على الأقل، ولكن مع الله كلُّ الأقنعة والأرديةِ، تَسقط كَورقِ التّينِ ولا تُفيد! فالرّبُّ فاحِصُ القلوب، وعالمٌ ما في كلِّ واحدٍ مِنّا، وكاشِفٌ لحَقيقتِنا كما هي، دون اختباءٍ واختفاء، وبِلا تُسِتُّرٍ أو تمتْرُس. مع الجموع، نخلعُ اليومَ عنّا كل رِداءِ كَذب، كلَّ رداءِ غِش، كلّ رداءِ نِفاق، كلّ رداءِ باطِل واِدّعاءٍ زائِف، لِنَكونَ شفّافينَ صادقينَ في طَلبِنا للخلاصِ من الرّبِّ الْمخلّص! قَدِّم ذَاتَكَ للرّبِّ كَمَا أنتَ دَون تجميل، وأطلب مِنه الخلاصَ دونَ تَبريرٍ أَو أسبَاب. وأخيرًا إن كانَ الرّداءُ عندَ العربيّ رمزًا للشّيخةِ والزّعامة، أَي للسّطوةِ والكبرياء، فَهذهِ سَقَطَت سقوطًا مُروِّعًا! لأنَّنا في أَحدِ الشّعانينِ نَرى المسيحَ الْملِك، يدخُل مَدينَتَهُ "وديعًا راكِبًا على جَحشٍ ابنِ أَتان"! (متّى 5:21). في أَحدِ الشّعانين نُبصِرُ المسيحِ المتواضِعِ الوَديع. كانَ مَلِكًا نَعم، لَكِنَّ أَحدًا يُضاهِيهِ في الْمُلك، لأن مُلكَه قائِمٌ على أُسُسِ التَّواضعِ والوَداعة! وكَم نحن بحاجةٍ في هذا اليوم، أَن نِتَعَلّمَ شَيئًا من تَواضُعِ المسيحِ وَبَساطتِه، مُتَخَلّيينَ عن حُبِّنا لِمَظاهرِ الزّهوِ والغُرور، والخيلاءِ والكِبرياء، والْبخترةِ والتّباهِي، الّتي لا تُثيرُ سوى مشاعرِ النّفورِ والغَثيان. يَا أَحِبّة: غريبٌ هو الله في نَظرتِه للأمور والوقائِع وَتَقيمِه للأشخاصِ والكائِنات! فنحنُ البَشر، عِندما نريدُ ذَمَّ وشتمَ أَحدِهِم لِغَبَائِه أو عَنادَتِه، نُطلِقُ عَليه صفة (حمار)! ولكنَّ المسيحَ أَعطَى الحمارَ قِيمَةً عَظيمةً، يَجهَلُها كثيرٌ من النّاس، إِذْ امتَطَاهُ لدخولِ أورشليم، وَلَم يمتَطِ جَوادًا وفرسًا أَصيلًا! وفي هذه رِسالة وعِبرة للجميع: لا تَتَكبَّر على أحد، وَلا تَتَنمّر على أَحد، مُعتَقِدًا أنّكَ أَفضلُ مِنه، وَأَنّه أقلّ مِنك شأنًا ومقامًا ومَرتَبةً! لأنّ الله: "حطَّ الأقوياءَ عَنِ العُروش، وَرَفعَ الوضَعاء" (لوقا 51:1) وهو الّذي: "يُكابِر الْمتكبّرين، ويُنعِمُ على الْمتواضعين" (يعقوب 6:4). "فَتَواضعوا تحتَ يَدِ الله القادِرةِ لَيرفَعَكم في حِينه" (1 بطرس 6:5) جملةٌ أَخيرة أقولُها لي أنا وحدي فقط، وأَقبلُها على نَفسي لأنّي صاحِبُها: يا لَيتَني حمارٌ يَمتَطيه المسيح لِيرفَعني يومًا، خيرٌ مِن أن أكونَ جوادًا يَمْتَطيني غيري، أو يُصَفّقون لي ويُشجّعونَني، لِيربحوا السّباقَ ويُحقّقوا الغايةَ. ثمّ بعد أن يَنتَهي دوري، وتُضعِفُني الأيّام ولا أَستطيعُ السّباقَ والجَري، يتخلّون عنّي أو يُطلقونَ النّارَ عَليّ، لأنّي صِرتُ بلا فائِدةٍ! الأب فارس سرياني - الأردن |
|