|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
السهر لعودة الرب المجيدة
الاحد الاول من المجيء (مرقس 13: 33-37) النص الإنجيلي (مرقس 13: 33-37) 33 فَاحذَروا واسهَروا، لِأَنَّكم لا تَعلَمونَ متى يَكونُ الوَقْت. 34 فمَثَلُ ذلكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ سافَرَ وترَكَ بَيتَه، وفَوَّضَ الأَمرَ إِلى خَدَمِه، كُلُّ واحدٍ وعمَلُه، وأَوصى البَوَّابَ بِالسَّهَر. 35 فَاسهَروا إِذاً، لأَنَّكُم لا تَعلَمونَ متى يأتي رَبُّ البَيت: أَفي المَساء أَم في مُنتَصَفِ اللَّيل أَم عِندَ صِياحِ الدَّيك أَم في الصَّباح، 36 لِئَلاَّ يَأتيَ بَغتَةً فَيجِدَكُم نائمين. 37 وما أَقولُه لَكم أَقولُه لِلنَّاسِ أَجمَعين: اِسهَروا)). المقدمة الاحد الاول من زمن المجيء هو مطلع السنة الليتورجيا حيث يُذكّرنا الإنجيل (مرقس 13: 33-37) أنّنا نعيش في الأزمنة الأخيرة؛ لان هذه الأزمنة تبدأ مع مجيء المسيح الأوّل بتجسّده في عيد الميلاد، مجيئه التاريخي الذي تمَّ قبل ألفي سنة في بلادنا بالذات. وتكتمل في عودته الأخيرة عند نهاية العالم ليدين الأحياء والأموات. وهذا الزمن مكوَّن على الصعيد الليتورجيا من أربعة آحاد حيث يستعدّ فيه المؤمنون لميلاد يسوع المسيح من ناحية، والى مجيئه الثاني في نهاية الأزمنة عند نهاية العالم ليدين الأحياء والأموات من ناحية أخرى كما جاء في نبوءة أشعيا:"يَحكُمُ بَينَ الأُمَم ويَقْضي لِلشُّعوبِ الكَثيرة " (أشعيا 2: 4). ويُدلّنا مرقس الانجيلي كيف نعيش في استعداد لمجيء المسيح، وذلك عن طريق السهر الدائم والصلاة والانتظار للقاء معه (متى13: 33-37). ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته. أولا: وقائع النص الإنجيلي (مرقس 13: 33-37) 33 "فَاحذَروا واسهَروا، لِأَنَّكم لا تَعلَمونَ متى يَكونُ الوَقْت تشير عبارة "فَاحذَروا" في الأصل اليوناني βλέπετε (معناها أنظروا) الى التيقظ والاستعداد والتأهب والتنبُّه والاحتراس، وكرّر المسيح هذا الامر في هذا الفصل مرتين، (مرقس 13: 23، 33)، وهذا التكرار دليل على هول التجارب التي يتعرَّض التلاميذ لها والخطر عليهم منها. وهذا الامر يتطلّب الانسلاخ عن الملذات والتعلق بالخيرات الأرضية كما جاء في موضع آخر "فاحذَروا أَن يُثقِلَ قُلوبَكُمُ السُّكْرُ والقُصوفُ وهُمومُ الحَياةِ الدُّنيا، فَيُباغِتَكم ذلِكَ اليَومُ" (لوقا 21: 34). وقد قيل "احذر تسلم" من المخاطر. وأمَّا عبارة "اسهَروا" فتشير الى العدول عن النوم ليلاً. وتكرَّرت هذه العبارة أربع مرات (مرقس 13: 33، 34، 35، 37)، مما يدل على المعنى العام لإنجيل اليوم ومحوره وتركيزه على السهر. وقد يكون السهر بقصد مواصلة العمل (حكمة 6: 15)، أو لتحاشي العدوّ المفاجئ (مزمور 127: 1-2). وأمَّا فيما يتعلق بالمؤمن، فالهدف من السهر هو أن يكون المؤمن مستعدَّاً للقاء الرب عندما يعود فجأةً. فالوصية هي الاستعداد الروحي للقاء الرب. فالسهر إذا هو إعداد التدابير لمواجهة احتمال طول أمد انتظار عودة الرب ما دامت ساعة العودة لا يمكن توقّعها، "فَاسهَروا إِذاً، لأَنَّكم لا تَعلَمونَ اليومَ ولا السَّاعة". (متى13: 35). نحن بحاجة للسهر في كل ساعة ودقيقة لئلا يفوتنا مجيء ابن الانسان. وفي هذا الصدد يحثُّنا القديس اسحق السرياني على ترك الكسل والجهاد في السهر، قائلًا: "النفس التي تمارس أعمال السهر وتتفوق فيها، لانّ في إرادتها عينا الشروبين، بهما ترى في كل الأوقات الرؤى السماوية وتدنو إليها". اما الكسل بالمفهوم الروحي فهو فقدان الإنسان الرؤيا الروحية السماوية، لأن سقف نفسه يتفكك، وتعجز يداه عن العمل الروحي، وينهار إنسانه الداخلي. أمَّا عبارة "لا تَعلَمونَ" فتشير الى جهل التلاميذ وقت مجيء المسيح ثانيا، وهو أمرٌ محتومٌ وإن لم نعلم ساعته. ان موعد مجي الرب هو الذي لا نعلمه على وجه التحديد، إذ هو مخفيٌّ في علم الآب، حتى ان الابن نفسه في حدود تجسُّده التي قبلها طوعا، لا يشترك في هذا السر، وتخلى باختياره عن الاستخدام غير المحدود لقدراته الإلهية، ويُعلق القديس اوغسطينوس "أن السيد المسيح لا يجهل اليوم، إنما يعلن أنه لا يعرفه، إذ لا يعرفه معرفة مَنْ يبوح بالأمر". لا يريد الانجيل ان ينتقص من مساواة الآبن للآب، ولكن العالم اليهودي يعلن ان الله وحده يعرف النهاية ويحدّدها، حيث جاء كلام يسوع مؤكداً امتيازات الله الآب "لَيَس لَكم أَن تَعرِفوا الأَزمِنَةَ والأَوقاتَ الَّتي حَدَّدَها الآبُ بِذاتِ سُلطانِه (أعمال الرسل 1: 7). والبحث عن هذه المعرفة هو عائق للإيمان، لا مساعد له. المطلوب هو الاستعداد وليس الحساب. ويحمل جهل التلاميذ وقت مجيء المسيح على زيادة الانتباه والتوقع، لأنه يُمكن حدوثه في أي وقت كان. أمَّا عبارة "الوَقْت" فتشير الى الساعة ويوم المجيء الثاني ونهاية العالم كما ورد في انجيل متى " فَاسهَروا إِذاً، لأَنَّكم لا تَعلَمونَ اليومَ ولا السَّاعة" (متى 25: 13) ثم يوضِّح في موضع آخر ان اليوم هو ذاك اليوم الذي يأتي فيه الرب "لأَنَّكُم لا تَعلَمونَ أَيَّ يَومٍ يَأتي ربُّكم" (متى 24: 42). وليس هناك وسيله أنجع من ترك السيد المسيح الكنيسة بدون تحديد دقيق وقت رجوعه. ومن هنا نفهم ان ما يُطلب من المؤمن هو السهر الدائم. 34 فمَثَلُ ذلكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ سافَرَ وترَكَ بَيتَه، وفَوَّضَ الأَمرَ إِلى خَدَمِه، كُلُّ واحدٍ وعمَلُه، وأَوصى البَوَّابَ بِالسَّهَر. تشير عبارة "كَمَثَلِ رَجُلٍ سافَرَ" في الأصل اليوناني ὡς (معناها يُشبه) الى حال الكنيسة من وقت صعود المسيح الى السماء الى وقت مجيئه الثاني، لأنه غير ظاهر لعينها وكأنَّه مسافر عنها حيث تعتبر الحياة رحلة سفر، والرجل المسافر يمثل السيد المسيح، صاحب البيت اي الكنيسة. أمَّا عبارة " السَّفَر " فتشير إلى رحلة الحياة. في هذا المثل، يسوع المسيح هو الذي سافر عند صعوده الى السماء عام 33مٍ بعد أن أتمَّ الفداء "لِيَحصُلَ على المُلْكِ ثُمَّ يَعود" (لوقا 19: 12). أمَّا عبارة "ترَكَ" فتشير الى تشديد النص على غياب السيد المسيح أكثر منه على مجيئه. والامر واضح أكثر في نص لوقا الموازي لهذ النص "كونوا مِثلَ رِجالٍ يَنتَظِرونَ رُجوعَ سَيِّدِهم مِنَ العُرس، حتَّى إِذا جاءَ وقَرَعَ البابَ يَفتَحونَ لَه مِن وَقتِهِم. طوبى لأُولِئكَ الخَدَم الَّذينَ إِذا جاءَ سَيِّدُهم وَجَدَهم ساهِرين "(لوقا 12: 36 -37). أمَّا عبارة "بَيتَه" فتشير الى أهل البيت أو العائلة (تكوين 12: 17) أو العشيرة (لوقا 2: 4) أو ما يقتنيه الإنسان (1ملوك 13: 8)، وتدل هذه الكلمة في إنجيل مرقس على الجماعة. وهي أقدم كلمة نتحدّث فيها عن الجماعة أي الكنيسة. أمَّا عبارة "فَوَّضَ الأَمرَ" في الأصل اليوناني δοὺς τὴν ἐξουσίαν (أعطى السلطان) فتشير الى إعطاء يسوع لرسله السلطة الكافية لإنشاء كنيسته على الأرض. ثم لخدم الكنيسة الذين جاءوا بعدهم يُسيِّرون أمور تلك الكنيسة وفق ما تركه فيها من توصيات. وذلك السلطان ليس سلطانا مطلقا، لأنه يسوس الكنيسة ويرشد معلميها ومدبِّريها بكلامه وبروحه. أمَّا عبارة "خَدَمِه" فتشير الى المؤمنين؛ أمَّا عبارة "كُلُّ واحدٍ وعمَلُه" فتشير الى لكل مؤمن عمله المكلّف به، ومسؤوليته، ولكل منهم مكانه وذلك كي يُمجِّد الله ويُضيء كنورٍ في العالم، ويكون كالملح فيه، وشاهداً أمينا للمسيح قولا وفعلا فيأتي بأثمار كثيرة حيث أنَّ دعوة كل شخص هي جزء من رسالة الله العظيمة، حيث يقوم الجميع، كلٌّ بحسب عمله، بالمساهمة فيها. أمَّا عبارة "أَوصى البَوَّابَ بِالسَّهَر" فتشير الى التركيز على البوَّاب، لان مهمّته هي السهر، أي ان يترقَّب من يأتي الى البيت، خاصة قدوم سيده وينبَّه الناس في الوقت المناسب. وهذا التمييز بين الخدم ضروري في البيت، لان الذين يعملون داخل البيت لا يمكنهم ان يراقبوا ما يكون خارجه. ويحّدد لوقا الإنجيلي مهمّة البوّاب أن يفتح الباب لسيّده عندما يعود، فيتمكن من الدخول إلى بيته (لوقا 12، 36)؛ وأمَّا مرقس الإنجيلي الموجَّه كلامه الى الرومان فيرسم لهم صورة البوَّاب الذي يحرس منزل أحد النبلاء الرومان؛ وأمَّا متى الانجيلي الذي يكلم اليهود فقد أطلق على البوّاب اسم "الخادِمَ الأَمينَ العاقِل" كما جاء في إنجيله " فمَن تُراه الخادِمَ الأَمينَ العاقِل، الَّذي أَقامَهُ سَيَّدُه على أَهلِ بَيتِه، لِيُعطيَهُمُ الطَّعامَ في وَقتِه؟" (متى 24: 45). ويضرب لنا يسوع مثل رب البيت ليساعدنا في تعريف السهر على انه لا يعني اهمال واجباتنا بل تأديتها بأمانة منتظرين من الرب أن يمتحن عملنا في يومٍ من الأيام، كما يؤكد ذلك بولس الرسول " سيَظهَرُ عَمَلُ كُلِّ واحِد، فيَومُ اللّه سيُعلِنُه، لأَنَّه في النَّارِ سيُكشَفُ ذلِك اليَوم، وهذِه النَّارُ ستَمتَحِنُ قيمةَ عَمَلِ كُلِّ واحِد" (1 قورنتس 3: 13) " لأَنَّه لابُدَّ لَنا جَميعًا مِن أَن يُكشَفَ أَمرُنا أَمامَ مَحْكَمةِ المسيح لِيَنالَ كُلُّ واحِدٍ جَزاءَ ما عَمِلَ و هو في الجَسَد، أَخيرًا كانَ أَم شَرًّا" (2 قورنتس 5: 10). 35 فَاسهَروا إِذاً، لأَنَّكُم لا تَعلَمونَ متى يأتي رَبُّ البَيت: أَفي المَساء أَم في مُنتَصَفِ اللَّيل أَم عِندَ صِياحِ الدَّيك أَم في الصَّباح تشير عبارة "فَاسهَروا إِذاً، لأَنَّكُم لا تَعلَمونَ متى يأتي رَبُّ البَيت" الى ضرورة الاستعداد بالسهر الدائم مثل حرَّاس الليل بدون إضاعة الوقت في البحت عن علامات نجدها لدىمسحاء كذبة وانبياء كذبة؛ أمَّا عبارة "أَفي المَساء أَم في مُنتَصَفِ اللَّيل أَم عِندَ صِياحِ الدَّيك أَم في الصَّباح": فتشير الى هِجْعات الليل الأربع: الساعة 6، 9، 12، 3، وكل قسم عبارة عن 3 ساعات. وفي كل هجعة يُبدّل الحرس بحسب التقسيم الروماني لليل. اما المساء فهو من المغرب الى نهاية الساعة الثالثة منه، وامَّا نصف الليل فهو نهاية الهجعة الثاني، واما صياح الديك فهو ثلاث ساعات بعد نصف الليل، واما الصباح فمن نهاية صياح الديك الى الصباح. واما العبرانيون قسَّموا الليل (مدة الظلام) الى ثلاثة أقسام سمّوا كل قسم هزيعاً (هجعة) (خروج 14: 24). أمَّا الهزيع الاول فهو غياب الشمس الى منتصف الليل. والهزيع الثاني هو من منتصف الليل الى اول صياح الديك، والهزيع الثالث من صياح الديك الى شروق الشمس (لوقا 12: 38)، ولكن العبرانيون اقلعوا عن هذه التقسيم بعد عودتهم من السبي، إمّا بتأثرهم بالحضارة الفلكية فيما بين النهرين وفارس، او لسبب تأثر فلسطين بالحضارة اليونانية الرومانية. وكانت نتيجة لذلك أن أخذوا يُقسِّمون الليل الى أربعة اقسام كما الواردة أعلاه، ثم أخذ العبرانيون يُقسِّمون الليل بطوله الى الساعات الاثني عشر، حسبما نفعله اليوم (أعمال 23: 23). اما عبارة " مُنتَصَفِ اللَّيل " فتشير الى الظلمة التي هي في حوزة الشرير. كم من المآسي تحدث في الليل! شبابٌ وشابات تضيع وتنحرف في الليالي، حوادث السيارات تكثروا في الليالي، سرقات وصفقات ملتوية تتم في الليالي، سكر، عربدة، خطف، انتحار. كلها تتمُّ في الليل، في الظلمة. إنَّ الانسان دون الله هو في الليل، هو في الظلام. 36 لِئَلاَّ يَأتيَ بَغتَةً فَيجِدَكُم نائمين. تشير عبارة "يَأتيَ بَغتَةً" إلى عدم معرفة عودة يسوع، ولكن هذا لا يعني انه يجب ان يفاجئنا، بل يشدّد السيد المسيح على ضرورة بقاء المؤمن غير مكتوف اليدين، بل ساهراً ومستعداً ومنتبها الى علامات الملكوت في حياته وفي التاريخ، وأن يعمل بيقظة كي تصبح هذه العلامات حقيقة وواقعا في قلب العالم. ان حقيقة رجوع المسيح شخصيا هي حقيقة مقرَّرة ثابتة لا تحتمل التأويل. ومثل رب البيت يساعدنا في تعريف السهر على انه لا يعني اهمال واجباتنا بل تأديتها بأمانة على انتظار ان الرب يوما من الايام سيمتحن عملنا "سيَظهَرُ عَمَلُ كُلِّ واحِد، فيَومُ اللّه سيُعلِنُه، لأَنَّه في النَّارِ سيُكشَفُ ذلِك اليَوم، وهذِه النَّارُ ستَمتَحِنُ قيمةَ عَمَلِ كُلِّ واحِد" (1قورنتس 3: 13). اما عبارة " نائمين" فتشير الى راقدين مع تغيب الإرادةُ والوعي جُزئياً أَو كليّاً. 37 وما أَقولُه لَكم أَقولُه لِلنَّاسِ أَجمَعين: اِسهَروا. تشير عبارة "أَقولُه لِلنَّاسِ" الى كلام يسوع الذي هو موجّه الى التلاميذ الذين سينقلونه للجميع، لكل مسيحي في كل زمان ومكان الى ان يأتي. امَّا عبارة "أَقولُه لِلنَّاسِ أَجمَعين" فتشير الى ان هذا الأمر "اسهروا" لا يتعلق بذلك الجيل فقط، بل بكل جيل من أجيال الكنيسة المسيحية على مرِّ العصور. فقد يظن التلاميذ ان لبعض الناس وحدهم مسؤولية البيت أي الكنيسة، ولكن في الواقع كل واحد معني شخصيا. وما يطلب من المؤمن هو السهر، لان عليه يتوقف مستقبل البيت أي الكنيسة والجماعة المؤمنة. ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (مرقس 13: 33-37) بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي (متى 25: 14-30)، نستنتج انه يتمحور حولأهمية السهر الذي يدعو السيد المسيح إليه في حديثه عن مجيئه الأخير ترقبًا للقاء معه، ويُعلق بيار دو بلوا "من المؤكّد أنّ هذا المجيء سيتمّ، لكن من غير المؤكّد متى سيتمّ، لأنّه ما من شيء أكيد أكثر من الموت، وما من شيء غير أكيد أكثر من اليوم الذي ستحصل فيه الوفاة فحِينَ يَقولُ النَّاس: سَلامٌ وأَمان، يأخُذُهمُ الهَلاكُ بَغتَةً كما يأخُذُ المَخاضُ الحامِلَ بَغتَةً، فلا يَستَطيعونَ النَّجاة" (1 تسالونيقي 5: 3) (العظة الثالثة حول زمن المجيء). ومن هنا نتساءل لماذا اوصانا يسوع بالسهر وكيف نعيش في السهر انتظارا لمجيء المسيح؟ 1) لماذا اوصانا يسوع بالسهر؟ آثر المسيح ان يأمر تلاميذه بالسهر دون غيره من الفضائل والاعمال، لانَّ السهر يقتضي انتباه كل قوى الجسد وقوى العقل. فمن سهر لا يغفل عن سائر واجباته. لذلك يخاطبنا يسوع قائلا: "احذَروا واسهَروا، لِأَنَّكم لا تَعلَمونَ متى يَكونُ الوَقْت" (مرقس 13: 33) اوصانا يسوع بالسهر لئلا يحملنا جهلنا وقت مجيء المسيح على النوم فيأتي ويجدنا نياما. ويتضمن النوم المقصود هنا اهمال الواجبات ونسيان الوصايا والتخلي عن وعده بالمجيء ثانية وإهانة الرب يسوع. وهناك أربع أمور تدفعنا للنوم وهي: العادات والتردد، والانتظار والهم والانشغال، مما تجعلنا ان نعيش حياتنا وكأن يسوع لم يأتِ بعد، ولن يأتِ. شدَّد يسوع في انجيل مرقس على السهر للأسباب التالية: "وما أَقولُه لَكم أَقولُه لِلنَّاسِ أَجمَعين: اِسهَروا "(مرقس 13: 37). يطلب مرقس الإنجيلي ان نسهر على كنز نفوسنا، وكنز نفوسنا هو حب المسيح الذي آتى وسيأتي. ويعلق القدّيس أوغسطينوس " يا إخوتي، تَفحَّصوا بدقّة مساكنكم الداخليّة، افتَحوا عيونَكم وتَبصّروا في مَخزونِكم من الحبّ، ثمّ أضيفوا المجموع الذي تكونونَ قد اكتَشفتُموه في أنفسكم. اسهَروا على هذا الكنز كي تكونوا أغنياءَ داخليًّا" (العظة 34 عن المزمور 149). "قالَ لهم: ((نَفْسي حَزينَةٌ حتَّى المَوت. أُمكُثوا هُنا واسهَروا)). (مرقس 14: 34). أمّا سِرّ حزن يسوع فهو ليس الخوف من الآلام الجسديّة، إنّما ثقل الخطيئة التي لا يقبلها السيِّد ولا يطيقها، لكنّه من أجل هذا جاء، ونيابة عنّا خضع في طاعة للآب ليحمل موت الخطيئة فيه. وبكلمة اسهروا يطلب يسوع من رسله ان يكونوا مستعدين للهروب إذ يأتي الجند للقبض عليه. "اِسهَروا وصَلُّوا لِئَلاَّ تَقَعوا في التَّجرِبة. الرُّوحُ مُندَفِع، وأَمَّا الجَسدُ فَضَعيف "(مرقس 14: 38). يطلب يسوع هنا السهر بتواضع بسبب ضعفنا، لان أعداءنا كثيرة وعلينا اخطار من داخل ومن خارج و "حَياةُ الإنْسانِ في الأَرضِ" (أيوب 7: 1). والنوم هو نتيجة التسليم لأهواء الجسد وتأثير هذه الدنيا دون تأثير العالم الآتي. في حين يجبُ أن نستخدمَ العالمَ لا أن يكونَ له خادمًا. ويعلق القدّيس قِبريانُس أسقف قرطاجة " فإننا نتذكّر ضعفنا بحيث لا ينظر أيّ منا إلى نفسه نظرة مجاملة، وحتى لا يعزو أي شخص لذاته المجد النابع من ولائه أو محنته، في آنٍ يعلمّنا الربّ نفسه التواضع عندما يقول، "اِسهَروا وصَلُّوا لِئَلاَّ تَقَعوا في التَّجرِبة. الرُّوحُ مُندَفِع، وأَمَّا الجَسدُ فَضَعيف". وإن كنا نعتمد التواضع أولًا فإننا نُعيد إلى الله كلّ ما نطلبه بخشية وإجلال، ويمكننا أن نتأكّد من أن طيبته سوف تغمرنا" (صلاة الرّب، 26-28). "اسهَروا إِذاً، لأَنَّكُم لا تَعلَمونَ أَيَّ يَومٍ يَأتي ربُّكم" (متى 24: 42)، يطلب منا الرب ان نميِّز "علامات الأزمنة." إن تمييز هذه العلامات هو محاولة لمعرفة كيفية التقاء الرب من خلال حوادث العالم وازماته "اسهَروا إِذاً، لأَنَّكم لا تَعلَمونَ اليومَ ولا السَّاعة" (متى 25: 13) يطلب منا الرب ان تنعيش الوقت الحاضر ونحن نترقب المستقبل مدركين الهدف الذي نسير إليه، وإلى أين يأخذنا الربّ وأين ينتظرنا. "فقالَ لَهم: ((نَفسي حَزينَةٌ حتَّى المَوْت. أُمكُثوا هُنا واسهَروا مَعي)). (متى 26: 38) يقول أحد الآباء كثيرون هم الذين يسهرون، لكنهم يقضون الليل في عمل الشر. فكيف ينبغي ان نسهر؟ 2) كيف نعيش في السهر انتظارا لمجيء المسيح؟ ضرب لنا يسوع مثل رب البيت ليحُّثنا على السهر. لفظ سهر يفيد العدول عن النوم ليلاً. وقد يكون السهر بقصد مواصلة العمل (حكمة 6: 15)، أو لتحاشي العدوّ المفاجئ (مزمور 127: 1-2). والمعنى المجازي هو اليقظة، والكفاح ضد الخمول والإهمال، من أجل بلوغ الغرض المستهدف (أمثال 8: 34). وأمَّا فيما يتعلق بالمؤمن فهو أن يكون مستعداً للقاء الرب، عندما يحلُّ يومه. آثر المسيح ان يأمر تلاميذه بالسهر دون غيره من الفضائل والاعمال لان السهر يقتضي انتباه كل قوى الجسد وقوى العقل. فمن سهر لا يغفل عن سائر واجباته. ومن هذا المنطلق نستنتج أنه يوجد هنالك خمسة طرق في السهر انتظاراً لمجيء المسيح؟ الطريقة الاولى: السهر بالاستعداد السهر هو ان يكون المؤمن على أُهبة الاستعداد لعودة الرب: يوصي يسوع تلاميذه ويحثهم على اليقظة استعدادا لمجيئه الثاني. "فاسهروا إذاً، لأنكمٍ لا تعلمون أيّ يوم يأتّي سيّدكم" (متى 24: 42). فالنوم، على العكس من السهر، لن يكون سوى فقدان الوعي، والعيش وكأننا لا نتوقع مجيء المسيح. من ينام لا يلتقي بالنور! وإنّ مجيء ابن الإنسان سيكون مفاجئاً، كماكن الطوفان في ايم نوح / ومثل مجيء السارق ليلا (متى 24: 43-44)، ومثل السيد الذي يعود أثناء الليل دون إخطار سابق لخدمه (مرقس 13: 35-36) وذلك للتحريض على الاستعداد. الرب يدعونا إلى اليقظة لعدم معرفتنا ساعة عودة رب البيت، لذا علينا أن نعيش وقتنا الحاضر بحذر وتيقّظ. والمسيحي شأنه شأن البوَّاب الأمين، ينبغي له أن يسهر، أي أن يمكث متأهّباً ويظل على استعداد لاستقبال الرب. ولا عجب ان يوصينا بولس الرسول على السهر: " لَسْنا نَحنُ مِنَ اللَّيلِ ولا مِنَ الظُّلُمات. فلا نَنامَنَّ كما يَفعَلُ سائِرُ النَّاس، بل علَينا أَن نَسهَرَ ونَحنُ صاحون" (1 تسالونيقي 5: 1-7). وهكذا على المسيحي أن يظلّ يقظاً لمقاومة الظلمات، رمز الشرّ، حتى لا يتعرّض الى مداهمة مجيء المسيح الثاني، بل ان يكون مستعداً لاستقبال الخلاص النهائي كما يؤكد بولس الرسول "هذا وإِنَّكُم لَعالِمونَ بِأَيِّ وَقْتٍ نَحنُ: قد حانَت ساعةُ تَنبَهُّكمِ مِنَ النَّوم، فإِنَّ الخَلاصَ أَقرَبُ إِلَينا الآنَ مِنه يَومَ آمَنَّا"(رومة 13: 11). من الضروري السهر المتواصل استعداداً لمفاجأة مجيء الرب السعيدة. وهذه المفاجأة تكمن في ان نصبح للمسيح خَدَم "طوبى لأُولِئكَ الخَدَم الَّذينَ إِذا جاءَ سَيِّدُهم وَجَدَهم ساهِرين. الحَقَّ. أَقولُ لكم إِنَّه يَشُدُّ وَسَطَه ويُجلِسُهُم لِلطَّعام، ويَدورُ علَيهم يَخدُمُهم" (لوقا 12: 37). والسهر هو قرار خدمة واستعداد. في بداية زمن المجيء يتوجب علينا أن نكون مستعدين لمجيء ابن الانسان، "فيسوعُ هذا الَّذي رُفِعَ عَنكُم إِلى السَّماء سَيأتي كما رَأَيتُموه ذاهبًا إِلى السَّماء" (أعمال الرسل 1: 11-9)، وأن نكون مستعدين لهذا الحدث الذي غيّر وجه البشرية. والواقع، إن مجيئه الثاني هو أهم حدث في حياتنا، فنتائجه تبقى الى الابد، ولا يمكن ان نؤجل الاستعداد له، لأننا لا نعلم متى سيحدث. فلا يجوز ان نعيِّن سنة ذلك المجيء بل ينبغي ان ننتظره بالإيمان كل حين. "فَاسهَروا إِذاً، لأَنَّكُم لا تَعلَمونَ أَيَّ يَومٍ يَأتي ربُّكم ... لِذلِكَ كونوا أَنتُم أَيضاً مُستَعِدِّين، ففي السَّاعَةِ الَّتي لا تَتَوَقَّعونَها يأَتي ابنُ الإِنسان (متى 24: 42، 44). "َاسهَروا إِذاً، لأَنَّكُم لا تَعلَمونَ متى يأتي رَبُّ البَيت: أَفي المَساء أَم في مُنتَصَفِ اللَّيل أَم عِندَ صِياحِ الدَّيك أَم في الصَّباح" (مرقس 13: 35) ، ويعلق القدّيس يوحنّا بولس الثاني بابا روما " تُذكّرُني هذه الكلمات بالنداء الأخير الذي سيحلّ في اللحظة التي يريدها الربّ. أرغب في أن أستجيب لذلك النداء وأن يكون كلّ ما في حياتي على هذه الأرض سبيلاً لأستعدّ لتلك اللحظة "(الوصيّة). الطريقة الثانية: السهر بالحذر من التجارب اليوميّة لا يتطلب السهر الاستعداد بل أيضا الحذر. والحذر هو الاحتراس والحماية من التجارب اليومية. وهذا الامر يتطلب المثابرة في الانتظار لعودة يسوع عن طريق الكفاح ضد التجارب اليومية. ويظهر يسوع نموذجاً بارزاً لليقظة في لحظة التجربة، بقدر ما يظهر تخاذل التلاميذ مُهملين توصيات معلّمهم: "إِسهَروا وصَلُّوا لِئَلاَّ تَقَعوا في التَّجرِبَة" (متى 26: 41). ويُردِّد لوقا الإنجيلي كلمات يسوع بقوله "احذَروا أَن يُثقِلَ قُلوبَكُمُ السُّكْرُ والقُصوفُ وهُمومُ الحَياةِ الدُّنيا، فَيُباغِتَكم ذلِكَ اليَومُ" (لوقا 21: 34)، ولا يتردّد بطرس الرسول في الحثِّ على الحذر إزاء أخطار الحياة الحاضرة بقول: " كونوا قَنوعينَ ساهِرين. إِنَّ إِبليسَ خًصْمَكم كالأَسدِ الزَّائِرِ يَرودُ في طَلَبِ فَريسةٍ لَه " (1 بطرس 5: 8). ويبيِّنُ بولس الرسول الأسلحةَ التي يستخدِمُها في مقاومةِ الخصمِ فيقول: "جَهدٌ وَكَدٌّ، سَهَرٌ كَثِيرٌ، جُوعٌ وَعَطَشٌ، صَومٌ كَثِيرٌ، بَردٌ وَعُرْيٌ" (2 قورنتس 11: 27). فانّ السهر الذي يطلبه السيد المسيح غايته هي يقظة القلب الداخلي كما جاء في سفر نشيد الأناشيد "إِنِّي نائِمَةٌ وقَلْبي مُستَيقِظ " (نشيد الأناشيد 5: 2). ويأتي زمن المجيء ليدعونا لنفتح قلوبنا كي نكتشف الحاضر بيننا دون أن نراه، وأن نلتفت إلى القائم وسطنا دون أن ندري. هذا هو معنى السهر الذي ينادي به يسوع، أيقظوا قلوبكم من نومها، أفيقوا من غفلتكم، أخرجوا من سكرة همومكم ونزاعاتكم وبحثكم عن السعادة الواهية والخادعة وراء مباهج الاستهلاكيّة والشهوانيّة. ونستنتج مما سبق ينبغي على المسيحي ان يكون دائماً على حذر، وأن يصلِّي بإيمان، وان يتجنَّب بتجرّده مكائد العدو الشيطاني وأعوانه. وألا يقاوم المجيء الأول للمسيح حتى لا نخاف مجيئه الثاني. جاءَ مرّةً أُولى وسيأتي أيضًا. وقد سَمِعْنا ذلك من فمِه في الكتابِ المقدَّس: "سَتَرَوْنَ بَعدَ اليَومِ ابنَ الإنسَانِ آتِيًا عَلَى غَمَامِ السَّمَاءِ" (متى 26: 64). ولذلك لا بد للإنسان المسيحي أن يكون على حذر وينتظر الربّ في السهر والصلاة لمقاومة التجارب. وانتظار الرب هو عمل الحياة كلها. دعوتنا ليست للإيمان فقط، بل للسهر بإيمان مرتقب. إنّ نوع الترقّب الّذي يقصده الربّ ليس طريقة سلبيّةً للحياة "الانتظار ورؤية ما يحدث" بل معنى السهر الذي ينادي به يسوع هو ان نيقظ قلوبنا من نومها، ونستفيق من غفلتنا، ونخرج من سكرة همومنا ونزاعاتنا وبحثنا عن السعادة الواهية والخادعة وراء المباهج الاستهلاكيّة والشهوانيّة "لِنَسِرْ سيرةً كَريمةً كما نَسيرُ في وَضَحِ النَّهار. لا قَصْفٌ ولا سُكْر، ولا فاحِشَةٌ ولا فُجور، ولا خِصامٌ ولا حَسَد" (رومة 13: 13). وحذّرنا الرب يسوع من ذلك من خلال مَثَل الرجل الغنيّ الذي يُطلب منه أن يؤدّي حساب نفسه خلال الليل، ومثل الخادم الّذي "أَخَذَ يَضرِبُ الخَدَمَ والخادِمات، ويأَكُلُ ويَشرَبُ ويَسكَر" (لوقا 12: 45)، ومَثَل ُالعذارى الجاهلات (متى25: 2). الطريقة الثالثة: السهر بالصَّلاةِ والدُّعاءِ في الرُّوح يتطلب السهر أيضا الصَّلاةِ والتأمل والدُّعاءِ في الرُّوح. " ويعلق البابا فرنسيس " لأن السهر والصلاة هما الكلمتان لزمن المجيء لأنّ الرب قد أتى في تاريخ بيت لحم وسيأتي في نهاية العالم ونهاية حياة كلِّ فرد منا ولكنّه يأتي يوميًّا وفي كلِّ لحظة إلى قلبنا من خلال إلهام الروح القدس" (عظة 3/12/2018). ولقد تكلم مرقس الإنجيلي كثيرا عن الصلاة تقريبا 12 مرة، فهو يوضح ان السهر يكون في سبيل الصلاة. فتمضية الليل في الصلاة، يتطلب ايضاً عقد سهرات الصلاة او السهرات الانجيلية "أَقيموا كُلَّ حينٍ أَنواعَ الصَّلاةِ والدُّعاءِ في الرُّوح، ولِذلِكَ تَنبَّهوا وأَحيُوا اللَّيلَ مُواظِبينَ على الدُّعاءِ" (أفسس 6: 18) اقتداء بما كان يفعله يسوع الذي كان يُحْي اللَّيلَ كُلَّه في الصَّلاةِ "وفي تِلكَ الأَيَّامِ ذَهَبَ إِلى الجَبَلِ لِيُصَلِّي، فأَحْيا اللَّيلَ كُلَّه في الصَّلاةِ لله" (لوقا 6: 12). وفي موضع آخر يقول "اسهَروا مُواظِبينَ على الصَّلاة، لكي توجَدوا أَهْلاً لِلنَّجاةِ مِن جَميعِ هذه الأُمورِ التي ستَحدُث، ولِلثَّباتِ لَدى ابنِ الإِنْسان (لوقا 21: 36). ويوضّح بولس الرسول كلمة المسيح بقوله "واظِبوا على الصَّلاة، ساهِرينَ فيها وشاكِرين" (قولسي 4:2)، وتعلق القدّيسة تيريزا الطفل يسوع "بعد منفى الأرض، أرجو الذهاب لأنعم بك في الوطن الأبدي؛ لكنّي لا أريد أن أكدّس استحقاقات لأجل السماء، بل أريد العمل في سبيل حبّك وحده... أريد إذًا أن ألبس بِرّك وأنال من حبّك امتلاكك الأبديّ. لا أريد على الإطلاق عرشًا آخر ولا إكليلاً آخر، سواك يا حبيبي!" (فعل تقدمة الذات لحبّ اللّه الرّحيم). دخولنا في الصلاة يعني أننا خرجنا من نومنا، وقلوبنا مستعدة للقاء الحبيب الساكن فيه. يكلمنا الله بالصلاة لنحيا من جديد، ونتذوق طعم الفرح والسلام، وتمتلئ عيوننا بالنور، فتشع حياتنا بهجة ورجاء حولنا. والصلاة هي أولى أعمال سيدنا يسوع، إذ كرَّس أربعين يومًا للصوم والصلاة والسهر. إنّ الصومَ يشفي الروحَ الضعيفة، والصلاة تغذّي النفس المتديّنة، والسهر يُبعِد مكائدَ الشيطان ويعلق القديس سيرافيم الساروفيّ "فإن كانت الصلوات والتأمّلات تعود عليكم بالكثير من النِّعَم فاسهروا إذًا وصلّوا. وإن كان الصوم يمنحكم نِعَمًا كثيرة فصوموا. وإن كان عمل الإحسان يفيض عليكم بالمزيد من النِّعَم فافعلوه " (لقاء مع موتوفيلوف). وزمن المجيء هو دعوة إلى السهر بالصلاة كما تقول كلمات الترتيلة "نحن ساهرون ومصابيحنا مشتعلة ننتظر عودتك أيها الرب يسوع". ويخبرنا النبي أشعيا بأنّ الرب سوف يكافئ، بالتأكيد، أولئك الّذين ينتظرون افتقاده: "مُنذُ الأَزَلِ لم يَسمَعوا ولم يُصْغوا ولم تَرَ عَينٌ إِلهاً ما خَلاكَ يَعمَلُ لِلَّذينَ يَنتَظِرونَ" (أشعيا 64، 4). الطريقة الرابعة: السهر بالعمل بضمير حي السهر يقتضي اضا العمل بضمير حي. فالسهر لا يمنع عن العمل، والعمل لا يمنع عن السهر بانتظار قدوم المسيح. والعمل يكمن ان نعمل بضمير حي ما نعمله ضد العادات السيئِّة لكيلا تتحوَّل هذه العادات الى سبات عميق يُخدّرنا، وتبعدنا عيوننا عن التركيز على هدفنا، وهذا التركيز يدفعنا إلى فعل الخير لأنفسنا، لنصبح عاملين مجتهدين ومنتبهين من اجل المسيح. وهكذا نعيش الانتظار بصورة جيدة بحيث لا يمضي يوم وشهر وسنة ونحن لا نعمل شيئا، بل نثق بالله ونتعلق فلا نجعل همومنا وانشغالنا تسيطر علينا بل كما قال البابا السابق بندكتس السادس عشر" نحن بحاجة إلى النهوض وإعادة اكتشاف معنى هدف كياننا"، فينساهم كل فرد بحسب مهمته ودعوته للقاء الرب. وبكلمة مختصرة، يسوع يدعونا الى السهر" وما أَقولُه لَكم أَقولُه لِلنَّاسِ أَجمَعين: اِسهَروا. (مرقس 13: 37)؛ وعندما نوجّه قلوبنا اليه تعالى، ونرفع نحوه همومنا وانتظارنا ومخاوفنا وقلقنا وهمونا وآلامنا، كل شيء يتَّخذ معناه. لننتظر ونستعد لمجيء المسيح لقاء معه، ونحن نرنِّم مع صاحب المزامير " كما يشْتاقُ الأيَلُ إِلى مَجاري المِياه كذلِكَ تَشْتاقُ نَفْسي إِلَيكَ يا أَلله" (مزمور 42: 2). ويعلق القديس كولومبانس " طُوبى لذلك السهرِ الذي يُعِدُّ النفسَ لملاقاةِ الله، مُبدِعِ كلِّ الكائنات، ومالِئِ الكلِّ والعليِّ فوقَ كلِّ شيء" (الإرشاد في انسحاق القلب 12، 2-3). الطريقة الخامسة: السهر باتباع تعليمات الرب يقدِّم لنا انجيل مرقس في الفصل الثالث عشر بعض التحذيرات ايضا للسهر انتظارا لمجي المسيح: التحذير الأول: لا ننام، "لِئَلاَّ يَأتيَ بَغتَةً فَيجِدَكُم نائمين (متى 13: 36). إن إنجيل هذا الأحد يحذرنا من مرض بدأ يتفشى في حياتنا، بدأ يتغلغل في عالمنا، ألا وهو أن نسير في الحياة ونحن نائمون، أن ننعس خلال حياتنا. لا نعي بما يدور حولنا، "فكَما كانَ النَّاسُ، في الأَيَّامِ التي تَقَدَّمَتِ الطُّوفان، يَأكُلونَ ويَشرَبونَ ويَتزَّوجونَ ويُزَوِّجونَ بَناتِهِم، إِلى يَومَ دخَلَ نوحٌ السَّفينَة، 39 وما كانوا يَتَوَقَّعونَ شَيئاً، حتَّى جاءَ الطُّوفانُ فجَرَفهم أَجمَعين، (متى 24: 38-39). وما كانوا يتوقعون شيئاً، وما كانوا يدركون شيئاً، وما كانوا يشعرون بشيء. إنَّ الشخص النائم لا يشعر بشيء. التحذير الثاني:لا نرتبك بدعاوي مضللة او تفسيرات باطلة لما يحدث "إِيَّاكُم أَن يُضِلَّكم أَحَد. فسَوفَ يَأتي كثيرٌ مِنَ النَّاسِ مُنتَحِلينَ اسمي فيَقولون: أَنا هو! ويُضِلُّونَ أُناساً كثيرين" (متى 13: 5-6)؛ لقد صرّح يوسيفوس فلافيوس المؤرخ اليهودي أن مزوِّرين كثيرين وسحرة جذبوا إليهم كثيرين إلى البرِّية يخدعونهم، فمنهم من جنّ، ومنهم من عاقبه فيلكس الوالي الروماني، ومن بينهم ذلك المصري الذي ذكره الأمير حين قال للرسول بولس أَفَلَستَ المِصرِيَّ الَّذي أَثارَ مُنذُ أَيَّامٍ أَربَعَةَ آلافِ فَتَّاك، وخَرَجَ بِهم إِلى البَرِّيَّة؟ "(أعمال الرسل 21: 38). التحذير الثالث: لا نخشى ان نُبشّر الآخرين بالمسيح، رغم كل ما يمكن ان يقولوه او يفعلوه بنا "فخُذوا حِذْرَكم. سَتُسلَمونَ إِلى المَجالِسِ والمَجامِع، وتُجلَدون، وتَمثُلونَ أَمامَ الحُكَّامِ والمُلوكِ مِن أَجْلي شَهادةً لدَيْهِم" (متى 13: 9)؛ بل يجب ان نثبُت في الايمان ولا نندهش من الاضطهاد "يُبغِضُكم جَميعُ النَّاسِ مِن أَجلِ اسمي. والَّذي يَثبُتُ إِلى النِّهاية، فَذاكَ الَّذي يَخلُص" (متى 13: 13). التحذير الرابع: لا نتحالف مع هذا العالم، وياء للأسف، كثيرٌ من النّاس يهزؤون من الدين علانيّة كما جاء في رسالة يهوذا "سيَكونُ في آخِرِ الزَّمانِ مُستَهزِئُونَ يَتبَعونَ شَهَواتِ كُفْرِهم "(يهوذا 1: 18)، هؤلاء لا يسهرون، وهم لا يفهمون أنّهم مدعوّون ليكونوا "غُرَباءً نُزَلاءً في الأَرض" (عبرانيين 11: 13)، وأنّ ممتلكاتهم الأرضيّة ما هي إلاّ حوادث عابرة في تاريخ وجودهم، وبالتالي هم لا يملكون شيئًا. وليس هناك من شكًّ في أنّ من يعيشون بهذه الطريقة لن يتمكّنوا من أن يكونوا مستعدِّين لملاقاة الربّ عند مجيئه. ونستنتج مما سبق ان الرب يسوع طلب منا السهر حيث ان دعوتنا ليست للإيمان فقط، بل للسهر بإيمان مترقّب؛ ليس أن نحبّ فقط، بل أن ننتظر بتوق متلهّف؛ ليس أن نطيع فقط، بل أن نُعدّ بترقّب فَرِحْ! ماذا علينا أن نترقّب، وننتظر؟ وأن نُعدّ لماذا؟ إنّ الحدث الأعظم القادم وهو عودة سيّدنا وربّنا يسوع المسيح عندما يعود ثانية في المجد كي يلقانا في نهاية الأزمنة. لننتظر مجيئه كما جاء في توصيات بولس الرسول "مُنتَظِرينَ السَّعادَةَ المَرجُوَّة وتَجَلِّيَ مَجْدِ إِلهِنا العَظيم ومُخَلِّصِنا يسوعَ المسيحِ" (طيطس 2: 13). إنّه يأتي لكي نعرفه، ذاك الّذي لم يعرفْه أحد (يوحنا 1: 10)؛ لكي نؤمن به، ذاك الّذي لم يؤمنْ به أحد؛ لكي نخافه، ذاك الّذي لم يَخَفْه أحد؛ لكي نحبّه، ويعلق القدّيس ألريد دو ريلفو " ذاك الّذي لم يعرفْه أحد ولم نؤمنْ به، والّذي لم نكن نخشاه، والّذي لم نحبّه؟" (عظة حول زمن المجيء). أنّ هذا اللقاء لا يمكن أن يتمّ إذا لم نعش الحياة في الاستعداد والحذر والصلاة واتباع تعليمات الرب. لذا لنرنم مع صاحب المزامير "مِن رَحمَتِكَ يا رَبُّ اْمتَلأَتِ الأَرضُ فعَلِّمْني فَرائِضَكَ " (مزمور 119: 64). الخلاصة نبدأ زمن المجيء مع كلمات يسوع في إنجيل مرقس، وفي قلوبنا شوق كبير إلى مخلّص يشفينا من قلقنا ويُحرِّرنا من مخاوفنا، وفي عمقنا اشتياق إلى زمن سلام وعدل يرفع عن مجتمعاتنا وأوطاننا خطرَ التعنّت والتعصّب وما يتبعهما من عنف. الله معنا حين يغوص البشر في مشاكل حياتهم ويغيب الله عن أذهانهم وحياتهم. وهو معنا من خلال يسوع المسيح. يحثَّ السيد المسيح تلاميذه على ضرورة السهر في انتظار عودته. يروي يسوع مثلًا قصيرًا يتحدث عن رجل يغادر بلده في رحلة ويترك بيته في رعاية الخدم، ويعهد إلى كل واحد منهم بمهمته الخاصة. ويُكلف البواب بمهمة السهر اي أن يكون مراقبًا، ثم تمتد هذه المهمة يشمل الجميع. يجب نسهر يجب عليهم السهر كي لا يجدهم عند عودته نائمين لا سيما وأنهم لا يعلمون زمن رجوعه. ان السهر بمعنى اليقظة الواعية التي هي من مُتطلبات الإيمان بيوم الرَّب، وهي الطابع المميز للمسيحي الذي ينبغي له أن يقاوم الجحود في آخر الأزمنة، وأن يظلّ مستعدّاً لاستقبال المسيح الذي يأتي. ومن جهة أخرى، فما دامت التجارب في الحياة الحاضرة مقدّمة لويلات الدهر الآخر. لذللك ينبغي أن تمارس اليقظة المسيحية يوماً بيوم في الكفاح ضد الشرير كما علّمنا السيد المسيح في الصلاة الربيّة "ولا تُدخلنا في التَّجربة" (متى 6: 11). إذ يحاول الشيطان ان يُهلك من تصيبه التجربة. فالسهر يتطلب من التلميذ الصلاة والقناعة المتواصلتين: "اسهروا وصلّوا وكونوا قنوعين". ولنجهّز نفوسنا ليس للعيد بل لصاحب العيد، ولنعش حياتنا اليومية بروح مُتجدد وبمشاعر الانتظار العميق لمجيء الرب، انتظار مجيء مخلصنا يسوع المسيح في حياة كل واحد منا وبيننا وفي عالمنا. ونختتم بهذا السؤال "يمكن ان نُمضي شهورًا أو سنوات للتخطيط للزواج او ولادة طفل او لتغيير العمل او لشراء منزل. فهل نعطي أهمية مثل هذا الاهتمام بمجيء المسيح؟ فمجيئه ثانية هو أهم حدث في حياتنا، لأنَّ نتائجه ستبقى الى الابد، ولا يمكننا ان نؤجل الاستعداد له، لأننا لا نعلم متى سيحدث ذلك. "طوبى لِذلِكَ الخادِمِ الَّذي إِذا جاءَ سَيِّدُه وَجَدَه مُنصَرِفاً إِلى عَمَلِه (لوقا 12: 43)، انه يستطيع أن يشترك في انتصار موكب الرب. ويُعلق البابا القدّيس يوحنّا بولس الثاني: "فَاسهَروا إِذاً، لأَنَّكُم لا تَعلَمونَ أَيَّ يَومٍ يَأتي ربُّكم". تُذكّرُني هذه الكلمات بالنداء الأخير الذي سيحلّ في اللحظة التي يريدها الربّ. أرغب في أن أستجيب لذلك النداء وأن يكون كلّ ما في حياتي على هذه الأرض سبيلاً لأستعدّ لتلك اللحظة. لا أعلم متى سيأتي ولكنّي أضع تلك اللحظة بين يَدَيْ والدة معلّمي يسوع المسيح، تمامًا كما أضع كلّ شيء بين يديها: "كُلّي لكِ". الدعاء أيها الآب السماوي، أيقظ قلوبنا وفكرنا واجعلنا نستعدّ لمجيء ابنك يسوع مخلصنا وديَّاننا، بالسهر والصلاة واتباع وصاياه حتى إذ جاء وجدنا في فرح ساهرين بقدومه ومرحّبين بنور حقيقته ومشتاقين اليه " كما يشْتاقُ الأيَلُ إِلى مَجاري المِياه كذلِكَ تَشْتاقُ نَفْسي إِلَيكَ يا أَلله" (مزمور 42: 1) آمين. قصة وعبرة: بازار السماء بينما كنت في إحدى الأيام أسير في طريق الحياة، قرأت إعلانا فوق متجر يقول: "بازار السماء". وما ان اقتربت من المتجر حتى انفتحت أبوابه وحدها ووجدتُ نفسي في الداخل. كانت الملائكة تملأ المكان. اقترب ملاكٌ مني وقدّم لي سلّة كبيرة وقال لي: "تفضّل، اشتر ما تحتاج اليه". كان المكان مليئا بمختلف أنواع البضائع. رأيت رفّاً مكتوباً عليه: "الصبر"، فأخذت حاجتي منه. رأيت "المحبة" في نفس المكان، فأخذت منها قسطا لا بأس به. سرتُ قليلا فرأيت مكان "التفهّم"، فقال لي الملاك: "خذ منها، فستحتاجها أينما ذهبت". فأخذت منها علبتين. ثم تقدّمت أكثر فرأيت "الإيمان"، أخذت منه حصتين أيضاً. ثم "الروح القدس"، فأخذت منه الكثير. ثم فضيلة "القوة"، فلم أحرم نفسي، ثم "الشجاعة"، وأنا في أشد الحاجة إليها. بدأت سلتي تمتلئ، وتذكرت أني بحاجة الى "النعمة"، فأخذت، ثم إلى "المغفرة" وأخذت لي ولغيري. أخيرا، وقفت في الصفّ لأدفع الحساب قبل أن أغادر المكان، فرأيت بجانب موظف الصندوق كميات كبيرة من "الفرح" و "السلام" و "الصلاة"، فحملت ما استطعت حمله. وعندما أتى دوري لأدفع ثمن ذلك سألت الموظف: "كم؟" فابتسم وقال لي: "احمل كل ذلك معك أينما ذهبت". فألححتُ عليه: "قل لي كم يجب أن ادفع؟" فابتسم مجدَّدا وقال: "يا بُنيّ، لقد دفع الله الحساب بدلا منك عندما تجسَّد وعاش في وسطنا وفداك ومات على الصليب وقام... هو نفسه سيعود ليجازينا على ما فعلنا بكل ما نلنا من نعم وبركات. "فَاحذَروا واسهَروا، لِأَنَّكم لا تَعلَمونَ متى يَكونُ الوَقْت" (مرقس 13: 33). الأب لويس حزبون - فلسطين |
|