|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
رسالة التطويبات في ضوء لوقا الإنجيلي
الأحد السادس من السنة: رسالة التطويبات في ضوء لوقا الإنجيلي (لوقا 6: 17، 20- 26) النص الإنجيلي (لوقا 6: 17، 20-26) 17 ثُمَّ نَزَلَ معَهم فوَقَفَ في مَكانٍ مُنْبَسِط، وهُناكَ جَمعٌ كَثيرٌ مِن تَلاميذهِ، وحَشْدٌ كَبيرٌ مِنَ الشَّعْب مِن جَميعِ اليَهودَّية وأُورَشَليم، وساحِلِ صورَ وصَيْدا، 18 ولَقَد جاؤوا لِيَسمَعوهُ ويُبرَأُوا مِن أمراضِهِم. وكانَ الَّذينَ تَخبِطُهُمُ الأَرواحُ الَّنجِسَةُ يُشفَون، 19 وكانَ الجَمعُ كُلُّه يُحاوِلُ أَن يَلمِسَه، لأَنَّ قُوَّةً كَاَنت تَخرُجُ مِنهُ فتُبرِئُهُم جَميعاً. 20 وَرَفَعَ عَيْنَيْه نَحوَ تَلاميذِه وقال: ((طوبى لَكُم أَيُّها الفُقَراء، فإِنَّ لَكُم مَلَكوتَ الله. 21 طوبى لَكُم أَيُّها الجائعونَ الآن فَسَوفَ تُشبَعون. طوبى لَكُم أَيُّها الباكونَ الآن فسَوفَ تَضحَكون. 22 طوبى لَكمُ إِذا أَبغَضَكُمُ النَّاس ورَذَلوكم وشتَموا اسمَكُم ونَبذوه على أَنَّه عار مِن أَجلِ ابنِ الإِنسان. 23 اِفرَحوا في ذلك اليَومِ واهتُّزوا طَرَباً، فها إِنَّ أَجرَكُم في السَّماءِ عظيم، فهكذا فَعَلَ آباؤهُم بِالأَنبِياء. 24 لكِنِ الوَيلُ لَكُم أَيُّها الأَغنِياء فقَد نِلتُم عَزاءَكُم. 25 الوَيلُ لَكم أَيُّها الشِّباعُ الآن فسَوفَ تَجوعون. الوَيلُ لَكُم أَيُّها الضَّاحِكونَ الآن فسَوفَ تَحزَنونَ وتَبكون. 26 الوَيلُ لَكُم إِذا مَدَحَكم جَميعُ النَّاس فَهكذا فَعَلَ آباؤُهم بِالأَنبِياءِ الكَذَّابين. مقدمة بعد صلاة يسوع على الجبل ودعوته للرسل تكلم لوقا الإنجيلي عن عظة يسوع الكبرى في السهل مما يوكِّد أن صلاته تسبق أعماله وأعماله تسبق أقواله (لوقا 24: 19 وأعمال الرسل 1: 1). وفي عظته يُحدِّد يسوع معيارا لسلوك التلميذ الكامل من خلال رؤيته الخاصة والتي تتلخَّص في التطويبات الأربعة موجهة للفقراء والجياع والباكين والمضطهدين، وهي بمثابة أنواع الفئات التي تشير للمأساة البشرية (الفقر والجوع والدموع والاضطهاد) ويليها الويلات الأربعة موجهة إلى الأغنياء والشباع والضاحكين والمَمدوحين معلنا الفرق بين الفقراء والأغنياء. وتبدو رؤيته انقلابا للمواقف الحاضرة (لوقا 1: 51-35)؛ تعبّر التطويبات التي أعلنها يسوع، عن كمال المحبة الإنجيلية، إذ شرح فيها يسوع، موسى الجديد، الوصايا العشر، وشريعة العهد، مكملاً معناه النهائي، إنها وصاياه العهد الجديد الثمانية. وهي أسمي ما ظهر في تاريخ الإيمان وأسمى حكمة بشريّة. قال عنها ستالين، مؤسس الشيوعية "لو كانت هذه الكلمات مني، لغيّرت بها كلَّ العالم". اجل التطويبات دعوة للسعي نحو "حياة كاملة". والحياة الكاملة تتطلب جهد دون تعب في "السير" في طرق الله. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته. أولاً: تحليل وقائع نص إنجيل لوقا (لوقا 6: 17، 20-26) 17 ثُمَّ نَزَلَ معَهم فوَقَفَ في مَكانٍ مُنْبَسِط، وهُناكَ جَمعٌ كَثيرٌ مِن تَلاميذهِ، وحَشْدٌ كَبيرٌ مِنَ الشَّعْب مِن جَميعِ اليَهودَّية وأُورَشَليم، وساحِلِ صورَ وصَيْدا تشير عبارة "نَزَلَ" إلى نزول يسوع مع رسله الاثني عشر إلى السهل من قمة الجبل حيث صعد للصلاة للقاء مع التلاميذ والشعب اليهودي والأمم، هؤلاء الذين جاءوا يسمعونه ويلمسونه لنيل الشفاء من قوّة تخرج منه؛ فقد نزل يسوع معهم لكي يرفعهم. ويعُلق القديس أمبروسيوس" ينال المرضى الشفاء في السهل لينموا في القوّة شيئًا فشيئًا، ويستطيعوا تسلُّق الجبال. ينزل الرب ليشفي جراحاتنا لكي يجعلنا نشاركه طبيعته باتِّحاده بنا". أمَّا عبارة "مَكانٍ مُنْبَسِط" في الأصل اليوناني πεδινός (معناه سهل) فتشير إلى السهل على جانب الجبل ربما يرمز إلى سهل مؤاب حيث أعطى سفر التثنية الاشتراع للشعب. فالسهل يرمز إلى انفتاح رسالة المسيح على العالم الوثني نظراً أنَّ الناس عند لوقا الإنجيلي جاؤوا من العالم اليهودي (اليهودية وأورشليم) ومن العالم الوثني (صور وصيدا)، فبشارة الإنجيل تتوجَّه إلى جميع البشر. أمَّا عبارة "هُناكَ جَمعٌ كَثيرٌ مِن تَلاميذهِ" فتشير إلى التلاميذ الآخرين الذين يُشكلون جمعا بالإضافة إلى الاثني عشر الذين اختارهم يسوع. فهذا الجمع من التلاميذ يختلف عن الاثني عشر وعن جمهور الذين أتوا من كل مكان ليسمعوا المسيح وينالوا الشفاء منه، إذ "قُوَّةً كَاَنت تَخرُجُ مِنهُ فتُبرِئُهُم جَميعاً"(لوقا 6: 19). فنجد هنا التَّشديد على وجود عدد كبير جدا من تلاميذ يسوع. أمَّا عبارة " تَلاميذهِ" فتشير إلى كل من يدرس أو يتعلم مُتبعا معلما معينا (متى 10: 24)، والتلميذ لا يعني قبول تعليم معلمه فحسب، بل السير بمقتضاه في الحياة. ولقب التلاميذ في الإنجيل يدل أولا على إتباع يسوع ويستخدم بشكل خاص للدلالة على الاثني عشر (متى 10: 1)، ويُطلق هذ اللقب بعد صعود المسيح على كل من يعترف بيسوع رباً ومسيحاً (أعمال الرسل 6: 1). أمَّا عبارة "حَشْدٌ" في الأصل اليونانيπλῆθος فتشير إلى جمهور غفير من أناس آخرين مجتمعين في مكان محدود لسماع أقوال يسوع وطلب الشفاء.أمَّا عبارة "جَميعِ اليَهودَّية وأُورَشَليم" فتشير إلى العالم اليهودي؛ وأمَّا عبارة "ساحِلِ صورَ وصَيْدا: فتشير إلى العالم الوثني. وعليه فان الناس الذين جاؤوا ليسمعوا يسوع ليس هم فقط من العالم اليهودي، ولكن أيضا من العالم الوثني. فالبشارة موجّهة إلى جميع البشر يهودا كانوا أم وثنيين. فالجمع الذي احتشد حول المسيح كان مكونًا من تلاميذه الذين تركوا كل شيء وتبعوه، وأيضاً من كثيرين من المُتألمين والمرضى والمُعذَّبين من اليهود والوثنيين. 20 وَرَفَعَ عَيْنَيْه نَحوَ تَلاميذِه وقال: "طوبى لَكُم أَيُّها الفُقَراء، فإِنَّ لَكُم مَلَكوتَ الله تشير عبارة "رَفَعَ عَيْنَيْه نَحوَ تَلاميذِه " إلى رفع يسوع عينيه نحو تلاميذه ليرفع بصيرتهم معه نحو السماء حين يتحدَّث إليهم بأمورٍ روحية. أمَّا عبارة "التلاميذ" فتشير إلى العظة التي كانت موجّهة إلى التلاميذ أولا، وإن كانت الجموع تصغي إليه أيضا. أمَّا عبارة " طوبى " في الأصل اليوناني μακάριος مأخوذة من كلمة عبرية אַשְׁרֵי، (ومعناها هنيئا) فتشير إلى صيغة تقليدية في الكتاب المقدس والدين اليهودي للتعبير عن الإنباء بفرح مُقبل (أشعيا 30: 18) أو عن شكر على فرح عظيم (مزمور 32: 1-2) أو عن الوعد بمكافأة في إرشادات الحكماء (أمثال 3: 13)، وهي تقصد دائما فرحا يمنحه الله. افتتح المسيح وعظته، لا بالوصايا والوعيد، بل بالتهنئة، لأنه أتى من عند الآب لكي يُردَّ للبشر سعادة فقدوها بسبب الخطيئة، وجعل الفرح من أهم أركان ملكوته. فالطوبى أو السعادة هي وليدة اتحاد الروح والقلب والحياة كلها بالله تعالى. ذكر متى سبع تطويبات خاصة وختمها بتطويبة ثامنة عامة (متى 5: 3-10). واقتصر لوقا الإنجيلي على ذكر أربع منهنَّ: الأولى، والرابعة والثانية والتي هي الخاتمة ما ذكره متى. أمَّا عبارة "لَكُم" فتشير إلى صيغة مخاطبة الجمع كما هو متبع في أسلوب الوعظ، وهنا موجّهة لا إلى التلاميذ فقط بل إلى الفقراء عامة، وإلى المسيحيين الفقراء والبؤساء خاصة. لوقا الإنجيلي يخاطب الناس المستمعين، أما متى الإنجيلي فيذكر الكلام على سبيل الغيبة: بقوله: طوبى لِفُقراءِ.... أمَّا عبارة "الفُقَراء" في إنجيل لوقا فتشير إلى الفقراء الحقيقيين أي الطبقة الاجتماعية المسحوقة ماديا، أولئك الفقراء المُحتاجين إلى خيرات هذه الدنيا، في حين أنَّ الكلام يدور في إنجيل متى حول الفقراء بالروح أي الفقر الروحي (متى 5: 3)، وهم الفقراء الذين يشعرون بفقرهم الروحي ويأتون إلى المسيح ليُغْنيهم. وهنا يخاطب يسوع مباشرة تلاميذه وهو يعني أن فقرهم الفعلي بركة، لأنه يُعينهم على الاحتفاظ باتكالهم على الله، ويُشجعهم ويعزِّهم في الأوضاع الشاقة التي يعيشونها حاليا وهكذا يؤهلهم لملكوته. يرى يسوع الفقراء باعتبارهم ينتمون إلى الملكوت؛ وكثيرا ما عبَّر يسوع عن معزَّته الخاصة للفقراء، فقد وجّه رسالته إليهم (لوقا 7: 22)؛ وهذه الأفضلية التي يخصُّ بها الفقراء هي الدليل على وجود الله المطلق، وهي دعوة إلى انتظار كل شيء من نعمته، ودعوة الناس إلى الشفقة على البؤساء، وهذا هو ليس الأمر مستغرب على لوقا الإنجيلي. أمَّا عبارة " مَلَكوتَ الله" فتشير إلى مَلكوتَ السَّمَوات (متى 5: 3) والمعنى واحد. لان ملكوت السماء هو ملكوت الله. لان لوقا نسب الملكوت إلى المَلك، ونسب متى الملكوت إلى مكان عرش الله تعالى. وملكوت الله هو حياة التقوى في القلب (متى 6: 33) والنظام الذي أتى المسيح لتثبيته (متى 4: 17)، ومجد المسيح وسلطانه (متى 16: 28) وسلطان الله على الكل (متى 6: 10) والحالة السماوية (متى 8: 11). ليس الزمن والأرض وقفا على الإنسان، بل هناك ما هو أعظم من هذا أو ذاك هناك الحياة الأبدية. إن ملكوت الله حقيقة سرِّية لا يستطيع أن يُطلعنا على طبيعتها إلاَّ يسوع وحده. لا يكشف طبيعة الملكوت إلاَّ إلى المتواضعين والصغار، وتلاميذه وليس لحكماء هذا العالم (متى11: 25). إن يسوع يطوِّب الفقراء لا لأنه ينزع عنهم الحرمان الزمني أو الألم، وإنما ليرفعهم وسط الآلام إلى ملكوته الإلهي. للفقراء السعادة في السماء، أمَّا الأغنياء فقد استوفوا أجرهم على الأرض كما ورد في مثل الغني ولعازر (لوقا 16: 19-31). 21 طوبى لَكُم أَيُّها الجائعونَ الآن فَسَوفَ تُشبَعون. طوبى لَكُم أَيُّها الباكونَ الآن فسَوفَ تَضحَكون تشير عبارة "الجائعونَ الآن فَسَوفَ تُشبَعون" لا إلى جوع الجسد إلى الخبز بل إلى جوع النفس إلى البِرّ (متى 5: 6). يرى يسوع الجائعين كأولئك الذين يختبرون رعاية الآب السماوي. فهناك أكثر من35 مليون جائع في اليوم. فنجد انقلاب الوضع الحالي كما ورد في نشيد تعظم "أَشَبعَ الجِياعَ مِنَ الخَيرات والأَغنِياءُ صرَفَهم فارِغين "(لوقا 1: 53)؛ ينطق يسوع بالتطويب والبركة للجياع، وقد سبق وأعلن الأنبياء أشعيا، وارميا وحزقيال عن "شبع الجياع" (أشعيا 49: 10، وارميا 31: 12، وحزقيال 34: 29). أمَّا عبارة " الآن " فتشير إلى صفة الحياة الحاضرة في حياة المسيحي كل يوم لان المسيح أتى ينشر ملكوت الله في هذا العالم من الآن. أمَّا في مفهوم لوقا فتدل "الآن" على آنية الخلاص التي لم تأتِ بعد، بل يبقى وعدا ينفَّذ في وقت لاحق. وتردَّدت كلمة " الآن" مرتين في التطويبات (لوقا 6: 21) ومرتين في الويلات " الوَيلُ لَكم أَيُّها الشِّباعُ الآن فسَوفَ تَجوعون. الوَيلُ لَكُم أَيُّها الضَّاحِكونَ الآن فسَوفَ تَحزَنونَ وتَبكون" (لوقا 6: 25). وأمَّا عبارة" الباكون " فتشير إلى رؤية يسوع للباكين كأولئك الذين يعرفون راحة الآب. فهم أولئك المتألمون لسبب أو لآخر، قد يكونوا ضحايا الظلم الاجتماعي لكن يكتشفون في الألم قيمًا روحيَّة. ويُعلق القديس أمبروسيوس "يليق بكم أن تبكوا على العالم، لكن تفرحوا في الرب؛ تحزنوا للتوبة وتبتهجوا بالنعمة، لذلك يأمر معلِّم الأمم موصيًا: إِفرَحوا مع الفَرِحين وابْكوا مع الباكين" (رومة 12: 15)". وفي هذا الصدد يقول صاحب المزامير "أخَذَني الحَنَقُ بِسَبَبِ الأشْرارِ الَّذينَ تَرَكوا" (مزمور118: 53). ويُعلق العلامة أوريجانوس " بكى يسوع هو نفسه لكي يضع أساس هذا التطويب". وأما متى فيشير إلى عِلة بكائهم وهي الخطيئة ونتائجها: غضب الله وعقابه (متى 5: 4). أمَّا عبارة " فسَوفَ تَضحَكون" تشير إلى الإنباء بالفرح الذي يعقب البكاء كما ورد في نبوءة أشعيا "يمسَحُ السَّيِّدُ الرَّبُّ الدُّموعَ عن جَميعِ الوُجوه ويَرفَعُ عارَ شَعبه عن كُلِّ الأَرض لِأَنَّ الرَّبَّ قد تَكَلَّم. فيُقال في ذلك اليَوم: هُوَذا إِلهُنا الَّذي آنتَظَرْناه وهو يُخَلِّصُنا هُوَذا الرَّبُّ الَّذي آنتَظَرْناه فلنَبتَهِجْ ونَفرَح بِخَلاصِه"(أشعيا 25: 6-9). وهذا الأمر يدلُّ على التناقض بين الحاضر والمستقبل. وأكد يسوع هذا الكلام بقوله إلى تلاميذه " الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: ستَبكون وتَنتَحِبون، وأمَّا العاَلمُ فَيَفَرح. ستَحزَنون ولكِنَّ حُزنكم سيَنقَلِبُ فَرَحاً" (يوحنا 15: 20). فالبكاء والضحك تميزان البؤساء والسعداء في هذا العالم. ولكن الإنجيل يُبيّن انه لا يكفي الإنسان أن يكون بائسا أو سعيداً لينال السعادة أو البؤس، بل لا بدَّ له أنْ يتفهّم ويتقبّل وضعه في ضوء الخلاص. ويركز إنجيل متى على علة فرحهم، وهي مغفرة خطاياهم ورضى الله عنهم الآن والى الأبد. أمَّا عبارة "الآن" فتشير إلى تردَّد مرة أخرى كلمة ألان. وكل ما في الوقت الحاضر من قيود ومتطلبات تُشكل الحقائق التي ينبثق منها الرجاء السعيد للمؤمن. يستمد الحاضر معناه من المستقبل. 22 طوبى لَكمُ إِذا أَبغَضَكُمُ النَّاس ورَذَلوكم وشتَموا اسمَكُم ونَبذوه على أَنَّه عار مِن أَجلِ ابنِ الإِنسان تشير عبارة " أَبغَضَكُمُ النَّاس ورَذَلوكم وشتَموا اسمَكُم ونَبذوه " إلى أربع إهانات موجَّهة إلى المسيحيين، ويمكن أن نلخصها بالشتم بالمقابلة مع الويل بالمديح "الوَيلُ لَكُم إِذا مَدَحَكم جَميعُ النَّاس" (لوقا 6: 25). فهناك التركيز على الشتم والمديح. ويُعلق القديس كيرلس الكبير " علَّم يسوع تلاميذه أن اضطهادهم في المستقبل ليس بالشيء الجديد؛ طالما اُضطهد الأنبياء والرسل من قبل". أمَّا عبارة "رَذَلوكم" في الأصل اليوناني ἀφορίσωσιν (معناها افرز) إلى طرد اتباع يسوع من المجمع، وحرمانهم الحقوق التي للشعب اليهودي. فلا يحق للمحكوم عليه دخوله لمدة تتراوح بين 30-90 يومًا. أمَا عبارة " وشتَموا اسمَكُم" في الأصل اليوناني ὀνειδίσωσιν (عيّر) فتشير إلى الحكم المدني على اتباع يسوع. أمَّا عبارة "نَبذوه" ἐκβάλωσιν في اليونانية (معناها شهَّروكم) فتشير إلى حكم أدبي يُحرم فيه الإنسان من حقوقه الدينية والمدنية والشخصية. ويُطبق لوقا الإنجيلي ذلك على المسيحيين " سيُسلِمُكُمُ الوالِدونَ والإِخوَةُ والأَقارِبُ والأصَدقاءُ أَنفُسهم، ويُميتونَ أُناساً مِنكم" (لوقا 21: 16). يصبح الاضطهاد في نظر لوقا الإنجيلي من نصيب المسيحي في حياته الحاضرة. لكن السعادة تجد ينبوعها في حضور يسوع مع تحمل البغض والتشهير والاضطهاد من أجل اسمه. أمَّا عبارة "عار" فتشير إلى بكل ما قد يُقلل من كرامة الإنسان ورفع مما يُثير سخرية الناس منه.لكن العار يصبح شرفا عظيما إلى الوضع المسيحي الجديد (أعمال الرسل 5: 41)، لم يعد رأي الناس مقياسا مقبولا لدى من يُحكم عليه لكونه مسيحي، لان ما يهمُّ لوقا الإنجيلي هو ما يقرِّب المؤمن من ربّه، ابتداء من المذلة التي تشركنا بما عاناه يسوع من عار في آلامه. أمَّا عبارة " مِن أَجلِ ابنِ الإِنسان " فتشير إلى البغض والتعيير والطرد بسبب كونهم تلاميذ المسيح كما يؤكد إنجيل متى " طوبى لكم، إِذا شَتَموكم واضْطَهدوكم وافْتَرَوْا علَيكم كُلَّ كَذِبٍ مِن أَجلي" (متى 5: 11). 23 افرَحوا في ذلك اليَومِ واهتُّزوا طَرَباً، فها إِنَّ أَجرَكُم في السَّماءِ عظيم، فهكذا فَعَلَ آباؤهُم بِالأَنبِياء. تشير عبارة " في ذلك اليَومِ " إلى ذلك أي يوم اضطهاد الناس إياكم لأجلي (متى 5: 12)؛ أمَّا عبارة " افرَحوا في ذلك اليَومِ واهتُّزوا طَرَباً" إلى ذلك اليوم الذي يبدأ الآن، فيه يدعو يسوع إلى الفرح حتى في غمرة الفقر والعراقيل اليومية والمعاناة. أما عبارة " واهتُّزوا طَرَباً" في الأصل اليوناني σκιρτήσατε (معناها تهللوا) فتشير إلى الابتهاج والفرح (متى 5: 12)، وهذا الأمر تمّ في الواقع مع الرسل بعد القيامة إذ ودَعَ اليهود الرُّسُلَ فضَرَبوهم بِالعِصِيّ ونَهَوهُم عنِ الكَلامِ على اسمِ يسوع، ثُمَّ أَخلَوا سَبيلَهم. أَمَّا هَم فانصَرَفوا مِنَ المَجلِسِ فَرِحين بِأَنَّهم وُجِدوا أَهلاً لأَن يُهانوا مِن أَجْلِ الاسْم. (أعمال الرسل 5: 40-41). أمَّا عبارة "إِنَّ أَجرَكُم في السَّماءِ عظيم" فتشير إلى رؤية يسوع هؤلاء المنبوذين من اتباعه هم الذين ينالون على أعظم المكافآت. أمَّا عبارة " فَعَلَ آباؤهُم بِالأَنبِياء " فتشير إلى ذكّر يسوع الكثير إلى استشهاد الأنبياء (لوقا 11: 47-51 و13: 33 و34) علما أن كثيرا ما شدَّد اليهود على الاضطهادات التي عاناها الأنبياء وعلى استشهادهم في أثر اضطهاد انطيوخس الرابع في سنة 167 ق. م. (2 ملوك 6-7). بعد التذكير بالمضطهدين في الماضي وهم الأنبياء، يسوع يتنبأ بان التلاميذ هم أيضا يُضَّطهدون وبالتالي يواصلون هم عمل الأنبياء. 24 لكِنِ الوَيلُ لَكُم أَيُّها الأَغنِياء فقَد نِلتُم عَزاءَكُم. تشير عبارة " لكِنِ" في الأصل اليونانيΠλὴν (معناها الاستدراك) إلى إثبات لما بعدها حُكمًا مخالفًا لحكم ما قبلها، ولذلك لا بدَّ أَن يتقدَّمها كلامٌ مناقضٌ لما بعدها. يرغب لوقا الإنجيلي إعلان ما يلي هذا الظرف (لكن) بالعكس عما سبقه قبلاً. أمَّا عبارة ة "الوَيلُ" في الأصل اليوناني οὐαὶ (معناها عكس معنى طوبي) فتشير إلى الشقاء في الدنيا والآخرة. وهي كلمة للدُّعاء بالهلاك والعذاب على من وقع في هَلكة يستحقُّها. وهي هنا لا تدل على لعنة أو حكم لا رجوع عنه، بل إلى تهديد وتحذير ورثاء بمعنى "ما أتعسكم!". إنها تحذير إلى الأغنياء الذين لا يسيرون بحسب قلب الله لكنهم يعتقدون انهم وصلوا السعادة. وبالتالي فهي دعوة قوية إلى التوبة كما جاء في تهديد يسوع إلى مدن بحيرة طبرية" الوَيلُ لكِ يا كُورَزِين! الوَيلُ لكِ يا بَيتَ صَيدا! فلَو جَرى في صورَ وصَيدا ما جَرى فيكُما مِنَ المُعجِزات، لَأَظهَرتا التَّوبَةَ مِن زَمَنٍ بَعيد، فلَبِستا المُسوحَ وقَعَدتا على الرَّماد" (لوقا 10: 13). لم يذكر متى الإنجيلي الويلات. والأرجح أن تلك الويلات وُجِّهت إلى الفريسيين الذين كانوا هناك. أمَّا عبارة "الأَغنِياء " فتشير إلى رؤية يسوع لهم كأشخاص يبحثون عن المتعة والشبع معتمدين على الحاضر ومكتفين بنصيبهم الدنيوي ومُتكلين على غناهم كأنه الخير الأعظم، وهمّهم التمتع في اللحظة الحاضرة وتكديس خيراتهم وتوسيع ممتلكاتهم، وليس لهم كنز في السماء (مرقس 10: 24) وقد أعمت الثروة عيونهم عن معاينة الله وإخوتهم وقلوبهم بلا رحمة. فالشبع في الغنى لا يُكسب الإنسان إلاّ المال، والمال لا يدوم وفي هذا الصدد قال الكتاب المقدس " يا غَبِيّ، في هذِهِ اللَّيلَةِ تُستَرَدُّ نَفْسُكَ مِنكَ، فلِمَن يكونُ ما أَعدَدتَه؟"(لوقا 12: 20). أمَّا عبارة " فقَد نِلتُم عَزاءَكُم" في الأصل اليوناني ἀπέχετε (معناها استوفى حقه وهو فعل مقتبس من لغة إدارة الأعمال) فتشير إلى عزاء من مال الأرض وهو عزاء قصير ناقص، وفقا لقول إبراهيم للغني المُعَذَّبٌ في اللَّهيب" يا بُنَيَّ، تَذَكَّرْ أَنَّكَ نِلتَ خَيراتِكَ في حَياتِكَ ونالَ لَعاَزرُ البَلايا. أمَّا اليَومَ فهو ههُنا يُعزَّى وأَنت تُعَذَّب"" (لوقا 16: 25). 25 الوَيلُ لَكم أَيُّها الشِّباعُ الآن فسَوفَ تَجوعون. الوَيلُ لَكُم أَيُّها الضَّاحِكونَ الآن فسَوفَ تَحزَنونَ وتَبكون. تشير عبارة " الشِّباعُ " إلى الذين اِمتلأوا من مسرات العالم، ومكتفين بما لهم من هذه الحياة الدنيا وهو غير جائعين إلى البِرِّ، ويشعرون أنهم ليسوا في عوز إلى الله، فلا يطلبون عمله فيهم. أمَّا عبارة " فسَوفَ تَجوعون" فتشير إلى الشعور أنّ لذّات هذه الدنيا لا تُشبِع النفس الخالدة. وكثيرا ما يعتري النفس هذا الجوع عند الموت وخاصة في الأبدية حين تكون النفس مفتقرة إلى كل عزاء. وفي هذا الصدد يقول الكتاب المقدس "ماذا يَنفَعُ الإِنسانَ لو رَبِحَ العالَمَ كُلَّه وخَسِرَ نَفْسَه؟ " (مرقس 8: 36). أمَّا عبارة "لضَّاحِكونَ" فتشير إلى الذين يسلكون في الحياة باستهتار، لا يُبالون بخلاص نفوسهم وميراثهم الأبدي، بل يُلهيهم العالم بإغراءاته، فلا يشعرون بالحزن على الخطيئة ولا خوف في العقاب. ويصف القديس يوحنا الشباع بقوله " فِلأَنَّك تَقول: أَنا غَنِيٌّ وقدِ اغتَنَيتُ فما أَحْتاجُ إلى شَيء، ولأَنَّكَ لا تَعلَمُ أَنَّكَ شَقِيٌّ بائِسٌ فَقيرٌ أَعْمى عُرْيان"(رؤية 3: 18). أمَّا عبارة "فسَوفَ تَحزَنونَ وتَبكون" فتشير إلى ساعة العقاب التي ترون فيها أنَّ لذَّات العالم لا تستطيع تعزيتكم، وفي ساعة تضطرون فيها أن تتركوا كل تلك اللذات وتقفوا أمام الديان العادل كما يقول صاحب سفر الأمثال " في الضحك نَفْسِه يَكتَئِبُ القَلْب وعاقِبَةُ الفَرَحَ غَم" (الأمثال 14: 13). 26 الوَيلُ لَكُم إِذا مَدَحَكم جَميعُ النَّاس فَهكذا فَعَلَ آباؤُهم بِالأَنبِياءِ الكَذَّابين. عبارة "الوَيلُ لَكُم إِذا مَدَحَكم جَميعُ النَّاس" في الأصل اليوناني ὑμᾶς καλῶς εἴπωσι ( معناها قال فيكم حسنا ) تشير إلى خطاب يسوع للتلاميذ لا لأهل العالم الذين كانوا يخاطبهم. يُحذِّر يسوع تلاميذه من السعي وراء المجد الباطل وكسب مديح الجماهير أكثر من كسب رضا الله عنه، لأنهم إذا فعلوا ذلك يَستعبدون أنفسهم للناس لا لله، ويطلبون إرضاء الغير على حساب الحق، ويفرحون بكلمة المديح الزمني عِوض المجد الأبدي. ويُفسِّر يوحنا الإنجيلي هذه القول " لو كُنتُم مِنَ العالَم لأَحَبَّ العالَمُ ما كانَ لَه. ولكِن، لأَنَّكم لَستُم مِنَ العالَم إِذ إِنِّي اختَرتُكم مِن بَينِ العالَم فلِذلِكَ يُبغِضُكُمُ العالَم" (يوحنا 15: 19). ويؤكد يعقوب الرسول ذلك التفسير بقوله "أَلا تَعلَمونَ أَنَّ صداقَةَ العالَمِ عَداوةُ الله؟ فمَن أَرادَ أَن يَكونَ صَديقَ العالَم أَقامَ نَفْسَه عَدُوَّ الله"(يعقوب 4: 4). أمَّا عبارة "ِالأَنبِياءِ الكَذَّابين" فتشير إلى الأنبياء الكذبة في أيام العهد القديم مثل أنبياء البعل وأنبياء إسرائيل الذين ذكرهم أشعيا (30: 10) وأرميا (5: 31) حيث كانت الجموع والملوك تمدحهم بسبب تكهناتهم عن الازدهار والانتصار في الحروب، وهي تكهنات محبوبة لكنها غير صادقة وغير حقيقية. فالأنبياء الكذبة هم أنبياء فيهم أرواح شريرة يتنبؤون باسم الله برؤيا كاذبة وبالعرافة والباطل ومكر قلوبهم (ارميا 14: 41)، وأحيانا يحاربون الأنبياء الحقيقيين مثل النبي الكاذب، صدقيا بن كنعه الذي قاوم ميخا النبي (1ملوك 22: 24) ومثل النبي الكاذب حننيا بن عزور الذي قاوم النبي ارميا (ارميا 28: 1-17). أمَّا عبارة "هكذا فَعَلَ آباؤُهم بِالأَنبِياءِ الكَذَّابين" فتشير إلى أصحاب الويل بالمديح الذي سبق اليهود أن وجَّهوه إلى الأنبياء الكذبة. والجدير بالذكر أن الويل الأخير لا يذكر أي عقاب، ولا أي انقلاب في المستقبل لأوضاع المَمدوحين، وبذلك ينتفي كل طابع انتقامي. إن الذين يقدِّروهم العالم حق قدرهم ويمدحهم، يجرّدهم يسوع من سعادتهم المزعومة. ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (لوقا 6: 17، 20-26) بعد دراسة وقائع النص الإنجيلي نستنتج انه يتمحور حول التطويبات والويلات التي استهلها السيد المسيح في عظته الكبرى في السهل. ومن هنا نتساءل ما هو مفهوم التطويبات والويلات في ضوء إنجيل لوقا؟ السؤال الأول: ما هو مفهوم التطويبات في إنجيل لوقا؟ تستهل عظة يسوع الكبرى في إنجيل لوقا بالتطويبات. ويُروي لوقا البشير أربع تطويبات من تسع ورد ذكرها في متى (5: 1-12)، لانَّ لوقا يكتب إلى الأمم ويتناول ظروف ذاك الزمن التي تدعو إلى العمل، أمَّا متى الإنجيلي فيكتب إلى اليهود ويتناول مواقف يقوم عليها بِرُّ الملكوت عكس تعليم الكتبة والفريسيين. وهكذا يُشدد متى الإنجيلي على دور التطويبات الإرشادي، وأمَّا لوقا فيُشدِّد على طابعها الاجتماعي. ا) معنى طوبى نتساءل عن كلمة معنى كلمة "طوبى" كي ننتقل إلى مفهوم التطويبات في مفهوم لوقا الإنجيلي. طوبى في العربية معناها غبطة وسعادة، وبركة وخيرٌ دائم وهي من الطِّيب. أمَّا في الكتاب المقدس فكلمة "طوبى" في الأصل اليوناني μακάριος مأخوذة من أصل عبري אַשְׁרֵי، ومعناها هنيئا، أو بركه أو سعادة (أشعيا 56: 2) خاصة السعادة في "قيامة الأبرار". ويتكرر كثيراً بالعهدين "طوبى لك" أو "طُوبى لكم". يفتتح هذا الـمُصطلح بعض أسفار العهد القديم على سبيل المثال، في سفر المزامير: «طوبى لِمَن لا يَسيرُ على مَشورَةِ الشِّرِّيرين ولا يَتَوَقَّفُ في طَريقِ الخاطِئين ولا يَجلِسُ في مَجلِسِ السَّاخِرين» (1: 1). نكتشف من خلال هذه الألفاظ أن نعمة الله لا تُضاف إلى حياة الإنسان، بل تتجلى فيها. فالطوبى إذاً تُعبِّر عن الفرح الباطني، وبالتالي فهي ديناميكية. وهذا يعني إنه ينبغي على الإنسان السعي لنوال الفرح العميق من خلال البحث عنه والسير وراءه. لذلك فهي تتطلب مسيرة يومية للتمكن من التمتع بالسعادة دون فقدان الرغبة في التقدم دائمًا في طريق الله. يستخدم يسوع أسلوبا مألوفا في الكتاب المقدس، يُستعمل لتهنئة أحدٍ نال هبة (لوقا 10: 23) أو لتبشير فئة من الناس بالسعادة (لوقا 11: 28) أو للكشف عن هوية الذين هم في أفضل حال لنيل ملكوت الله (لوقا 6: 20-22)، ولكن معظم التطويبات هي مواعد للذين يتقبّلون رسالته (لوقا 12: 37 و38 و43 و14: 14). وبعبارة أخرى، كلمة "طوبى" هي تهنئة من اجل حالة من السعادة أو الفرح وعِلّة هذه السعادة. فتصف الإنسان السعيد حقاً وتعلن عن الطريقة التي يمكن أن يكون تلميذاً حقيقياً للسيد المسيح وحاملا للإنجيل. ومن هنا جاء لقب "طوباوي" الذي يطلقُ على كل من عاش سيرة صالحة على خطى السيد المسيح. ومن هذا المنطلق، التطويبات هي وجهة نظر يسوع لرؤية الآخرين، حياتهم وتاريخهم، وظروفهم ومواقفهم. وبالتالي يوجّه نداءات لهم وإلى من يريد أن يتبعه (لوقا 11: 27-28)، بهدف تشجيعه وبث الرجاء فيه على مثال سيدتنا مريم العذراء "طوبى لِمَن آمَنَت: فسَيَتِمُّ ما بَلَغها مِن عِندِ الرَّبّ" (لوقا 1: 45) وبطرس الرسول "طوبى لَكَ يا سِمعانَ بْنَ يونا، فلَيسَ اللَّحمُ والدَّمُ كشَفا لكَ هذا، بل أَبي الَّذي في السَّمَوات (متى16: 17). ولا تكتسب التطويبات معناها الحقيقي ما لم ترتبط بيسوع وبإنجيله. ويُعلق البابا بندكتس السادس عشر "الإنجيل وعد بالسعادة لجميع البشر الذين يبغون أن يسيروا في سبل الله، وقد حددها المسيح في التطويبات بشكل خاص" (لتعليم المسيحي للشبيبة الكاثوليكية ،2012، 164). وقد جمع لوقا نوعين من التطويبات: النوع الأول يتناول الأوضاع الاجتماعية كالفقراء والجياع والحزانى، والنوع الثاني متعلق بالاضطهاد. ب) النوع الأول من التطويبات: الفقراء والجياع والحزانى. يشمل النوع الأول من التطويبات الفقراء والجياع والحزانى.يُبيِّن يسوع ما هي الفضائل اللازمة لدخول الملكوت، بل يَظهر بمظهر المسيح المرسل إلى الفقراء والجياع والحزانى، إلى هؤلاء الذين يُفضَّلهم الله (متى 5: 11)، وهم غير المستفيدين في هذه الدنيا والمتوكلين على الله وحده فيعلن لهم محبة الآب الرحيم. وقد دلّ يسوع على نفسه أنه المسيح الذي يُدشِّن أزمنة الخلاص التي وُعد بها الفقراء تتميماً لنبوءة أشعيا " العُمْيانُ يُبصِرونَ، العُرْجُ يَمشُونَ مَشيْاً سَوِيّاً، البُرصُ يَبَرأُونَ والصُّمُّ يَسمَعون، المَوتى يَقومونَ، الفُقَراءُ يُبَشَّرون. وطوبى لِمنَ لا أَكونُ لَه حَجَرَ عَثرَة " (لوقا 7: 22-23). طوبى الفقراء كان المسيح قد استشهد في عظته الشهيرة المختصرة في الناصرة بالنبوءة القائلة فيه: "الرب مَسَحَنِي لِأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ" (لوقا 4:18)؛ ويعلق الطوباويّ شارل دو فوكو " أظهرت يا يسوع للفقراء منذ ولادتك، أنّهم المفضّلون، والمميّزون، والمدعوّون الأوائل، والمدعوّون دائمًا حولك، أنت الّذي أردت أن تكون واحدًا منهم، وأن تكون محاطًا بهم منذ مَهدِك وطوال حياتك" (تأمّلات في الإنجيل حول الفضائل الخمسة عشر). وكون يسوع مُرسل للفقراء طوَّبهم بقوله: "طوبى لَكُم أَيُّها الفُقَراء" (لوقا 6: 20)، وبهذه التهنئة يتعارض موقف يسوع كل المعارضة مع ما يقدّمه العالم من السعي إلى المال والغنى. ويُشدّد يسوع في إنجيل لوقا على الفقر الروحي بقدر ما يُشدِّد على الفقر المادي، إذ يركًز على الفقراء الحقيقيين أي الطبقة الاجتماعية المسحوقة ماديا. تدخل هذه النظرة إلى طبقة الفقراء في الخط الشامل لإنجيل لوقا. وقد أعارهم يسوع اهتماما خاصا (لوقا 19: 8)، وكثيرا ما عبّر عن معزّته للفقراء، فنصح صاحب المأدبة أن يدعوهم " إِذا أَقَمتَ مَأَدُبَة فادعُ الفُقَراءَ والكُسْحانَ والعُرْجانَ والعُمْيان" (لوقا 14: 13)؛ وكشف للغني مصير لعازر الفقير "تَذَكَّرْ أَنَّكَ نِلتَ خَيراتِكَ في حَياتِكَ ونالَ لَعاَزرُ البَلايا. أَمَّا اليَومَ فهو ههُنا يُعزَّى وأَنت تُعَذَّب"(لوقا 16: 25). وحثَّ إلى التبرع إلى الفقراء " اِذْهَبْ فَبعْ ما تَملِك وأَعطِهِ لِلفُقَراء، فَيَكونَ لَكَ كَنزٌ في السَّماء" (مرقس 10: 21)، وأثنى على الأرملة الفقيرة (متى 12: 43)، ووجَّه رسالته إلى الفقراء أولا "رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لِأَنَّهُ مَسَحَني لِأُبَشِّرَ الفُقَراء "(4: 18) فكان تبشير الفقراء أهم ما في رسالة يسوع التي تحقّق نبوءة أشعيا (61: 1). وفي الواقع أتى المهتدون الأوائل إلى المسيح من الفقراء، والطبقة الاجتماعية المحرومة. ويُعلق مار أفرام السرياني "طوبى للذي تحرّر بالكامل في الرب من كل أمور هذه الحياة الأرضية الباطلة، وأحبّ الله الصالح الشفوق وحده" التطويبات الخمسة وخمسين). حين يتكلم يسوع عن الفقراء يشمل الصغار أيضا " أَحمَدُكَ يا أَبَتِ، رَبَّ السَّماءِ والأَرض، على أَنَّكَ أَخفَيتَ هذِه الأَشياءَ على الحُكَماءِ والأَذكِياء، وَكَشَفْتَها لِلصِّغار"(لوقا 10: 21)، كما يشمل أيضا الوضعاء "فمَن رفَعَ نَفْسَه وُضِع، ومَن وَضَعَ نَفْسَه رُفِع "(لوقا 14: 11)، علما أنَّ يسوع وُلد هو نفسه بينهم. وهذه الأفضلية التي يَخصُّ بها الفقراء والصغار هي الدليل على وجود الله المطلق، إذ هي دعوة إلى انتظار كل شيء من نعمته. وعندما يخاطب يسوع تلاميذه "طوبى لَكُم أَيُّها الفُقَراء" (لوقا 6: 20) فانه يعني أنَّ فقرهم الفعلي بركة، لأنه يُعينهم على الاحتفاظ باتكالهم على الله، وهكذا يؤهلهم لملكوته. فأصحاب التطويبة كلهم فقراء بمال الأرض، أغنياء بمال الله، وكلهم تجردوا من متاع الدنيا ليربحوا المسيح وملكوته. يصبح هؤلاء الفقراء مثالاً يجب أن يُقتدي به كل الذين يريدون أن ينعموا برضى الله وخلاصه. "فالمتكبر يسعى إلى السلطة البشرية، يقول أوغسطينوس، بينما الفقير يسعى إلى ملكوت السماوات". طوبى للجياع عندما يتكلم يسوع عن الجياع والباكين والمخذولين يحاول تسليط الضوء على الظروف الواقعية والتاريخية التي يعيشها البشر كل يوم. وما كلمة "الآن" إَّ أنَّ تقوّي هذا الانطباع وتعزِّزه. فكلمة "طوبى لَكُم أَيُّها الجائعونَ الآن فَسَوفَ تُشبَعون" (لوقا 6: 21). يُشدد لوقا الإنجيلي هنا على الجياع جسديا، وهو ما يتفق مع أسفار العهد القديم التي تتحدث عن اهتمام الله بالفقراء. ولقد فاجأ يسوع مستمعيه بنطق البركة والطوبى للجياع في حين ينظر اليهود إلى الثروات كعلامة على نعمة الله وفضله ورضاه. لكن موقف يسوع تجاه الجياع يتفق مع تقليد قديم كما جاء في سفر المزامير "مُجْري الحُكْمِ لِلمظْلومين رازِقِ الجِياعِ خُبزًا " (مزمور 146: 7) وكما جاء أيضا في أقوال أشعيا النبي "لِذلك هكذا قالَ السَّيِّدُ الرَّبّ: ها إِنَّ عَبيدي يأكُلون وأَنتُم تَجوعون ها إِنَّ عَبيدي بَشرَبونَ وأَنتم تَعطشون" (أشعيا 65: 13) ويتفق أيضا مع صلاة سيدتنا مريم العذراء أم يسوع "أَشَبعَ الجِياعَ مِنَ الخَيرات" (لوقا 1: 53). هذه التطويبة تتضارب مع قيم العالم في السعي وراء الحاجات الشخصية مثل الأكل والشرب والملبس في حين الله يكافئ الجياع بالاكتفاء الذاتي. الجياع هم الذين يجعون إلى البر السماوي لأجل نفوسهم ولأجل من حولهم. وقد قال نبي الله أشعيا: "هَكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: "هُوَذَا عَبِيدِي يَأْكُلُونَ وَأَنْتُمْ تَجُوعُونَ. هُوَذَا عَبِيدِي يَشْرَبُونَ وَأَنْتُمْ تَعْطَشُونَ" (أشعيا 65:13)، حيث أنَّ السعادة عند الله تعني الفرح والرجاء وعدم الاتكال على الظروف الخارجية. فجاء في كتابات يوحنا الصليبي ما يؤكّد ذلك "لي السماوات، والأرض لي، والكون كله لي، لأني بالله أمتلك كل شيء". طوبى للحزانى يقول يسوع: "أما الباكونَ الآن فسَوفَ تَضحَكون" فتشير هذه التطويبة إلى الإنباء بالفرح الذي يعقب البكاء كما ورد في نبوءة أشعيا "َيمسَحُ السَّيِّدُ الرَّبُّ الدُّموعَ عن جَميعِ الوُجوه ويَرفَعُ عارَ شَعبه عن كُلِّ الأَرض لِأَنَّ الرَّبَّ قد تَكَلَّم" (أشعيا 25: 8). وهنا يُظهر الإنجيل انه لا يكفي الإنسان أن يكون باكيا أو بائسا في الواقع لينال السعادة، بل لا بد له أن يتفهّم ويتقبّل وضعه في ضوء الخلاص. ويعلق القديس الشماس أفرام السرياني" طوبى للذي يحب البكاء بفهم، ويُهرق الدموع على الأرض بتخشع، مثل درر كريمة أمام الرب ”. (التطويبات الخمسة وخمسين). فالتعزية الإلهية هي للذين قد عُفي عن إثمهم، وقد قبلوا من يد الرب ضُعْفين عن كل خطاياهم كما تنبأ أشعيا: " هُوَذا السَّيِّدُ الرَّبُّ يَأتي بِقُوَّة وذِراعُه تُمِدُّه بِالسُّلْطان هُوَذا جَزاؤُه معَه وأُجرَتُه قُدَّامَه " (أشعيا 40: 2). يتضارب البكاء مع الضحك، لكن المكافأة هي العزاء كما جاء في تعليم بولس الرسول " الله هو الَّذي يُعَزِّينا في جَميعِ شَدائِدِنا" (2 قورنتس 1: 4)، وهذه الشدائد هي متاعب الحياة، والفقر والتعرض للموت بما فيه من مضايق ومِحن. والبكاء مطلوب خاصة للخاطئين ليصلوا إلى هدفهم بالاقتراب من الرب "أَيُّها الخاطِئُونَ، أُندُبوا شَقاءَكم واحزَنوا وابكوا. لِيَنقَلِبْ ضَحِكُكم حُزْنًا وفَرَحُكم غَمًّا" (يعقوب 4: 9). ويُعلق الكاتب الفرنسي الشهير برنانوس "هناك حزن واحد لا غير ينبغي التوقف عنده، حزن عدم التوصل إلى القداسة". نستنتج مما سبق أن هدف يسوع بالتطويبات، من ناحية، أن يرى المؤمن فقره الحقيقي وبؤسه وجوعه، ومن ناحية أخرى أن ينظر المؤمن إلى جميع الذين يحيطون به من فقراء وجياع وحزانى ومرذولين. لذا نجد أن الفكرة العامة التي تنطوي عليها تطويبات في إنجيل لوقا هي الوعد بالخلاص لمن هم "الآن" فقراء وجائعون وباكون والمضطهدون... فملكوت الله يبدو انقلابا للمواقف الحاضرة. ويحدث مبدأ انقلاب الأوضاع بعد الموت ووضَّح يسوع هذه المواقف في مثل الغني ولعازر الفقير التي يصف تغيير الموقف الذي يؤدي إليه الانتقال من هذه الدنيا إلى الآخرة (لوقا 16: 19-26) كما جاء في تصريح أبينا إبراهيم إلى الرجل الغني: "يا بُنَيَّ، تَذَكَّرْ أَنَّكَ نِلتَ خَيراتِكَ في حَياتِكَ ونالَ لَعاَزرُ البَلايا. أَمَّا اليَومَ فهو ههُنا يُعزَّى وأَنت تُعَذَّب" (لوقا 19: 25). ج) النوع الثاني من التطويبات: المضطهدون: يشمل النوع الثاني من التطويبات في الاضطهاد "طوبى لَكمُ إِذا أَبغَضَكُمُ النَّاس ورَذَلوكم وشتَموا اسمَكُم ونَبذوه على أَنَّه عار مِن أَجلِ ابنِ الإِنسان" (لوقا 6: 22). يقدِّم يسوع التطويبات في صيغة المخاطب، إذ يكلّم الذين اختارهم ليكونوا رسلاً. وكأنه يقول لهم: لقد تولدتْ فيكم مبدئياً الصفات التي بنَيْتُ عليها التطويبات، وذلك يجعلكم ممقوتين من قومكم الذين تربَّيتم بينهم. فأقول لكم طوباكم أنتم متى عاملوكم على الكيفية التي شرحتُها الآن. فمتى طردوكم وأهانوكم وعيّروكم من أجل البر، ومن أجل ابن الإنسان، لا تحزنوا، بل افرحوا وتهللوا. لأن أجركم في السماء لقاء ذلك يكون عظيماً، ثم لأنكم بذلك تماثلون الأنبياء الأقدمين، فتشتركون في شرفهم الدائم. يشير يسوع هنا إلى تلاميذه وإلى كل من يرغب إتباع يسوع. فمن أراد أن يتبع يسوع، لا بدَّ له أن يواجه معارضة واضطهاد. والاضطهاد في نظر لوقا هي المضايق، والمضايق هي محن الحياة اليومية. والواقع إن المؤمن الحقيقي يُوصف باستمرار في العهد الجديد كشخص مُعرضٍ للاضطهاد. فأتباع يسوع هم مضطهدون من أجل المسيح، لأنهم فقراء، وحزانى، وودعاء وجياع، وعطاش، وأنقياء القلوب، ومسالمون، لا يعتبرهم العالم، بل يحتقرهم ويتجنبهم ويُخرجهم من دوائره. وفي هذا الصدد يقول يسوع "أُذكُروا الكَلامَ الَّذي قُلتُه لَكم: ما كانَ الخادِمُ أَعظمَ مِن سَيِّده. إِذا اضطَهَدوني فسَيَضطَهِدونَكم أَيضاً"(يوحنا 15: 20). ويطلب يسوع منَّا أن نفرح عندما نُضطهد، فالاضطهاد قد يكون خيرا لنا: لأنه يقوِّي إيمان من يحتملون، ويُعزينا أن نعرف أن أعظم أنبياء الله (مثل إيليا، وارميا، ودانيال) قد اضطهدوا في الماضي. اضطهادنا في الوقت الحاضر يعني إننا أثبتنا أننا أمناء، وفي المستقبل سيكافئ الله الأمناء بإدخالهم إلى الملكوت السماوي حيث لا اضطهاد بعد. وخير مثال على ذلك ما نجده في الجماعات المسيحية الأولى التي أنشأها بولس الرسول فوجّه إليها هذه الكلمات: "يَجِبُ علَينا أَن نَجتازَ مَضايِقَ كَثيرة لِنَدخُلَ مَلَكَوتَ الله" (أعمال الرسل 14: 22)؛ فالاضطهادات والمضايقات أي المصاعب على أنواعها في نظر لوقا الإنجيلي هي نصيب كل تلميذ للمسيح في حياته الحاضرة التي يجب أن يجتازها للدخول في مجد المسيح كما فعل المسيح "ما مِن تِلميذٍ أَسمى مِن مُعَلِّمِه"(لوقا 6: 40) وذلك للسير على خطى يسوع الذي قال لتلميذي عمّواس بعد قيامته من بين الأموات "أَما كانَ يَجِبُ على المَسيحِ أَن يُعانِيَ تِلكَ الآلام فيَدخُلَ في مَجدِه؟" (لوقا 24: 26). من هذا المنطلق، فإن احتمال العار من اجل المسيح هو فخر للمسيح أمام الله ومدعاة للسرور كما ورد في سيرة الرسل " أَمَّا الرسل فانصَرَفوا مِنَ المَجلِسِ فَرِحين بِأَنَّهم وُجِدوا أَهلاً لأَن يُهانوا مِن أَجْلِ الاسْم" (أعمال الرسل 5: 41) لأنَّ ما يهمّ تلميذ المسيح هو كل ما يقرّبه من ربه، ابتداء من الاضطهاد الذي يشركه بما عاناه يسوع من إهانة في آلامه. وفي هذا الصدد يقول غاندي" كلما توطَّدت أواصر الصلة بيني وبين المسيحيين الحقيقيين، أي الذين يعيشون في سبيل الله، أدركت أن الموعظة التطويبات هي كل المسيحية لمن يريد أن يحيا حياة مسيحية". الصليب هو جزء من حياتنا اليومية، وغيابه قد يدعو إلى القلق، وهذا الصليب اليومي هو المحن الصغيرة أو الكبيرة التي تملأ حياتنا. فما دامت المحنة حاضرة في حياتنا، يمكننا القول إننا في طريق التطويبات. فيسوع لا يطلب من تلاميذه شهرة أو ثورة، بل بالحري حزنا وجوعا واضطهاد، وصليبا، ويعلق الأب متى المسكين "كل ما للمسيح صار لي، صليبه ومجده آلمه معا" ؛ ولكن الرب يؤكد لهم انهم سيكافئون. فرَجاؤُنا في المسيحِ ليس مَقصورًا على هذهِ الحَياة، والاّ " فنَحنُ أَحقُّ جَميعِ النَّاسِ بِأَن يُرْثى لَهم" (1 قورنتس 15: 19). لكن السؤال كيف لنا أن نقنع مساكين الأرض الذين يعيشون على هامش الحياة ويتقبلوا واقعهم؟ كيف لنا أن نقول للجياع إلى الخبز هنيئا لكم جوعكم؟ كيف لنا أن نقول لمن يبكي دما على حالته، أو على أبنائه الذين صرعتهم يد الغدر أمامه؟ كيف لنا أن نطمئن المضطهدين والمنبوذ ين والمهجَّرين والمكروهين والمرفوضين؟ الصورة تتوضح عندما يتوجه الرب إلى أصحاب الويل. فالويل سيكون لمن بنى حياته وسعادته على الخبز والمال والبغض والكراهية والرفض والعنف واضطهاد الآخرين. السؤل الثاني: ما هو مفهوم الويلات؟ في إنجيل لوقا تلي التطويبات أربع ويلات تأييداً لعبرة التطويبات كما ورد في أسفار العهد القديم يقول سفر طوبيا "طوبى لِجَميعِ النَّاسِ الَّذينَ يَحزَنونَ علَيكِ لِجَميعِ عُقوباتِكِ! لِأَنَّهم سيَفرَحونَ بِكِ وُيشاهِدونَ فَرَحَكِ كُلُّه لِلأَبد!"(طوبيا 13: 14) وأما سفر أشعيا فيقول " قولوا في البارِّ إِنَّه سَعيد لِأَنَّه يأكُل مِن ثَمَرَةِ أَفْعالِه. وَيلٌ لِلشِّرِّيرِ المُسيء فإِنَّ جَزاءَ يَدَيه يُؤَدَّى إِلَيه" (أشعيا 3: 10-11). وهذه الويلات التي تقابل التطويبات تدلُّ على تحسُّر يسوع وحزنه على أولئك الذين رفضوا التجُّدد، وفضلوا مديح الناس على رضى الله، ولا سيما وقت الاضطهاد. "الوَيلُ" في الأصل اليوناني οὐαὶ تُعبّر عن كلمة للدُّعاء بالهلاك والعذاب على من وقع في هَلكة يستحقُّها بقصد التهديد والتحذير. لكهنا لا تدل على لعنة أو حكم لا رجوع عنه، بل إلى تهديد ورثاء بمعنى "ما أتعسكم!" وبالتالي فهي دعوة مُلحَّة إلى التوبة كما جاء في تهديد يسوع إلى مدن بحيرة طبرية" الوَيلُ لكِ يا كُورَزِين! الوَيلُ لكِ يا بَيتَ صَيدا! فلَو جَرى في صورَ وصَيدا ما جَرى فيكُما مِنَ المُعجِزات، لَأَظهَرتا التَّوبَةَ مِن زَمَنٍ بَعيد، فلَبِستا المُسوحَ وقَعَدتا على الرَّماد" (لوقا 10: 13). وبالتالي الويل تُعبّر عن حسرة المسيح وتوجّعه على الأغنياء والشباع والضاحكون وطالبي مديح الناس، فهي ليست تعبير القلب القاسي الشامت، لكنّها تعبير القلب الجريح الكسير لأجلهم. وبكلمة موجزة "الويل هي رثاء وتحذير أكثر من لعنة. الوَيلُ للأغنياء تعلن الويلات التي تناقض التطويبات ويل سعداء هذا العالم تأييد لعبرة التطويبات حيث تبرز ما تعد به التطويبات لا بل ما تتطلبه أيضا، وعليه قال يسوع " الوَيلُ لَكُم أَيُّها الأَغنِياء" حيث أن الغنى يعرض قلوبنا إلى أخطار ثلاث، وهي: يمنع الإنسان أن ينظر إلى أبعد من الحياة الحاضرة، وبالتالي يعجز عن الاهتمام بما يأتي بعدها، أي الحياة الأبدية؛ فالغني يتنعم بأمواله في الوقت الحاضر دون أن يتوقع انه قد يموت وفي هذا الصدد يقول يسوع " فهكذا يَكونُ مصيرُ مَن يَكنِزُ لِنَفْسِهِ ولا يَغتَني عِندَ الله " (لوقا 12: 21). والغنى أيضا يُطوي الإنسان على نفسه ويمنعه من التفكير في غيره من المحتاجين إلى ما هو ضروري؛ ولذلك ينصح يسوع الناس "بيعوا أَموالَكم وتَصَدَّقوا بِها واجعَلوا لَكُم أَكْياساً لا تَبْلى، وكَنزاً في السَّمواتِ لا يَنفَد، حَيثُ لا سارِقٌ يَدنو ولا سوسٌ يُفسِد " (لوقا 12: 33-34)، وأخيرا يحتل الغنى في حد ذاته مكان الله في قلب الإنسان فيصبح المال إلهًا معبوداً بدل أن يكون خادما أمينا كما صرّح يسوع المسيح "ما مِن خادِمٍ يَستَطيعُ أَن يَعمَلَ لِسَيِّدَيْن، لِأَنَّه إِمَّا أَن يُبغِضَ أَحَدَهُما ويُحِبَّ الآخَر، وإِمَّا أَن يَلَزمَ أَحَدَهما ويَزدَرِيَ الآخَر. فأَنتُم لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا لِله ولِلمال"(لوقا 16:13). فالمال في الأصل اليونانية μαμωνᾷ. مشتقة من العبرية הַמָּמוֹן (معناها ما هو أمين)، ما يمكن الاعتماد عليه، وما هو دائم. ولذلك يوصي صاحب الرسالة إلى العبرانيين بتجنب المال " تَنَزَّهوا عن حُبِّ المال واقنَعوا بما لَدَيكم" (عبرانيين 13: 5). وفي هذا الصدد يقول المغني الشهير روبرت نيستا مارلي (بوب مارلي) "المال أرقام والأرقام أبداً لا تنتهي، فإذا كنت تحتاج المال لتكون سعيداً فبحثك عن السعادة أبداً لن ينتهي". الأغنياء المفتنون بذواتهم، المتنعمون بمال أرضهم، الغافلون عن آخرتهم، الويل لهم. الوَيلُ للشِّباعُ والضَّاحِكين والممدوحين الويلات موجّهة ليس فقط إلى الأغنياء بل أيضا إلى الشباع والضاحكين والذين يمتدحهم الناس. وهي موجَّهة أيضا إلى من يضع ثقته وأمانه بنفسه وأمواله وإلى من يعتقد بأن سعادته تكمن في رَغَد الحياة وملذاتها وبتصفيق الناس له ومدحهم إياه. الأغنياء والشباع والضاحكون وطالبو مدح الناس يطلبون السعادة فلن يجدوها، وقد خدعتهم فيها الظواهر والأباطيل. فكانوا كمن يسعون وراء سراب بعيد. إن الذين يقدّرهم العالم حق قدرهم، يجرّدهم يسوع من سعادتهم المزعومة. وفي هذا الصدد يقول القديس غريغوريوس النيصي في عظاته عن التطويبات: "كل واحد يسعى إلى الخير والسعادة ولكن الفشل يكمن في عدم التمييز بين الخير والسعادة الحق، وبين ما نظنُّه أو يُخيّل لنا بأنه السعادة والخير". هذه الويلات تدلُّ على تحسّر يسوع وحزنه على أولئك الذين رفضوا التجدد، وفضّلوا العالم ومديح الناس على رضى الله، ولا سيما في وقت الاضطهاد. وينوح الرب على الأغنياء الذين يجدون تعزيتهم في كَثرة الأموال "الوَيلُ لَكُم أَيُّها الأَغنِياء فقَد نِلتُم عَزاءَكُم"(لوقا 6: 24) ويَشجب موقف الشباع والضاحكين وطالبين مديح الناس "الوَيلُ لَكم أَيُّها الشِّباعُ ...الوَيلُ لَكُم أَيُّها الضَّاحِكونَ" (لوقا 6: 20-23). ويوضِّح ارميا النبي سبب هذه الويلات بقوله "مَلْعونٌ الرَّجلُ الَّذي يَتَّكِلُ على البَشَر ويَجعَلُ مِنَ اللَّحمِ ذراعاً لَه وقَلبُه يَنصَرِفُ عنِ الرَّبّ" (ارميا 17: 5). يأتي يسوع بالسعادة، وهي في متناول الجميع. هذه السعادة ليست، كما يتوهَّم الناس، وقفا على أغنياء الدنيا، من ذوي المال والجاه والسلطان، إنما يجدها الناس في الفقر والجوع والألم والدموع. فقد قلب يسوع قيم الأشياء، فإذا بأسباب الشقاء تُصبح مع يسوع أسبابا للسعادة، وبابا للملكوت. إنها معجزة المسيحية، تجعل من الفقير غني الملكوت ومن الحزين فرحا، ومن الجائع شبعا، ومن المضطهد سعيدا. من هذا المنطلق، التطويبات هي في القلب كرازة يسوع، لأنها تقوم قبل كل شيء على إعلان الإنجيل، إعلان البشارة، ولأنَّها زمن تحقيق النبوءات ومواعيد الله، وهي تُعلِن من الآن ما سيحصل عليه التلاميذ من البركات والمكافأة. وبعبارة أخرى تكشف التطويبات عن هدف الوجود الإنساني، عن الغاية القُصوى للأعمال الإنسانية وهي أن الله يدعونا إلى سعادته الخاصة؛ وهذه التطويبات موجّهة بنوع خاص إلى الفقراء المساكين والحزانى والجياع والمضطهدين وكل الذين يتخذون موقف الفقراء أمام الله ويتوجّهون إليه كمخلّصهم الوحيد. وهي الدعوة موجّهة إلى كل واحد شخصياً. نستنتج مما سبق أن يسوع يوضّح الفرق في الصفات بين المنتمين إلى ملكوت لله، والعائشين للعالم الحاضر من ناحية، وناحية أخرى يوضِّح أيضا الفرق بين السعادة التي هي نصيب الفئة الأولى، والتعاسة التي تنتظر الفئة الثانية. هناك فرق بين طريق التطويبات وطريق العالم. فطريق التطويبات تدعو الإنسان أن يكون مستعداً للعطاء، في حين طريق العالم هي طريق الأخذ من الآخرين؛ طريق التطويبات تدعو إلى المحبة والمساعدة، في حين طريق العالم تدعو إلى البغض والكراهية والإساءة إلى الآخرين. وفي النهاية فطريق التطويبات تؤدي إلى الحصول على كل شيء، في حين طريق العالم تنتهي إلى لا شيء. وفي هذا الصدد قال المطران يوحنا بطرس موشي، رئيس أساقفة الموصل لدى اضطهاد أهل العرق في السنوات الأخيرة "أن شعبه المسيحي في العراق قد خسر كل شيء ما عدا الإيمان والأخلاق وربح الله". إن كان في العالم ذلك الشقاء الذي نشكوه، أليس العالم يسحق الإنسان سحقا باعتناقه مبادئ نقيض المبادئ الإنجيلية كالتطويبات؟ الخلاصة بعد صلاة يسوع على الجبل ودعوته للرسل نزل يسوع إلى السهل وألقى عظة التطويبات، عظة فريدة وافية شاملة أبدية، تُعتبر دستور الملكوت الروحي الجديد. وردت هذه الموعظة في إنجيل متى التي كتبه إلى اليهود، في حين لوقا كتب للأمم بل للعالم أجمع، لذلك اكتفى بالعنصر الجوهري العملي في الموعظة. وجّه السيد المسيح الخطاب إلى تلاميذه: الفقراء والجياع، والباكين، والمضَّطهدين. وهي فئات لحالات ماديّة، اجتماعيّة، تطوّرت إلى حالات روحيّة معنويّة، تتمشّى معها وتوافقها. فأعلن يسوع السعادة للفقراء، والشقاء للأغنياء الذين اعتبروا نفوسهم شبعوا (لوقا 6: 17-26). صفحة التطويبات هي أصعب ما نواجِه، لأنَّها تُشكل التحدي الأكبر للإنسان المعاصر، وحتى للإنسان المؤمن؛ وهذا التحدي يتطلب اهتداءً عميقاً ومستمراً. فالتطويبات هي دستور أخلاقي، ومعيار سلوك المؤمنين، ومقارنة بين قيم العالم الآخر والعالم الحالي، فضلاً عن كونها مقارنة بين الإيمان السطحي، والإيمان العامل. إذ تُبيّن التناقض الفاضح بين ما نعيشه وبين ما يعرضه علينا المسيح. فهو عرض بعكس التيار، إذ يتعارض مع عقلية إنسان اليوم وما تصوره وسائل الإعلام ومجتمع الاستهلاك، وتقديس الجسد والغِنى والعظمة والسلطة والقوة واللذة؛ لان العالم الذي نعيش فيه مبني على مبدأ الحياة للأقوى والأعنف والأغنى، وتتربع على ذروته المتع الأرضية والملذات، بينما يُبيّن يسوع في كلامه على الملكوت وكأنه يميل في اختياره إلى الفقراء والحزانى والمضطهدين وكل من ينبذهم العالم. التطويبات هي نداء يوجّهه يسوع إلى كل الذين يريدون أن يتبعوه ويكونوا تلاميذه. وأفضل مثال لكل صفة في التطويبات نجدها في يسوع نفسه. "فالمسيح يسوع لم يتفوه بالتطويبات وحسب، إنما هو نفسه عاش التطويبات، لا بل هو نفسه "التطويبات". وعندما نظر إلى يسوع ندرك حقاً معنى التطويبات وطريق يسوع المسيح التي هي السبيل الوحيد إلى السعادة الأبدية التي يصبو إليها قلب الإنسان، لأنها الطريق الأساسية لبلوغ ملء قامة المسيح ولبلوغ النضج والحرية في حياتنا الروحية ونصبح شعب التطويبات. لا يسعنا أخيراً ألاّ نختتم بكلمات البابا القديس يوحنا بولس الثاني في عظته على جبل التطويبات يوم 24 آذار 2000 بقوله "اَعتَبِروا، أَيُّها الإِخوَة، دَعوَتَكم" (1 قورنتس 1: 16)، ويبدو وكأن عيش التطويبات في عالم اليوم مغامرة تفوق طاقاتكم. ولكن المسيح لا يقف متفرجاً، ولا يدعكم تواجهون وحيدين هذا التحدي! هو دائماً معكم ليحوّل ضعفكم إلى قوة. آمنوا ولتكن لكم الثقة فيه، هو القائل: "حَسبُكَ نِعمَتي، فإِنَّ القُدرَةَ تَبلُغُ الكَمالَ في الضُّعف" (2 قورنتس 12: 9). دعاء أيها الآب السماوي، نسألك باسم ابنك يسوع المسيح، الذي طوّب الفقراء والجياع والحزانى والمضطهدين من اجل اسمه، امنحنا النعمة أن نرى نفوسنا كما ترها أنت فنسير على روح التطويبات وننال السعادة الأبدية التي وعدتنا بها. آمين. الأب لويس حزبون - فلسطين |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
التطويبات كما رواها متى الإنجيلي |
في إنجيل لوقا تلي التطويبات أربع ويلات |
ما هو مفهوم التطويبات في إنجيل لوقا؟ |
التطويبات قبل لوقا ومتّى |
التطويبات حسب القدّيس لوقا |