أبونا الراهب سارافيم البرموسي
هل لصلاتك قوة مغيِّرة؟؟
إن الكثيرين حينما يصلون، يرددون كلماتَ من أجل إراحة الضمير المُثقَّل بالخطيئة، والذي لا يهدأ حتى يُكمِّل الجسد فريضته الغائبة؛ الصلاة!! وهذا التعوُّد على الصلاة، الخارج من عباءة نخس الضمير له فائدة في البدايّات الروحيّة، حينما يحاول الإنسان تكوين عادة الصلاة بشكل يومي، لتسير بالتوازي مع متطلّبات الإنسان الأوليّة، من طعام وشراب وعمل وراحة. ويصبح غذاء الروح ضرورة يوميّة، نستشعر بغيابه حينما تتوقّف الصلاة، ونستشعر بتأثيره حينما نُتمّم الصلاة، هذا هو مفهوم التغصُّب الروحي أو مجاهدة النفس..
ولكن الصلاة أعمق من هذا بكثير..
إنها حوارٌ شخصيٌّ للغاية مع كائنٍ آخر، حاضرٌ في العالم، ومُحرِّك للعالم بشكل غير منظور، ولكنّه ملموس، ومُدرَك بالحدس الإنساني الفطري. وهذا الكائن الإلهي الذي نخاطبه، الله الثالوث، يتميّز بخاصيتيْن في منتهى الأهميّة وهما:
الإنصات والاستجابة
لذا فإن كل صلواتنا التي يصعدها الروح إلى السماء، هي صلوات مسموعة من الله، لا يطالها النسيان، لأن ذاكرة الله لا تمتلئ ولا تُجهَد ولا تَشيخ.
كما أن أية صلاة نُصْعِدها إلى السماء، بأشواق محبّتنا، وصرخات احتياجنا، واتضاع أرواحنا، يختم الله عليها بخاتم الاستجابة لا محالة ؛ أي أن أية صلاة نرفعها إلى العُلا تُولِّد ردّ فعل إلهي، إمّا بالموافقة أو الرفض أو التأجيل، ولكن دائمًا بالحب.
لذا فمن الضروري أن نتيقّن أن صلواتنا ليست بخاراً يرتفع قليلاً ثم يتلاشَى في العدم الكوني، دون أن تصل إلى مسامع الله. وهذا اليقين، الذي يجب أن نحرص عليه قبل أن نرفع أية صلاة، يُدعَى الإيمان. وبدون إيمان، لا يمكن إرضاء الله، كما يؤكِّد القديس بولس في غير موضعٍ، ولا يمكن فهم وإدراك الاستجابة التي تحملها إلينا أيدي ملائكة مُرْسَلين لخدمة خلاصنا.
وهذا الإيمان الذي يجب أن نتسربل به قبل الترائي أمام الله في الصلاة، هو الثقة أن صلاتنا، إن كانت صادقة، قادرة أن تُغيِّر الأمور. ولنا في ذلك مَثَلْ، وهو طلبة لوط من أجل قرية صوغر..
” فقال لهما (للملاكيْن) لوط: لا يا سيّد
هوذا عبدك قد وجد نعمة في عينيك وعظّمت لطفك الذي صنعت إليّ باستبقاء نفسي
وأنا لا أقدر أن أهرب إلى الجبل، لعلّ الشرّ يدركني فأموت
هوذا المدينة هذه قريبة للهرب إليها، وهي صغيرة، اهرب إلى هناك.
أليست هي صغيرة فتحيا نفسي
فقال له:
“إني قد رفعت وجهك في هذا الأمر أيضًا أن لا أقلب المدينة التي تكلمت عنها” (تك 19: 18-21)
لقد طلب لوط من أجل مدينة صوغر ألاَّ يطولها نيران الغضب الإلهي كما كان مزمعًا أن يفعل مع سدوم وعمورة، فرفع الله وجهه، أي استجاب الله لطلبته، وعدَّل من خطّته من أجل طلبة لوط، ولم يُهْلِك تلك المدينة!!!
وقد يقول البعض، أن تغيير خطّة الله لهو أمرٌ مستحيل لأن في ذلك انتقاص من إدراكه الكلِّي للأمور وكأنه يرهن مواقفه بالبشر!!! ولكن ما يعنيه الكتاب المُقدَّس بتعبيرات مثل رجع الله عن حمو غضبه، ندم الله عن الشرّ.. إلخ، أنّه أرجع الأمور إلى نصابها الصحيح بحسب مشيئته الصالحة، فالله لا يفرح بإيلام البشر وإبادتهم، ولكن ذلك يأتي في سياق تلاقٍ بين ما يعرف بالكوارث الطبيعية وخطيئة شعبٍ. فالله لا يتغيّر إذ أن المخطط الأصلي هو الخلاص، وحينما نصلي من أجل العالم، يستغل الله صلاتنا لكيما يعود إلى إطالة مساحة الأناة والصبر على البشريّة، حتى يرجعوا إلى منابع النور.
من هنا يمكننا القول بأنَّ الله يترقب صلواتنا ولجاجتنا في الصلاة لكي ما يُغيّر العالم، الله يترقّب صلاة مدفوعة بقوة إيمان، حتى يرفع وجه قائلها، بل ويبتهج بمثل تلك الصلاة التي تترجّى خلاص الآخرين، وتتوسّل من أجلهم، تمامًا كما فعل إبراهيم مع الله حينما بدأ” يُفاصِل “!! (بحسب تعبيرنا الدارج) مع الله من أجل خلاص سدوم وعمورة، حتى وصل مع الله إلى اتفاقية، مَفادها أن وجود عشرة أبرار في المدينة سيكون كفيلاً بخلاصها من الهلاك المترصد إبادتها، إلا أن ذاك الزمان لم يكن زمان أبرار!! لأن الخطيئة تسلّلت إلى كلّ بيت وشوّهت كل جسدٍ، وأماتت روح الحياة في كل قلب. فكانت أمطار النار والكبريت، لتغسل الأرض من الخطيئة التي تعمّقت في تربة البشرية المخلوقة على صورة الله!!!
وأيضًا نقرأ في قصة أبيمالك مع إبراهيم والتي وردت في الأصحاح العشرين من سفر التكوين ؛ أنَّ الله أرشد أبيمالك إلى الرجوع لإبراهيم لكيما يُصلّى من أجله”.. إنه نبيٌّ فيصلّي من أجلك، فتحيا“، ويخبرنا سفر التكوين في نفس الأصحاح عن تأثير صلاة إبراهيم:” فصلَّى إبراهيم إلى الله، فشفى الله أبيمالك وامرأته وجواريه، فولدن..”. الإنسان يصلي بينما الله يشفي، تلك هي المعادلة السليمة في فعل الصلاة واستحضار فعل الله في صميم العالم، ومن أجل العالم.
إن للصلاة قوة عظيمة لإحياء العالم المحتضر على شفى الهاوية، فصلاتك من أجل العالم لن تعود فارغة، قد يكون لها صدى في مكانٍ ما من الأرض، وفي زمنٍ ما من الأزمنة، إلاّ أنها لن تعود فارغة.
لو أدركنا كمسيحيّين أهميّة الصلاة من أجل العالم، وصلَّينا بالفعل من أجله كما ينبغي، لكانت تغيّرت خريطة العالم، ولكانت تغيّرت خريطة الخير والشر في العالم. إلاّ أن بعضنا تعوّد السلبيّة في علاقته بالعالم، إذ يدينه على أخطائه ولا يصلّي من أجله!! ونحن بذلك نكون قد أغفلنا أنّه هو العالم (البشريّة) الذي بذل من أجله، الله، ابنه الحبيب، لكي لا يهلك..” لأنه هكذا أحبّ الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبديّة” (يو 3:16)
فهل تستطيع أن تترجم محبّة المسيح للعالم إلى صلاة وأنين لكيما يتذوّق معرفة النور الحقيقي عوضًا عن الظلمة التي يرتديها كعباءة. وهل لك إيمانَ أن صلاتك ستكون فارقة في حياة الآخرين، أم تكتفي بترديد العبارة التي تجعلنا نتلذّذ بسلبيّتنا تجاه العالم:” أنا خاطئ، فكيف تكون لصلاتي تأثير!! “
دعني أقول لك أن صلاتك من أجل خلاص الآخرين وصلاتك من أجل خلاصك هما في كفّة واحدة في ميزان محبّتك لله، مرتبطان بعضهم البعض ارتباطًا وثيقًا. فالذي يترجّى الخلاص لا يستطيع إلاّ أن يطلب من أجل العالم لكيما يخلص معه..
في كل عبادتنا الليتورجيّة نصلي من أجل نقاوتنا وتطهرنا ونصلي من أجل العالم أجمع، فما من انسكاب لروح الله للتطهير ومن ثمّ الإنارة، على قلبٍ انعزل في أنانيّة من دون العالم المتألم في ظلمته. صلاتنا من أجل العالم هي فعل حبّ متكامل الأركان. قد لا نرى نتائجها، ولكن لا يجب أن يحرك تحسس النتائج، صلواتنا، بل المبادئ الكتابية التي يحييها فينا روح الله بالفعل.
وكما قال أحدهم:
إننا سنترائى أمام الله، في السماء، كجمعٍ متشابك الأيدي،
كلنا مرتبطون بعضنا البعض بالصلاة والحب
فمَنْ يُحب الله ويتطلَّع للأبدية، سيُحب الآخرين ويتطلَّع أن يشاركوه نفس المصير المبهج. فالحب لا يعرف الـ(أنا) بل يعرف فقط الـ(نحن).
صلِّ من أجل خلاصك وتوبتك كما تشاء، ولكن لا تنسْ أن تطلب من أجل خلاص العالم بإيمانٍ، أن صلاتك ستتجسّد توبةً في حياة شخصٍ ما على سطح هذا الكوكب.
فقط صلِّ واترك النعمة لتعمل عملها فيك وفي الآخرين.