|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
المسيح فى القبر
كيف انتحر الموت؟ لقد سمعنا كثيراً عن انتحار الأحياء.. ولكن هل من الممكن أن ينتحر الموت؟!.. نعم. لقد انتحر الموت عندما ابتلع الحياة. لأنه ابتلع ما هو ضده.. ابتلع ما هو أقوى منه.. لم يستطع أن يمسكه.. وكان أضعف من أن يحتويه أو أن يحتمله. ابتلع الموت الحياة، فابتُلع الموت من الحياة.. وانهزم الموت، وضاعت هيبته، وانكسرت شوكته، وضاع سلطانه وانحسرت سطوته، وانقلب كيانه، وتبددت قوته، وغابت غلبته، وافتضحت أكاذيبه، وجردت أجناده وسلاطينه.. قال القديس غريغوريوس عن موت السيد المسيح المحيى على الصليب [ذبح الموت الحياة العادية، ولكن الحياة فوق العادية ذبحته]. أى ذبح الموت حياة السيد المسيح الإنسانية، ولكن حياة الرب الإلهية ذبحته.. وبهذا انتحر الموت. لماذا يا موت ابتلعت رب الحياة الذى أخفى لاهوته فى الناسوتية التى اتحد بها ليحطمك؟ لماذا تجاسرت أن تقترب ممن له مفاتيح الهاوية والموت، ومن بيده مصائر الخلائق؟ لماذا انحمقت ومثل السمكة المغرورة ابتلعت الطُعم وبداخله السلاح الأقوى منك الذى اصطادك؟ وفى قداس القديس يوحنا ذهبى الفم يُقال للسيد المسيح اللحن التالى {عندما انحدرت إلى الموت أيها الحياة الذى لا يموت، حينئذ أمتّ الجحيم ببرق لاهوتك. وعندما أقمت الأموات من تحت الثرى صرخ نحوك جميع القوات السماويين: أيها المسيح الإله معطى الحياة المجد لك}. من هذه العبارات نفهم أن السيد المسيح قد أبرق بنوره فى الجحيم فتبددت جحافل قوات الظلمة. وأنه قد نزل إلى الجحيم عن طريق الصليب. بمعنى أنه بقبوله الموت جسدياً على الصليب قد دخل بروحه الإنسانى المتحد باللاهوت إلى العالم الآخر. لقد صار الصليب والحال هكذا مثل منصة الإطلاق التى ينطلق منها صاروخ متعدد الإمكانيات يستطيع أن يخرج خارج نطاق جاذبية الأرض ويصل إلى ما يريد من الكواكب حيث يؤدى مأمورية غير مسبوقة. أو يشبه منصة الإطلاق التى ينطلق من فوقها صاروخٌ يدمّر مركز قيادة العدو فتهرب جيوشه الجرارة مثل الجرذان المرتعدة تلوذ بالفرار ولا تلوى على شئ. إن يوم الصليب هو يوم هزيمة الشيطان لأن الحق لا ينهزم أبداً والحب أقوى من الموت لأن فيه كانت الحياة. لهذا يقول سفر نشيد الأناشيد “المحبة قوية كالموت، الغيرة قاسية كالهاوية، لهيبها لهيب نار لظى الرب. مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة والسيول لا تغمرها” (نش8: 6، 7). الصليب هو فخرنا.. الصليب هو عوننا.. الصليب هو نصرنا.. الصليب هو رجاؤنا.. الصليب هو عزاؤنا.. الصليب هو مجدنا.. الصليب هو دربنا.. الصليب هو برنا.. الصليب هو صخرنا.. الصليب هو سلاحنا الذى به نغلب. “ثم إن يوسف الذى من الرامة، وهو تلميذ يسوع، ولكن خفية لسبب الخوف من اليهود، سأل بيلاطس أن يأخذ جسد يسوع، فأذن بيلاطس، فجاء وأخذ جسد يسوع” (يو19: 38). كان سكان الرامة يحبون اسم يوسف للرجال وراحيل للنساء، لأن راحيل حينما ولدت بنيامين تعسرت ولادتها وتوفيت ودفنت فى الرامة بجوار بيت لحم. وكان يوسف هو ابنها البكر المحبوب من أبيه يعقوب ورمز إلى السيد المسيح، وصار ملكاً على مصر وسجد له إخوته كما أعلن له الرب. فى بيت لحم ولد السيد المسيح، وعندما ذبح هيرودس الملك أطفال بيت لحم طمعاً فى القضاء على الطفل الملك المولود تحققت نبوة أرميا النبى القائلة “صوت سُمع فى الرامة نوح بكاء مر، راحيل تبكى على أولادها وتأبى أن تتعزى عن أولادها، لأنهم ليسوا بموجودين” (أر31: 15، انظرمت 2: 18). لم تكن مصادفة أن يدفن يوسف الرامى جسد يسوع.. لأن راحيل الحقيقية الآن هى مريم أم يسوع تبكى وحيدها الذى قتله اليهود.. ونساء اليهودية يبكين معها من أجل الملك الذبيح. ولكن وعد القيامة كان هو مصدر العزاء، لأن الذى مات بحسب الجسد كان هو الحى الذى لا يموت الذى قهر الموت بسلطان لاهوته وقام من الأموات منتصراً، لم تعد راحيل العهد الجديد لا تريد أن تتعزى، بل هذا هو وقت العزاء والفرح بالخلاص الذى تم. كان يوسف الرامى تلميذاً ليسوع ولكن خفية لسبب الخوف من اليهود، ولكنه لما أخذ جسد يسوع تحول من الخوف إلى المجاهرة، وذهب ليدفن على مرأى ومسمع من اليهود المنافقين. إن من يأخذ جسد يسوع فى سر القربان المقدس مثل يوسف يتحول الخوف فيه إلى شجاعة، فلا يعود يرهب الشياطين، وقوات الظلمة الروحية، بل يصير تلميذاً قوياً شاهداً للرب. التناول من جسد يسوع يمنح قوة وشجاعة وثباتاً فى المسيح ومجاهرة بالإيمان به كفادٍ ومخلص.. فلنفهم إذاً قوة هذا الجسد، وكيف تعمل فينا عجباً فى سر القربان المقدس!! لقد حمل يوسف ونيقوديموس جسد يسوع ووضعاه فى القبر، ولكن قوة القيامة كانت فى ذلك الجسد الذى حملاه. لاشك أن الكنيسة قد منحتهما الكهنوت فيما بعد لأنهما حملا جسد الرب بإيمان ووضعاه فى الأكفان.. طوباك يا يوسف الرامى وطوباك يا نيقوديموس. لفاه بأكفان “وجاء أيضاً نيقوديموس، الذى أتى أولاً إلى يسوع ليلاً، وهو حامل مزيج مر وعود نحو مئة مناً. فأخذا جسد يسوع، ولفاه بأكفان مع الأطياب، كما لليهود عادة أن يكفنوا” (يو19: 39، 40). كان اليهود يغسلون جسد المتوفى ثم يلفوه بأكفان. الغسل بالماء للتطهير واللف بالأكفان لستر العرى. ولكن فى دفن جسد السيد المسيح لم يكن هناك وقت لغسل الجسد، وهو غير المحتاج إلى تطهير، بل هو الذى طهّر الخطاة بدمه المسفوك عنهم، وكان السيد المسيح قد صلب عارياً من ملابسه – إذ تعرى من ثيابه ليستر عرى آدم. أو حمل هو عرى آدم ليدفع ثمن خطيته التى شعر بسببها أنه عريان. ولذلك لم يكن الكفن بالنسبة للسيد المسيح لستر العرى بل بالأكثر ليكون شاهداً على القيامة. الكفن بالنسبة لليهود كان علامة للموت، وبالنسبة للسيد المسيح كان علامة للقيامة، وكل من رأى الكفن من تلاميذه موضوعاً فى القبر الفارغ آمن بالقيامة. لقد ترك السيد المسيح على الكفن المقدس تذكار موته وقيامته المجيدة بصورة إعجازية انبهر لها العلماء. “وكان فى الموضع الذى صلب فيه بستان، وفى البستان قبر جديد لم يوضع فيه أحد قط. فهناك وضعا يسوع لسبب استعداد اليهود لأن القبر كان قريباً” (يو 19: 41، 42). صلب السيد المسيح فى موضع الجلجثة وهو إشارة إلى الموت والجحيم حيث كانت أرواح المنتقلين فى بيت السجن تنتظر الخروج من الأسر بعمل المخلّص. وفى الموضع الذى صلب فيه كان يوجد بستان، هو رمز للفردوس الذى فتحه السيد المسيح بعد أن دفع ثمن الفداء على الصليب. فقد نزل إلى أقسام الأرض السفلى فى الجحيم من قِبل الصليب حيث حرر المسبيين ونقلهم من الجحيم إلى الفردوس. كما أنه أدخل روح اللص اليمين بعد وفاته إلى الفردوس. فالصليب كان هو طريق السيد المسيح إلى العالم الآخر حيث دخل فى معركة مع مملكة الشيطان “وخرج غالباً، ولكى يغلب” (رؤ6: 2) مسجلاً كل تلك الانتصارات لحساب البشرية التى انهزمت أمام الشيطان. ولسبب هذه الانتصارات سبى السيد المسيح سبياً وأعطى الناس كرامات. كان الصليب هو الطريق إلى الفردوس عبر الجحيم، ولذلك اجتمعت الجلجثة مع البستان الذى فيه دفن جسد يسوع الذى بموته المحيى رد آدم وبنيه إلى الفردوس. قبر جديد دفن السيد المسيح فى بستان “وفى البستان قبر جديد لم يوضع فيه أحد قط” (يو19: 41). كان موت السيد المسيح ليس لسبب خطاياه الشخصية -لأنه بلا خطية- بل نيابة عن آخرين.. ولهذا كان فريداً فى موته. هو موت من نوع جديد ولهذا دفن فى قبر جديد.. قبر جديد فيه لا يستطيع الموت أن يكون له سلطان عليه. قبر جديد.. بكر.. كما كان الذى دفن فيه هو البكر من الأموات فى قيامته. هو الوحيد الذى مات وقام لكى لا يموت مرة أخرى بل يبقى حياً إلى أبد الآبدين. قبر جديد فى أنه هو القبر الأول الذى تحول من موضع للنوح إلى موضع للفرح لأن منه خرجت بشرى القيامة، وأنوار القيامة. وفيه رأى التلاميذ ملائكة القيامة. قبر جديد يليق بآدم الجديد. قبر جديد لأن الذى دُفن فيه هو الوحيد الذى لم يرَ جسده فساداً منذ آدم. وقبر جديد ليس فيه عظام أموات، لكى لا يختلط الأمر ويدّعى أحد من الناس أن يسوع قد تحول إلى عظام، وأنه لم يقم، ولهذا ترك الرب قبراً فارغاً ليعلن انتهاء سلطان الموت إلى الأبد. وقبر جديد ليس فيه فساد أجساد الموتى، ولا رائحة الموت. لأن الذى دُفن فيه كانت تفوح منه رائحة الحياة “ما دام الملك فى مجلسه أفاح ناردينى رائحته” (نش1: 12). دُفن السيد المسيح فى بستان ليؤكد أنه قد سلّم روحه الطاهرة فى يدى الآب، وليس للجحيم سلطان عليه. بل هو موت طريقه الفردوس. فى نزوله إلى الجحيم حطم متاريسه وأخرج الذين فى بيت الحبس، محرراً إياهم من قبضة الموت الأبدى، ناقلاً إياهم إلى الفردوس والنعيم. ما أعجب اتضاعك يا رب.. حينما قبلت أن توضع الأختام على قبرك، وكأن الموت قد أغلق فمه عليك إلى الأبد!! ولكنك قمت يا سيدى والحجر مغلق والأختام موضوعة، وخرجت من القبر ناقضاً أوجاع الموت. لتُعلن أن الحياة المتدفقة التى فيك يا قدوس، كانت أقوى من الموت الذى لنا. وأنه لا شئ يستطيع أن يفصلنا عن محبتك المتدفقة يا فادينا ومخلصنا. يونان والسيد المسيح مكث السيد المسيح فى القبر ثلاثة أيام وكان اليهود قبل صلبه قد طلبوا منه أن يريهم آية فقال لهم: “جيل شرير وفاسق يطلب آية، ولا تُعطى له آية، إلا آية يونان النبى. لأنه كما كان يونان فى بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال هكذا يكون ابن الإنسان فى قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال” (مت12: 39، 40). كان السيد المسيح قد صنع أمام اليهود آيات كثيرة. ولكن كثير منهم لم يمكنهم أن يؤمنوا بأنه هو الله الظاهر فى الجسد. كذلك كانت التوبة بعيدة عن قلوبهم، ولم يفهموا مقاصد الله وتدابيره الحقيقية. كذلك البشرية، كانت غارقة فى ظلال الموت قبل إتمام الفداء. ولم تنفع معها كل الأدوية السابقة، وكل إعلانات الله ومعجزاته فى وسطهم. ولم يتمكن الناموس الإلهى؛ الأدبى أو المكتوب -بالرغم من صدق المقاصد الإلهية- من تحرير الإنسان من ناموس الخطية والموت. فمن جانب، لم يتمكن كثير من اليهود من التوبة والإيمان بالمسيح إلا بعد صلبه وقيامته. ولهذا قال لهم قبل الصلب: “متى رفعتم ابن الإنسان فحينئذ تفهمون أنى أنا هو” (يو8: 28). ومن جانب آخر لم تتمكن البشرية بصفة عامة من التحرر من سلطان إبليس، إلا بعد إتمام الفداء، والكرازة باسم المسيح لغفران الخطايا. اتخذ السيد المسيح من قصة يونان فى بطن الحوت وسيلة لإيضاح مقاصد الله فى خلاص البشرية. مؤكداً أن الآية المطلوبة لتحرير البشر من الخطية هى دفن المسيح وقيامته بعد ثلاثة أيام. إيمان أهل السفينة هرب يونان من الرب عندما أمره أن يذهب إلى نينوى المدينة الخاطئة، وينادى لها بالتوبة. وهاج البحر على السفينة وكادت تغرق. ووقعت القرعة على يونان أنه هو السبب فى هياج البحر لسبب هروبه من المناداة على نينوى. وسأل الرجال يونان ماذا يقترح عليهم أن يفعلوه ليهدأ البحر عنهم، لأن البحر كان يزداد اضطراباً. فقال لهم: “خذونى واطرحونى فى البحر، فيسكن البحر عنكم” (يون1: 12). بمعنى أن غضب الله على جميع ركاب السفينة يمكن أن يوفيه موت يونان كحامل للخطية. وصرخ أهل السفينة إلى الرب قائلين: “آه يا رب، لا نهلك من أجل نفس هذا الرجل، ولا تجعل علينا دماً بريئاً. لأنك يا رب فعلت كما شئت” (يون1: 14). ثم ألقوا يونان فى البحر فهدأ البحر عنهم. “فخاف الرجال من الرب خوفاً عظيماً، وذبحوا ذبيحة للرب ونذروا نذوراً” (يون1: 16). وفهم أهل السفينة أن الغضب الإلهى لن يسكت إلا بعد أن يأخذ العدل الإلهى مجراه. وآمن أهل السفينة بإله يونان ضابط الكون، وقدموا ذبيحة للرب “إله السماء الذى صنع البحر والبر” (يون1: 9). وهكذا كان يونان وسيلة لإعلان قداسة الله وسلطانه ورفضه للشر وعدالته.. ووسيلة لإيمان أهل السفينة الذين لم يكونوا يعرفون الله. من أجل إنقاذ أهل نينوى من خطاياهم، أُلقى يونان إلى البحر. ولهذا أعد الله حوتاً لابتلاع يونان. فكان يونان فى عمق البحر وفى داخل الحوت فى حكم الميت، كما رآه أهل السفينة، ولكنه كان محفوظاً بقدرة الله حياً فى نفس الوقت. فكان هو الميت الحى، أو الحى الميت (انظر رؤ1: 18). بهذا كان يونان رمزاً للسيد المسيح الذى حمل خطايانا فى جسده على الصليب، وأوفى العدل الإلهى حقه. وجاز معصرة سخط وغضب الله، ليرفع الغضب واللعنة عن البشرية. وذاق الموت فعلاً بحسب الجسد لهذا السبب. ولكنه فى الوقت نفسه كان -بحسب لاهوته- حيّاً لا يموت، لا يقوى عليه الموت.. إذ لا يستطيع أن يمسكه. بل كان أقوى من الموت، إذ كانت الحياة التى فيه أقوى من الموت الذى علينا.. وكان البر الذى له أعظم من الخطية التى لنا. ولهذا قام من الأموات حياً منتصراً وقال عنه بطرس الرسول: “الذى أقامه الله ناقضاً أوجاع الموت إذ لم يكن ممكناً أن يُمسك منه” (أع2: 24). مات المسيح بسبب خطايانا ليوفى الدين عنا، وقام من الأموات ليعلن قداسته وبره وسلطانه الإلهى على الموت، واهباً الحياة للذين يؤمنون به فادياً ومخلّصاً لحياتهم. مات بسبب خطايا الآخرين، وقام بسبب بره الشخصى غير المحدود، وهو الذى بلا خطية وحده، وليعلن سلطانه الإلهى على الموت. إن الحوت كان رمزاً للقبر الذى وُضع فيه السيد المسيح. والبحر العميق كان رمزاً للجحيم أو الهاوية التى نزل إليها بروحه، بعد موته على الصليب ليكرز للأرواح التى فى السجن (انظر1بط3: 19)، بإتمام الفداء، وتحرير المسبيين الذين انتظروا مجيئه ليخلصهم. وهكذا تسهر الكنيسة ليلة السبت الكبير بعد طقوس الجمعة العظيمة سهرة لها طابع أخروى (إسخاطولوجى)، لتقرأ سفر الرؤيا حيث إعلانات الله عن الآخرة والعالم الآخر، وتسمى تلك الليلة باللغة اليونانية “أبوكالبسيس” أى الرؤيا. خرج يونان من بطن الحوت ليكرز لأهل نينوى بالتوبة قائلاً: “بعد أربعين يوماً تنقلب نينوى” (يون3: 4). فآمن أهل نينوى بالله وصاموا وصلوا وصرخوا إلى الرب فسمع صراخهم وقبل توبتهم ورفع غضبه عنهم. وبالمثل خرج السيد المسيح من القبر ليكرز لتلاميذه ولليهود وللبشرية كلها بالإيمان والتوبة والحياة الجديدة.. رآه تلاميذه فقط (أكثر من خمسمائة أخ)، وآمنوا بالقيامة، ومنح الرسل سلطان الروح القدس لغفران الخطايا. وأرسلهم حاملين “كلمة المصالحة” (2كو5: 19) لدعوة الناس للتصالح مع الله. وهكذا قال القديس بطرس الرسول للجموع الذين نخسهم الروح القدس فى قلوبهم يوم الخمسين: “توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا، فتقبلوا عطية الروح القدس.. فقبلوا كلامه بفرح واعتمدوا” (أع2: 38، 41). كان وجود يونان فى بطن الحوت فى عمق المياه، ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ هو رمز للمعمودية على اسم الثالوث القدوس التى بها يتم خلاص البشر. وهنا نرى الماء والرقم ثلاثة معاً مجتمعين. كذلك كان وجود السيد المسيح فى القبر ثلاثة أيام، هو رمز للمعمودية التى على اسم الثالوث والتى نتحد فيها مع المسيح فى موته وقيامته، كقول معلمنا بولس الرسول: “فدفنا معه بالمعمودية للموت، حتى كما أقيم المسيح من الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضاً فى جدة الحياة. لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته نصير أيضاً بقيامته” (رو6: 4، 5). وكما أعطى يونان لأهل نينوى أربعين يوماً مهلة للتوبة بأمر الرب، هكذا مكث السيد المسيح أربعين يوماً على الأرض بعد قيامته، وقبل صعوده إلى السماء ليؤكد حقيقة القيامة وليكرز باسمه للتوبة ومغفرة الخطايا. حقاً كان صلب السيد المسيح وقيامته هى الآية التى احتاجتها البشرية لتنال الخلاص. ما بين الموت والقيامة قال قداسة البابا شنودة الثالث –أطال الرب حياته- إن السيد المسيح [بموته قد حل مشكلة الخطية، وبقيامته قد حل مشكلة الموت] بالنسبة للإنسان.. فالموت قد دخل إلى العالم لسبب الخطية، فكان لابد أن تحل مشكلة الخطية أولاً، قبل أن تُحل مشكلة الموت. ولهذا لم يرغب السيد المسيح أن يكون انتصاره على الموت هو بتغلبه عليه دون أن يموت. بمعنى أن لا يتأثر بالجلدات والمسامير والأشواك والصلب وسفك دمه. الانتصار بهذه الصورة كان سيحسب للمسيح شخصياً، وليس فيه تكفير ولا غفران لخطايا البشر. كان باستطاعته أن يفعل ذلك بسلطان لاهوته، ولكنه لم يأتِ إلى العالم لكى ينتصر على الموت لحساب نفسه فقط، دون أن ننتفع نحن شيئاً.. ولكن السيد المسيح قد انتصر على الموت بطريقة أخرى، وهى أن يقدِّم نفسه ذبيحة تكفيراً لخطايانا، ثم يقوم متحرراً من سلطان الموت. لأنه “لم يكن ممكناً أن يُمسك منه” (أع2: 24). لقد مات عن آخرين وليس لسبب خطايا شخصية تخصه، بل لسبب خطايا آخرين. كما هو مكتوب بالنبى القائل: “جعل نفسه ذبيحة إثم.. حمل خطية كثيرين، وشفع فى المذنبين” (إش53: 10، 12). فلأن الموت الذى ماته هو عن آخرين، ليوفى الدين الذى عليهم.. لهذا قام بحسب استحقاق بره الشخصى: ليعلن الله بهذا أنه وجد كل مسرته فى البار القدوس، الذى قدّم طاعة كاملة حتى الموت. ففى الموت أوفى دين الخطايا الذى لآخرين.. وفى القيامة أعلنت برارته الشخصية كقدوس بلا خطية. لهذا قال معلمنا بولس الرسول إن المسيح قد “أُسلم من أجل خطايانا، وأُقيم لأجل تبريرنا” (رو4: 25). فى الموت دُفع ثمن الخطية، وفى القيامة أُعلن بر الذبيحة التى قُدمت وبها قد تبررنا. وفى هذا ينطبق تماماً كلام معلمنا بولس الرسول: “كما بخطية واحدة صار الحكم إلى جميع الناس للدينونة، هكذا ببر واحد صارت الهبة إلى جميع الناس لتبرير الحياة” (رو5: 18). و”لأنه إن كان بخطية الواحد قد ملك الموت بالواحد، فبالأولى كثيراً الذين ينالون فيض النعمة وعطية البر سيملكون فى الحياة بالواحد يسوع المسيح” (رو5: 17). وفى حديثه هذا تحدث عن “آدم الذى هو مثال الآتى” (رو5: 14). وعقد مقارنة جميلة بين آدم والمسيح كما ذكرنا، وكما أكدّ القديس بولس مرارًا فقال: “لأنه إن كان بخطية واحد مات الكثيرون. فبالأولى كثيراً نعمة الله والعطية بالنعمة التى بالإنسان الواحد يسوع المسيح قد ازدادت للكثيرين” (رو5: 15). وأكثر من هذا فقد أوضح معلمنا بولس الرسول أن هبات الله قد تفاضلت جداً، أكثر مما استوجبته خطية الواحد الذى هو آدم الأول من عقوبة. لأن الملك الذى يعاقب يكتفى بوفاء الدين فقط. أما الملك حينما يعطى هبة فإنه يعطى بحسب غناه فى المجد.. وبحسب كرم الملك. وعاد القديس بولس يؤكد: “وليس كما بواحد قد أخطأ هكذا العطية. لأن الحكم من واحد للدينونة، وأما الهبة فمن جرى خطايا كثيرة للتبرير” (رو5: 16). إن ذبيحة الصليب فى قيمتها قد فاقت كل مديونية آدم وبنيه.. لأن قيمتها غير محدودة إذ هى ذبيحة الله الكلمة المتجسد.. لهذا قال: “ليس كالخطية هكذا أيضاً الهبة”. ما الذى يمكن أن نصف به محبتك يا رب؟ حقاً ليس شئ من النطق يستطيع أن يحد لجة محبتك للبشر.. إن الأزمنة كلها لن تكفى لكى نوفيك حقك من الشكر. لهذا فالأبدية سوف تمتد بلا حدود حيث تشكرك كل الخليقة معاً من أجل عظم صنيعك غير الموصوف. |
|