إن مريم على مثال يسوع قد ذاقت علقم الاستشهاد، فالابن يضحى جسده بالموت، والأم تضحى ذاتها لمساهمة آلامه. ولأجل هذا فمريم لم تشعر فقط جسدياً كل ما تكبده يسوع في جسده، بل أن رؤيتها عذاباته قد ألمت قلبها بنوع أبلغ مما لو كانت احتملتها هي عينها، وذلك لأنها كانت تحب يسوع أكثر من نفسها، وحياة يسوع كانت أعز لديها من حياتها ذاتها. وأن نوعين من المحبة قد تقارنا وتألفا في قلب مريم نظراً إلى يسوع، وهما محبة طبيعية ومحبة فائقة الطبيعة. فبالأولى أحبته كابنها، وبالثانية أحبته كإلهها. ومن تآلف وتمازج هاتين المحبتين نجم حب واحد هذا، عظم مقداره حتى أن مريم قد أحبت يسوع غاية ما في وسع خليقة من الخلائق أن تحب. وهذه الدرجة من المحبة الفائقة الوصف لم تحزها إلا بامتياز علوي، إذ أن الآب الأزلي لما أراد أن يشركها في الزمان في الأداة الأزلي للكلمة، قد ألقى في قلبها شرارة من حبه غير المتناهي لأبنه الوحيد.