|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الخطية
اختلف الناس في أمر الخطية لاختلاف أفكارهم وميولهم. فلنتحقق من ماهيتها دعنا نفكر على سبيل المثال في العبارة المألوفة أخطأ الهدف ومعناها: لم يُصِب الهدف أو انحرف عنه . فمنها يتَّضح لنا أن الخطية ليست هي الشر الشنيع فحسب كما يظن بعض الناس، بل إنها أيضاً الانحراف عن حق اللّه باعتباره القاعدة التي وضعها لسلوكنا في العالم الحاضر. ولما كان حق اللّه ينهى عن الشر ويأمر بالخير، فالخطية لا تكون بالانحراف إلى الشر فحسب، بل وبالانحراف عن الخير أيضاً. أما قول السفسطائيين ليس هناك خير أو شر، وما يراه الإِنسان خيراً فهو خير، وما يراه شراً فهو شر ، فلا نصيب له من الصواب. لأن ما يراه إنسانٌ شراً قد يراه آخر خيراً، والشيء الواحد لا يكون شراً وخيراً معاً، وإلا ما كان هناك مقياس للأخلاق أو قانون لمعاقبة المجرمين، ولسادت الفوضى كل العالم تبعاً لذلك.. نعم إن الصدق قد يعود علينا أحياناً في العالم الحاضر بالخسارة، وقد يعود الكذب علينا فيه بالربح، لكن مع ذلك ي ظل الصدق خيراً والكذب شراً، لأن الخير لا يُقاس بما نحصل عليه من ربح، والشر لا يُقاس بما نتعرض له من خسارة، لأن الخير والشر يُقاسان بالنسبة إلى الكمال، والكمال لا شأن له بالربح أو الخسارة. ولقد صدق ولتير في قوله: الواجب واحد في كل مكان. سواء على أعتاب عرش اللّه، أو في قرار الهوة السحيقة . فالحكم على تصرفاتنا لا يكون لشعورنا أو لضمائرنا، كما يقول بعض الناس، بل لكلمة اللّه دون سواها، لأنها الثابتة الراسخة إلى الأبد. 1 - الانحراف إلى الشر: اللّه روح. ولا نعني أنه روح مثل الأرواح، بل نعني أنه منزَّه عن الجسدانية، ولا يُدرَك بالحواس البشرية. والروح لا يتعامل إلا مع عنصر روحي يتناسب معه، إذاً فعلاقة اللّه بنا وعلاقتنا به لا تكون عن طريق أجسادنا بل عن طريق أرواحنا. فإذا انحرفت روح إنسانٍ منا عن قداسة اللّه، يكون قد أخطأ إليه حتى إذا لم يظهر هذا الانحراف في عمل خارجي. ولا مجال للاعتراض على ذلك، لأن من يشتهي مال غيره، هو في الواقع لص، لأن ما يمنعه من السرقة ليس كراهيته لها، بل خوفه من عقوبة القانون أو احتقار الناس له. فإذا وثق أن سرقته لن تنكشف، فلن يتردد في ارتكابها. لذلك قال الوحي: لا تشتهِ بيت قريبك، ولا شيئاً مما لقريبك (خروج 20: 17) . ولما كانت الخطية هي الانحراف الباطني إلى الشر، قال الوحي: فكر الحماقة خطية (أمثال 24: 9) . و كل من يبغض أخاه فهو قاتل نفس (1يوحنا 3: 15) . و كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه (متى 5: 28) . و من قال يا أحمق، يستوجب نار جهنم (متى 5: 22) . و كل كلمة بطّالة يتكلم بها الناس، سوف يعطون عنها حساباً يوم الدين (متى 12: 36) . كما نهانا عن الكذب والسُّكر والغضب، والمكر والرياء والحسد، والربا والسحر والطمع (أفسس 4: 25-31 و5: 4 و5 و1بطرس 2: 1 ومزمور 15: 5 ورؤيا 21: 8) حتى نكون قديسين كما أن الله قدوس (1بطرس 1: 15) ، إذ بدون القداسة (وهي التنزُّه عن النقائص) لن يرى أحد الرب (عبرانيين 12: 14) . وقد عرف الأنبياء شر الخطايا الباطنية، فصرخ المرنم للّه: من الخطايا المستترة أبرئني (مزمور 19: 12) . كما قال له: اختبرني يا اللّه واعرف قلبي. امتحِنّي واعرِف أفكاري. وانظر إن كان فيَّ طريقٌ باطل، واهدني طريقاً أبدياً (مزمور 139: 23 و24) لأن الإِنسان قد يجهل أفكار الشر التي تجول في نفسه أو لا يحسب لها حساباً. وتكون النتيجة النهائية أنه يرى نفسه دون أن يدري، بعيداً عن اللّه بعداً عظيماً. وهو يشمل الأمور التالية: (أ) التقصير في عمل الخير: اللّه قدوس يكره الشر، كما هو أيضاً صالح يحب الخير. فكل من أراد أن يحيا حياة التوافق مع اللّه وحياة البُعد عن الخطية، يجب أن لا يمتنع عن الشر فحسب، بل وأن يفعل الخير أيضاً. ولا مجال للاعتراض على ذلك، لأن من يمتنع عن مساعدة المسكين بعيد عن اللّه، فيكون خاطئاً حتى ولو لم يفعل شراً، لأن من يعرف أن يعمل حسناً ولا يعمل، فذلك خطية له (يعقوب 4: 17) . إذاً لنعمل الخير للجميع (غلاطية 6: 10) . (ب) القيام بأعمال الخير لأغراض شخصية: يعمل بعض الناس الخير ليحصلوا على ثواب من اللّه أو مديح من الناس. وهم بهذا يسعون وراء منفعتهم الشخصية. وبعض الذين يعظون الناس ويرشدونهم يفعلون هذا ليحصلوا على المال أو لينشروا تعاليمهم الخاصة. وهؤلاء لا يهتمون بجوهر الدين (الذي هو العلاقة الروحية بين الإنسان وبين اللّه) بل بالمظهر الخارجي للدين فحسب، ليحصلوا على مركز مرموق في العالم الحاضر. إذاً فأعمال الخير والوعظ التي لا تُعمل بدافع المحبة وحدها، ولأجل مجد اللّه وخير الناس فحسب، تكون أعمالاً تجارية أو مصلحية. فلا يكون فاعلوها قد أتوا خيراً أمام اللّه، وبالتبعية لا يكونون أبراراً أمامه. ولذلك قال المسيح: أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم (ليس خوفاً منهم، بل مشاركة للّه في عطفه عليهم، حتى يتوبوا ويرجعوا إليه طالبين عفوه وغفرانه) . وأَقرِضوا وأنتم لا ترجون شيئاً، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات. فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين (متى 5: 43-45 ولوقا 6: 35) . وقال: فمتى صنعت صدقة فلا تعرِّف شمالك ما تفعل يمينك، لكي تكون صدقتك في الخفاء. فأبوك الذي يرى في الخفاء هو يجازيك علانية (متى 6: 3 و4) . وسيخاطب المسيح المتظاهرين بخدمته، الذين سينادونه في اليوم الأخير قائلين يا رب يا رب، أليس باسمك تنبأنا وباسمك أخرجنا شياطين؟ بالرد الحازم القاطع إني لم أعرفكم قط. اذهبوا عني يا فاعلي الإثم (متى 7: 22 و23) . مذكرة توضيحية: قالوا باسمك تنبأنا . والتنبؤ في الكتاب المقدس هو الإنباء بالغيب، وهو أيضاً الإنباء عن اللّه بالوعظ والتعليم (أعمال 15: 32 و1كورنثوس 14: 3) . فكلمة النبي مشتقة من النبأ أي الخبر فيكون الأشخاص المذكورون قد تنبأوا باسم المسيح أو وعظوا عنه، ولكن قلوبهم لم تكن مقدسة تماماً له. مَثَلهم في ذلك مَثَل شاول الملك الذي مع أنه كان يتنبأ مع الأنبياء (1صموئيل 10: 6) إلا أنه كان بعيداً بقلبه عن اللّه (1صموئيل 15: 26) . أو مثل الوعاظ الذين ينادون بكلمة اللّه، ولا يعملون بها. وهكذا الحال من جهة إخراج الشياطين، فقد يعطي الله بعض الناس سلطاناً على إخراجها ليستثمروه في خدمة المحتاجين إليه. لكن إذا انحرفوا عنه كان عذابهم وبيلاً، مثلهم في ذلك مثل يهوذا الإسخريوطي، فقد كان يصنع معجزات مثل الرسل، لكن لشرِّه هلك إلى الأبد. gt;(ج) حصر اهتمام النفس في العالم الحاضر: السعي وراء العيش وتحصيل المال اللازم لنا في هذا العالم أمر واجب طالما نحن نحيا في العالم، لكن إذا طغى هذا السعي على النفس وصرفها عن الصلة باللّه والتوافق معه، كان ذلك دليلاً على انحرافها عنه، وعدم ثقتها فيه ونقص تقديرها لفضله عليها. فيكون السعي المذكور خطية أيضاً. لذلك قال الوحي إن الناسين اللّه أشرار مصيرهم الهاوية مثل باقي الخطاة (مزمور 9: 17) . كما قال إن محبة العالم (أي الانصراف إليه) عداوة للّه (يعقوب 4: 4) ، لأن كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة (1يوحنا 2: 16) . كما أوصانا: تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قدرتك، ومن كل فكرك (لوقا 10: 27) . والمحبة للّه، وإن لم تكن عين الطاعة له، فهي الشوق القلبي إليه، والحنين المقدس للوجود معه، لكنها تقودنا طبعاً لطاعته، لا عن خوف ورعب مثل طاعة العبيد لسيدهم القاسي، بل عن حب وإخلاص مثل طاعة الأبناء لأبيهم البار. ولا مغالاة في هذه الوصية على الإطلاق، فاللّه هو خالقنا وصاحب الفضل علينا، ومن الواجب أن يكون له المقام الأول في حياتنا. كما أن المحبة له، إن لم تكن من كل القلب ومن كل النفس ومن كل القدرة ومن كل الفكر، لا تكون محبة كاملة. والمحبة غير الكاملة لا تليق باللّه. لذلك قال داود: وحِّد قلبي لخوف اسمك . أنت سيدي. خيري لا شيء غيرك (مزمور 86: 11 و16: 2) . (أ) الخاطي (في نظر اللّه) ليس من يعمل خطايا كثيرة فحسب، بل هو من يرتكب ولو خطية واحدة، بالفعلأو بالقولأو بالفكر، فقد قال الوحي: من حفظ كل الناموس، وإنما عثر في واحدة، فقد صار مجرماً في الكل. لأن الذي قال لا تزن، قال أيضاً لا تقتل. فإن لم تزن ولكن قتلت، فقد صرت متعدياً للناموس (يعقوب 2: 10 و11) . ولأجل خطية واحدة طرح اللّه بعض الملائكة من السماء (2بطرس 2: 4) ، ولأجل خطية واحدة طُرد آدم وحواء من جنة عدن (تكوين 3: 24) ، ولأجل خطية واحدة حُرم موسى النبي من دخول أرض كنعان (تثنية 32: 52) ، ولأجل خطية واحدة أمات اللّه حنانيا وسفيرة في الحال (أعمال 5: 1 - 11) . وقد أدرك أتباع سقراط هذه الحقيقة فقالوا: الإِنسان إما أن يكون فاضلاً إلى النهاية أو لا يكون. هو كالخط، إما أن يكون مستقيماً، أو غير مستقيم، ولا وسط بين الاثنين . (ب) تُحسب الخطية (في نظر اللّه) خطية، ليس فقط إذا شعر مرتكبها بها أو لم يشعر. قد قال الوحي: ولا تقُل.. إنه سهو (جامعة 5: 6) ، لأن السهو دليل على عدم السلوك بالكمال، وذلك خطية. ونحن نعلم أن مخالفة القانون بسبب الجهل أو السهو لا ينجي المخطئ من القصاص، فالمفروض في كل المواطنين، بل وحتى في الغرباء الساكنين بينهم، أن يكونوا عارفين بقوانين البلاد وحريصين على تنفيذها، ولذلك كانت للمواطنين والغرباء شريعة واحدة (خروج 12: 49 ولاويين 24: 22) . مما تقدم يتضح لنا أن الإِنسان مهما بلغ أسمى درجات الأخلاق الكريمة وقام بالواجبات الدينية خير قيام، ثم انحرف مرة عن اللّه بالفعل أو القول أو الفكر، يكون خاطئاً. وإذا عاش دون أن ينحرف هذا الانحراف، لكن لم يعمل كل الصلاح الذي يستطيع القيام به بالحالة التي تتوافق مع كمال اللّه، يكون أيضاً خاطئاً. وإذا عمل كل الصلاح الذي يستطيع القيام به بالحالة المذكورة، لكن أخطأ مرة واحدة سهواً، يكون خاطئاً أيضاً. فإذا قيَّمنا أنفسنا في ضوء هذه الحقائق نكتشف أننا نرتكب خطايا لا حصر لها دون أن نحسب لها حساباً، ظناً منا أنها صغائر لا يقيم اللّه لها وزناً، لكنها في الواقع ذنوب ومعاصٍ في نظره. ولذلك قال الوحي عن الإِنسان عامة تصوُّر أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم (تكوين 6: 5) ، وإن قلبه (الذي هو موطن الشعور والعواطف فيه) أخدع من كل شيء وهو نجيس (إرميا 17: 9) ، وإن من القلب تخرج أفكار شريرة: زنا، فسق، قتل، سرقة.. تجديف (مرقس 7: 21 و22) و إن كل الرأس مريض، وكل القلب سقيم. من أسفل القدم إلى الرأس ليس فيه صحة، بل جرح وأحباط الأحباط هي الجروح التي تنشأ من السحق، والمراد بها هنا الخطية التي تدمّر نفوس البشر وتسحقها وضربة طريَّة لم تُعصر ولم تُعصب ولم تُليَّن بالزيت (إشعياء 1: 5 و6) ، أي أن الخطية ضربت أطنابها في الإِنسان حتى أفسدت كيانه كله. ولقد أدرك فولتير شيئاً من هذه الحقيقة، فقال: كلما رسمتُ لنفسي صورة الإِنسان خُيّل إليَّ أنه شيطان . 1 - عدم التفرقة بين الصغائر والكبائر، يشجع الناس على ارتكاب الكبائر. الرد: الذين يهمُّهم إرضاء اللّه يمتنعون عن الصغائر كما يمتنعون عن الكبائر. أما الذين لا يبالون بإرضائه، فلا يتركون الكبائر، حتى لو سلّم اللّه لهم بوجود صغائر وكبائر، ولذلك لا مجال لهذا الاعتراض. 2 - هل من العدالة أن يضع اللّه أمامنا مقياساً عالياً للقداسة، ثم يعاقبنا لعدم استطاعتنا بلوغه؟. الرد: السبيل الوحيد للتمتع باللّه هو التوافق معه في صفاته. وهو قدوس كل القداسة. فإذا أردنا التمتع به يجب أن نكون قديسين في كل سيرة (1بطرس 1: 15) . فلم يضع الله أمامنا مقياساً للقداسة أسمى مما يجب علينا الارتقاء إليه، بل وضع أمامنا المستوى القانوني الذي يجب أن نحيا فيه في كل حين. فعندما نشعر بعجزنا عن بلوغ هذا المستوى، يتنازل اللّه بنعمته ليرفعنا إليه، إذا وجد فينا الرغبة الخالصة لذلك، كما سيتضح بالتفصيل في الباب السادس من هذا الكتاب. فلا مجال لهذا الاعتراض. 3 - القول إن الإِنسان كله شر، لا يتفق مع الصواب، فالواقع يدل على أن به الكثير من الصفات النبيلة. الرد: الإِنسان مخلوق أصلاً على صورة اللّه كشبهه (تكوين 1: 26) بمعنى أن اللّه خلق الإِنسان بمؤهلات روحية، تجعله قادراً على التوافق معه في صفاته الأخلاقية السامية. وقد عرف هذه الحقيقة كثير من المفكرين، فقال دكتور ألكسندر فندلي: خلق اللّه الإنسان على صورته ليبادله حباً بحب، لأن اللّه محبة . وإذا كان الأمر كذلك، فإن إنسانية الإِنسان تقوم أولاً وأخيراً على توافقه مع اللّه. فإذا انحرف عنه حرم نفسه من الإِنسانية بكل مميزاتها. فمن البديهي أن يظل فيه حتى بعد سقوطه في الخطية شيء من الصفات النبيلة، مثل المروءة والشهامة والعطف على المساكين والمحتاجين. لكن طالما أنه منحرف عن كمال اللّه وقداسته، فإنه كثيراً ما يمارس هذه الصفات، إما لأنه يحسّ مرة بقسوة الظروف عليه، فيريد أن يزيح شبحها من أمامه، أو لأنه يخشى أن لا يعطف عليه أحد إذا وقع هو في أزمة أو ضائقة، أو ليُشبع رغبة كامنة في نفسه تدعوه لأن يبدو عظيماً أو صالحاً على نحو ما، أو ليكفّر (حسب زعمه) عن شر ارتكبه حتى يكون له القبول لدى اللّه. وهذا يجعل أعماله المذكورة مشوبة بنقائص عدّة. ومع ذلك فالإنسان الخاطئ وإن كان يتصرّف بشيء من الصفات النبيلة، لكنه مع ذلك كثيراً ما يرتكب الرذائل والموبقات الشنيعة، فلا يكون باراً أو مستقيماً أمام اللّه. 4 - تحط المسيحية من قدر الإنسان بقولها إنه خاطئ بجملته، كما تجعله فريسةً للشر والإِثم. الرد: المسيحية لا تجعل الإِنسان فريسة للشر والإِثم لأنها تعلن أنه يعمل الخطية بمحض إرادته. فضلاً عن ذلك فإنها لا تحط من قدره، بل تعلن له حقيقة أمره في ضوء مطالب اللّه، حتى لا يعتقد أن الله قريب منه، وهو في الواقع بعيد عنه. كما تعلن المسيحية أن الإِنسان مخلوق في أول الأمر على صورة اللّه كشبهه، فهناك أصلٌ للصلاح في نفسه يجعله قادراً على التمييز بين الحق والباطل، وبين الخير والشر. فإذا سعى بإخلاص نحو الحق والخير، رفعه اللّه فوق ما به من نقائص، كما سيتضح في الباب السابع من هذا الكتاب. تسرُّب الخطية إلى البشر عامة 1 - الحالة التي يولد بها البشر: يقول الرواقيون والبيلاجيون: يولد الإِنسان بريئاً، مَثَله في ذلك مَثَل آدم قبل السقوط في الخطية، إنما أعماله هي التي تكوّن صفاته. لأنه لو كان قد وُلد فاسداً، لكانت حياته بأسرها حياة الشر والإجرام . (الرواقيون هم أتباع زينو الفيلسوف اليوناني، وأُطلق عليهم هذا الاسم نسبة إلى الرواق الذي كانوا يجتمعون فيه، في القرن الرابع ق م. أما البيلاجيون فهم أتباع بيلاجيوس الذي ظهر في إنكلترا في القرن الخامس م) . ويقول الأرمينيون: وإن كان الإِنسان يولد بريئاً، لكن يكمن في طبيعته قصور يحول بينه وبين السلوك بالكمال، وهذا سبب ارتكابه الشر في بعض الأحيان . (الأرمينيون هم أتباع أرمينيوس الذي ظهر في هولندا في القرن 16 م) . ويقول جان جاك روسو و&ولتير وشارل فوربيه وغيرهم: يولد الإنسان كاملاً (أي ليس بريئاً فحسب، بل وكاملاً أيضاً) . إنما إذا عاش في بيئة شريرة يتسرب إليه الشر منها. فالخطية إذاً ليست أصلية فيه بل طارئة عليه، فمن الممكن إزالتها بالتنوير والتعليم . والرأي الأول ليس صواباً لأن أعمال الإِنسان لا تكوّن صفاته، بل تصدر عنها. فالإنسان لا يكون قاتلاً في الظاهر إلا إذا كان يميل إلى القسوة والانتقام في الباطن. فصفات الإنسان سابقة لأعماله وليست لاحقة لها. فهو خاطئ بالقصد قبل أن يكون خاطئاً بالفعل. كما أن عدم ارتكاب كل إِنسان شروراً شنيعة ليس دليلاً على أن البشر يولدون أبرياء. فالخطية ليست هي الشر الشنيع فحسب، بل هي أيضاً مجرد انحراف النفس إلى الشر أو انحرافها عن الخير، كما ذكرنا في الفصل السابق. والرأي الثاني ليس صائباً أيضاً، فمن غير المعقول أن يكون في طبيعتنا قصور يحول بيننا وبين السلوك بالكمال، ونكون أبرياء. بل لا بد أننا نولد وفي طبيعتنا ميل إلى الخطية، لأنه لا يمكن أن نفعلها إلا إذا كان فينا ميل إليها، إذ أن لكل معلول علة ولكل عمل سبب. والرأي الثالث ليس صواباً كذلك، لأن البيئة الشريرة وإن كان لها تأثير عظيم على الإِنسان، لكن ليست هي التي تولّد الشر فيه. والدليل على ذلك أن الأطفال الذين لا يعرفون بعد شيئاً عن الحياة الدنيا، تبدو عليهم إمارات الأنانية والكبرياء ومحبة الذات، والحسد والطمع والعناد. كما أنهم يسطون على ممتلكات الغير ويتشاجرون معهم مدفوعين في ذلك كله بغرائز كامنة في نفوسهم. ولا عبرة بالقول إن تصرفات الأطفال المذكورة هي مجرد نقائص، أو أن الأطفال لا يدركون أن تصرفاتهم هذه هي خطايا، لأن النقائص خطايا، وعدم إدراك الخطايا لا يقلّل من أنها خطايا. الغريزة في ذاتها ليست خطية، لأن اللّه هو الذي أودعها في الإنسان لأجل خيره، إنما الخطية هي استخدام الغريزة في غير ما أودعها اللّه لأجله. وإذا كان الأمر كذلك، اتضح لنا أن الإِنسان يولد وبه ميل إلى الخطية، وهذا الميل وإن كان لا يبدو بوضوح في الصغر، غير أنه يأخذ في الظهور كلما شبَّ الإِنسان ونما. وهو مثل السم الكامن في الثعبان، فإنه لا يَرِد إليه من الخارج، بل أن الثعبان يولد وفي جسمه استعداد لتكوينه. وكل ما في الأمر، أن هذا السم لا يظهر بنتائجه المميتة، إلا إذا بلغ الثعبان سناً معينة. ومما يؤيد صدق هذا الاستنتاج (أ) أن الذين قالوا بسلامة الفطرة الإِنسانية وكمالها، وبذلوا كل ما لديهم من جهد لتحسين حالة الفقراء والبؤساء، لاقوا من أولئك وهؤلاء الكثير من المتاعب والمضايقات، فخابت آمالهم الطيبة فيهم جميعاً، كما حدث مع سان سيمون وروبرت أوين وغيرهما. (ب) لا يقدر التعليم أن يستأصل الخطية من نفس الإنسان، بل يعمل فقط على إخفاء بعض مظاهرها الشنيعة. والدليل على ذلك أن المتعلمين يفعلونها كما يفعلها غيرهم سواء بسواء. وكل ما في الأمر أنهم يتستَّرون بفعلها وراء أسماء مفتعلة مثل المدنية أو الحرية أو المصلحة الذاتية أو الحكمة البشرية، مثلهم مثل القبور التي تحيطها الأزهار والرياحين، بينما لا يوجد في باطنها إلا العفونة! وقد أدرك كثير من الفلاسفة أن في الإنسان ميلاً للشر يسيطر على كيانه بأسره، فقال أرسطو: أكثر أعمال الإِنسان محكومة بالعواطف والشهوات، ولذلك فهو يخطئ مهما علم عقله بضرر الخطأ. فالإِنسان يفكر جيداً ويرشده فكره إلى الصواب، لكن تتغلب عليه شهوته الكامنة فيه فتغويه . وقال سانت هيلير ليس ما يقع فيه الإِنسان من إثم ناشئاً عن خطأ في الموازنة بين اللذة الحاضرة والآلام المستقبلة، ولا ناشئاً عن جهل بطبيعة الأشياء. إنما منشؤه فساد في الخُلُق يحمل الإِنسان إلى تفضيل الشر على الخير، وهو عالم بهما وبنتائج كلٍ منهما. فإن الشرير لا يجهل البتة ما يفعله من سوء بل يشعر به وبما يلحقه من خسارة بسببه، ومع ذلك يسعى إلى هذا الخسران وهو آسف . وقال غيره: ليس الناس الذين نشأوا في الغابات بعيدين عن الأخطاء التي درج عليها غيرهم من سكان المدن، ولا هم أبرياء كما يُقال، بل هم حيوانات ماكرة. وهم ليسوا أفضل من المتحضّرين في شيء من الناحية الأخلاقية . وقال هكسلي: الاعتقاد أن الأطفال يُولدون في حالة الصلاح، وأن المجتمع الفاسد هو الذي ينحرف بهم إلى الشر، ليس له نصيب من الصواب . وقال سير سيدني سميث: يأتي الأطفال إلى العالم وفي طبيعتهم العناد والشر والأنانية . 2 - سبب ولادة الإِنسان بطبيعة تميل إلى الخطية: بناءً على قانون الوراثة لا يمكن لكائن أن يلد آخر مغايراً له، فالخنزيرة لا يمكن أن تلد حملاً، والشوك لا يمكن أن ينتج عنباً. وبما أن آدم الذي وُلد منه البشر جميعاً كان قد فقد بعصيانه حياة الاستقامة التي خلقه اللّه عليها وأصبح خاطئاً قبل أن ينجب نسلاً، فمن البديهي أن يولد أبناؤه جميعاً خطاة بطبيعتهم نظيره، لأننا مهما جُلنا بأبصارنا في الكون، لا نجد لسُنَّة اللّه تبديلاً. ولذلك قال الوحي: بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم (رومية 5: 12-21) . وشهد داود النبي بهذه الحقيقة فقال: بالإثم صُوّرت وبالخطية حبلت بي أمي (مزمور 51: 5) . وقد أدرك هذه الحقيقة كثير من الفلاسفة والعلماء، فقال هكسلي وكانْت: هناك أصل للشر في الطبيعة البشرية، مما يدل على أن قصة سقوط آدم في الخطية صحيحة . 3 - آراء الذين ينكرون تسرب الخطية من آدم إلى البشر جميعاً: أما الذين أنكروا تسرب الخطية من آدم إلى البشر جميعاً، فقد ذهبوا مذاهب متعددة، نوردها هنا، مع الرد عليها: (أ) لم يولد البشر من رجل واحد مثل آدم، حتى كان من الجائز أن يشتركوا معاً في طبيعة خاطئة واحدة. الرد: وجود أصل واحد للبيض والزنوج (كما قال السير أرثر كيث وغيره من العلماء) ، ووحدة أصل اللغات (كما قال مكس مولر وغيره من العلماء) ، وتشابه الناس جميعاً في أجسامهم وكيفية تغذيتهم وتناسلهم ودرجة حرارتهم وسرعة نبضهم (كما نعلم جميعاً) ، كل ذلك يدل على أنهم مولودون من أصل واحد، أو بالحري من رجل واحد. (ب) ءمنذ القديم خلق الله أرواح البشر جميعاً وأوصاها أن تطيعه وتحفظ وصاياه، غير أنها تمردت عليه وخالفت هذه الوصايا، لذلك أوجدها في ذرية آدم ليعطيها فرصة أخرى لإظهار طاعتها له. فتكون خطايا البشر جميعاً خطايا ذاتية لا شأن لها بآدمى. الرد: ليس هناك أي دليل ديني أو عقلي أو تاريخي يثبت أنه كان لنا وجود فعلي قبل ولادتنا من أمهاتنا، أو أننا فعلنا خطية ما قبل ولادتنا منهن. (ج) وجود الطبيعة الخاطئة في البشر ليس ناشئاً عن ولادتهم من آدم، بل عن عصيانهم الشخصي، لأن ناسوت آدم وناسوتهم جوهر عام واحدى. الرد: (أ) بنى أصحاب هذا المذهب قولهم المذكور على المُثل الأفلاطونية، فزعموا (كما قال أفلاطون) أن اللّه أوجد البشرية قبل أفرادها، مثَلها في ذلك مَثل المغناطيسية التي أوجدها في العالم قبل ظهور حجر المغناطيس. وبناءً على ذلك يقولون إن البشرية القديمة تحل بكل خواصها في كل إنسان يُولد في العالم، كما تحل المغناطيسية بكل خواصها في حجر معيّن، فيصبح حجر المغناطيس. وهذا المذهب لا نصيب له من الصواب، لأن حجر المغناطيس لم ترد إليه المغناطيسية من الخارج في أي عصر من العصور، بل وُجد والمغناطيسية كامنة فيه. (ب) ليس هناك دليل على أننا كنا متَّحدين مع آدم في الجنة بأي شكل من الأشكال، أو أننا أخطأنا بالفعل معه هناك. فضلاً عن ذلك فكل منا مستقل بذاتٍ. فلآدم، كما لكل واحد منا، شخصيته التي لا يشترك معه فيها إنسان غيره. فالطبيعة الخاطئة، وإن كانت قد انتقلت إلينا من آدم، غير أننا لم نرتكب شخصياً أية خطية عملها آدم أو شخص غيره. (جـ) سبب الخطية هو: اضطراب في النفس أو في الغدة النكفية، أو مركب النقص الموجود في اللاوعي. الرد: اضطراب النفس والغدة النكفية، وأي مركب نقص في اللاوعي، لا يؤدي إلى عمل الخطية إلا إذا كان الميل إليها قابعاً في الطبيعة البشرية، فاضطراب مياه البحار بواسطة العواصف ليس هو الذي يكوّن الأعشاب البحرية في البحار، بل يهيئ لها فقط سبيل الظهور على سطح البحار. لقد حاد أصحاب هذه المذاهب عن الصواب. أما الحقيقة التي شهد بها وأيدها الاختبار، فهي أن الطبيعة الخاطئة التي فينا قد تسربت إلينا بالولادة من آدم الذي تناسلنا منه جميعاً. 4 - نتائج ولادة البشر بالخطية: تسرَّبت الخطية وتتسرب إلى البشر بالوراثة. وبما أن قانون الوراثة قانون عام تخضع له جميع الكائنات الحية، فمن البديهي أن الخطية تسربت إلى كل البشر، فصاروا جميعاً خطاة بأفعالهم كما وُلدوا خطاة بطبيعتهم. ولذلك قال الوحي: ليس بار ولا واحد. ليس من يفهم (فهماً روحياً) . ليس من يطلب اللّه. الجميع زاغوا وفسدوا معاً، ليس من يعمل صلاحاً، ليس ولا واحد.. لأنه لا فرق، إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد اللّه (رومية 3: 10-12 و22 و23) . وقال داود النبي للّه: لا تدخل في المحاكمة مع عبدك، فإنه لن يتبرر قدامك حي (مزمور 143: 2) . وقد اعتاد الناس أن يفرِّقوا بين إنسان وآخر، فيقولون مثلاً: إن هذا الإنسان أفضل من ذاك. لكن ليس هذا هو الحال في نظر اللّه، لأنه ليس هناك واحد من البشر لم يفعل خطية واحدة في حياته. ومن يفعل خطية واحدة، يكون خاطئاً لا باراً. الاعتراضات التي توجه ضد الحقائق السابقة والرد عليها: 1 - أليس للبيئة تأثير عظيم على الإنسان؟ الرد: طبعاً لها تأثير عظيم عليه، فإن كانت البيئة شريرة ساعدت على نمو الخطية واستفحال أمرها في الإنسان. وإن كانت صالحة حدَّت من نشاط الخطية لديه. لكن لا تقدر البيئة الصالحة أن تستأصل الميل إلى الخطية من الإنسان، أو تمنع تسرُّب هذا الميل إليه، بدليل أن الخطية توجد في أرقى البيئات، كما توجد في أدناها سواء بسواء. 2 - ليس كل أبناء الأشرار يرتكبون شروراً مثل آبائهم، فكيف يُقال إن كل البشر يولدون خطاة بالطبيعة لأن آدم، الذي وُلد منه أجدادهم منذ آلاف السنين، قد أخطأ مرة؟ى. الرد: وإن كان بعض أبناء الأشرار لا يرتكبون شروراً مثل آبائهم، لكن ليس هناك واحد منهم لم يخطئ على الإطلاق، لذلك يكونون جميعاً خطاة. ويرجع السبب في وجود الخطية في البشر عامة إلى تناسلهم من آدم الذي هو أبوهم جميعاً كما ذكرنا. ولا غرابة في ذلك فإن خطيته لم تكن إصابة في جسده حتى كانت لا تنتقل إلى أبنائه، بل كانت إصابة في نفسه. كما أن هذه الإصابة لم تكن إصابة هيّنة، فقد غيّرت اتجاه نفسه تغييراً تاماً، فبعد أن كانت نفسه في براءتها لا تحب إلا خالقها ولا تعمل إلا ما يريده، أصبحت تتوارى من حضرته وتعمل ما نهاها عنه. ومثل هذه الإصابة تنتقل طبعاً من الأب إلى أبنائه، كما تنتقل العلل النفسية الخطيرة تماماً. 3 - كيف يكون كل البشر خطاة، ونحن نرى بينهم كثيرين من الصالحين؟. الرد: الصلاح بمعنى عدم ارتكاب خطية بالقول أو الفكر، مع القيام بكل أعمال الخير لكل الأصدقاء والأعداء على السواء، دون انتظار لأي جزاء أو ثواب، ليس له وجود في البشر. ليس أحد صالحاً إلا واحد وهو اللّه (لوقا 18: 19) . أما أفضل البشر فهم أشخاص يقومون بخير أكثر من غيرهم ويخطئون أقل من غيرهم. فالفرق بين البشر من جهة الخطية هو فرق نسبي فحسب، لأنهم جميعاً خطاة بطبيعتهم وخطاة أيضاً بأعمالهم، سواء كثُرت هذه الأعمال أم قلَّت. وأوضح دليل على ذلك أن نوحاً (تكوين 9: 21) وإبراهيم (تكوين 12: 12 و13) وأيوب (أيوب 42: 2) وموسى (العدد 20: 6-11) وداود (مزمور 51: 1) وإشعياء (إشعياء 6: 5) وزكريا (لوقا 1: 20) وبطرس (لوقا 22: 61) ، وبولس (أعمال 23: 3) ، وغيرهم من الرسل والأنبياء أخطأوا مثل غيرهم من الناس. أما العصمة المسندة إلى الرسل والأنبياء في المسيحية، فهي فقط في تبليغهم للرسائل التي كان اللّه يُوحي بها إليهم، لأنهم كانوا عند تبليغها يقعون تحت سلطانه المطلق، فلم يضيفوا إليها كلمة أو يحذفوا منها أخرى. ولذلك قيل بالوحي: إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة (من شريعته) (متى 5: 18) . أما قول الوحي عن نوح إنه كان رجلاً باراً وكاملاً في أجياله (تكوين 6: 9) ، وعن أيوب إنه كان رجلاً كاملاً ومستقيماً يتقي اللّه ويحيد عن الشر (أيوب 1: 1) ، وعن زكريا وامرأته إنهما كانا بارين (لوقا 1: 6) ، فلا يُراد به أنهم لم يفعلوا خطية طوال حياتهم، بل أنهم كانوا يهابون اللّه ويحاولون جهد الطاقة أن ينفذوا وصاياه، كما كانوا يسرعون إلى تقديم الذبائح الكفارية له عن كل خطية يفعلونها، كما سيتضح بالتفصيل في الباب الثالث من هذا الكتاب. 4 - إذا كان كل الناس خطاة، أفليس أقلهم خطأ يمكن أن يكون مقبولاً لدى اللّه؟. الرد: لنفرض أن طبيعة عمل ما تتطلب من الراغبين في الالتحاق به أن يكون مقياس نظرهم كاملاً، لكن بفحصهم وُجد أن نظر فريق منهم هو الثلثان، ونظر فريق آخر هو النصف، فهل يجوز للفريق الأول أن يطالب بأحقيته في الالتحاق بهذا العمل دون الثاني؟ طبعاً كلا. لماذا؟ لأن مقياس النظر الذي يتطلبه العمل المذكور هو الكمال. وهكذا الحال من جهة الكليات الجامعية، فإذا اشترطت أشهرها في طالب اللحاق بها أن يكون حاصلاً على 90% أو أكثر من مجموع الدرجات، فإن مَنْ كان مجموعه 89% يتساوى مع من كان مجموعه أقل من هذه النسبة بقليل أو كثير، لأن كليهما لا يُقبَل في هذه الكلية. وعلى هذا النسق نقول: بما أن اقترابنا إلى اللّه لا يتوقف على مستوانا الروحي في نظرنا أو نظر الناس، بل على هذا المستوى في نظر الله. وبما أن اللّه كامل، ولا يتوافق مع الكامل إلا الكمال، إذاً ليس بيننا بكل أسف شخص، مهما قلَّت خطاياه، يستطيع أن يحظى في ذاته بالقبول لدى اللّه. هذه هي الحقيقة التي يجب أن نضعها أمامنا من الآن، حتى يتضح لنا السبيل الإلهي. 5 - ءقول المسيحية إن الطبيعة الخاطئة انتقلت إلى البشر بالوراثة، يجعلهم غير مسئولين عن الخطايا التي تصدر منهم، وهذا ما لا يتفق مع الحق. الرد: تقول المسيحية إن الطبيعة الخاطئة انتقلت إلى البشر بالوراثة. وهي تعلن أنهم يخطئون، ليس رغماً عنهم (مدفوعين في ذلك بغرائزهم وحدها كما هو الحال مع الحيوان) بل إنهم يخطئون بإرادتهم نتيجة موافقتهم على تلبية رغبات هذه الغرائز. فهم مسئولون عن كل خطية يرتكبونها، لأن المسئولية لا تُرفع إلا عن الأطفال والمجانين. ولذلك قال الوحي إن كل واحد منا سيعطي عن نفسه حساباً للّه (رومية 14: 12) ، كما قال إن اللّه سيحضر كل عمل من أعمال الناس إلى الدينونة، سواء كان خفياً أم ظاهراً (جامعة 12: 14) . فليس هناك مجال أمام إنسان للاعتذار عن خطاياه بدعوى ضعف الإِرادة، لأنه لو أتى ضعيف الإِرادة بإخلاص إلى اللّه، لأعطاه اللّه طبيعة روحية جديدة تسمو به فوق أهواء الجسد سمواً عظيماً، كما سيتضح في الباب السادس من هذا الكتاب. 6 - هل من العدالة أن يُضار البشر جميعاً بسبب خطية ارتكبها آدم وحده؟. الرد: الحقائق الراهنة أثبت من منطقنا نحن البشر، لأن إدراكنا ليس كاملاً في كل الأمور. ومن هذه الحقائق مثلاً، أن بعض الأبناء البررة يرثون من آبائهم العلل والعاهات التي تقشعر منها النفس. وإذا حاولنا أن نحكِّم عقولنا في أسباب انتقالها إليهم نقف مكتوفي الأيدي. وهذا ما يواجهنا تماماً في حالة آدم وانحدار الطبيعة الخاطئة منه إلينا جميعاً، فآدم بحكم مركزه هو أبونا والنائب عنا جميعاً، وهذه حقيقة لا يستطيع المنطق أن ينكرها، سواء كانت معقولة عند بعض الناس أم غير معقولة. وهو بطبيعة مركزه هذا لا يمكن إلا أن تعود نتائج خطيته علينا دون أن يكون لنا يد في ارتكابها، مثله في ذلك مثل الآباء الذين تعود نتائج فجورهم وشرورهم على أبنائهم البررة. فلا سبيل للاعتراض على اشتراكنا في نتائج خطية آدم. ومع ذلك لا داعي لليأس أو الاعتراض، فقد تداخلت نعمة اللّه الغنية في أمرنا، ففتحت لنا جميعاً باب الخلاص من الخطية ونتائجها مجاناً، كما يتضح من البابين الرابع والخامس من هذا الكتاب. 7 - لماذا لم يخلق اللّه إنساناً كاملاً من أول الأمر، فكان يجنّب ذريته نتائج الخطية المريعة؟ . الرد: خلق اللّه آدم في أحسن تقويم وفي غاية البراءة، دون أن يكون فيه ميل إلى العصيان. ولو كان اللّه قد خلق أي إنسان آخر عوضاً عن آدم لكان قد ارتكب ما ارتكبه آدم، ولأصبح نسله خطاة مثله أيضاً. ولكن الله أعلن لنا في كتابه أنه كما انتقلت الطبيعة الخاطئة إلينا دون ذنب جنيناه، يأتي إلينا الخلاص منها، ومن عقوبة الخطايا التي تصدر عنها كذلك، منحة مجانية منه دون أي عمل من جانبنا سوى الإِيمان الحقيقي، كما سيتضح في الباب السابع من هذا الكتاب. وسيتضح لنا في الباب الأخير من هذا الكتاب أنه كان خيراً لنا أن نولد كلنا من رجل واحد ونرث منه طبيعته الخاطئة، من أن يُخلَق كلُ واحد منا بمفرده ويكون مسئولاً بشخصه عن كل خطية يفعلها، لأنه في الحالة الأولى يكون لنا جميعاً امتياز الحصول على غفران كامل شامل من اللّه بفضل نائب آخر أسمى من آدم بما لا يُقاس، هو السيد المسيح. تأثير الخطية بالنسبة للّه 1 - أسباب تأثيرها بالنسبة إلى اللّه: يعتقد بعض الناس أن الخطية إذا كانت بين الإِنسان وبين نفسه، انحصر تأثيرها فيه وحده. وإذا كانت بينه وبين إنسان غيره، انحصر تأثيرها فيهما. أما اللّه فبسبب روحانيته المطلقة أرفع من أن يتأثر (كما يقولون) بأي مؤثر خارجي. لكن هذا الاعتقاد خاطئ لسببين: (أ) كلنا يعلم أن الكامل يُسرّ بالخير ويكره الشر. ولا يُسر بالشر ويكره الخير إلا الذي لا يدرك معنى الكمال، أو الجماد الذي لا حياة فيه ولا شعور. وبما أن اللّه كامل كل الكمال وحيّ إلى أبد الآباد، وقد نهانا عن الشر وأوصانا بالخير، إذاً فهو مع روحانيته المطلقة يتأثر بما نفعله من شر أو خير على نحوٍ يتفق مع روحانيته هذه. لذلك قال الوحي عن اللّه إنه لا يطيق الإِثم (إشعياء 1: 13) ، وإن عينيه أطهر من أن تنظرا الشر (حبقوق 1: 13) . فإذا ارتكب أحدنا خطية ضد نفسه أو ضد غيره، لا يكون قد أساء إلى نفسه أو غيره فحسب، بل وإلى اللّه قبل كل شيء آخر. (ب) للّه علاقة وثيقة بنا، فقد خلقنا على صورته كشبَهه، كما منحنا المواهب العقلية والأخلاقية التي تفكر فيه وتسعى إليه. وبعث إلينا كثيراً من الرسل والأنبياء ليعلنوا لنا أفكاره الطيبة من نحونا وما يجب علينا من تصرف إزاءه. وبما أن كل علاقة بين طرفين تتأثر بتصرفات أحدهما، إذاً فكل خطية نرتكبها تؤثر على علاقتنا باللّه. وقد أدرك هذه الحقيقة كثير من الفلاسفة، فقال بسكال: يعتبر الإِنسانُ اللّهَ كأنه وثن إذا جعله موضوعاً للمعرفة فحسب، وجرّده من عمله الجوهري الخاص بعلاقته معنا . أما الفلاسفة الذين يقولون إن اللّه لا يعبأ بشر الناس أو خيرهم، رغبةً منهم في تنزيهه تنزيهاً مطلقاً، فهم في الواقع لا يسندون إليه الكمال المطلق كما يقولون، بل يجردونه من صفات الكائن الأدبي تجريداً تاماً، ويجعلونه اسماً دون مسمى. وعلى هذا فإن كل خطية نرتكبها ضد أنفسنا أو ضد غيرنا من الناس، تكون موجهة ضد اللّه أولاً. عندما أخطأ داود النبي ضد أوريا وامرأته قال للّه: إليك وحدك أخطأتُ، والشر قدام عينيك صنعت (مزمور 51: 4) . ويوسف الصديق عندما أبى أن يلبي الرغبة الآثمة التي عرضتها عليه امرأة فوطيفار، قال لها: كيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطئ إلى اللّه؟! (تكوين 39: 9) . 2 - مدى الإِساءة التي نوجّهها إلى اللّه بسبب الخطية: وإن كنا لا نستطيع تحديد هذه الإِساءة بسبب سمو اللّه عن إدراكنا سمواً لا حد له، لكن نعلم أنه بارتكاب الخطية (أ) نمنع وجود الصلة الروحية الطيبة التي يريد الله أن تكون بينه وبيننا، لأنه لم يخلقنا على صورته كشبهه إلا لتكون لنا هذه الصلة به. (ب) ننكر فضله علينا ونستهين بعواطفه الكريمة من نحونا. (ج) نرفض شريعته ونعصاها، وبذلك نتمرد عليه ونهينه في أرضه وعلى مرأى منه. لذلك قال الوحي عن الخطاة إنهم لا يخشون اللّه (إرميا 2: 19) ويبغضونه بلا سبب (مزمور 69: 4) ، ويرفضون شريعته (إرميا 6: 19) ، وينقضون عهده (يشوع 7: 11) ، ويتمردون على شخصه (هوشع 13: 16) ، ويسلبون حقوقه (ملاخي 3: 8) ، ويُفسِدون أمامه (نحميا 1: 7) ، ويهينون مقامه (مزمور10: 13 وإشعياء 1: 2-4) ، ويحتقرون اسمه وينجّسونه أيضاً (ملاخي 1: 6 وحزقيال 36: 20) ، لأن لسان حالهم إزاءه ابعُدْ عنا، وبمعرفة طرقك لا نُسرّ (أيوب 21: 14) . فالخطية، علمْنا أم لم نعلم، هي أكبر إساءة نوجهها إلى اللّه، ولذلك قال الوحي: الخطية خاطئة جداً (رومية 7: 13) . أما الاعتراض الذي يُوجَّه ضد ما ذكرناه فهو أليس اللّه أرفع من أن نهينه أو نسيء إليه بعصياننا؟ الرد: صحيح أننا بعصياننا لا ننتقص شيئاً من مجد اللّه في ذاته، كما أننا لا نستطيع بطاعتنا له أن نضيف شيئاً إلى مجده هذا، لأنه كامل في ذاته كل الكمال ولا يتعرض للزيادة أو النقصان. لكن من ناحية علاقتنا به ووجوب طاعتنا له بوصفه خالقنا ووليّ نعمتنا، فإننا بعمل الخطية ننكر حقوقه علينا ونسيء لشخصه أيضاً، إذ يكون كما لو لم يكن هو خالقنا ووليّ نعمتنا!! فمجد اللّه الذاتي، وإن كان كاملاً كل الكمال ولا يتعرض للزيادة أو النقصان، بغض النظر عن طاعتنا للّه أو عدم طاعتنا له كما ذكرنا، لكن مجده الظاهري في علاقته بنا مرتبط بتصرفنا إزاءه. ولذلك يقول: الابن يكرم أباه (بطاعته) ، والعبد يكرم (بطاعته أيضاً) سيده. فإن كنتُ أنا أباً فأين كرامتي (في نظركم) ؟ وإن كنت سيداً فأين هيبتي (عندكم) ؟ (ملاخي 1: 6) . تأثير الخطية بالنسبة للبشر إذا نقلنا حيواناً من المنطقة الحارة إلى المتجمدة أو العكس، اضطرب جسمه وتعرض للموت. وهكذا الحال إذا نقلنا حيواناً بحرياً إلى البر أو برياً إلى البحر. لكن إذا ظل كل حيوان في المجال الذي خُلق ليعيش فيه، نما جسمه وعاش حياة طيبة. وعلى هذا النسق نقول: بما أن اللّه خلقنا لنعيش بالقرب منه، في رفقته ومعيّته. وبما أن كل كائن يبتعد عن المجال الذي خُلق للعيش فيه، لا يمكن أن يهنأ أو يستريح، فمن البديهي أن كل من يبتعد عن اللّه يتعرض للتعب والشقاء. وقد أشار اللّه إلى هذه الحقيقة فقال: من يخطئ عني يضرّ نفسه (أمثال 8: 36) . والأضرار التي يتعرض لها الإنسان في العالم الحاضر بسبب الخطية ثلاثة أنواع: أضرار نفسية، وأضرار أخلاقية، وأضرار مادية: 1 - الأضرار النفسية: من يركض وراء الخطية، يحيا حياة القلق وعدم الاستقرار، كما يتعرض أحياناً للأمراض النفسية التي يتعذر شفاؤها، لأنه لا يجد في نهاية جهاده على الأرض هدفاً ثابتاً ولا رجاءً منيراً أمامه. وإذا لم يتعرض لهذه الأمراض، فإنه يحصر غايته في ثروة لا يلبث أن يتركها أو تتركه، أو في لذة أو نشوة سرعان ما يهجرها أو تهجره. أو في ولد إذا امتد به العمر فإنه يُبكيه إذا تُوفي، ثم لا يلبث أن يهتم بشؤونه الخاصة وينساه. لذلك قال الوحي عن الخطية إنها تحني النفس (مزمور 44: 25) وتملؤها بالذل والهوان (مزمور 123: 4) ، وتحرمها من الراحة والسلام (إشعياء 48: 22) ، وتسلبها الوعي الروحي فتصبح أحط من نفس الحيوان (إشعياء 1: 3) . 2 - الأضرار الأدبية: ولوجود الطبيعة الخاطئة في الإنسان، يصبح (إذا لم يتلقَّ حياة روحية من اللّه) عاجزاً عن الارتقاء فوق خطاياه. فإذا تعهد يوماً بالإقلاع عنها، وبذل جهده في سبيل تنفيذ تعهده هذا، سرعان ما يُغلب على أمره. فإن لم يفعل الخطية في الظاهر قد يفكر فيها ويشتهيها في الباطن، ومِن ثمَّ يعود من حيث أتى. ومثل الإنسان في مقاومة الخطية بقوته الذاتية، مثل الماء الذي لا يستطيع الارتفاع من تلقاء ذاته إلى مستوى أعلى من المستوى الذي هبط منه في أول الأمر، كما نرى في تجارب الأواني المستطرقة. أو مثل الطائر الذي يسعى إلى الانطلاق نحو السماء وهو مقصوص الجناح، فإنه مهما حاول وجاهد لا يستطيع أن يرتفع فوق الأرض شبراً واحداً. وأول من شعر بهذه الحالة المريرة هو آدم وحواء، فعندما أخطئا، فقدا الصلة الروحية باللّه، كما أحسَّا بأنهما لا يستطيعان العودة إلى حالة البراءة التي كانا يتمتعان بها من قبل (تكوين 3: 8) . ويُطلَق على هذا العجز وذاك الفقدان اسم الموت الأخلاقي الذي هو أشر موت لمن يقدّر أهمية التوافق مع اللّه. ولذلك قال الرسول للمؤمنين عن حياتهم السابقة في الخطية: وأنتم إذ كنتم أمواتاً بالذنوب والخطايا (أفسس 2: 1) . كما قال عن نفسه قبل تمتُّعه بخلاص اللّه الكامل الخطية قتلتني (أخلاقياً) ، وأنها عاشت فمتُّ أنا (أخلاقياً) (رومية 7: 9-11) . كما قال بعد ذلك: لأن الإرادة (لحياة الصلاح) حاضرة عندي، وأما (عن القدرة التي تؤهِّلني) أن أفعل الحُسنى (كما يريدها اللّه) فلست أجد (إليها سبيلاً) . لأني لستُ أفعل الصالح الذي أريده، بل الشر الذي لستُ أريده إياه أفعل (بسبب الطبيعة الخاطئة الكامنة فيَّ) . فإني أُسرّ بناموس اللّه بحسب الإِنسان الباطن (بسبب إخلاصي للحق) ، ولكن أرى ناموساً آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني (الذي يريد الصلاح) ، ويسبيني إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائي. وَيْحي أنا الإنسان الشقي، من ينقذني من جسد هذا الموت؟! (رومية 7: 18-24) . هذا اختبار الرسل والقديسين، كما أنه اختبار كثيرين من الفلاسفة والمفكرين. فمن المأثور عن هكسلي أنه قال: برهن الإنسان على أنه خاضع لعنصر وضيع يسيطر على كيانه بقوة هائلة. إذ أنه فريسة عمياء لدوافع نفسية متعددة تقوده إلى الشر والدمار، وتجعله ضحية مسكينة لأوهامٍ لا حصر لها . 3 - الأضرار المادية: (أ) وبسبب الخطية كم من قويٍّ تهدمت صحته، وشاب في مقتبَل العمر ذبلت نضارته، ومثقف كان يزدان به المجتمع فقَدَ مكانته! وكم من غني أصبح فقيراً وعظيم أضحى حقيراً، ومحترم أمسى ذليلاً. وبسبب الخطية كم من خصام دبَّ بين العائلات راح ضحيته كثير من الأبرياء، وكم من أمّة انحلّت عُراها فدالت دولتها وأصبحت أثراً بعد عين. لذلك قال الوحي إن الأهواء التي تجيش في نفوس الناس هي السبب في قيام الحروب والخصومات بينهم (يعقوب 4: 1) ، وإنه بسبب امرأة زانية يفتقر الإنسان إلى رغيف خبز (أمثال 6: 26) ، وإنه بسبب الخمر يحل الشقاء والكرب (أمثال 23: 29 و30) وإن الخطية بصفة عامة تمنع الخير عن الناس (إرميا 5: 25) ، وتجلب عليهم العار (أمثال 14: 34) ، وتسبِّب لهم العلل والأمراض (تثنية 28: 22) . لا ننكر أن أشراراً كثيرين يحيون حياة الرغد والسعة في العالم الحاضر، وأن أتقياء كثيرين يحيون حياة الضيق والضنك. لكن ليس هذا دليلاً على أن الخطية لا تورِّث المتاعب والآلام (لأن هذا أمر لا يختلف فيه اثنان) ، بل هو دليل على أن اللّه في حكمته السامية يعامل كل إنسان بالمعاملة التي تُصلِح من شأنه. فقد يُحسِن بخير جزيل إلى إنسانٍ شرير، ليتأثَّر ضميره ويتوب عن شره. وقد يسمح بالتجارب لإِنسان يتَّقيه إذا وجد أن حياة الرغد والسعة تحول بينه وبين التقدم في حياة التقوى، التي هي أعظم حياة في الوجود. (ب) كما أن الموت الجسدي الذي نرتعد لذكره وتتحطم عنده آمالنا وأمانينا، ويورثنا الكثير من الحزن والأسى، هو النتيجة الختامية للخطية في العالم الحاضر. فقد قال اللّه لآدم عن الشجرة المنهيّ عنها: لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت (تكوين 2: 17) ، كما قال له بعد الأكل منها: لأنك ترابٌ وإلى تراب تعود (تكوين 3: 19) . الاعتراضات التي تُوجَّه ضد الحقائق السابقة والرد عليها 1 - إذا كان الموت هو قصاص الخطية، فلماذا لم ينفذ اللّه هذا القصاص في آدم بعد عصيانه مباشرة؟. الرد: لم يفعل الله ذلك لسببين: (أ) بعد قيادته لآدم إلى التوبة والإِيمان برحمته عن طريق نسل المرأة الذي سيسحق رأس الشيطان (تكوين 3: 15) ، نفذ حكم الموت الجسدي الذي كان يجب أن يحل بآدم في حيوان عوضاً عنه. وهذا الحيوان وإن كان في حد ذاته ليس كافياً للتعويض عن آدم لأنه أقل قدراً منه، لكن لأنه كان رمزاً إلى كفارة أسمى منه بما لا يُقاس (كما يتضح بالتفصيل في البابين الثالث والرابع من هذا الكتاب) ، اكتسب وقتئذٍ القدرة الكافية للتعويض عن آدم أمامه. فأطال الله عمر آدم ما شاء، كما لو كان مخلوقاً جديداً. (ب) لم يخلق الله الأرض عبثاً بل هيأها للسكن (إشعياء 45: 18) ، فكان بديهياً أن يُبقي آدم بعد فدائه، ليأتي بنسل يملأ الأرض وينعَم فيها بفضله من جهة الأمور الروحية والمادية معاً. 2 - كان موت آدم أمراً طبيعياً ولم يكن قصاصاً على الخطية التي ارتكبها، لأن جسده قابل للموت من تلقاء ذاته مثل أجسادنا. الرد: لا نستطيع الجزم بما كان عليه جسد آدم في أول الأمر، ولكن ما نستطيع الجزم به، وهو أن جسده أصبح، بعد السقوط في الخطية، مثل أجسادنا تماماً، قابلاً للموت والانحلال. فقد قال الوحي: بإنسانٍ واحد دخلت الخطية إلى العالم، وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع (رومية 5: 12) . ولو فرضنا جدلاً أن جسد آدم كان قد خُلق من أول الأمر قابلاً للموت، وأنه عاش بعد ذلك في الجنة دون أن يعصى اللّه، لكان الله قد حوّل جسده إلى جسد غير قابل للموت، وذلك للأسباب الآتية: (أ) لم يكن هذا التحول يتعارض مع ناموس الطبيعة الثابت، فدودة القز مثلاً تتحول إلى عذراء ثم إلى فراشة تطير في الهواء، دون أن يعتريها بذلك أي تغيير في ذاتيتها. (ب) خُلِق آدم بجسمه وروحه أصلاً للبقاء، ويكفينا دليلاً على ذلك أن كل الأديان تنادي بأن البشر عامة سيقومون بعد موتهم بأجساد تبقى إلى الأبد. فلا غرابة لو كان اللّه قد حوَّل جسد آدم إلى جسد غير قابل للفناء، لو كان آدم قد استمر في حالة الطاعة. (ج) سجل الوحي لنا أن اللّه قبل أن يخلق آدم، كان قد أعدَّ له وسيلة يمكن أن يحيا بها إلى الأبد، في شجرة وضعها في الجنة أطلق عليها اسم شجرة الحياة (تكوين 3: 22) . (د) أنبأنا العلم أنه من الممكن إطالة عمر الإِنسان كثيراً بمحاربة أمراض الشيخوخة التي يتعرض لها. وقدرة اللّه على إطالة عمر الإِنسان، بل وإطالته إلى الأبد، تفوق قدرة العلم بدرجة لا تحد. مذكرة توضيحية عن جنة عدن، وعن شجرة الحياة: كانت الجنة التي خلقها اللّه لآدم جنةً مادية بها طعام وشراب ماديان، وقد اندثرت تماماً بواسطة الكوارث، ولا سيما الطوفان الذي حلّ بالأرض في أيام نوح، فلم يبقَ لها أثر. ولذلك فالمؤمنون الحقيقيون لا يذهبون إلى الجنة بعد انتقالهم من العالم الحاضر كما يظن بعض الناس، بل يذهبون إلى الفردوس، أو بالحري إلى السماء الثالثة (2كورنثوس 12: 2-4) ، وفي هذه السماء لا مجال للمتع الجسدية على الإِطلاق. فقد قال الوحي عن الذين سيحظون بالوجود هناك، إنهم لا يزوجون ولا يتزوجون كما أنهم لا يأكلون ولا يشربون، إذ أن متعهم هناك ستكون من أولها إلى آخر متعاً روحية محضة (متى 22: 30 ورومية 14: 17) لأنها هي التي تتوافق مع الأجساد الممجَّدة التي سيلبسونها في السماء، كما تتوافق مع روحانية اللّه المطلقة. ولم تكن شجرة الحياة هي شجرة معرفة الخير والشر التي نهى اللّه آدم عن الأكل منها من قبل، بل كانت شجرة غيرها (تكوين 2: 9) . كما أن شجرة الحياة هذه لم تكن في ذاتها هي التي ستمنع الموت عن آدم وزوجته لو كانا قد أكلا منها، لأنها كانت شجرة مادية، والأشياء المادية لا تستطيع أن تهب حياة أبدية لمن يأكل منها، لكنها كانت رمزاً إلى المسيح (رؤيا 22: 14) الذي يستطيع أن يهب هذه الحياة، لكل من يتغذى روحياً به (يوحنا 6: 51) . وطبعاً لم يسمح اللّه لآدم بالأكل من شجرة الحياة بعد سقوطه في الخطية (تكوين 3: 24) ، لئلا يحيا إلى الأبد في خطاياه، فيكون ذلك وبالاً عظيماً عليه وعلى نسله إلى الأبد. الخطية والآلام الذاتية الأبدية 1 - تأثير حضرة اللّه: معظم الذين يفعلون الخطية في الزمن الحاضر لا يدركون شناعتها أو خطورتها، فلا يحسبون لها حساباً. غير أن موقفهم هذا سوف لا يدوم طويلاً، لأنه لا بد سيأتي يوم فيه يرون أنفسهم وجهاً لوجه أمام اللّه الذي كانوا يسيئون إليه ويتجاهلون حقوقه، وحينئذ يدركون أن خطاياهم شنيعة وخطيرة بدرجة لم تكن تخطر لهم ببال، فيرتعبون ويفزعون فزعاً ليس بعده فزع. فقد ذكر الوحي أن بيلشاصر الملك ءأحد ملوك بابل القدامى، وكان قد أهان في كبريائه اللّه جلَّ شأنهى عندما شعر بقضاء اللّه يهبط عليه تغيَّرت هيئته وأفزعتْهُ أفكاره، وانحلَّت خُرز حقويه واصطكت ركبتاه (دانيال 5: 6) . كما ذكر الوحي أن الملوك والعظماء الذين سيكونون أحياء على الأرض عند ظهور الرب للدينونة، سيُخفون أنفسهم في الكهوف والشقوق، وهم يقولون للجبال والصخور: اسقطي علينا وأخفينا من وجه الجالس على العرش (رؤيا 6: 16) . لكن لن تسمع الجبال لندائهم ولن تستجيب الصخور لصراخهم، فلا شيء في الوجود يقدر أن يحجبهم عن اللّه، فيظلون في رعب بلا نهاية. 2 - تأثير الضمير: أودع الله فينا الضمير ليهدينا سواء السبيل، فهو يؤنبنا على فعل الشر ويشجعنا على فعل الخير. وبما أن الذين يرتكبون الخطية في العالم الحاضر، كثيراً ما يلتمسون الأعذار لأنفسهم، فيخدّرون ضمائرهم ويُسكتونها. وبما أنه ليس في عالم الروح مجال لتخدير الضمير وإسكاته، لذلك فالضمائر النائمة الآن لا بد أن تستيقظ في الأبدية. وهناك سيرى الخطاة بطلان الأمور الدنيوية التي كانوا يُفنون فيها صحتهم ويضيّعون فيها ثرواتهم ووقتهم، فيندمون ويتحسرون، ويكتشفون خيبتهم في تضليل أنفسهم بالتماس الأعذار الواهية، فينوحون ويتوجعون إلى الأبد، لأنه ليس هناك من يرحمهم. 3 - الوحشة في الأبدية: بما أنه لا يوجد في عالم الروح أثر للشهوات التي يلهو بها الناس في دنياهم، أو العلاقات التي يجدون فيها سلواناً لأنفسهم، أو الأعمال التي تشغل أفكارهم وتصوراتهم، لأن عالم الروح لا تأثير فيه لغير اللّه. لذلك فالأشرار سيشعرون بوحشة لا نظير لها، إذ لن تكون لهم علاقة، لا مع اللّه ولا مع قديسيه، ولا حتى مع الأشرار الذين كانوا على شاكلتهم في هذه الدنيا. فلا يكون هناك من يواسي الخطاة ويعزيهم، أو يُنسيهم همومهم وآلامهم، أو يهوّن عليهم خَطْبهم ومصابهم. 4 - القصور الذاتي: الطبيعة البشرية المنحرفة عن اللّه لا تتغير على الإِطلاق مهما نال المرء من التهذيب والتعليم (كما ذكرنا في الفصل الثاني) . فالذين لم يحصلوا في العالم الحاضر على طبيعة روحية من اللّه تؤهِّلهم للتوافق معه في صفاته الأخلاقية السامية، سيجدون أنفسهم في الأبدية عاجزين أيضاً عن هذا التوافق مهما بذلوا في سبيله من جهد. وقد أدرك هذه الحقيقة كثير من العلماء، فقال صموئيل جونسون: ستظل الحالةُ التي تسود علينا في العالم الحاضر سائدةً علينا في العالم الآخر . فلو فرضنا أن الخطاة استطاعوا أن يفلتوا من مصيرهم المرعب، وينطلقوا ليسترضوا اللّه ويدخلوا في علاقة جديدة معه، فإنهم لن يقدروا أن يظلوا في حضرته لحظة واحدة، فيهربون متباعدين عنه، مثل الحشرات التي اعتادت العيش في الظلام الذي يوافق طبيعتها، فإذا خرجت إلى سطح الأرض ليلاً وأحست بضوءٍ ما، سرعان ما تعدو إلى جُحورها لتختبئ وتتوارى في ظلمته. هذا هو القصور الذاتي الذي يحول بين الخطاة وبين تغيير سلوكهم في الأبدية، ويقطع من أمامهم كل أمل في النجاة من الشر الذي تشكلوا به في دنياهم، ويورثهم آلاماً مريعة تحزّ في نفوسهم. وقد شرح المسيح هذه الآلام في قوله إن نصيب الخطاة في الأبدية هو البكاء وصرير الأسنان (متى 8: 12) : البكاء بسبب شدة الألم، وصرير الأسنان بسبب شدة الندم. الاعتراضات التي تُوجَّه ضد هذه الحقائق والرد عليها 1 - ليست للإِنسان روح قائمة بذاتها، بل هو مجموعة مواد متآلفة معاً تقوم بأعمالها من تلقاء ذاتها. الرد: (أ) يقول العلماء إن خلايا الجسم في تغيير مستمر، وإن الجسم اليوم غيره منذ شهور. ولكن بالرغم من ذلك، نرى الإنسان باقٍ بذات كيانه الفكري والأخلاقي والاجتماعي، كما يتذكر جيداً ما فعله أو صادفه منذ عشرات السنين. فلا يمكن أن يكون الإنسان مجرد مجموعة مواد متحدة معاً (كما يُقال) ، بل لا بد أنه قائم أيضاً بجوهر لا يتأثر بتغيير ذرَّات جسمه، وهذا الجوهر هو ما يطلق عليه الوحي اسم الروح . (ب) يدل التلباثي (أي تبادل الأفكار بين إنسان وآخر) والهيuنوتزم (أي التنويم المغناطيسي) على أن الإِنسان ليس مجرد مواد متحدة، بل أنه قائم أيضاً بجوهر روحي، يرسل ويستقبل الأفكار المعنوية بطريقة غير مرئية. كما يدلّ اهتداء الفنانين والعلماء أثناء نومهم إلى الموضوعات التي كانوا يعجزون عن الوصول إليها في يقظتهم على أن الإنسان قائم بجوهر روحي، يمكن أن ينشط عندما يتحرر الإِنسان من المؤثرات الخارجية، وهذا الجوهر هو ما يُسمَّى الروح كما ذكرنا. (ج) أعلن الوحي بعبارات واضحة عن وجود روح الإِنسان، فقال: إنه يوجد روح في الناس، ونسمة القدير تعقّلهم (أيوب 32: 8) . وقال أيضاً: روح الإِنسان في داخله (زكريا 12: 1) ، وأيضاً روح الإِنسان التي فيه (1كورنثوس 2: 11) . ولذلك قال داود النبي للّه: في يدك أستودع روحي (مزمور 31: 5) . 2 - إن كانت للإِنسان روح، فهي لا تختلف عن روح الحيوان في شيء. الرد: (أ) لم تُظهِر جميع الحيوانات منذ نشأتها تقدماً ما، وما كانت تعمله قديماً بالغريزة هو هو ما تعمله الآن دون تحسين أو تغيير. فإلى الآن لا يبني الطائر سوى عشه، والثعلب سوى جُحره، والنحل سوى خليته، وهكذا.. وإن كانت بعض الحيوانات قد تعلمت شيئاً جديداً، فالفضل في ذلك للإِنسان الذي روّضها وهذّبها. أما الإِنسان فقد أظهر منذ وجوده على الأرض، ومن تلقاء ذاته أيضاً، رقياً وتقدماً في كل الميادين العلمية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية والدينية. فإذا رجعنا إلى التاريخ نرى أن ذكاء القدامى لا يقل عن ذكاء الناس في الوقت الحاضر. وحضارة قدماء المصريين والبابليين والأشوريين والكلدانيين التي ظهرت قبل الميلاد بآلاف السنين خير دليل على هذه الحقيقة، مما يدل على أن ذكاء الإنسان فطري وليس مكتسَباً. وقد شهد بهذه الحقيقة برانكو أعظم علماء الحفريات، فقال بعد بحوثه الطويلة: ظهر الإِنسان على الأرض فجأة بذكائه الموجود عليه الآن، في أواخر العصور الجيولوجية . (ب) لدى الإنسان مبادئ سامية ليس لها نظير لدى الحيوان، مثل الأمانة والإخلاص والنزاهة والشرف والتضحية والعفاف. كما أن لديه القدرة على التمييز بين الخير والشر، وعلى الاختراع والابتكار، والارتقاء فوق الغرائز والميول. كما أن تفكيره منطقي ومرتَّب، وهو يملك التعبير عن هذا التفكير باللسان والقلم. أضف إلى ذلك أن لكل إنسان شخصية قائمة بذاتها لها مميزاتها الأخلاقية والنفسية التي لا يشترك معه فيها غيره. الأمر الذي لا يتوافر في الحيوان، إذ أن كل نوع منه، مع اختلاف أفراده الظاهري في اللون والشكل والحجم، له صفات وخصائص واحدة. (ج) مما تقدم يتضح لنا أن الإِنسان ليس مجرد جسم يتحرك بفعل الغرائز والحياة الطبيعية كما يفعل الحيوان، حتى يجوز التساؤل إن كانت له روح تميزه عن الحيوان، بل إنه قبل كل شيء عقل وفكر وإدراك، وهو قائم بروح لا نظير لها في الحيوان. وقد أدرك هذه الحقيقة سارتر فيلسوف الوجودية الحديثة، فإنه مع عدم تديُّنه قال: يتميَّز الإِنسان عن الحيوان بوجود العقل فيه. فالحيوان عبدٌ للطبيعة محكوم من الخارج بقوانينها ومن الداخل بغرائزه. أما الإِنسان فهو الكائن الوحيد الذي يقدر أن يقاوم الطبيعة، لأن له عقلاً يفهم به الأشياء لم يحْظَ الحيوان به. فالإِنسان إذاً لا شبيه له في الكون . وهذا العقل لا يمكن أن يكون شيئاً معنوياً كالصفات، بل لا بد أن يكون شيئاً حقيقياً، له وجود ذاتي، ومن ثمَّ لا يكون سوى الروح الفاهمة. 3 - إذا كان للإِنسان روح تميزه عن الحيوان، فهل يكون لها وجود بعد موته، حتى يمكن أن تشقَى أو تسعَد؟. الرد: (أ) جسم الأِنسان المادي لا يفنى، وكل ما يطرأ عليه من تغيير بعد الموت هو تحلله إلى عناصر منظورة أو غير منظورة بسبب تكوُّنه من مواد مختلفة. ومن المؤكد أن الروح، التي هي العنصر الجوهري في الإِنسان، لا تفنى أيضاً. كما أنها لا يمكن أن تتحلل إلى عناصر، لأنها ليست مادية بل روحية. فإذا كان وجود الغرائز في الإنسان دليلاً على أن هناك مجالاً لاستثمارها وإشباعها، فإن غريزة حب البقاء التي تسيطر عليه دليل على أنه إذا مات جسده، لا تفنى روحه بل تبقى. كما أننا إذا وضعنا أمامنا أن لكل مجهود يبذله الإِنسان في هذا العالم، نتيجة تتكافأ معه، فالمجتهد له الثواب والمهمل له العقاب، أدركنا أنه لا يمكن أن يكون القبر هو نهاية حياة الإِنسان الصالح والطالح معاً، بل لا بد أن هناك عالماً آخر يحصد فيه كل منهما نتائج عمله، الأمر الذي يدل على وجود روح الإِنسان. (ب) لو كانت الحياة مقصورة على العالم الحاضر لكانت في جملتها بلا فائدة. وهذا هو ما انتهى إليه الفيلسوف شوuنهور فقال: الحياة سلسلة متواصلة من الألم. أولها ألم وآخرها ألم. إنها كوميديا مفجعة يتكرر تمثيلها من وقت إلى آخر . والذين نسجوا على منواله احتقروا الحياة واستسلموا لليأس، فضاقت الدنيا على سعتها في أعينهم، فانتحروا أو عاشوا حياة البؤس والشقاء. وهذا ما دعا روسو إلى القول: تحطم فكرة عدم الخلود روح الإِنسان، وتدمر أنبل عواطفه . لولا الخلود، لكانت الحياة خطأ في خطأ، إذ تكون تعباً وعناء ثم فناء إلى الأبد، الأمر الذي لا يتفق مع ناموس الكون الدقيق الذي نعيش فيه. فإذ أضفنا إلى ذلك (1) أن روح الإِنسان، دون غيره من الكائنات هي نسمة أو نفخة من اللّه (تكوين 2: 7) ، وأن اللّه خالد إلى الأبد: فلا بد أن روح الإِنسان تبقى بمشيئته إلى الأبد أيضاً. (2) خلق اللّه الإِنسان دون غيره من الكائنات على صورته كشبهه، كما أرسل للبشر دون غيرهم من الكائنات الرسل والأنبياء، ليرشدوهم إلى الحق والصواب، الأمر الذي يدل على محبته الشديدة لهم. فلا يمكن أن يكون الموت نهاية حياة الإنسان، بل هو وسيلة ينتقل بها إلى عالم آخر، يكون فيه تحت تأثير اللّه دون سواه. (ج) هناك آيات كثيرة في الكتاب المقدس تقول إن الروح لا تفنى بعد موت الجسد.. قال الحكيم إن الروح ترجع إلى اللّه الذي أعطاها، كما يرجع التراب إلى الأرض كما كان (جامعة 12: 7) . وقال إشعياء النبي للّه: أتحيا أمواتك. تقوم الجثث (26: 19) . وقال أيوب: بعد أن يفنى جلدي هذا، وبدون جسدي أرى اللّه (19: 26) . وأنبأنا المسيح في قصة الغني ولعازر أن الروح تبقى بعد موت الجسد لتُكافأ أو تُعاقب (لوقا 16: 19-31) . كما قال للمؤمنين به: لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد، ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها. بل خافوا بالحري من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنم (متى 10: 28) . وقال بولس الرسول: لي اشتهاء أن أنطلق (أي أنطلق بروحي) وأكون مع المسيح، ذاك أفضل جداً (فيلبي 1: 23) . وقال بطرس الرسول إن أرواح الذين عصوا اللّه في أيام نوح، موجودة الآن في السجن (أي الهاوية) (1بطرس 3: 19) . وقال يوحنا إن الذين قُتلوا من أجل شهادة يسوع ومن أجل كلمة اللّه، عاشوا وملكوا مع المسيح ألف سنة (رؤيا 20: 4) . وقال يهوذا إن سكان سدوم وعمورة الأشرار سيكابدون عقاباً أبدياً (يهوذا 7) . (د) وإن كانت شهادة الوحي عن خلود الروح لا تحتاج إلى دليل بشري لتدعيمها، لكن لفائدة الذين يريدون معرفة أقوال الفلاسفة بشأن هذا الموضوع نقول: إن المشهورين منهم نادوا ببقاء الروح. فقال سقراط إنها لا تفنى ، وقال أفلاطون يلحق التفكك والفساد بالمادة. وبما أن النفس بسيطة وإلهية، لذلك فهي أبدية . كما قال كل كائن يسهم في فكرة معيّنة لا يقبل ضدها. وبما أن النفس هي مصدر الحياة، لذلك لا يمكن أن تقبل ما هو ضدها، وهو الموت . وقال أرسطو في الإنسان كائن يظل في الوجود بعد موته، هو روحه التي ليس لها نظير في النبات أو الحيوان . وقال الرواقيون النفس لا تفنى بل تعود إلى أصلها . وهناك شهادات متعددة لكثير من فلاسفة العصرين المتوسط والحديث، لكن للاختصار نكتفي بالشهادات التي ذكرناها، لأن أصحابها كانوا غير متأثرين بالإِعلانات السماوية التي تنادي بخلود النفس، بل كانوا متأثرين بوحي عقولهم وحدها. 4 - النفس هي الدم فمكتوب لأن نفس الجسد هي في الدم (لاويين 17: 11) . والدم يتلاشى بالموت، لذلك فنفس الإِنسان لا يكون لها وجود بعد موته. الرد: هذه الآية لا تقول إن النفس هي الدم، بل إنها فيه. وهي تتحدث عن الحيوان لا الإنسان. ولم يُخلَق الإنسان على نسق خَلْق الحيوان، لأن اللّه خلق الحيوان بمجرد الأمر، لكنه خلق الإنسان بواسطة نسمة أو نفخة حياة أودعها بذاته فيه (تكوين 2: 7) ، لذلك كانت للإنسان روح عاقلة بالإضافة إلى نفسه (1تسالونيكي 5: 23) التي هي مصدر ما فيه من نشاط جسدي. وكانت روحه باقية ببقاء اللّه لتتوافق معه إلى الأبد أو لتُحرم منه إلى الأبد. ولكن لاقتران روح الإِنسان بنفسه، قد يُطلَق عليها نفسه . 5 - يقول بعض الصوفيين إن أرواحنا تفنى بالموت في اللّه، كما تفنى مياه الأنهار في المحيطات، ولذلك لا يكون هناك فرق بين أرواح الصالحين وأرواح الطالحين بعد انطلاق الفريقين من أجسادهما إلى العالم الآخر. الرد: إن اللّه، وإن كان يريد أن تتوافق أرواحنا معه في صفاته الأخلاقية السامية، لكنه لا يبغي من وراء ذلك إفناءها فيه، بل إبقاءها في الخلود معه بشخصياتها الخاصة بها، لأنه بدون ذلك لا تتحقق أغراضه السامية من خلقها. كما أنه ليس من المعقول إطلاقاً أن تفنى أو تذوب أرواح الأشرار في اللّه (إذا كان هناك مجال للفناء أو الذوبان فيه) وذلك لاختلافها عنه في صفاته. 6 - عندما يموت الإنسان يفنى، لأنه لا يبقى للإدراك أو الوعي وجود فيه، كما أن القول بخلود الروح هو فقط أحد الآمال التي تجيش في أفئدة الفقراء والمظلومين الذين يريدون أن يسرّوا عن أنفسهم، أو الأنانيين الذين يريدون أن ينالوا في العالم الآخر ثواباً عما يقومون به من صلاة أو صوم أو صدَقة. فضلاً عن ذلك فإن القول بالخلود يحد من جهاد الإِنسان في خدمة المجتمع الذي يعيش فيه، الأمر الذي يعطل تقدمه. الرد: (أ) إن الإدراك وإن كان من عمل المخ، لكن المخ لا يأتي به من تلقاء ذاته، وإلا لكان مخ الميت يدرك كما يدرك مخ الحي. فالعامل في المخ للإِدراك لا بد أن يكون عنصراً روحياً قائماً بذاته، هو الروح كما ذكرنا. وموت الجسد وتعطل عمل المخ لا يدلان على فناء الروح، بل يدلان على انطلاقها من الجسد. (ب) الذين يقولون بخلود الروح ليسوا فقط من الفقراء والمظلومين أو الأنانيين الذين يريدون أن يكون لهم ثواب بعد الموت، بل هم أيضاً الفلاسفة والعلماء الذين يبحثون عن الحقيقة. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الخلود يضع الإِنسانية في موضعها الصحيح كما يعطيها معناها السامي الرفيع، وأن الذين يؤمنون إيماناً حقيقياً باللّه والخلود يُكثِرون من عمل الخير في العالم تمجيداً للّه وتنفيذاً لمشيئته على الأرض، دون انتظار لجزاء أو ثواب، اتضح لنا أن هذا الاعتراض خاطئ. 7 - ينفي الكتاب المقدس في بعض آياته بقاء أرواح الأشرار بعد موتهم، لأنه قال عنها إنها تهلك (أمثال 10: 29) . كما يعلن في آيات غيرها أن الأرواح بصفة عامة مائتة (1كورنثوس 15: 53) ، فأرواح الأبرار سوف تتلاشى أيضاً بالموت، لأن الخلود هو للّه دون سواه. الرد: (أ) الكلمة المترجمة إلى العربية تهلك ترد في اللغة اليونانية (اللغة الأصلية للإنجيل) أبليومى ومعناها الحرفي الإصابة بدمار لا يُصلَح. وهكذا الحال في اللغات الأوروبية جميعاً. ولذلك تُرجمت نفس الكلمة إلى الضلال في الآية خراف بيت إسرائيل الضالة (متى 10: 6) ، وفي الآية جاء (المسيح) ليخلّص ما قد هلك (من البشر) (متى 18: 11) ، أي الذين دمرتهم الخطية أخلاقياً. لأنه إذا كان إنسان قد هلك بمعنى فني، لا يكون هناك مجال للسعي وراءه لإنقاذه. أما عن الجزء الثاني من الاعتراض فنقول: إن كلمة المائت في الآية الواردة في (1كورنثوس 15: 53) وهذا المائت يلبس عدم موت ، لا يُراد بها الروح بل الجسد. فقد قال الوحي: لا تملكنّ الخطية في جسدكم المائت لتطيعوها في شهواته (رومية 6: 12) . وكلمة المائت هنا، يُراد بها القابل للموت. (ب) يُراد بالخلود الوجود الذاتي من الأزل إلى الأبد، فهو خاص باللّه دون سواه. أما البشر فليسوا من الأزل، كما أنه من المحال أن يزولوا من الوجود كما تزول الحيوانات، لأن اللّه بخَلقْه البشر بنفخة منه، جعل لأرواحهم خاصية البقاء. ولذلك فهم باقون ليس بفضلهم الذاتي، بل بفضل اللّه عليهم، لأنه هو الذي خلقهم على هذا النحو. 8 - يقول العلماء المتخصصون في دراسة الأرواح إنها تمرُّ بعد خروجها من أجسادها في مراحل تصبح بعدها مهيَّأةً للوجود مع اللّه، فلا يكون هناك مجال أمام أرواح الأشرار للألم والعذاب بعد الموت. وإن شعرَتْ بألم أو عذاب بعده، فإن ذلك سيكون إلى حين وليس إلى الأبد. الرد: فضلاً عن أن العلماء الذين يدّعون أنهم علماء الأرواح قد ثبت انخداعهم بطرق شتى، الأمر الذي لا يدع مجالاً للأخذ بآرائهم، نقول: إن الأرواح تنطلق من أجسادها بالحالة التي تكون عليها في هذه الأجساد. فإن كانت منحرفة عن اللّه وهي في أجسادها، ستكون منحرفة عنه كذلك بعد خروجها منها، لأن طبيعتها لا تتغير. كما أن القول بمرور أرواح الأشرار بعد خروجها من أجسادها، في مراحل تتهيأ بعدها للوجود مع اللّه، يحط من شأن التقوى والقداسة والأمانة في العالم الحاضر، كما يترتب عليه أن الأشرار يكونون قد أبغضوا اللّه ورفضوه وأساءوا إليه في هذا العالم، وبعد ذلك يكونون قد استطاعوا أن يدخلوا سماءه ويتمتعوا فيها بالغبطة والهناء، جنباً إلى جنب مع الذين أحبوه وأخلصوا له وأكرموه في حياتهم، وهذا ما يتعارض مع أبسط البديهيات. فالأرواح تنطلق إلى الأبدية حاملة معها صفاتها التي كوَّنتها لذاتها في هذه الدنيا، وتظل على هذه الحال إلى الأبد. فإذا كانت لها علاقة مع اللّه وهي في هذا العالم، ستكون لها أيضاً علاقة معه في سمائه إلى الأبد. وإذا لم تكن لها علاقة مع اللّه وهي في هذا العالم، لن تكون لها أيضاً علاقة معه بعد ذلك، بل تنطلق إلى هاوية العذاب بعيداً بعيداً عنه، حتى يتقرر مصيرها النهائي في بحيرة النار حيث العذاب الجهنمي إلى الأبد (رؤيا 20: 11-15) . والآيات الخاصة بالغني ولعازر الواردة في لوقا 16: 19-26 خير دليل على الحقيقة التي ذكرناها. الخطية والعقوبة الإلهية الأبدية 1 - عدالة العقوبة الإِلهية: إن شعور الخطاة في الأبدية بالآلام الذاتية المتعددة التي ذكرنا طرفاً منها في الفصل السابق، لا يعفيهم من توقيع القصاص الإِلهي عليهم بسبب خطاياهم. ولا غرابة في ذلك، فشعور المجرمين بالحسرة والندم بعد القبض عليهم لا يعفيهم من توقيع القصاص القانوني عليهم. فالخطاة لا بد أن ينالوا من اللّه عقاب خطاياهم، كبيرها وصغيرها، حتى إن كانوا قد نالوا قصاصاً عنها في دنياهم بواسطة المحاكم الأرضية، لأن عقاب هذه المحاكم ليس عن الإِساءة إلى اللّه، بل عن الإساءة إلى المجتمع الذي يعيش فيه الناس. 2 - مدى العقوبة الإلهية: يتناسب قصاص الإساءة طردياً مع مكانة الشخص المُسَاء إليه، فإذا وقعت إهانة على شخص قليل الشأن، كان قصاصها لا يُذكر، وكان تعويضها (إن كان لا بد من تعويض) ضئيلاً. أما إذا وقعت الإهانة على شخص عظيم القدر كملك أو حاكم، كانت جريمة شنيعة تستحق عقاباً جسيماً لا مجال للتعويض فيه بحال. وبما أن الخطية هي إهانة للّه الذي لا نهاية لمجده ولا حدّ لسموّه، إذاً فالعقوبة المستحقَّة عنها هي عقوبة لا نهاية لها. فلا عجب إذا كان اللّه قد قال لآدم إنه يوم يأكل من الشجرة التي نهاه عنها موتاً تموت (تكوين 2: 17) . ومن مواضع كثيرة في الكتاب المقدس يتضح لنا أن الله قصد بهذا الموت المؤكد، الموت بأنواعه الثلاثة: الأخلاقي والجسدي والأبدي. وقد تحدثنا فيما سلف عن النوعين الأولين من هذا الموت. أما الموت الأبدي فهو الذي يدعوه الكتاب المقدس الموت الثاني أو العذاب الأبدي (رؤيا 20: 14) . وهو قصاص لا نهاية لمدته، لأن الخطية جريمة ضد اللّه الذي لا نهاية لمجده، ولا حد لسموّه. لذلك قال الوحي عن الأشرار إن نصيبهم هو البحيرة المتقدة بنار وكبريت الذي هو الموت الثاني (رؤيا 21: 8) . وهذه البحيرة هي جهنم التي لا تُطفأ نارها ولا يموت دودها (مرقس 9: 44) . والنار هنا ليست طبعاً ناراً مادية، لأن المادة (بالمعنى المعروف لدينا) هي من خصائص الأرض. ومع ذلك فمن المؤكد أن تأثيرها سيكون للأسباب السابق ذكرها، أشد من تأثير النار المادية بنسبة لا حدّ لها، لأن الفرق بين الاثنين هو الفرق بين الحقيقة والصورة الخاصة بها، وهذا الفرق شاسع للغاية. كما أن الدود الوارد ذكره مع جهنم ليس دوداً بالمعنى الحرفي، إذ أن المراد به وخزات الضمير وتأنيباته اللاذعة، التي تحدثنا عنها في الفصل السابق. مذكرة توضيحية عن جهنم: كلمة جهنم مشتقة من كلمة جي هنوم أو وادي هنوم الذي كانت تُحرق فيه الضحايا البشرية كل يوم قرباناً للوثن مولك (2ملوك 23: 10) ، وكان ما لا تصيبه النار من هذه الضحايا، يصبح مأكلاً للدود. فاتَّخذ الوحي اسم جي هنوم الذي يعرفه الناس وأطلقه على مكان عذاب الأشرار الأبدي الذي لا يعرفونه. وجهنم ليست هي الهاوية، لأن الهاوية بقسميها هي المكان العام الذي تنطلق إليه الأرواح بعد خروجها من أجسادها. والقسم الأول خاص بأرواح الذين لهم علاقة حقيقية مع اللّه، ويدعى الفردوس (لوقا 23: 43) ، والقسم الثاني خاص بأرواح الذين ليست لهم مثل هذه العلاقة معه، ويدعى السجن (1بطرس 3: 19) . ولا شك أن الذين يدخلون السجن بأرواحهم وأجسادهم معاً يتألمون قبل نزول هذا العذاب بهم. أما الذين يدخلون الفردوس بأرواحهم فيشعرون بشيء من السعادة الأبدية التي تنتظرهم عند قيامة أجسادهم من بين الأموات، فيفرحون بها قبل قيامتهم. 3 - الأساس الذي توقع عليه العقوبة: بما أن من يرتكب خطية صغيرة (في نظرنا) يتعدى على شريعة اللّه ويحرم نفسه من التوافق معه، شأنه في ذلك شأن من يرتكب خطية كبيرة سواء بسواء. إذاً لا غرابة إذا قال الوحي: من قال: يا أحمق، يكون مستوجب نار جهنم (متى 5: 22) ، وقال إن هذه النار بعينها يستحقها الخائفون وغير المؤمنين والرجسون والقاتلون والزناة والسحرة وعبدة الأوثان وجميع الكذبة (رؤيا 21: 8) ، لأن من يقول يا أحمق ، يكون مجرداً من المحبة للآخرين والعطف عليهم. والذي يتجرد من هاتين الصفتين لا يستطيع التوافق مع اللّه في صفاته الأخلاقية السامية، وبالتالي لا يستطيع التمتع به على الإطلاق. وعدم التمتع باللّه أو الحرمان منه، هو جهنم بعينها. ولا يُراد بغير المؤمنين المشركون والملحدون فحسب، بل يُراد بهم أيضاً المؤمنون بالاسم، لأن هؤلاء وإن كانوا يعترفون بالمسيح ويقومون بالفرائض أحياناً، غير أنهم لا يستطيعون التوافق مع اللّه في صفاته الأخلاقية السامية، مثلهم في ذلك مثل المشركين والملحدين تماماً. الاعتراضات التي تُوجَّه ضد هذه الحقائق والرد عليها 1 - ليست الخطية جريمة بل مرضاً متأصّلاً فينا، فلا يكون موقف اللّه إزاءنا موقف القاضي الذي يحكم بالعقاب، بل موقف الطبيب الذي يتولى العلاج. الرد: وإن كنا ورثة الطبيعة الخاطئة من آدم، غير أننا لا نرتكب الخطية رغماً عنا بل بإرادتنا كما ذكرنا في الفصل الأول، لذلك تكون خطيتنا معصية أو جريمة. وهذه لا تُقابَل بالعطف بل بالعقاب، إلا إذا تاب فاعلها توبة صادقة واعتمد على رحمة اللّه في الغفران الذي يتفق مع كمال صفاته جميعاً. فإن الله في هذه الحالة يقف منه موقف الطبيب الذي يعالجه ويأخذ بناصره. 2 - ليس الإنسان مسئولاً عن الشر الذي يعمله، لأنه مجبَر على عمله بواسطة قوة أعظم منه، سواء كانت هذه القوة هي قوة الشيطان، أم قوة الغرائز، أم قوة الجبر الإلهي. وإن لم يعمل الإنسان الشر بسبب إحدى هذه القوى، فإنه يعمله بسبب العوامل الاجتماعية القاسية التي تحيط به، فلا تجوز معاقبته عما يأتيه من شر. الرد: الإنسان مخلوق عظيم، بل هو أعظم مخلوقات اللّه قاطبة، لذلك استطاع أن يسيطر على الطبيعة ويستغلها لفائدته، كما استطاع أن يحلّق في الفضاء ويهبط على القمر وغيره من الكواكب، مؤيَّداً بإرادته القوية وعقله الجبار. كما أن الشيطان ليست له (كما سيتضح في الباب التاسع) سلطة على الإِنسان، إلا إذا انقاد الإنسان بإرادته وراءه. كما أن العوامل الاجتماعية مهما كانت قسوتها، لا تؤثر على الإِنسان إلا إذا تخلى عن عقله ورضخ لها. والدليل على ذلك أن بعض الفقراء يحيون حياة الأمانة، وبعض الأغنياء لا أمانة لديهم! أما اللّه فإنه لكماله المطلق، لا يمكن أن يرغم أحداً على فعل الخطية. وإذا كان الأمر كذلك، فالإنسان هو الذي يفعلها بمحض إرادته، فلا يجب أن يتنصَّل من المسئولية الملقاة على عاتقه، أو يعارض فيما يستحقه من عقاب بسبب خطاياه. 3 - خطايا الإلحاد والإشراك وحدها هي التي يعاقب اللّه عنها، أما الخطايا الأخرى فلا يعاقب عنها، لأن البشر لهم العذر أو بعض العذر في ارتكابها، لأن طبيعتهم البشرية تدفعهم إليها. الرد: لا شك أن خطايا الإِلحاد والإِشراك أشرّ من غيرها من الخطايا ولا علاقة لأصحابها مع اللّه، لا في العالم الحاضر أو العالم الآخر. غير أن الملحدين والمشركين لا علاقة لهم باللّه، مثلهم مثل باقي الخطاة، لأنهم لا يتوافقون معه في قداسته وكماله، ولأنهم أيضاً أساءوا إليه بمخالفتهم لشريعته التي أعطاها لهم. فمن البديهي ألاّ يكون لهم حق التمتع باللّه في الأبدية، وأن ينالوا فيها أيضاً ما يستحقونه من قصاص بسبب خطاياهم. أما الاعتذار عن مخالفتنا لشريعة اللّه بدعوى وجود طبيعة تميل إلى الخطية فينا، فقد ناقشناه في الفصل الثاني. 4 - هل من العدالة أن يظل عذاب الخطاة إلى الأبد، مع أنهم لم يستغرقوا في عمل خطاياهم إلا وقتاً محدوداً؟ الرد: تتناسب العقوبة تناسباً طردياً مع قدر الشخص المُساء إليه، فعقوبة الخطية لا تُقاس بالنسبة إلى المدة التي عُملت فيها، بل بالنسبة إلى شناعتها بوصفها إساءة إلى اللّه نفسه. وإذا كانت جريمة واحدة تُعمل ضد الدولة في دقائق معدودة، قد يكون عقابها الإعدام، أو الأشغال الشاقة مدى الحياة، فلا غرابة إذا كان عقاب الخطية عذاباً أبدياً. 5 - هل من العدالة أن يطرح اللّه جميع الخطاة في جهنم إلى الأبد، مع أن بعضهم أقل شراً من البعض الآخر؟ الرد: قلنا إن الخطاة مهما قلّت خطاياهم قد أساءوا إلى اللّه، وأبعدوا أنفسهم عن التوافق معه، فلا جدال أنهم جميعاً سيقضون الأبدية بعيداً عنه. والبُعد عن اللّه مهما كان شأنه هو جهنم بعينها، لأنه لا هناء للنفس إلا بالوجود في حضرة اللّه والتوافق معه. وحتى لو كان كل الخطاة سيكونون في جهنم إلى الأبد، فإن كلاً منهم سيشعر هناك بما يستحقه من عذاب عن خطاياه، وذلك للأسباب الآتية: (أ) سيكون الضمير مصدراً من مصادر العذاب الأبدي. فالذي فعل خطايا شنيعة، سيكون تأثره بالألم أكثر من تأثر الذين لم يفعلوا مثل هذه الخطايا. (ب) للّه طرقه الخاصة لتحقيق عدالته بدرجة لا يجد الإنسان أو غير الإنسان معها مجالاً للاعتراض، فقد قال الوحي يستدُّ كل فم، ويصير كل العالم تحت قصاص من اللّه (رومية 3: 19) . (ج) سيجازي الله كل واحد حسب أعماله (رومية 2: 6) . ولذلك نرى أن أهل كفر ناحوم (الذين كانت لهم فرص للخلاص لم يَحْظَ بشيء منها أهل سدوم) ستكون حالتهم في الأبدية أقسى من حالة أهل سدوم كثيراً (متى 11: 23 و24) . 6 - كيف يعاقب اللّه الخطاة مع أنه المحب الرحيم؟ الرد: يقدم الله أولاً للخطاة كل محبة ورحمة، فيعرض عليهم الخلاص من دينونة خطاياهم مجاناً، بناءً على كفارته العظيمة (سنتحدث عنها في الباب السادس) ، لأنه يريد أن جميع الناس يَخْلُصون وإلى معرفة الحق يُقبِلون (1تيموثاوس 2: 4) . فكل من يرفض محبة اللّه ورحمته، يستحق أن يعامله اللّه حسب شريعة عدالته وقداسته. لأن صفاته لا تطغى إحداها على الأخرى، لكمال كل صفة منها. فإذا تساءل الناس: كيف يحب اللّه البشر، وفي الوقت نفسه يسمح بعقابهم على خطاياهم؟ فالجواب: إنه فضلاً عن أن العقاب بسبب الخطية يتفق مع العدالة، التي لا اعتراض عليها من أحد، فإن محبة اللّه ليست المحبة العمياء التي لا ترى العيوب والنقائص، ولا هي المحبة الدنسة التي ترضى عن الشرور والآثام. بل هي المحبة المبصرة التي ترى كل الأشياء على حقيقتها، كما أنها المحبة المقدسة التي لا ترضى عن هذه الشرور والآثام. ومثل هذه المحبة لا تظهر فقط في العطف على الأتقياء الذين يحبون اللّه ويبذلون كل جهدهم للسير في سبيله، بل تظهر أيضاً في النفور من الأشرار الذين لا يراعون قداسته ويُفسِدون أمامه. وإلا لكان الله يُسَرّ بخطاياهم وتعدياتهم، وهذا مستحيل. ثم أن محبة اللّه التي تبعث إلى أتباعه بالفرح والابتهاج، ستكون هي بعينها العامل الذي، من ناحية أخرى، يُشعِر الخطاة بأقسى أنواع الألم والعذاب، لأنهم سيدركون في الأبدية أنهم رفضوا هذه المحبة واحتقروها مع أنها لم تكن تبغي إلا خلاصهم وإسعادهم. 7 - تدلّ معاقبة اللّه للخطاة على أنه يتأثر، والتأثُّر يقتضي التغيُّر، مع أن اللّه لا يتغير. لذلك فإنه لا يعاقب الخطاة بل يترك أرواحهم وشأنها في الفضاء. الرد: بما أن اللّه يعرف كل الأشياء قبل حدوثها، إذاً فكراهيته للخطية لا تتوقّف على زمن ظهورها في العالم بل كانت لديه أزلاً. ولا غرابة في ذلك، فإن هذه الكراهية ليست إلا الوجه السلبي لكماله. فعندما يعاقب الخطاة بسبب خطاياهم لا يثور (كما نفعل نحن) بل يسمح بتوقيع العقوبة عليهم باعتبارها ضرورة قانونية تتفق مع الكمال الذي يلازمه من الأزل إلى الأبد. 8 - ما الفائدة التي تعود على اللّه من معاقبة الخطاة؟ الرد: لا تعود على اللّه من معاقبة الخطاة فائدة ما، لأنه كامل في ذاته، ولا يعود عليه نفع أو خير من أي كائن من الكائنات. لكنه في معاقبته للخطاة يحقّق شريعة عدالته. وكما أنه إذا أمسك إنسانٌ ناراً يحرق نفسه بنفسه، كذلك إذا أساء أحد إلى اللّه يهلك نفسه بنفسه. وكما أنه لا يجوز للشخص الأول أن يلوم النار لعدم تحوُّلها برداً وسلاماً عليه، لأن النار بناءً على ناموسها الطبيعي تحرق كل من يمسك بها، كذلك على الثاني أن يلوم نفسه عندما يرى ذاته في العذاب الأبدي، لأنه ليس هناك أمامه مجال للاعتراض، فشريعة الله تقول إن من يتوافق مع اللّه يتمتع بالراحة والهناء، ومن يبتعد عنه لا يكون نصيبه إلا التعاسة والشقاء. وقد أدرك الجاحظ (أحد فلاسفة المسلمين المشهورين) هذه الحقيقة فقال: إن نار الآخرة تجذب أهلها إلى نفسها دون أن يدخل أحد (بنفسه) فيها. لأن طبيعة أهل النار وفاق النار، وطبيعة أهل الجنة وفاق الجنة (ضحى الإسلام ج 3 ص 135 و 136) . ورأيه عين الصواب، لأننا نعلم أن شبيه الشيء ينجذب إليه. فإذا رجعنا إلى الكتاب المقدس، نرى أن اللّه لم يقل لآدم إنه يوم يأكل من الشجرة المنهي عنها يُميته، بل قال له يوم تأكل منها موتاً تموت (أنت بنفسك) (تكوين 2: 17) . ولم يقل إن اللّه يجلب الضرر على من يخطئ عنه، بل قال من يخطئ عني يضرّ نفسه (بنفسه) (أمثال 8: 36) . ولم يقل إن الذين يبغضون اللّه يدفع بهم إلى الموت الأبدي، بل قال إنهم يحبون (هم أنفسهم) هذا الموت (أمثال 8: 36) . 9 - لا يرضى اللّه بسبب رحمته المطلقة أن تظل نفوس الخطاة معذبة إلى الأبد، فلا بد أنه سيفنيها بعد حين. (وهذا هو رأي جماعة شهود يهوه التي انحرفت عن المسيحية، ورأي فرقة الجهمية التي انحرفت عن الإسلام. غير أن الجهمية ذهبوا إلى أبعد مما ذهب إليه شهود يهوه كثيراً، وقالوا إن الجنة والنار تفنيان، وإن أهل الجنة والنار ينتهون إلى حال يبقون فيها جموداً ساكنين سكوناً دائماً) . الرد: صحيحٌ أن اللّه رحيم كل الرحمة، ولكن له قوانينه الخاصة التي تتفق مع عدالته المطلقة. والوحي مع إعلانه عن رحمة اللّه، يقرر مبدأ معاقبته للخطاة بسبب خطاياهم. فقد قال الرب إله رحيم ورؤوف، ولكنه لن يبرئ إبراءً (خروج 34: 6 و7) . وبما أن الخطاة لا يستطيعون مهما طالت مدة وجودهم في العذاب أن يقوموا بإيفاء مطالب عدالة اللّه (لأن هذه لا حد لها) فمن البديهي أن لا ينتهي عذابهم عند حد ما. وإذا كان الأمر كذلك، فإن الاعتقاد بفناء النفس بعد حين يتعارض مع عدالة اللّه وعدم محدودية حقوقها، وإنه في الواقع ليس سوى فكرة ابتدعها بعض الناس رغبة منهم في إزاحة شبح القصاص الأبدي عن خواطرهم. لكن أمام عدالة اللّه التي لا تجد حقوقها، لا بد أن تتبدد أفكارهم وتصوراتهم جميعاً. 10 - هل تعجز رحمة اللّه عن الصفح عن الخطاة وتقريبهم إليه؟ الرد: تتَّسع رحمة اللّه لقبول كل الخطاة التائبين، لكن عدم توبتهم هي التي تجعلهم عاجزين عن التوافق معه. كما أنه بسبب كماله المطلق لا يأتي بهم إلى حضرته رغماً عنهم، لأنه لو فعل ذلك لما شعروا بسرور أو راحة في البقاء معه، ولسعوا للارتداد بكل قواهم عنه. فحرمان العصاة من التمتع باللّه، وتعرضهم للعذاب الأبدي تبعاً لذلك لا يرجع إلى قسوة اللّه عليهم، ولا إلى نقص رحمته نحوهم، بل إلى شرهم وعدم رغبتهم في التوافق معه. أما من جهته فهو يحبهم ويعطف عليهم ولا يريد أي أذى لهم. فقد قال إنه لا يسر بموت الشرير، بل بأن يرجع الشرير عن طريقه ويحيا (حزقيال 33: 11) . وإنه يريد أن جميع الناس يَخْلُصون وإلى معرفة الحق يُقْبِلون (1تيموثاوس 2: 4) . 11 - إذا كنا جميعاً خطاة بطبيعتنا وأعمالنا، وبناء على عدالة اللّه لا خلاص لنا من عقوبة خطايانا، فهل سمح اللّه بولادتنا في العالم الحاضر لنشقى إلى الأبد؟ الرد: هذا هو اعتراض الإِنسان المتمرّد على الحق، والذي بدل أن يرى عيوبه ويلوم نفسه عليها يحاول أن يتنصَّل من تبعة خطاياه، لعله يفلت من عدالة اللّه. فأي عقل راجح يمكن أن يتصوّر أن اللّه سمح بولادة البشر ليَشْقوا إلى الأبد! ونحن نرى أن غاية الآباء المُخْلصين، رغم ما يوجد بهم من نقائص، هي أن يُسعِدوا أبناءهم ويبعثوا الفرح والسرور إلى نفوسهم. لذلك لا يمكن أن يكون اللّه قد سمح بولادتنا في العالم الحاضر لنشقى إلى الأبد، كما يقول أصحاب هذا الاعتراض. ولكننا نحن الذين في جهلنا نجلب الشقاء على ذواتنا بإساءتنا إلى اللّه، وإلى أنفسنا أيضاً. فلا يلومنّ أحد إلا نفسه. ومع ذلك فقد استطاعت محبة اللّه ورحمته أن تشقّا لنا طريقاً كريماً يتفق مع قداسته وعدالته، لأجل خلاص الخطاة الراغبين بإخلاص في الرجوع إليه، وذلك بإنقاذهم من عقوبة خطاياهم وتهيئة نفوسهم للتوافق معه في صفاته الأخلاقية السامية (كما سيتضح بالتفصيل ابتداءً من الباب الثالث) . إنما نرى من الواجب قبل التحدث عن هذا الطريق الكريم، أن نستعرض أولاً (في الباب الثاني) الطرق التي يلجأ إليها معظم الناس ليحصلوا (حسب اعتقادهم) على الغفران والقبول لدى اللّه، لنرى إلى أي حدٍّ تُجدي وتُفيد. |
|