|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
أنا هو الكرمة الحقيقيَّة
في الخطبة الثانية التي جمعها الإنجيل الرابع وجعلها بعد غسل الأرجل والاحتفال بعشاء الربّ، يعلن يسوع: أنا هو الكرمة (يو 15: 1)، أي أنا الربّ. والكرمة ترتبط بالكرم والسخاء فقيل في الكتاب: »ها أيّام يقول الربّ، يلحقُ فيها الفالح بالحاصد، ودائس العنب بباذر الزرع، وتقطر الجبال خمرًا، وتسيل جميعُ التلال... يغرسون كرومًا ويشربون من خمرها، وجنائن يأكلون من ثمرها« (عا 9: 13-14). هو الكرمة الحقيقيَّة، لأنَّ قبله كانت كروم مزيَّفة، ما أعطت عنبًا، بل الحصرم البرّيّ. وماذا ينفع مثل هذا الحصرم الذي يجعل الإنسان يضرُس؟ (حز 18: 2). أمّا الكرمة الحقيقيَّة فتعطي العنب الذي قيل عنه في الماضي: أعطيتكم كلَّ شيء حتّى العنب. هو قمَّة عطاء الله. وأوَّل ما لفت نظر »الجواسيس« الذين أرسلهم موسى إلى فلسطين »غصن بعنقود واحد من العنب، فحملوه بثقله بعتلة فيما بين اثنين« (عد 13: 23). ومع العنب، جلب الجواسيس »التين والرمّان«. كلُّ هذا بركة من الربِّ الذي قال لهم بلسان »موسى: «تجدون مدنًا... بيوتًا مملوءة كلَّ خير لم تملأوها... وكرومًا وزيتونًا لم تغرسوها. فإذا أكلتم وشبعتم لا تنسوا الرب» (تث 6: 10-12). ونقرأ في تث 8: 7-8: »لأنَّ الربَّ إلهك هو الذي يُدخلك أرضًا صالحة، لها أنهار وينابيع وعيون تتفجَّر في البقاع والجبال، أرض حنطة وشعير وكرم وتين ورمّان، أرض زيت وعسل«. والكرم يرتبط بالتين، ويدلُّ على السلام الذي ينعم به المؤمن. تلك كانت الحالة في زمن سليمان: »وأقام شعبُ يهوذا (مملكة الجنوب) وإسرائيل (مملكة الشمال) آمنين، كلُّ واحد تحت كرمته وتينته، من دان إلى بئر سبع« (مل 5: 5). في هذا الإطار التوراتيّ، قال يسوع كلامه: »أنا الكرمة الحقيقيَّة وأبي الكرّام. كلُّ غصنٍ منّي لا يحمل ثمرًا يقطعه. وكلُّ ما يثمر ينقِّبه ليكثر ثمره« (يو 15: 1-2). أين جذور هذا الكلام في الكتاب المقدَّس؟ 1- كان لحبيبي كرم هكذا يبدأ نشيد الكرم مع الكلام عن الودِّ منذ البداية. صارت الكرمة حبيبة النبيّ أشعيا، بانتظار أن تصير حبيبة للربّ. يبدأ هذا النشيد بكلمات بسيطة جدٌّا. قال أشعيا (ف 5): 1 أنشد إذًا لحبيبي نشيد وَدودي لكرمه. كرمٌ كان لحبيبي على تلَّة خصيبة. فالكرمة تحتاج التلال المعرَّضة للشمس، وهو الربُّ يشرق عليها كما على سائر الأشجار. هذه الكرمة شجرة سرِّيَّة وفي الوقت عينه ثمينة. لا قيمة لها إلاّ بثمرها. لهذا تحدَّث يسوع عن الغصن الذي يُثمر. جذعها لا قيمة له. فهو لا يسند الأغصان فكيف له أن يُسند شيئًا آخر. قال الربُّ في هذا المجال، متحدِّثًا إلى حزقيال: »يا ابن البشر، بماذا تكون الكرمة أفضل من كلِّ شجر، أو أغصانها أفضل من أغصان شجر الغابة؟ هل يصنع الإنسانُ من حطبها شيئًا نافعًا، أو يأخذ منها وتدًا للحائط عليه يُعلِّق شيئًا؟ وإنَّما يُجعَل مأكلاً للنار. فإذا أكلتِ النار طرفيه واحترق وسطه، فهل يصلح لمصنوع؟ (حز 15: 1-4). وفي هذا الخطِّ قال الإنجيل: »من لا يثبت فيَّ يُرمى كالغصن فييبس. والأغصان اليابسة تُجمَع وتُطرَح في النار فتحترق« (يو 15: 6). وهذا يلتقي مع ما قاله حزقيال عن الكرم واصلاً إلى الشعب: »كان صحيحًا وما كان يصلح لمصنوع (مثل السنديان مثلاً)، فكيف الآن بعد أن أكلته النار واحترق؟ لذلك، هكذا قال السيِّد الربّ: كعود الكرمة الذي جعلته من بين عيدان الغابة مأكلاً للنار، كذلك جعلتُ سكّان أورشليم. فأقوم عليهم وأعاقبهم، حتّى إذا خرجوا من نار أكلتهم نار، فيعلمون أنّي أنا هو الرب« (حز 14: 5-7). هكذا فعلت الحرب بأورشليم، فاعتبر النبيّ أنَّ ما حصل لها إنَّما كان عقابًا من الله. وهذا مع العلم أنَّ الربَّ اهتمَّ بشعبه اهتمام الفلاَّح بكرمه فمن المعلوم أنَّ زراعة الكرمة متطلِّبة جدٌّا: تنبُّهٌ دائمًا على مدِّ الفصول، استنباطُ الوسائل الجديدة، وإلاّ ضاع العنب وأكله الهريان، ولم تعد الخمر »تفرِّح الآلهة والناس« كما قال سفر القضاة (9: 13). ويتواصل نشيد أشعيا: 2 نقبَّه، ونقّى حجارته وغرس فيه أفضل كرمة بنى دارًا في وسطه وحفر فيه معصرة. عمل قائم بذاته: إعداد الأتربة. اختيار النصبات التي تُغرَس. الدار هي هنا لحماية الكرم. والمعصرة لصنع الخمر. ماذا ينقص بعد ذلك؟ لا شيء لهذا قال الربّ في آ4: أيُّ شيء يُعمَل للكرم وما عملته لكرمي؟ لماذا انتظرتُ أن يُثمرَ عنبًا، فأثمر حصرمًا برِّيٌّا؟ ظروف مؤاتية. عملٌ متواصل، ومع ذلك، لا عنب يؤكل، بل العنب الرديء (آ2ب). عندئذٍ يتكلَّم صاحب الكرم قبل أن يصدر الحكم. ومن هم الشهود؟ أهل أورشليم ويهوذا. فنحن لسنا أمام خبر من الأخبار، بل أمام حكم يصدُره السامع على نفسه: 3 والآن، يقول حبيبي »يا سكّان أورشليم ويا رجال يهوذا، احكموا بيني وبين كرمي. كيف يتهرَّب »الكرم« من الحكم الإلهيّ. هو يشبه داود حين روى له ناتان النبيّ مثلاً يبيِّن له خطيئته (رجلان في إحدى المدن). قال ناتان: »فنزل بالرجل الغنيّ ضيف، فلم يشأ (الغنيّ) أن يأخذ من غنمه وبقره ليهيِّئ طعامًا للضيف، بل أخذ نعجة الرجل الفقير وهيَّأها طعامًا له (للضيف). أمّا ردَّة الفعل عند داود فجاءت عنيفة: «فغضب داود على الرجل الغنيّ جدٌّا، وقال لناتان: »حيٌّ هو الربّ: الرجل الذي صنع هذا يستوجب الموت. بدل الواحدة يردُّ أربعة جزاء ما فعله دون شفقة« (2 صم 12: 4-6). ومن هو هذا الرجل؟ داود نفسه. لهذا قال له ناتان: »أنت هو الرجل« (آ7). وهكذا كان وضع »كرمة« ربِّ الجنود. فكان الحكم صارمًا، لا عودة منه: 5 فاعلموا ما أفعل بكرمي: أزيل سياجه فيصير مرعى، وأهدم جدرانه فتدوسه الأقدام. 6 أجعله بورًا لا يُفلَح ولا يُزرَع، فيطلع فيه الشوك والعوسج وأوصي الغيوم أن لا تمطِر عليه. وأوضح النبيّ الكلام بأوضح ما يكون. هذه الكرمة هي بيت إسرائيل (شمال البلاد) وشعب يهوذا (جنوب البلاد). هذا يعني أنَّ »سفك الدماء وصراخ الظلم ملأ البلاد من دان إلى بئر سبع. فما بقي موضع يعرف الحقَّ والعدل« (آ7). كرم الربِّ انتهى! وغرسة رضاه أُتلفت. انتظر العنب. انتظر الثمر (آ2). ثمَّ قال بحزن: »لماذا أثمرها أثمر بعد أن انتظرتُ عنبًا« (آ4). من هنا انطلق يسوع وقدَّم مثل الكرّامين القتلة (مر 12: 1-5). قال: »غرس رجل كرمًا، فسيَّجه، وحفر فيه معصرة وبنى برجًا، وسلَّمه إلى بعض الكرّامين وسافر« (آ1). تجاه الكرَّام الذي هو الربُّ الإله، والذي يرسل المطر في أوانه من أجل كرمه، يأتي الكرّامون الذين يُطلَب منهم »ثمر الكرم« (آ2). هم لا يستعدُّون لأن يستقبلوا من يرسلهم ربُّ الكرم. والسبب: لا ثمر لديهم. يشبهون تلك التينة التي قصدها يسوع »راجيًا أن يجد عليها بعض الثمر. فلمّا وصل إلينا، ما وجد عليها غير الورق« (مر 11: 12-13). وكذا نقول عن كرم الربّ. ويطرح يسوع السؤال على السامعين: »ماذا يفعل صاحب الكرم بهؤلاء الكرّامين عند رجوعه؟« قالوا له: »يقتل هؤلاء الأشرار قتلاً، ويسلِّم الكرم إلى كرّامين آخرين يعطونه الثمر في حينه« (مت 21: 40-41). وهكذا حكموا على نفوسهم بأنَّهم قتلة، لا في الماضي وحسب، بل الآن أيضًا. »فأرادوا أن يمسكوه، ولكنَّهم خافوا من الجمع« (آ46). أجل، شعب الله غرسة خصبة يرفع آيات الشكر. ولكن لمن؟ للآلهة الكاذبة. قال هوشع النبيّ: »إسرائيل كرمة منتشرة تثمر ثمرًا كثيرًا. كلَّما كثر ثمرهم، أكثروا من بناء المذابح. وعلى قدر ما تجود أرضُهم، يجيدون في رفع النصاب« (هو 10: 1). هي مذابح على مشارف المدينة، وكأنَّ البعل يحرس أورشليم »من عليائه« والنصاب ترمز إلى الخصب حيث الملك يتَّحد بعذراء طلبًا لاتِّحاد السماء بالأرض وإنزال المطر. »فعروس« الربِّ (وكرمته) »لا تعرف أنّي أنا أعطيتها القمح والخمر والزيت« (هو 2: 10). وما قاله هوشع قاله إرميا في الخطِّ عينه. بدأ فاتَّهم كرمة الربّ: »من القديم كسرتِ نيرك، وقطعتِ ربطك، وقلتِ: لا أعبدُ الربّ. وعلى كلِّ تلَّة عالية، وتحت كلِّ شجرة خضراء، اضطجعتِ زانية في معبد البعل. زرعتُك كلَّك أفضل زرعٍ، فكيف تحوَّلت إلى كرمة تنكَّرت لي؟ (إر 2: 20-21). ويحلُّ العقاب: «لا يكون عنبٌ في الكرمة، ولا تين في التينة، حتّى الورق يسقط، وكلُّ ما وهبته لهم يزول« (إر 8: 13). وهكذا غابت البركة كلُّ البركة. ونعود إلى خطِّ أشعيا: »اصعدوا على كرمتها، وأفسدوا ولا تتلفوها. انزعوا أغصانها فما هي لي. فغدرًا غدرَ بي بيتُ إسرائيل وبيت يهوذا. هكذا يقول الرب« (إر 5: 10-11). 2- نحن كرمة هي قراءة في مز 80 الذي يبدأ بالدعاء (آ2 -5) وصولاً إلى الرثاء (آ5-8). والقسم الأخير هو مثل الكرمة (آ9-20). 9 نحن كرمة نقلتها من مصر وطردتَ أممًا وغرستها. 10 مهَّدتَ لجذورها مكانًا ففرزتْ وملأت الأرضَ 11 غطّى ظلُّها الجبال وأغصانها أرز لبنان 12 مدَّت غصونها إلى البحر وفروعها إلى ضفاف النهر. هي صلاة الجماعة التي جاءت بشكل رثاء. »إلى متى يا ربُّ تستهين بصلاة شعبك« (آ5). وتتكرَّر اللازمة بعد كلِّ مقطع يقوله الإمام: »أرجعنا إليك، يا ا؟، وأنرْ بوجهك علينا فنخلص« (آ4، 8، 20). وبعد الرثاء، تذكَّر »الكاهن« أعمال ا؟ الخلاصيَّة في الماضي، منذ مصر حتّى الدخول إلى أرض الموعد وزمن داود وسليمان، بل بعد ذلك الوقت حيث امتدَّت عبادة الإله الواحد خارج الأرض التي تُدعى اليوم فلسطين. يبدأ الكلام هنا عن الكرمة والخمر، وهما رمزان معروفان وسط شعب ا؟. وحين بارك يعقوبُ يوسف، وعده بأنَّه يكون »كرمة مزهرة« (تك 49: 22). والأنبياء أوردوا صورة الكرمة بأجمل ما يكون من العبارات. ويعود المرتِّل إلى زمن الخروج للكلام عن تلك »الكرمة« التي كانت في مصر. ولكنَّها لا يمكن أن تبقى هناك. اقتلعها ا؟ وغرسها في أرض كنعان. فالربُّ »كرّام« ماهر. أعدَّ كلَّ شيء لتلك النصبة التي جاء بها من أرض العبوديَّة. جذورها غرزت في الأرض، فلا تقوى عليها الرياح. وها هي توسَّعت فغطَّت أرض الربِّ كلَّها، بل أبعد من ذلك: من البحر المتوسِّط حتّى نهر الفرات. ولكن تبدَّل الوضع. جاءت كارثة مظلمة فقلبت الأمور رأسًا على عقب. فالإله الذي جعل هذه الكرمة تغرز جذورها وتمتدُّ وتمتدُّ، بحيث ملأت الأرض، هدم سياجها، صارت نهبًا للبشر ولوحش البرّ. 13 لماذا هدمتَ سياجها فقطفها كلُّ عابر سبيل؟ 14 أتلفها خنزيرُ البرِّ ورعتها وحوشُ البرّ. 15 ارجعْ، يا إلهنا القدير، واظهر من السماوات وانظر، وتفقَّدْ هذه الكرمة. 16 فهي غرسٌ غرسته يمينك والفرع الذي قويتَه لك 17 أحرقوها بالنار وكسحوها فانتهرهم أمامك فيبيدون. ماذا كانت الكرمة في الماضي، مع المجد والرفعة، وكيف صارت الآن؟ لا سياج لها. هكذا هي أورشليم بعد أن احتلَّها البابليّون. وقبلها السامرة حين سقطت بيد الأشوريّين. وبعد الهدم، كان الحريق. فماذا ينتظر الله لكي يفعل؟ أيكون ذاك الذي اقتلع وغرس وسيَّج هو ذاك الذي أتلف وأرسل الوحوش يرعون؟ فلا يبقى سوى الطلب والتمنِّيات: »لتكن يدك على ابن يمينك«. ومن هو ابن اليمين؟ هو الملك، وقصر الملك كان إلى يمين الهيكل في أورشليم. هو الذي يختاره الله ويمسحه بالزيت المقدَّس ويرسله لخلاص شعبه. أجل، خيانة الشعب قادت الكرمة إلى هذه الحالة المزرية. أتُرى الوضع يتبدَّل؟ أجل، إن تبدَّل الشعب. »نحن لن نرتدَّ عنك، تحيينا فندعو باسمك« (آ19). وينتهي المزمور باللازمة: »أرجعنا« (آ20). فنحن وحدنا لا نستطيع أن نرجع، والإنسان لايكون أمينًا على العهد حتّى النهاية. لهذا أرسل الله ابنه الوحيد. فيه يكون العهد الجديد الأبديّ. ولكن قبل ذلك نقرأ في أشعيا ما دُعيَ »الرؤيا الكبيرة«: هو كلام الرجاء الذي يتطلَّع إلى المستقبل (أش 27): 2 وفي ذلك اليوم، غنُّوا هذه الأغنية للكرمة المسمّاة 3 أنا الربُّ ناطورُها في كلِّ لحظة، أسقيها وأنطرها ليلاً ونهارًا لئلاّ يؤذيها أحد. 4 ما عدتُ غاضبًا على الكرمة، إذا قاتلها الشوك والعلَّيق هجمت عليهما وأحرقتهُما جميعًا. هي الثقة بالربّ. هنا يهتمُّ الله بكرمته بعد أن زال غضبه. وفي 26: 1، يهتمُّ الربُّ بأرضه وشعبه: 1 لنا مدينة منيعة حصَّنها الربُّ لخلاصنا بأسوار ومتاريس. الربُّ ينطر، يحرس، يحامي. ولكن إن كانت الكرمة ناكرة الجميل متعلِّقة إلى آلهة الأمم، تخسر سياجها وحماها. ولكن في الأساس، السعادة تنتظر هذه الكرمة. هي تنمو وتزهر. لا مكان للشوك والعلَّيق، لأنَّ الربَّ يحرقهما ولا يسمح لهما بأن يسيئا إلى كرمته. 3- أنا الكرمة الحقيقيَّة كلُّ هذا يقودنا إلى يسوع المسيح الذي قال عن نفسه: »أنا هو الكرمة. أجل، صار الله هو الكرمة، وهو يريد أن يجمع في ذاته البشريَّة كلَّها. كلُّ الأغصان تكون ثابتة في الكرمة، وإلاّ هي إلى الموت لا إلى الحياة. صارت الكرمة هنا مثل الجسد بأعضائه العديدة، مع دور الرأس الذي يلعبه المسيح. كلُّ عضو له مكانه في هذا الجسد. وكذا نقول عن الأغصان في الكرمة، حيث يقول يسوع »كلُّ غصنٍ منّي« (يو 15: 2). فالحياة تنطلق من يسوع لتصل إلى الأعضاء، والماويَّة تجري في الكرمة فتغذِّي الأغصان، وإلاّ لا يمكنها أن تعطي ثمرًا. ما كان الشعبُ الأوَّلُ الكرمةَ التي تمنّاها الله، ولا هو مجَّد ذاك الذي جاء به من البعيد وغرسه في أرضه. أمّا يسوع فكان الكرمة الحقَّة. غرسه الآب في أرض البشر: »هكذا أحبَّ الله العالم، حتّى إنَّه أرسل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديَّة« (يو 3: 16). وما يربط الأغصان بالكرمة هو الحبُّ المضحّي. هنا قال يسوع: »كما أحبَّني الآب أنا أحببتكم. فاثبتوا في محبَّتي« (يو 15: 9). وهنا يلتقي الثمر بحفظ الوصايا. بقدر ما ينمو الغصن بالكرمة يعطي ثمرًا، وبقدر ما نعيش المحبَّة نحفظ الوصايا. فثمرة المحبَّة حفظ الوصايا، وإلاّ كانت محبَّتنا بالكلام وباللسان، لا بالعمل والحقّ. والمثال أمامَنا يسوعُ المسيح نفسه »أعملُ وصايا أبي وأنا ثابت في محبَّته«. هنا نتذكَّر ما قاله الربُّ عن مشيئة الآب: »ما جئت لأعمل مشيئتي، بل مشيئة الذي أرسلني« (يو 5: 30). والعمل بمشيئة الآب يعني الاتِّحاد به. كلُّ هذا يُفهمنا ما قاله يسوع في صلاته الأخيرة قبل مضيِّه إلى موته: »أيُّها الآب، مثلما أنت فيَّ وأنا فيك« (يو 17: 21). كلُّ واحد منّا غصن في هذه الكرمة. اختارنا الله اختيارًا مجّانيٌّا. اختارنا حبُّ الآب والابن. نحن أغصان، إذًا نحن تلاميذ. لهذا قال يسوع: »بهذا يتمجَّد أبي: أن تحملوا ثمرًا كثيرًا فتكونوا تلاميذي« (يو 15: 8). وكما أغصان الكرمة تمتدُّ، كذلك عملُ التلاميذ وحضورهم. هنا نعود إلى تشبيه نقرأه في حزقيال عن »أرزة في لبنان«: »هي جميلة الأغصان، وارفة الظلّ، عالية، رأسُها في بين الغيوم... شمخت عاليًا فوق جميع أشجار الغابة، وكثرت أغصانُها وامتدَّت فروعها... في أغصانها عشّشت كلُّ طيور السماء، وتحت فروعها ولَدَتْ كلُّ وحوش البرِّيَّة، وفي ظلِّها سكنت جميع الأمم العظيمة« (حز 31: 3-6). هذا ما يمكن أن نقوله عن الكنيسة، جسد المسيح. فهي الكرمة االجديدة التي يهتمُّ بها الآب. وهي إسرائيل الحقيقيّ وشعب الله الذي اشتراه الربُّ بدمه. كانت الكرمة الأولى بعشائرها الاثنتي عشرة؟ كرمة الربِّ التي غرسها واعتنى بها. والكنيسة برسلها الاثني عشر هي الكرمة الجديدة. وفيها يجتمع المختارون من القبائل الاثنتي عشرة. »وسمعتُ أنَّ عود المختومين مئة وأربعة وأربعون ألفًا من جميع عشائر إسرائيل« (رؤ 7: 4). وما وُعد به الشعب الأوَّل من راحة وسعادة بحيث لا يجوعون ولا يعطشون، ولا تضربهم الشمس ولا الحرّ (أش 49: 10)، يحصل عليه الشعب الثاني. عن الشعب الأوَّل قيل: »لأنَّ راحمهم يهديهم، وإلى ينابيع المياه يقودهم«. وعن الشعب الثاني يُقال: »لأنَّ الحمل الذي في وسط العرس، يرعاهم ويهديهم إلى ينابيع ماء الحياة، والله يمسح كلَّ دمعة من عيونهم« (رؤ 7: 17). الخاتمة تلك هي كرمة الربِّ. حبَّة صغيرة مثل حبَّة الخردل. وهي تمتدُّ وتمدُّ أغصانها »بحيث تأتي طيور السماء وتعشِّش في أغصانها« (مت 13: 32). اهتمَّ بها الربُّ اهتمامًا كبيرًا. أعدَّ لها الأرض وهناك غرسها. أبعدَ عنها الشوك والعلَّيق، أي كلَّ من يعاديها. جعل لها سياجًا يحميها من الغرباء. كما فعل لأورشليم. ولكنَّ هذه الكرمة كانت خائنة، لأنَّها تمثِّل الشعب الخائن، الزاني، أي الذي يخون الربَّ كما تخون العروس عريسها (والعكس بالعكس) والتحف بآلهة أخرى. لهذا أصابها ما أصابها. ذاك ما حصل لأورشليم التي رمزت إليها الكرمة، والتي أنشدها أشعيا ليعيد الأمل إلى قلوب أبنائها. كلُّ هذا قادنا إلى ربِّ الكرمة في العهد الجديد، فهو رفض كرمته، أو بالأحرى رفضت هذه الكرمة أن تتَّحد بيسوع، فصارت »شجرة برِّيَّة«. رُذلَت فاستحقَّت أن تكون آخرتها الحريق. ولكنَّ يسوع المسيح، الكرمة الحقيقيَّة، لا يمكن أن يترك شعبه، كما لا يتخلّى عن الشعوب، وبعد أن تعود الأمم إلى هذه الكرمة فتأخذ منها الحياة، يعود الشعب الأوَّل، لأنّ »لا ندامة في هبات الله ودعوته« (رو 11: 29). |
|