|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الأسقف الذي وزع عفش المطرانية على الفقراء
الأنبا إبرأم الذي يحتل فى وجدان.الاقباط مساحة كبيرة من الحب والتقدير، هو من مواليد عام 1829 في قرية دلجا مركز دير مواس – المنيا، ورحل عن عالمنا في عام 1914 م. وفي عام 1881 رُسِمَ الأنبا إبرام اسقف العطاء أسقفًا على الفيوم وبني سويف والجيزة، فحوّل الأسقفية إلى دار للفقراء. مقدِّمة: الموهبة، إما عطية سمائية، أو نعمة تُكتَسَب بالممارسات والتداريب الروحية؛ وأمامنا القديس الأنبا أبرآم مثال سيظل رمزاً للعطاء لكل العصور، لأنها فضيلة وموهبة اتَّخذها قديسنا منهجاً لحياته. ولا نتخيَّل ماذا لو كتب الأنبا أبرآم كتاباً أو سجَّل كلمة عن مفهوم العطاء عموماً؟! ما هي الكلمات والتعبيرات التي ينسجها له عقله، ويخُطُّها قلمه؟ هل يستوحي مـن كلمات الكتاب المقدَّس الذي لازَمـه وحفظ كثيراً من أسفاره، يلهج فيها نهاراً وليلاً، حتى أنه كان يُنهي قراءته مرَّة كل أربعين يوماً، ويجترُّ الآيات التي تحثُّنا على العطاء، وتوضِّح بركات العطاء! أم يكتب جملة في كلمات قصيرة تتجلَّى فيها فلسفته من اتِّخاذ هذا المنهج!! لو كان الأنبا أبرآم في عصرنا هذا لرماه الناس بالسَّفَه والتبديد، لكن كلمات الكتاب المقدَّس صادقة، فتزول السموات والأرض، وحرف من كلام الرب لا يُنقَض، وأمينة هي مـواعيد الله لقديسيه: «إلى جميع الأرض خرج صوتهم وإلى أقاصي المسكونة أقوالهم» (رو 10: 18)، «سُمِعَتْ صلاتُك وذُكِرَت صَدَقاتُك أمام الله» (أع 10: 31). فذاع صيت الأنبا أبرآم الأسقف الفقير وصديق الفقراء، حتى أنَّ الملوك والأمراء وأصحاب الجاه والسلطان جاءوا ليتباركوا منه وينظروا وجهه. فـالأنبا أبرآم لم يَسْعَ إلى الرؤساء والسلاطين، بل هم الذين سَعَوْا إليه، وطلبوا منه الصلاة والبركة. لم يكن للمال قيمة لديه، بل كان وسيلة يُسعِد بها المحتاجين. ولعل سيرة الأنبا أبرآم تُعطينا مفهوماً آخر عن معنى السعادة، ومَن هو الغَني الحقيقي! إنَّ الأمـوال في البنـوك لا يمكن أن تُعطي سلامـاً وسـعادة؛ ولا المباني الشاهقـة والقصـور والسيارات الفارهـة، تُعطي للنفس ارتياحاً، وللقلب طمأنينة، وللروح فرحاً. إنَّ مساندة الإنسان لأخيه الإنسان هي من أسمى وأنبـل الصفات الإنسانيـة. فكـم وكـم يكـون واجبنا نحن المسيحيين، إذ يقول مُخلِّصنا: «تعالوا يا مُبارَكي أبي، رِثُوا الملكوت المُعَدَّ لكم منذ تـأسيس العالـم. لأني جُعـتُ فـأطعمتموني. عطِشـتُ فسقيتمُوني. كنتُ غريبـاً فـآويتمُوني. عُريـانـاً فكسوتمُـوني. مـريضاً فزُرتُمُوني. محبوسـاً فـأتيتُم إليَّ. فيُجيبه الأبـرار حينئذ قـائلـين: يـا ربُّ، متى رأينـاك جـائعـاً فـأطعمناك، أو عطشانـاً فسقيناك؟ ومتى رأيناك غريباً فآويناك، أو عُرياناً فكسوناك؟ ومتى رأيناك مـريضاً أو محبوسـاً فأتينا إليك؟ فيُجيب الملك ويقول لهم: الحـقَّ أقـول لكم: بما أنكم فعلتموه بأحـد إخـوتي هـؤلاء الأصاغـر، فَبِي فعلتُم» (مت 25: 34-40). وبلا شكٍّ أنَّ سِجِلات تاريخ كنيستنا القبطية زاخـرة بعددٍ وفير مـن الشخصيات العامة. والكنيسة منـذ القرون الأولى للمسيحيـة وحتى عصرنا الحالي، تتجلَّى فيها أسمى آيات العطاء حتى أنهم أعطوا ذواتهم وأرواحهم من أجل الآخريـن، إلاَّ أننا تجاهلنا سِيَرهم، وظلَّت طَيّ النسـيان كـونها حـبراً على ورق، واستعرنـا شخصيات من الخارج نرى فيها رمزاً للعطاء والمحبة، غاضِّين البصر عن آبائنا الأقباط. وقمنا باستيراد شخصيات أجنبية تُعطينا تعاليم روحية، على الرغم من أنَّ الفضل لآبائنا القدِّيسين الأقباط الذين كانوا منارةً تُنير وتُرشد العالم بآثارهم، والأمثلة كثيرة، منهـا: القديس أنطونيـوس مُعلِّم الـرهبنة، والقديس أثناسـيوس الرسـولي مُعلِّم اللاهوت على مستوى المسكونة، والقديسة فيرينا التي علَّمت أوروبا النظافة، والكثير الكثير مِمَّن يدين العالم كله لهم بالفضل. وهذا ليس تحقيراً أو تقليلاً مـن شـأن أحدٍ، ولكنه اعتزازٌ وفخارٌ بقوميتنا القبطية. + سمع الكاتب الإنجليزي ”ليدر“(1)، وهو في فرنسا، عن أسقف مصري قدِّيس، فأسرع بالسَّفَر إلى مصر مع زوجته ليلتقيا به. وقد سجَّل لنا فصلاً كاملاً عن حياته، جاء فيه: ”هذا القديس الشيخ عرفه العالم الشرقي كله، وأدرك أنـه الخليفة المباشر لسلسلة المسيحيين الأوَّلين غير المنقطعة“. وعبَّرت زوجته عن هذا اللقاء بقولها: ”كُنَّا في حضرة المسيح، وامتلأنا بروح الله“. نشأته: وُلِدَ هذا القديس في بلدة ”دلجة“ التابعة لإيبارشية ديروط عام 1829م، من أبوين تقيَّيْن، وكان اسمه ”بولس غبريال“. وقد حفظ المزامير، ودَرَسَ الكتاب المقدس منذ طفولته. وإذ التهب قلبه بحبِّ الله، دخل دير السيدة العذراء مريم ”المحرق“، حيث رُسِمَ راهباً باسم: ”بولس المحرقي“ عام 1848م. ولما دعاه الأنبا ياكوبوس أسقف المنيا للخدمة، حوَّل المطرانية إلى مأوى للفقراء، وبَقِيَ أربعة أعوام، رُسِمَ خلالها قسّاً عام 1863م. ولحبِّه للرهبنة، عاد إلى ديره حيث اختير رئيساً للدير. فجاءه شُبَّان كثيرون للتلمذة على يديه، بلغ عددهم أربعين شاباً. لكنه إذ فَتَحَ باب الدير على مِصْراعَيْه للفقراء، وقدَّم كل إمكانيات الدير لحساب إخوة المسيح، ثار بعض الرهبان عليه، وعزلوه عـن الرئاسة، وطلبوا منه ترك الدير. تَرْكه لدير المحرق: طُرِدَ أبونا بولس وتلاميذه بسبب حبِّه للفقراء، فالتجأوا إلى ديـر السيدة العذراء ”البراموس“ بوادي النطـرون. وهناك تفرَّغ للعبادة ودراسـة الكتاب المقدَّس. وفي عـام 1881م، رُسِمَ أسقفاً على الفيوم وبني سويف والجيزة، بـاسم: ”الأنبا أبرآم“، فحوَّل دار الأسقفية إلى دارٍ للفقراء. صديق الفقراء: خصَّص الأنبا أبرآم الدور الأول من دار الأسقفية للفقراء والعميان والمرضى، وكان يُرافقهم أثناء طعامهم اليومي، ليطمئن بنفسه عليهم. وكان إذا دخـل عليه فقير، مـدَّ يـده تحت الوسادة ليُعطيه كـل مـا يملك، وإنْ لم يجد، كان يُعطيه ”شاله“ أو ”فروجيته“. وله في ذلك قصص مُذهلة. أسقفية في السماء: جاء عنه أنَّ أعيان الإيبارشية رأوا دار الأسقفية غير لائقة، فاتَّفقوا معه على تجديدها وتوسيعها. وكانوا كلما جمعوا مبلغاً من المال يُسلِّمونه له. أخيراً، جاءوا إليه يطلبون منه موعداً للاتفاق مع المقاول على شروط البناء، فتطلَّع إليهم قائلاً: ”لقد بنيتُ، يا أولادي! لقد بنيتُ لكم مسكناً في المظال الأبدية“! استغلال عطفه: من الروايات المتداولة بين معاصريه، أنَّ ثلاثة شُبَّان أرادوا استغلال حبِّه للفقراء، فدخل اثنان منهم يدَّعيان أنَّ ثالثهم قد مات وليس لهم ما يُكفنانه به. فلما سألهم الأب الأسقف: ”هل هو مات“؟ فأجابوا: ”نعم، مات“. ثم هزَّ الأسقف رأسه، ومدَّ يده بالعطية، قائلاً: ”خُذوا كفِّنوه به“! وخرج الاثنان يضحكان، لكن سرعان ما تحوَّل ضحكهما إلى بكاءٍ، عندما نظرا ثالثهما قد مات فعلاً. رَجُل الصلاة: ذَكَرَ كثيرون مِمَّن باتوا في الحجرة المجاورة لحجرته، أنه كان يقوم في منتصف الليل يُصلِّي حتى الفجر بالمزامير، وكان يقف عند القول: «قلباً نقيّاً اخلق فيَّ يا الله، وروحاً مستقيماً جدِّده في أحشائي»، مُردِّداً إيَّاه مراراً بابتهالاتٍ حارة. وقد شهد الجميع أنَّ صلاته كانت بروح وعزيمة قوية حتى في شيخوخته. + قال مستر ليدر: ”لم أسمع قط في حياتي صلاةً كهذه، إذ أحسستُ بالصلة التي له بعرش النعمة التي تملأ الإنسان استقراراً دائماً. لقد بَدَا لي أنَّ الأرض تلاشت تماماً لكي تترك هذا الرجل في حضرة الله نفسه يتحدَّث معه بجلاء“. إننا لا نُبالغ إنْ قُلنا إنَّ مئات بل آلاف المعجزات تمَّت على يدَي هذا الرجل وبصلواته. نُسْكه: كـان بسيطاً في ملبسـه وفي مـأكله، يعيش بالكفاف، ضابطاً نفسه مـن كلِّ شهوة. وفي أحد الأيام، اشتاق أن يأكل ”فراخاً“، فطلب من تلميذه أن يطبخ له ذلك. فلما أعدَّ له الطعام قدَّمه، فصلَّى الأب وطلب منه أن يُحْضِره له في اليوم التالي. وتكرر الأمر في اليوم الثاني واليوم الثالث واليوم الرابع، دون أن يأكل منه شيئاً حتى فسد الطعام. حينئذٍ قال لنفسه: ”كُلي يا نفسي مِمَّا اشتهيتِ“! اتضاعه: + يقول مستر ليدر: ”تضايق عندما أَلزمتُه بركوعي قدَّامه“. من عادته الجميلة أنه ما كان يسمح لأحد من الشمامسـة أن يتلو عبـارات التبجيل الخاصـة بالأسقف عند قراءة الإنجيل، ولا كان يُميِّز نفسه عـن شعبه؛ بل كـان يجلس على كرسي عادي كسائر أولاده. وكان القديس الأنبا أبرآم يُسرُّ بدعوة أولاده له: ”أبينا الأسقف“، ولا يسمح لأحدٍ أن يدعوه: ”سيِّدنا“. + وعندمـا زار البِرْنس (الأمير) سرجيوس ”عم نقولا قيصر روسيا“ وزوجته مصر عام 1886م، وسمعا عن القديس، توجَّها لزيارته. وقد جاء الزائران وركعا على الأرض، والأب جالسٌ يُصلِّي لهما بحرارة، وقدَّما له كيساً به كمية مـن الجنيهات الذهبية؛ أمَّا هـو فاعتذر. وأخيراً، أَخَذَ جنيهاً واحداً وأعطاه لتلميذه رزق. وقد خرج الأمير من حضرته وهو يقول: ”إنه لم يشعر برهبة في حياته مثلما شَعَرَ بها عندما وقف أمام القديس العظيم الأنبا أبرآم“. أسقفاً إنجيليّاً: يقـول عنه المُتنيِّح الأنبا إيسيذوروس رئيس دير البراموس الأسبق وصاحب مجلة ”صهيون“، إنه كان عالماً في مواضيع الكتاب المقدس إلى درجة حِفْظه نصوصها عن ظهر قلب. وقيل عنه إنه كان يُطالِع الكتاب المقدَّس مرَّةً كل أربعين يوماً. وكان يجمع شعبه كل يوم للصلاة مساءً مع دراسة الكتاب المقدَّس. نياحته: قُبَيل نياحته استدعى القمص عبد السيِّد وبعض الشمامسة، وطلب منهم أن يصلُّوا المزامير خارج باب غرفته وألاَّ يفتحوا الباب قبل نصف ساعة؛ ولمَّا فتحوا الباب، وجدوا الأب قد تنيَّح في الرب. ومـن المعـروف أنَّ الأستاذ سليم صـائب حكمدار الفيوم قـد نـادَى زوجته يوم 3 بؤونة (1914م)، قائلاً: ”آه! يظهر أنَّ أسقف النصارى قد مات. انظري الخيول ورُكَّابها المُحيطين به، وهم يصرخون: "إكؤاب، إكؤاب"“. ثم قام لوقته وقابَل أحـد المسيحيين، وسأله عـن معنى كلمة ”إكؤاب“. فأوضح له أنها كلمة قبطية تعني: ”قدوس“، وهي تسبحة السمائيين. من أقوال الآباء عن العطاء: + يقـول القديس يـوحنا الأسيوطي عـن العطاء: ”مُحب الفقراء يكون كمَن له شفيع في بيت الحاكم“. + ويقول القديس أُغسطينوس: ”مع أنَّ جميع آثامنا قد غُفِرَت في جُرْن المعمودية، فإننا سنقع في ضيقاتٍ كثيرة. الصلوات والصَّدَقات تُطهِّر من الذنوب“. + ويقول القديس يوحنا ذهبي الفم: ”الفقراء والمعوزون هم جسد السيِّد الجائع والعريان، يتألَّم كل يوم“. + ويقول المعلِّم إبراهيم الجوهري: ”كل مَن يسألني أُعطيه كأمين فقط، ولستُ صاحب المال“. بركـة صلوات القديس العظيم الأنبا أبـرآم تكون معنا، آمين. |
|