|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الأوستراكو كائن حي مُحتال يستخدم الضوء ليفضح أعداءه 0 كل مخلوقٍ من المخلوقات مُجهّزٌ بمجموعاتٍ متنوعةٍ من المزايا والقدراتِ الجسدية التي تُمكّن كل واحدٍ منها من العيشِ في البيئة التي يُوجد فيها بسهولةٍ وكفاءة. وتتناسب هذه القُدرات الجسدية بشكلٍ مُذهلٍ مع نوع التحديات والمخاطر التي تفرضها البيئة المُحيطة على الكائن الحي. لا يَسير شيء في هذا الكون عبثاً أو بشكل عشوائي، بل كُل كائنٍ حيٍ وكُل جمادٍ هو جُزءٌ من منظومة كونية كبيرة مُتناغمة منطقية تسير كدقات عقارب الساعة، لكلّ عنصرٍ من عناصرها هدفٌ ومهمة تُكمل مهمة العنصر الآخر. الكائنات الحية؛ منها المفترس ومنها الفريسة، مُنح كل واحدٍ منها وسائل للهجوم وأخرى للدفاع بحيث يكون هناك توازنٌ في القوى بين الطرفين، ينتج عنه استمرار للحياة بشكل مُستقر. وما يُثير العجب دائماً عند قراءة المواضيع المتعلقة بالحياة البرية هو أنك ستكتشف المنظومة الكونية في كل مكان حولك، حيث تأتي على شكل منظومات كونية مُصغّرة تحتوي على عناصر تتفاعل مع بعضها بشكل رائع. في هذا المقال سأعرّفكم على أحد الكائنات الحية الصغيرة الذي يعيش في أعماق المحيطات والذي يستخدم تقنية غريبة أشبه بالخيال العلمي لكي يتمكن من الهروب من الحيوانات المفترسة التي تجوب أعماق البحار. أخبرني عن هذا المخلوق؟ الكائن الحي الذي سأتحدث عنه في هذا المقال هو الأوستراكود (بالإنجليزية: Ostracod). الأوستراكود هو أحد أعضاء عائلة القشريات (بالإنجليزية: Crustacea)، وهي كائناتٌ حيةٌ تعيش في البحار وتتميز بأن لها هيكلاً خارجياً صُلباً Exoskeleton يحميها من المفترسات والعوامل الخارجية. من بين أعضاء هذه العائلة الذين نعرفهم جيداً: السرطان، جراد البحر، القريدس….إلخ. الأوستراكود حيوانٌ صغير الحجم جداً، لا يتجاوز طوله 1 ملم، إلا أن بعض أنواعه قد يصل إلى طولِ 30 ملم. يتميز جسم الأوستراكود بأنه مُسطحٌ من كلا الجانبين ومُغطىً بدرعٍ مصنوعٍ من مادة الكيتين Chitin (الكيتين هو مادة ليفية تتكون من السكريات وتُعدّ المُكوّن الأساسي في هياكل الحيوانات القشرية). (انظر الصورة أدناه) صورة لحيوان الأوستراكود (حقوق الصورة: موقع http://oceanexplorer.noaa.gov/) لكن بخلاف معظم الكائنات البحرية الأخرى، لا يمتلك الأوستراكود خياشيم للتنفس تحت الماء. عوضاً عن ذلك يحصل الحيوان على الأكسجين عبر صفائح خيشومية موجودة على سطح جسمه. لا يمتلك الأوستراكود قلباً أو جهازاً دورياً، وتُعتبر حاسة اللمس هي الحاسة الرئيسية التي يعتمد عليها هذا الكائن إذ يمتلك عدة شعيراتٍ حساسة منتشرة على طول جسمه. ما يُثير العجب في طريقة حياة هذا الكائن الحي هي تلك الميزة الجسدية التي يتمتع بها والتي تُمكّنه من إنتاج الضوء عبر عملية كيميائية عضوية مُذهلة تحدث داخل جسده. ما هي هذه العملية الكيميائية؟ يحتوي جسد حيوان الأوستراكود على كلّ من اللوسيفيرين واللوسيفيراز (luciferin and luciferase)، وهما مادّتان كيميائيتان ينتج عنهما الضوء في حال تم خلطهما معاً في عملية تُعرف باسم التلألؤ البيولوجي أو الضِيائية البيولوجية (بالإنجليزية: Bioluminescence). توجد هذه الخاصية لدى الحيوانات التي تعيش في أعماق المحيطات حيث تكون البيئة المحيطة مُظلمةً تماماً، وهي تحتاج إليها للتواصل فيما بينها أو لإغراء الفرائس. حافظوا على تركيزكم فالمعلومة المُذهلة قادمة. من المعروف أنه كلما غصنا أعمق وأعمق في المُحيط زاد الضغط وانعدمت الرؤية بشكل أكبر، لأن أشعة الشمس لا تستطيع اختراق أعماق المحيطات، وبالتالي من يعيش داخل المحيطات لن ير حوله غير الظلام الحالك. في مثل هذه البيئة يكون اعتماد الحيوانات على حواس أخرى للصيد والهروب من المفترسات أكبر من اعتمادها على حاسة البصر التي تُعتبر عديمة الفائدة في هذه الحالة. ومن بين أهم الخواص التي تعتمد عليها الحيوانات في هذه البيئة خاصية الضيائية البيولوجية (أو قدرة الكائن الحي على إنتاج الضوء داخل جسده باستخدام العمليات الكيميائية الحيوية الطبيعية) التي تحدثت عنها في الفقرة السابقة. من خلال هذه الخاصية تتمكن حيوانات الأعماق من التواصل مع بعضها في الظلام الحالك، هذا إلى جانب اعتماد الحيوانات المفترسة على هذه الأضواء لإغراء الفرائس، حيث تنجذب الفريسة لهذا الضوء الساطع غير مُدركة للخطر الكامن وراءها.. ما الذي يُميّز الأوستراكود؟ الأمر الشائع هو أن المفترس يستخدم خاصية الضيائية البيولوجية من أجل إغراء الفريسة وجعلها تقترب إليه من دون أن تراه، وبالتالي يفترسها بكل سهولة، لكن الغريب أن يستعمل كائن حي هذه الخاصية من أجل الإيقاع بالمُفترس نفسه. هل اختلط عليكم الأمر؟ لا بأس تابعوا القراءة. كما قلت، استخدام الضوء البيولوجي شائع لدى المفترسات التي تعيش في أعماق المحيطات، لكن هناك من يستخدمها للإيقاع بالمفترس نفسه. نعم إنه حيوان الأوستراكود، وهذه هي الحيلة التي يستخدمها. نظراً لحجمه الصغير، فإن لحيوان الأوستراكود الكثير من الأعداء والمفترسات في بيئته، ومن بين هذه المفترسات سمكة تُعرف باسم سمكة الكاردينال، بالإنجليزية Cardinal Fish. (انظر الصورة أدناه) (صورة لسمكة الكاردينال، Cardinal Fish، بالكاميرا الليلية. حقوق الصورة: BBC) تعيش سمكة الكاردينال في أعماق المحيطات المُظلمة حيث لا يمكن رؤية شيء، وهذه السمكة لا تُنتج الضوء كما تفعل الحيوانات الأخرى، وذلك لكي تحمي نفسها من المفترسات، لأنها إن أنتجت الضوء فسوف تكشف عن مكانها لأي مفترس. لكن ما علاقة عدم قدرة سمكة الكاردينال على إنتاج الضوء بقدرة حيوان الأوستراكود على إنتاجه؟ العملية تسير كالتالي، سمكة الكاردينال غير قادرة على إنتاج الضوء كما قلنا لأنها لا تريد أن تكشف مكانها للأعداء، لكن عندما تُصادف هذه السمكة حيوان الأوستراكود فإنها تحاول التهامه كونه أحد فرائسها. وفي اللحظة التي تبتلع فيها سمكة الكاردينال حيوان الأوستراكود، يقوم الأخير بإنتاج دفقةٍ من الضوء الساطع الأزرق وهو داخل فم سمكة الكاردينال. لم يفعل ذلك؟ حسناً، يعلم حيوان الأوستراكود أن سمكة الكاردينال لا تُريد أن يصدر منها أي ضوءٍ كي لا تكتشف المفترسات الأخرى مكانها، لذلك يقوم بإصدار ضوءٍ وهو داخل فمها ما يُجبر سمكة الكاردينال على إخراج الأوستراكود من داخلها ولفظه بعيداً. وعند خروج الأوستراكود ينتج مع خروجه دفقٌ ضوئي أزرقُ ساطعٌ جميل كما لو كان سيلاً من الأضواء السحرية التي نراها في أفلام الخيال. الفكرة مُشابهة لما يحدث في حال ابتلع حيوان ما حيواناً آخر له طعم سيء فما يلبث المفترس أن يتقيأ الفريسة وهذه إحدى وسائل الدفاع الطبيعية التي تتبعها بعض الكائنات الحية للنجاة من الخطر. في الأسفل صور مُتحركة (GIF) تُوضّح العملية كاملة من لحظة ابتلاع سمكة الكاردينال لحيوان الأوستراكود وحتى خروج الأخير من فمها بعرضٍ ضوئيٍ ساطع) (صورة متحركة لعملية ابتلاع سمكة الكاردينال لحيوان الأوستراكود في أجزاء من الثانية، ومن ثم لحظة خروج الأوستراكود من فم السمكة بعد إطلاقه لدفقة الضوء الساطع. حقوق الصورة: CNN)' (صورة ثانية للعملية نفسها) صورة ثالثة للعملية نفسها ولعلكم تتساءلون لم تقوم سمكة الكاردينال بمهاجمة حيوان الأوستراكود وتحاول أكله إذا كانت تعرف بأنه قادر على إنتاج الضوء الذي قد يُعرّضها للخطر؟ الحقيقة ليست جميع أنواع حيوان الأوستراكود قادرة على إنتاج هذا الضوء، وهذا ما يزيد حيرة سمكة الكاردينال، فهي بهذا لن تعرف أي نوع هو الذي ينتج الضوء، لذا فهي تهاجمه وتحاول أكله على كل حال آملة ألا يكون من النوع المُضيء المُشاكس. كما رأيتم، هي علاقة دقيقة هشّة ومُعقدة بين المفترس والفريسة. علاقة تُوضّح كيف أن جميع الكائنات الحية تعيش وفق منظومةٍ دقيقةٍ فيها السبب والنتيجة، فهي ليست عشوائية أبداً. للحيوانات تقنياتٌ وأساليبُ ذكيةٌ جداً تستخدمها إما للصّيد أو النجاة. صراع البقاء الذي لا ينتهي. |
|