|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
في ذِكراكَ مارون يَغتَبِطُ القَلبُ وتَدمَعُ العُيون
يُشَكّلُ الاحتفال بِعيد القدّيس مارون في التاسع من شباط مُناسبة ثمينة، ليس فقط من أجل استِلهامِ روحانيّةِ ناسِكٍ عظيم من هذا الشرق طَبَعَ بعُمقِ إيمانِه وقَساوةِ حياته شعبًا بكامله، بل أيضاً من أجل استذكار بعض المَحطّات التاريخية للكنيسة المارونية التي تَحملُ الكثير مِن العِبَر والتي تَجعل منها كنيسةً حَيّة ومُؤثّرة: الخَلفيّة الرُهبانيّة للكنيسة المارونيّة: تبدأ الحكاية مع مجموعة من المؤمنين الذين اعتَنَقُوا الإيمان المسيحي ضمن كنيسة أنطاكية تَحَلّقَت حول راهبٍ وكاهن تَنَسّكَ في جبال قوروش يُدعى مارون. وقد اعتُبِرَ هذا الناسك مِن عُظَماء الشخصيات الروحية المسيحية السُريانيّة في الشرق، وأحَد أبرز رُوّاد الحياة الرُهبانيّة في المنطقة بين القرن الرابع والعقد الأول من القرن الخامس. صحيح أنّ مارون عاشَ حياةَ زُهدٍ وصلاةٍ صامتة، إلا أنّ عُمقَ روحانيّتهِ وبطولة فَضائله استقطَبَت عدداً كبيراً من الرُهبان والعلمانيين ضمن بيئةٍ ريفيّة. وفي مُنتصف القرن الخامس شَيّدَ الإمبراطور البيزنطي مَرقيانوس ديرًا عظيمًا على اسم مارون في منطقة أفاميا، فَسَكَنهُ عددٌ كبير من الرُهبان وأُقيمَت حوله الصَوامِع واستوطَن في محيطه مَن تأثّر بخطّهم الروحي. وبالتالي، نَشَأَت رعيّة من المؤمنين حوله. وشكّل هذا الدير نَواة الكنيسة المارونية. الإستِماتَة في سبيل الإيمان: كان رُهبان دير مار مارون مِن أَشَدّ المُخلصين لقانون الإيمان المسيحي الذي حَدّده مَجمَع خلقيدونية الذي عُقِدَ في العام 451 وأيّدوا أسقُفَ منطقتهم تِيودوريتُس الذي شارك في أعمال المَجمَع. وبذلك، تَمايَز الموارنة ذاتُ الجذور السُريانيّة عن سائر السُريان، ودفع رُهبانُهُم الثمنَ غاليًا في العام 517 عندما استُشهدَ 350 راهبًا في كَمينٍ نُصِبَ لهم في عهد بطريرك أنطاكية ساويروس المُناوئ لمَجمَع خلقيدونية. ودَفَعَتهُم هذه الحادثة الأليمة إلى مراسلة البابا هُرمِزدا (Pope Hormisdas) ليُخبرونه عن الفاجعة التي أَلَمّت بهم. فحَثّهُم البابا على الصُمود ومقاومة الاضطهاد. ومنذ ذلك الحين، لم تَعُد حياةُ الموارنة سهلة. فكل الحَقَبات التاريخية التي تَوالَت عليهم حَمَلَت معها أيامًا عِجافًا. وما يزال حَدَثُ استشهاد البطريرك جبرائيل حجُولا الذي أحرَقَهُ المَماليكُ الظالمون وهو حَيّ في العام 1367 مَحفورة في وجدان الكنيسة المارونية. كما تَشهَدُ المَحابسُ والمَغاور في وادي قنّوبين و”مَخبَأ البطريرك” في دير مار أليشَع على صُمودِ شعبٍ صغير في وَجهِ الخَطَرِ الكبير. الرسالة التبشيريّة: صحيحٌ أن القدّيس مارون الذي عَبَر إلى الحياة الأبديّة في العام 410 لم يأتِ إلى لبنان، لكنّ طَلائعَ تلاميذه تَوجّهَت إلى الجبال اللبنانية بعد رحيله. وكانت الوثنيّةُ في حينه ما تزال حاضرة في تلك الجبال. فَبشَّر تلاميذُ مار مارون السكانَ بيسوع المسيح، وبَرَزَ من هؤلاء المُبشّرين إبراهيم القُورُشي. ويُروى أنّ نهر أدونيس أصبح اسمُهُ نهر إبراهيم على اسم تلميذ مارون تَيَمُّنًا به. ومع حُلول أواسط القرن الخامس أصبحت المسيحية وفق الروحانيّة المارونيّة مُنتشرة في المنطقة الجبلية من لبنان قبل أن ينضمّ إلى هؤلاء مَن رحَلَ لاحقًا من سوريا نتيجة الاضطهاد. وتَشهد “مغارة الراهب” في منطقة الهرمل التي تَنَسّكَ فيها تلاميذ القدّيس مارون على بدايات الحُضور الماروني على الأراضي اللبنانية. ومن لبنان انتشرت الكنيسة المارونية في أصقاع الأرض. الروح الاستقلاليّة وتكريس الحَقّ بالاختلاف بعدما وصل الفتح العربي الإسلامي إلى الشرق الأوسط شَغَرَ كرسيّ أنطاكية البطريركيّ. وبهدف تنظيم أنفسهم، وفي خطوة جريئة وفريدة، إجتمع رهبان مار مارون وانتخبوا بطريركًا لهم هو يوحنّا مارون في السنة 685. ويُعَلّق المونسنيور ميشال حايك على هذه المحطّة التاريخيّة المفصليّة بالقول: “بمُجَرّد إنشاء بطريركيّة، إقترَفَ الموارنة تَمَرُّداً بجرأة غير معقولة، ليس فقط لأنهم اتّخَذوا بطريركاً من دون اللجوء الى إذن الإمبراطور البيزنطي أو الخليفة الأموي، بل لأنهم رفضوا طلبَ فَرَمانِ تَعيينٍ مِن أيٍّ كان. وهذا الرفض تَمَسّكوا به منذ خِلافَة الأمويين وحتى السلطنة العثمانية. هذا التصرُّف حَدَّدَ طَبعَهُم ومشروعَهُم وقَدَرَهُم. هذا القَدَر، كقَدَرِ الأرض، كان نزاعاً أبديًّا للحصول على الحَق بالاختلاف، أو في بعض الأوقات للحفاظ على هذا الحَق، أو لِفَرضِه، أو إلزام الآخرين بالاقتناع به……” وفي ظلّ احتدام الصراع الدولي بين العرب والبيزنطيين والفُرس، وانقطاع التواصُل مع أنطاكية وبين البطريركيّات، وتحت وَطأة التمييز في مُمارسة الحُكم وفرض الضرائب المُجحفة، وبعد دمار دير مار مارون، إنتقلَ مَقَرّ البطريركيّة المارونية إلى لبنان نهائيًا في العام 937. الارتقاءُ بالعِلم والانفتاحُ الثقافيّ غَربًا وشَرقًا: في العام 1584 ، وكَمِثالٍ عن الاتّحاد الدائم بالكنيسة اللاتينيّة الكاثوليكية، افتُتحَت المدرسة المارونية في روما في عهد البطريرك سركيس الرزي، وكانت تلك المدرسة أوّل جامعة شرقية في أوروبا. فتخرّجَ منها عُلماء مثل البطريرك أسطفان الدويهي، وجبرائيل الصهيوني، وإبراهيم الحاقلاني ومرهج إبن نمرون والمطران يوسف السمعاني، وكان يُضرَب فيهم المَثَل المَأثور “عالِمٌ كَمارونيّ”، فكانوا بالنسبة إلى الكنيسة المارونية “تُراثَ الغرب إلى لِسان الشرق، وتُراثَ الشرق إلى لِسانِ الغرب”. وقد انعكس هذا الانفتاح الحضاري للموارنة على الوطن اللبنانيّ لاحقاً. واستُقدِمَت أوّل مطبعة في الشرق إلى دير مار أنطونيوس قزحَيّا في العام 1585. وكان للمَجمَع اللبناني المُنعَقِد في العام 1736 الأثر الكبير من خلال إقرار التنظيم المؤسساتي للكنيسة المارونية وفَرضِ إلزاميّة ومجّانيّة التعليم للجميع ذكورًا وإناثًا، فارتفع عدد المدارس والبعثات المُرسَلة إلى أوروبا، ورَحّبَ الموارنة بالإرساليّات الغربيّة الوافدة إلى لبنان والتي أسّست مدارس لها على أراضيه. وساهَمَت هذه الطفرة العلمية والثقافية في تَكوين نُخَبٍ مارونية لعبت دوراً رائداً في النهضة العربية في المَشرق بدءاً من القرن الثامن عشر، ومن أبرز الأسماء: المطران جرمانوس فرحات، والمطران جبرائيل إبن القلاعي، والخوري بطرس التولاوي، والأدباء جبران خليل جبران، وأمين الريحاني، وأمين نخلة، والأخطل الصغير بشارة الخوري، وغيرهم. وأضفَى المُفَكّرون الموارنة بُعدًا تَحديثيًّا وعَلمانيًا على كُلّ ما هو عربي للوقوف في وَجه حملات التَتريك التي شَنّها العُثمانيّون ومحاولاتهم تأجيج العَصَبيّات الدينية باسم “وَحدَة الأُمّة” . ومِن هؤلاء: بطرس البستاني (1819 – 1883) وهو مؤسّس أوّل مدرسة وطنيّة عالية وأوّل مَن ألّفَ قاموسًا عربياً عصريًّا مُطَوّلاً، وأنشأ صُحُفًا عدّة. تَأسيسُ الدولة اللبنانية والحِرصُ على الكيان: قادَ الموارنة المسيرة التراكُميّة لبناء نموذج الدولة العصريّة في مواجهة السلطات التوتاليتاريّة التي رَزَحَ الشرق تحت وَطأتها. وناضلوا مِن أجلِ قيام لبنان كدولة قائمة بِحَدّ ذاتها. ويَبرُزُ في هذا السياق إسمُ البطريرك الياس الحويّك، فلبنان بالنسبة إليهم يبقى القلبَ النابض. فأرادوهُ وطنًا يكون لهم ولغيرهم واحَة حُرية وأمان وتَلاقٍ بين الحضارات. وراهنوا منذ البداية على التكوين التدريجيّ لهويّة لبنانية جامعة يَنتَمي إليها أبناءُ لبنان على اختلاف مَشاربهم تَستَقي القِيَم من الروحانيّات السامية والشُرَع الإنسانية والتعدّدية الثقافية، وتُحجِم عن إدخال الدّين في تفاصيل الحياة اليوميّة، وتُبعدُهُم عن الوَلاءِ والانتماء إلى بُلدانٍ وأنظمة سياسية أخرى. لكن لَعنةَ الجغرافيا والأحداث السياسية والعسكرية العنيفة التي هزّت الشرق الأوسط، والإشكاليّة الدائمة في هذا الشرق حول علاقة الدِّين بالدولة، والمفاهيم المختلفة للأُمّة والانتماء، و”صراع الآلهة” (إذا جازَ التعبير)، وتَصادُم الإيديولوجيّات والمُتَناقضات، وتَضارُب المصالح الخاصة والكبرى ببعضها البعض، والإصرار على الحديث بشكلٍ سَطحيّ أو خَبيث عن أكثريّات وأقليّات وَضَعَ الكيان والدولة في عَينِ العاصفة، وأعاقَ مسيرةَ الحَداثَة. كنيسة مُشعّة بالقدّيسين: رغم الخَيبات، والانتكاسات، والانقسامات التي لا تنتهي بين اللبنانيين وبين أبناء الصَفّ الواحد، بَرَزَ من بين الموارنة قدّيسون عُظَماء أناروا بِسيرَةِ حياتهم ظُلمَةَ الأيام. وإذا كانت النهضة الثقافية التي ساهَمَ في قيادتها المفكّرون الموارنة شَرّعَت أبوابَ الشرق والغرب، فإنّ القديسين الموارنة الذين اتّبعوا يسوع المسيح بشَكلٍ جَذريّ جعلوا من كنيستهم كَنيسةً للإنسانيّة جَمعاء تَسقُطُ معها الحدودُ والقَوميّات. ويكفي ذكرُ البعض منهم على سبيل المثال لا الحَصر: مار سمعان العامودي تلميذ القديس مارون، والقدّيسة مارينا راهبة قَنّوبين، والقدّيسة رَفقا الريّس، والقدّيس نعمة الله كسّاب الحَرديني، والطوباوي أسطفان نعمه، والطوباوي يعقوب الكبّوشي، والسائر على طريق القداسة الأب أنطونيوس طَرَبَية. وأما القدّيسُ الأكثر شُهرةً على الإطلاق والذي لا يتوقّف عن إذهالِ الناس من جميع البلدان والطوائف فهو مار شربل الذي أصبح اسمُهُ يتردّد في أرجاءِ المَعمُورَة. وفي الختام، وفيما تَستَهوينا أُسطورةُ طائر الفينيق الذي يَخرُجُ من رَمادِ الحَريق، يَبقى الإيمانُ أقوى من الميتولوجيا. يقول المونسنيور ميشال حايك: “المارونيّ لا يَتَماثَل مع طائر الفينيق ولا مع أدونيس، بل مع المسيح الذي بِيعَ وسُلّمَ وصُلبَ ونَزلَ الى الجحيم من حيث يَصعَدُ دائماً الى السماء. هو يَقِفُ كَشاهِدٍ للمسيح في هذا الشرق الذي شاهدَ آلامَه. الموارنة يحملون في جسدهم علاماتِ موت المسيح التي هي أيضاً علاماتُ قيامته. سَيُتابعونَ مسيرةَ دَربِ الصليب حتى يموتَ الشرقُ عن نفسِه، عن مُغالطاتِهِ التاريخية، عن أوهامهِ، عن قَدَرِيّتِه، وحتى يقومَ مِن بين الأموات إنسانٌ جَديد على أرضٍ جَديدة”. |
|