الثالوث القدوس
( رؤية لاهوتية ، آبائية )
التعريف المسيحي بالوجود الإلهي
إن التوحيد حقيقة ، لا تقبل الجدل ، ولكن لكي تتجلى تلك الحقيقة في تعريف جامع مانع ، بهذا الإله الواحد ، لابد أن يتوفر فيه من المسلمات ما يحقق أمرين : الأمر الأول هو إظهار شرعية حقيقة الوجود الإلهي كفعل ديناميكي حي ، والأمر الثاني هو الحذف المطلق لأية شبهة اشتراك ، لآخر – مع هذا الإله الواحد – في هذه المسلمات ، وفي هذا التعريف .
ومسلماتنا ، المقصودة هي المسلمات الثلاثة التي يتبناها التعريف المسيحي ، للإله الواحد :
1- الإله الواحد ، لابد له أن يصدر ذاته ، في حدث ديناميكي سرمدي ، حتى يتم حذف احتمال وجود مصدر آخر .
2- الإله الواحد ، لابد له أن يتقبل وجود ذاته ، في حدث ديناميكي سرمدي ، حتى يتم حذف احتمال وجود مستقبل آخر .
3- الإله الواحد ، لابد له أن يكون في شركة بين عطائه لذاته وقبوله لذاته ، وإذا انفضت هذه الشركة ، لكان واردا أن تكون الذات المعطاة غير تلك التي قبلت العطاء.
هذه المسلمات ، متمايزة ، وغير وارد أن يحدث الاختزال في ما بينها ؛ فالشخص الذي يعطي ، ليس هو الشخص الذي يأخذ ، وأي من الشخصين – بمفرده – ليس هو شخص الشركة .
هذا هو التعريف المسيحي للتوحيد ، أي التوحيد الإيجابى . التثليث هو التوحيد الإيجابي . التثليث هو التوحيد الديناميكي الحي .
. التعريف المسيحي للإله الواحد القائم في الثالوث ، هو التعريف الجامع المانع ، الأمر الذي لا ينطبق ، مطلقا على التعريف الذي يكتفي بأنه لا يوجد إله غير الله .
. التعريف الذي يقدمه اللاهوت المسيحي ، للإله الواحد ، هو التعريف الذي يتبنى الشركة الديناميكية ، كعلاقة بين ثلاثة شخوص فاعلة ، مبادرة ، تؤقنم وتحقق الذات الإلهية الواحدة .
. التوحيد المغلق هو سؤال ، أكثر منه إجابة ، ولكن التثليث المسيحي هو الإجابة الصحيحة . فالله واحد حقا لأن له ما يليق بالإله الواحد . الشخص ( الأقنوم ) هو ، ما يليق بالله أن يكون إياه . وتعدد الشخوص ليس تعددا للألوهة ولكنه تعدد لما يليق بالله ، ككيان حر . إذ – بحريته المطلقة – يتخطى ويتجاوز وجود ذاته ، كوجود شخصي وليس كمجرد طبيعة إلهية . ولأن ما يليق بالله هو أن يكون مصدرا لذاته ، فهو شخص الآب . وما يليق بالله ، أيضا ، هو أن يكون مصبا ومستقرا لذاته ، فهو شخص الابن . وما يليق بالله ، أيضا ، هو أن يكون فيضا – ينبع من مصدره الذاتي ليصب في مصبه الذاتي – فهو شخص الروح القدس . ما يليق بالله هو أن يكون شخصا ضمن شركة الثالوث ، وفيما يستعلن أحد شخوص الثالوث – وفقا لخصوصيته – ما يليق بالله ، فهو يستر ويتضمن الشخصين الآخرين .
لكننا ينبغي لنا أن ندرك ، أن الحديث عن الثالوث القدوس هو حديث عن ” الحرية المطلقة ” ، فالله يحقق وجوده كعلاقة حرية – و مبادرة واختيار – بين الشخص والجوهر وكعلاقة محبة وعطاء حر ، كامل للذات بين شخوص الثالوث ، وهكذا فوجود الله المثلث الأقانيم هو وجود ، غير خاضع لأية حتمية . هو وجود شخصي حر وليس وجود واجب ، بحكم الضرورة . وإن كنا قد اضطررنا في الكلمات السابقة أن نستعمل مفردات ، كالمسلمات ، والحتميات الفكرية اللازمة للتعريف الصحيح ، فهذا المسلك الاضطراري إنما ينبع من الحتمية التي يخضع لها العقل البشري ، المتعاطي مع تلك القضية ، وليس من الحتمية التي يخضع لها الوجود الإلهي ، حاشا . الحتمية هي واقعنا الآني ، والذي لابد لنا أن نتحرر وننطلق منه ، بالنعمة ، وحينئذ ، وبالتدريج نستطيع أن نتجاوز هذه الحتمية لندخل إلى عمق التقوى الأرثوذكسية ، التي للآباء ، فنتعاطي مع الثالوث ، كما هو في ذاته ، أي كما هو معلن لنا ، في النعمة .
الحرية والثالوث ، صنوان لا يفترقان . الحرية هي مرادف للوجود الالهي ؛ فالله ، بحريته المطلقة وإرادته يحقق وجود ذاته ، بذاته ، في ذاته . هو يحقق وجود ذاته لأنه شخص الآب ووجوده محقق بواسطة ذاته لأنه شخص الابن ووجوده محقق في ذاته لأنه شخص الروح القدس .
ولكن كيف نفهم الحرية ، في ضوء الثالوث القدوس ؟. هل الحرية هي اختيار بين متعدد ؟
إن مفهوم الحرية كاختيار بين متعدد هو المفهوم الساذج ، بل الخاطئ ؛ فهو يفترض التساوي المطلق في فرصة وامكانية تحقق الخيارات المطروحة ، فماذا ، إذن ، لو كان الاختيار -المطروح – هو بين الوجود والعدم ؟ . إننا لو طبقنا هذا المفهوم ، هنا ، لوصلنا إلى نتيجة كارثية ، وهى أن الله غير حر ! فالله هو في حالة اختيار مطلق لوجوده الذاتي . ومن المستحيل إلا أن يكون الله موجودا . ومن المستحيل إلا أن يكون الله في حالة اختيار مطلق لوجوده .
وعليه ، فإن مسألة الحرية لا تجد حلا شافيا إلا في ما يكشفه الثالوث القدوس . فالشخص هو كيان حر وطبيعته هي الاختيار المطلق للوجود ، وليس هناك من يقهره من أجل أن يسلك هذا الاحتمال . ديناميكية شركة الثالوث القدوس
ماذا تعني لنا كلمة ” الديناميكية ” ، عند الحديث عن سر الثالوث القدوس ؟
ماندركه عن مفهوم الحركة ، في كوننا الطبيعي هذا ، هو الحركة النسبية ؛ فنحن لانستطيع أن ندرك حركة شيء إلا إذا كنا مستقلين ومنفصلين عنه ، فالحركة لايمكن إدراكها إلا بواسطة ” راصد ” ساكن ، بالنسبة لها .
أما حركة المحبة الكائنة في شركة الثالوث فهي حركة مطلقة ( إن جاز التعبير ) ، وهي نمط من الحركة لاتعرفه الخليقة ولايستطيع أن يدركه البشر .
وإن أردنا أن نصوغ تعريفا للمصطلح فيمكننا القول بأنها الحركة التي من المستحيل إدراكها إلا من داخلها ، بعكس الحركة النسبية التي لايمكن إدراكها إلا بواسطة راصد خارجي .
في حركة المحبة الكائنة في شركة الثالوث القدوس يتجلى السر العجيب للحركة المطلقة ، حيث مايمكن أن نطلق عليه ” واحدية الحركة والراصد ”
وإذا أردنا تطبيق التعريف الذي قدمناه ، نقول بأن شخص الابن – وبينما هو كائن في أبيه الذاتي- هو الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يرصد حركة عطاء الآب كل ملئه . وشخص الروح القدس – وبينما هو كائن في الآ ب وفي الابن ، بآن واحد – هو الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يرصد حركة عطاء الآب وقبول الابن ، إذ هو بطبيعته شركة ، وهو روح الآب وروح الابن بآن واحد .
يتحقق الوجود الإلهي في فعل ديناميكي – يحدث في زمن سرمدي لابداية ولانهاية له ، يحدث في الآن المطلق ( إن جاز التعبير ) – فيه يلد الآب ابنه الذاتي . فيه يولد الابن من أبيه الذاتي . فيه ينبثق الروح القدس من الآب الذاتي .
الفرض المستحيل هو : لو توقف الآب عن أن يلد ابنه الذاتي لتلاشى الوجود الإلهي . لو توقف الابن عن أن يولد من أبيه الذاتي لتلاشى الوجود الإلهي . لو توقف الروح القدس عن أن ينبثق من الآب لتلاشى الوجود الإلهي .
هكذا يتحقق الوجود الإلهي في فعل حركي متصل ودائم ديمومة مطلقة .
صيغة ” من الآب بالابن في الروح القدس ”
هذه الصيغة ، التي يتبناها القديس أثناسيوس – في معرض شرحه للثالوث الأقدس – والتي من خلالها يشرح جوهر النعمة ، التي هي ” واحدة ، تعطى من الآب وتتم بالابن في الروح القدس ” ( الرسائل إلى سرابيون ) – إنما يتخطى مضمونها مجرد الاختزال في مفهوم النعمة ، ولكننا نستطيع أن نتفهم هذا الاستقطاب ” النعموي “- لهذه الصيغة – عند أثناسيوس – إذا أخذنا في الاعتبار ، المدخل الخلاصي ، لأثناسيوس في شرح وفهم الثالوث ؛ فهو يقدم لنا الثالوث كما استعلن للكنيسة ، كخبرة ، في سر التجسد . وهكذا لا يميل أثناسيوس إلى التنظير اللاهوتي الفلسفي ، عن الثالوث ، بقدر اختبار الثالوث المستعلن في النعمة ، ولكن هذا لا يعني انقطاعية صيغة ” من الآب بالابن في الروح القدس ” عن الجذر والأصل ، أى استعلان الثالوث كحقيقة تخص الجوهر الإلهي الواحد – فى المطلق – بعيدا عن حديث النعمة . وهذا الفكر نجده حاضرا في نص عبارة أثناسيوس ، ويمكننا بلورته ، اذا بذلنا قليلا من الجهد ، فنجده يقول : ” لأن النعمة التي من الآب هي واحدة ، وهي تتم بالابن في الروح القدس . وهناك ألوهة واحدة وإله واحد الذي هو ” على الكل وبالكل وفي الكل” . ( أف 4 : 6 ).
إذن ، كأن أثناسيوس يريد أن يقول : إن النعمة الواحدة التي من الآب بالابن في الروح القدس هي استعلان للثالوث – كما هو – فينا ، فالألوهة هي واحدة ، من الآب تعطى ( كينبوع ) وبالابن تقبل وتستقر ( كملء ) في الروح القدس ( الذى هو شركة لأنه روح الآب وروح الابن ) .
– ويقدم القديس ابيفانيوس شرحا وتوضيحا لفكر أثناسيوس – بخصوص هذه الصيغة فيقول : ” لأن ما هو الله في جوهره الذاتي الأزلي هو نفس ما هو الله في إعلانه عن ذاته لنا وهو نفس ما هو الله في إعطائه ذاته لنا … اذ أن الله المثلث الأقانيم هو العامل في هذه الأعمال جميعها بشكل مباشر وخلاق ( من الآب بالابن في الروح القدس ) وهناك نعمة واحدة وروح واحد ، حيث أن الله ذاته في ملء كيانه الثالوثي يكون حاضرا في جميع أعماله من خلق واستعلان واستنارة وتقديس “( + ص : 355 ) .
. هذا ، إذن ، هو سر الثالوث الأقدس :
1- الألوهة واحدة ، من مصدرها الذاتي ، تعطى = ” من الآب .”
2- الألوهة واحدة ، بقبولها لعطائها الذاتي ، تتحقق = ” بالابن .”
3- الألوهة واحدة ، في شركة بين العطاء الذاتي والقبول الذاتي = ” في الروح القدس .”
أى أن ، ما هو مستمد ( من الآب ) ، هو ذاته ما هو مستمد ( بالابن ) ، هو ذاته ما هو مستمد ( في الروح القدس ) . نحن لسنا بصدد ثلاثة حوادث مختلقة ، بل هو ذات الحدث الواحد الذي ينظر اليه من ثلاثة زوايا مختلفة ، تختلف بحسب خصوصية كل أقنوم . ومن هذا المنظور تختلف “حروف الجر ، المستخدمة ( من ، الباء ، في ) ” . فلأن الآب هو المصدر الذي منه تستمد الألوهة ، فقد كان من المناسب أن يقول ” من الآب ” . ولأن الابن هو كل الملء والذي بواسطته يتم قبول الألوهة ، فقد كان من المناسب أن يقول ” بالابن ” . ولأن الروح القدس هو شركة الفيض ، بين مصدرية الآب وقبول الابن ، فقد كان من المناسب أن يقول ” في الروح القدس “.
اذن ، النعمة الواحدة المعطاة من الآب بالابن في الروح القدس هي صورة الألوهة الواحدة المعطاة من الآب بالابن في الروح القدس .
المصطلحات الأساسية .
1- الجوهر ousia ، أوسيا .
2- الشخص ( الأقنوم ) ، hypostasis ، هيبوستاسيس .
كان للصيغة العبقرية ” من الآب بالابن في الروح القدس ” – والتي صاغتها النعمة في فكر الآباء – لاسيما أثناسيوس – أعظم الأثر في وضع الحد الفاصل بين مفهومين تجمعهما علاقة جدلية ، هما مفهوم ” الجوهر ” ومفهوم ” الشخص ” . وقد ساهمت هذه الصيغة فى بلورة كل من المفهومين ، فبالنسبة لمفهوم الجوهر ، فالجوهر الإلهي ليس مجرد طبيعة تتسم بصفات إلهية بل هو الألوهة الواحدة التي من الآب ، هو الألوهة الواحدة التي بالابن ، هو الألوهة الواحدة التي في الروح القدس . الجوهر هو الألوهة القائمة في علاقاتها الداخلية ، القائمة فى شركة . لا معنى للجوهر إلا إذا كان مشخصا .
وبالنسبة لمفهوم ” الشخص ” ، فالشخص هو الذي يحقق ويؤقنم ويستعلن الجوهر ، فالآب هو الذي منه يعطى ( بضم الياء ) الجوهر ، والابن هو الذى به يتم قبول الجوهر ، والروح القدس هو الذي فيه تستعلن شركة عطاء الآب وقبول الابن .
. الشخص يعطي الجوهر شرعيته كجوهر ، لأن الشخص لا يستعلن ما هو غير موجود ، والجوهر يعطي الشخص شرعيته كشخص ، لأن الجوهر لا يملأ ماهو غير كائن . الشخص كائن باحتوائه للجوهر ، والجوهر موجود بوجوده في الشخص .
. الجوهر هو جوهر كل شخص : الجوهر هو جوهر الآ ب وليس مجرد الجوهر الإلهي . الجوهر هو جوهر الابن وليس مجرد الجوهر الإلهي . الجوهر هو جوهر الروح القدس وليس مجرد الجوهر الإلهي .
. الشخص ( هيبوستاسيس ) هو الكيان الحر الديناميكي الذي يستعلن الجوهر ، والذي لا يتحقق وجوده إلا في حالة من الاحتواء المتبادل مع كل شخص من الشخصين الآخرين .
. الجوهر يعني الملء ، والشخص يعني الاستعلان . وليس ملء الشخص هو الشخص ، لأن الشخص هوية ديناميكية حرة وأما الجوهر فهو من يصطبغ بتلك الهوية ، وليس الصابغ هو من يصطبغ .
3- مصطلح ” هوموأوسيوس = homoousios ”
المصطلح يعني أن كل شخص إنما له نفس الجوهر الذي لكل من الشخصين الآخرين ، الأمرالذي يعني أن كل شخص – وفيما يحقق جوهره ، مستعلنا الألوهة الكاملة – فهو يحقق ملء كل شخص من الشخصين الآخرين .
نحن ، اذن بصدد علاقة تبادل امتلاء شخوص الثالوث – بالجوهر الإلهي الواحد – دون تفريغ للشخص أو تقسيم للجوهر . نحن بصدد علاقة اعطاء الشخص ذاته – بالكامل – للآخر ، دون أن يفقدها . وقد كان هذا المصطلح العبقري ، تحديدا حاكما وشارحا للصيغة النيقاوية ” جوهر واحد ، ثلاثة أقانيم = ” mia ousia, treis hypostaseis ” .
– يقول العظيم أثناسيوس :” لأنه عندما يقول ” أنا في الآب والآب في ” فهذا لا يعني كما يظن هؤلاء أن الواحد يفرغ ذاته ليملأ الآخر ، كما يحدث في الأواني الفارغة . حتى أن الابن يملأ فراغ الآب ، والآب فراغ الابن ، وكأن كلا منهما ليس تاما ولا كاملا في ذانه فهذه هي خاصية الأجساد . ولذلك فإن هذا القول ، هو أكثر من الكفر لأن الآب هو تام وكامل ، والابن كذلك هو ملء اللاهوت .” ( المقالة الثالثة ضد الآريوسيين 23 :1 ).
– ويقول أيضا : “ولكن في اللاهوت فليس الأمر على هذا النحو . لأن الله ليس مثل الانسان ، وجوهره لا يتجزأ . ومن أجل ذلك فانه لم يتجزأ لكي يلد الابن حتى يصير أبا لاخر ، لأنه هو نفسه لم يكن من أب ، وكذلك فالابن ليس جزءا من الآب ، ولذلك فهو لم يلد كما ولد ( بضم الواو ) هو نفسه ، بل هو صورة كلية للكامل وهو اشعاعه . وفي اللاهوت فقط ، فإن الآب هو أب بالمعنى الأصيل والابن هو ابن بالمعنى الأصيل . وبالنسبة لهما يكون صحيحا أن الآب هو أب على الدوام . والابن هو ابن على الدوام . وكما أن الآب لن يكون ابنا أبدا كذلك أيضا لن يصير الابن أبا مطلقا . وكما أن الآب لم يكف أبدا عن أن يكون الآب الوحيد ، هكذا . فلن يكف الابن أبدا عن أن يكون الابن الوحيد .” ( الرسائل الى سرابيون 1 : 16 ).
اذن ، هذا هو عمق أعماق مفهوم الهوموأوسيوس عند أثناسيوس : كل شخص إنما هو كائن باحتوائه وشخصنته للألوهة الكاملة ، التي يحتويها ويستعلنها – في تلازم مطلق – كل من الشخصين الآخرين ، الكائنين فيه والمستترين خلف اسمه . وبينما يتضمن الآب كلا من الابن والروح القدس فان لكل من الابن والروح القدس ، ذات الجوهر الذى للآب . لا وجود للآب بدون الابن . ولا وجود للآب والابن بدون الروح القدس ، الذي هو روح الآب وروح الابن .
أي شخص – من شخوص الثالوث الأقدس – هو هوموأوسيوس مع كل شخص من الشخصين الآخرين ، المتضمنين فيه .
4- مصطلح ” الاحتواء المتبادل = perichoresis ”
كيف يبقى التمايز ، وتبقى التعددية محفوظة ، دون الوقوع في أحد الهرطقتين ، المتناقضتين : الأولى هى تعدد الآلهة والثانية هي الاختزال والذوبان لشخوص الثالوث ، بمعنى آخر كيف يبقى التمايز الشخصي ، تمايزا ، دون المساس بواحدية الجوهر ؟
جاءت الإجابة الآبائية ، في مصطلح عجيب ومدهش هو ” الاحتواء المتبادل ” . والمصطلح يعني أن أي شخص من شخوص الثالوث ، إنما يتضمن في داخله كلا من الشخصين الآخرين ، وبحسب تعبير القديس هيلاري : ” يحتوى كل منهم الآخر بالتبادل ، وبالتالي كل واحد منهم هو على الدوام يحيط ( envelopes) الآخر وأيضا يحاط ( يحتوى ، enveloped ) من الآخر ، الذى مازال هو يحتويه .” (+ ص: 317 ).
كان القديس أثناسيوس هو أول من أرسى وأسس لهذا المفهوم ، وسار خلفه كل الآباء العظام . وفي المقالة الثالثة ضد الاريوسيين (ف 23 : 1 ) ، نجده يفند انحراف الهراطقة في فهم فحوى هذا المصطلح ، وانحرافهم في تأويل عبارة من انجيل يوحنا ، هي من أقوى ما يدعم هذا المفهوم ، فنجده يقول :
” فانهم بدأوا يحرفون كلمات الرب : ” أنا في الآب والآب في ( يو 14 : 10 ) ، قائلين كيف يمكن أن يحتوي الواحد الآخر والآخر يحتوى في الأول ؟ أو كيف يمكن أن يحتوي الآب الذي هو أعظم ، في الابن الذي هو أقل منه ؟ أو ” أي غرابة أن يكون الابن في الآب ، طالما أنه مكتوب عنا نحن أيضا ” به نحيا ونتحرك ونوجد “( أع 17 : 28 )…. ولكن حيث أنهم قد حاولوا تشويه هذه الآية لخدمة هرطقتهم فقد أصبح من الضروري أن نفند ضلالتهم ،… لأنه عندما يقول ” أنا في الآب والآب في ” فهذا لا يعني كما يظن هؤلاء أن الواحد يفرغ ذاته في الاخر ليملأ الواحد منهما الآخر … حتى أن الابن يملأ فراغ الآب ، والآب فراغ الابن ، وكأن كلا منهما ليس تاما ولا كاملا في ذانه … ولذلك فان هذا القول ، هو أكثر من الكفر لأن الآب هو تام وكامل ، والابن كذلك هو ملء اللاهوت … وأيضا لا يوجد الابن في الآب بالمعنى الذي فى الآية ” فيه نحيا ونتحرك ونوجد ” ، لأن الابن لكونه من ينبوع الآب ، فهو الحياة ، الذي به تحيا وتقوم كل الأشياء ، لأن الحياة لا تحيا من حياة ( أخرى ) ، وإلا فهي لا تكون عندئذ حياة . فالابن هو الذي يعطى الحياة لكل الأشياء .”
يقوم “الاحتواء المتبادل “، عند أثناسيوس على دعامتين : الدعامة الأولى هي بقاء الشخص متمايزا ، بطريقة مطلقة ، أي يبقى كما هو دائما . والدعامة الثانية هي بقاء الشخص مستوعبا في كل من الشخصين الآخرين ، بطريقة مطلقة ، أي يبقى في الآخر دائما .
بخصوص الدعامة الأولى ، يقول أثناسيوس – على سبيل المثال – : ” لأن الله ليس مثل الانسان . فالآب لم يولد من أب آخر ، ولذلك فهو لا يلد ابنا يصير أبا لآخر . وليس الابن جزءا من الآب ، ولذلك فهو لم يولد ليلد ابنا . وإذن ففي الألوهة وحدها الآب هو آب ، وقد كان ، ويظل دائما كما هو ، لأنه هو الآب بحصر المعنى . وهو أب فقط . والابن هو ابن بحصر المعنى ، وهو ابن فقط . ويثبت القول أن الآب هو أب ويدعى دائما أبا . والابن هو ابن . والروح القدس هو دائما الروح القدس ، وهو الذي قد امنا به أنه من الله وأنه يعطى من الآب بواسطة الابن . وهكذا فالثالوث القدوس يظل غير قابل للتغير ويعرف في ألوهة واحدة .” ( 3 : 6 )
وبخصوص الدعامة الثانية ، يقول أثناسيوس – على سبيل المثال – في الرسائل إلى سرابيون : – ” لأن الثالوث القدوس المبارك هو غير منقسم وهو متحد في ذاته . وعندما يسمى الآب فهو يتضمن أيضا كلمته والروح الذي في الابن . وعندما يسمى الابن يكون الآب في الابن ولا يكون الروح خارجا عن الكلمة . “( 1: 14 ).
. هذا إذن ، هو الاحتواء المتبادل ( الضمنية المتبادلة ) بين شخوص الثالوث : الكل في الكل ، بدون ذوبان أو اختزال .
مراجع تم الاستعانة بها .
1- الرسائل عن الروح القدس الى الأسقف سرابيون – للقديس أثناسيوس – مركز دراسات الاباء – مايو 1994 .
2- المقالة الثالثة ضد الاريوسيين – للقديس أثناسيوس – مركز دراسات الاباء – نوفمبر 1994 .
3- الوجود شركة – الأسقف يوحنا زيزيولاس – مركز دراسات الاباء – مايو 1989 .
4- القديس أثناسيوس الرسولى فى مواجهة التراث الغربى غير الاورثوذكسى – د/ جورج حبيب – أسرة القديس كيرلس عمود الدين الاكليريكية – مايو 1985 .
5- الايمان بالثالوث – الفكر اللاهوتى الكتابى للكنيسة الجامعة فى القرون الأولى – توماس ف. تورانس – ترجمة د/ عماد موريس اسكندر – مكتبة باناريون – طبعة أولى – نوفمبر 2007 .( ملحوظة : كل الاقتباسات المأخوذة ، من هذا الكتاب هى تلك المذيلة بارقام الصفجات مع العلامة + )