إنهم يصنعون الفرح!
لم يعد مشهداً مدهشاً فى أوروبا. رجلٌ فى الشارع يعزف جيتار، أوكورديون، ساكس، هارمونيكا، وأمامه «كاب» مقلوب، يُسقطُ فيه المارّةُ بعضَ النقود. آلةُ خفيفة؛ لأن على المتسوّل «الفنان» أن يحمل «أداة تسوّله» الراقية، من بيته، إلى مقر عمله، كل نهار ليتكسّب قوت يومه، باذلاً موهبتَه. جميلٌ أن يجتمع ضدّان متنافران! قبيحٌ وجميل! التسوّلُ، بوصفه قبحاً غير مقبول فى مجتمعات جادة، عِمادُها العمل؛ مع الموسيقى، التى هى تاجُ الفنون، وأرقى ما أبدع الإنسان، عبر محاولاته الدءوب فى محاكاة لمحة من جمال الله المتجسّد فى شقشقة العصفور، وهديل الحمام، وتغريد البلبل، وحتى نقيق الضفدع، ونعيق البوم. ومن أطرف حكايا التسوّل بالموسيقى؛ التجربة التى أجرتها «واشنطن بوست» قبل عامين؛ لتدرس مدى تذوّق الناس للموسيقى. فى أحد نهارات يناير الباردة، وقف متسوّلٌ حاملا فيولين، ليلعب ستة ألحان لـ«باخ» (أحد أهرامات ألمانيا الموسيقية الثلاثة «B»، جوار بيتهوفن وبيرجر). استمر عزفُه ساعةً مرّ خلالها ١١٠٠ شخص فى محطة المترو. بعد دقيقة، حصل العازفُ المتسوّل على أول دولار، ألقته امرأةٌ فى حقيبة الفيولين، وركضت. وتواترت الدولارات من روّاد المترو، لكن أحداً لم يقف ليستمع إلى مقطوعة كاملة. الجميع متعجل ليلحق بعمله، إلا طفلا أجبر أمّه على التوقف ليراقب العازف المغمور، برهةً. بلغت حصيلة «التسوّل» ٣٢ دولاراً، فحمل الرجل غنيمته ومضى. ولم ينتبه أحدٌ إلى أن المتسوّل لم يكن إلا «جوشوا بيل»، أحد أعظم موسيقيى العالم، عازفاً على فيولين ثمنه 3.5 مليون دولار، وسعر تذكرة حفلاته على مسرح بوسطن مائة دولار! وخرجت الجريدة من التجربة بخلاصة تقول إن تذوق الإنسان للموسيقى ينخفض فى لحظات انشغاله. ومن ثم فالزمانُ والمكان يلعبان دوراً فى درجة تقييم المرء للفنون. نعرفُ ما سبق، كما نعرف أن أوروبا لم تخرج من عثرة القرون الوسطى إلا بالفنون، من تشكيل وموسيقى ونحت وعمارة ومسرح وأوبرا. لكن الجديد هو ما أشاهده الآن فى جنيف. آلة بيانو فى كل ميدان، وحول بحيرة «لومو» الشهيرة. بيانو عام، لا للتسوّل، بل من أجل الفرح. يعزفُ الناسُ للناس؛ فتطير النغماتُ فى فضاء سويسرا، لتُزيدَ الجمالَ جمالاً. فالجمالُ البصرى المتجلى فى النظام والنظافة والتحضّر واحترام الآخر، اكتمل الآن بالجمال السمعى بالموسيقى. ها فتاةٌ تعزفُ مقطوعة الخريف من فصول «فيفالدى» الأربعة. وها طفلةٌ تلعب «فور إيلس» لبيتهوفن. وها أنا بعدهما، لأول مرة فى الهواء الطلق، أعزفُ جزءاً من فالس الزهور فى «كسّارة البندق» لتشايكوفسى. وها الناسُ يصفقون. وها شعوبٌ قررت أن «تصنعَ الفرح»، بعدما «أتقنت العمل» والتحضّر. والعُقبَى لنا. آمين.
الوطن