القديس البار أفسافيوس التلعدي (القرن4/5م)
23 كانون الثاني غربي (5 شباط شرقي)
أقام أفسافيوس في مسكن صغير جداً خال من النوافذ، منقطعاً عن العالم بالكلّية، منصرفاً إلى حياة الصلاة. عمّه مريانوس كان ناسكاً فربّاه على تذوّق الحب الإلهي. أخذ أفسافيوس على نفسه ألا يكلّم أحداً غير ربّه وألا يلتمس معاينة نور الشمس، فقط نور ربّه. أقام على هذا النحو إلى أن رقد عمّه. أتاه يوماً رجل، وصفه كاتب السيرة بـ "العجيب"، اسمه أميانوس وأقنعه بالعدول عن طريقته. من كان أميانوس؟ كان راهباً وأسّس ديراً في مكان يدعى "كوريفة" التي تعني "الهامة"، وهي تلّة مستديرة تعلو على مجموعة من التلال الواقعة شرقي أنطاكية وغربي بيرية. هناك انتصب قديماً هيكل لأوثان كان يعتبره السكان المجاورون كثيراً. وعلى مقربة من التلّة قرية كبرى كثيفة السكان يدعونها تلعدا. اسم التلّة اليوم "جبل الشيخ بركات". كان أميانوس لامعاً واتصف باتّزان الفكر. ماذا قال لأفسافيوس؟ قل لي يا صاحبي، من هو الذي تبتغي إرضاءه بممارستك هذه الحياة الشاقة المضنية؟ فلما أجابه أفسافيوس: "إنه الله مشترع الفضيلة ومعلمها!" تابع قوله: "بما أن الله هو الذي تحبّ"، فأنا أدلّك على طريقة تستطيع بها أن تزيد حبّك له حرارة وتخدم محبوبك بالأكثر لأن الذي يوجّه كل اهتمامه إلى نفسه لا يمكنه أن يتجنّب ما جاء في الكتاب المقدّس عن حبّ الذات". ثم فصّل أميانوس ببراهين من الكتاب المقدّس كيف أن الشريعة تأمرنا بأن نحبّ قريبنا حبّنا لنفسنا، حتى إن ميزة استقامة المحبة اشتراك الكثيرين في خيراتنا. ثم خلص إلى أنه لما كان أفسافيوس محبّاً لله الخالق والمخلّص فعليه أن يعمل ليصير لله أحبّاء آخرون كثيرون، فإن هذا ممّا يُسر به كثيراً سيّد الجميع. وبعد أن انتهى أميانوس من كلامه نجح في حمل رجل الله أفسافيوس على تلبية طلبه. وهكذا خرج أفسافيوس من قلايته إلى الدير في "كوريفة" حيث عاد أميانوس راهباً عادياً وصار أفسافيوس يهتمّ بالإخوة.
لم يكن أفسافيوس في موطنه الجديد بحاجة إلى كلام كثير ليقود الجماعة. كان يكفي الرهبان هناك أن يروه ليتسابقوا في ميدان الفضيلة إلى القمة. وقد روى عنه الذين عرفوه أن الرصانة كانت تبدو دائماً على محيّاه، مما كان يوقع الرهبة في ناظريه. لم يكن يتناول الطعام إلا مرّة واحدة كل ثلاثة أو أربعة أيّام، لكنه أمر الإخوة بتناول الطعام مرّة في اليوم. كان يدعوهم إلى الصلاة المستمرّة وألا يسمحوا لأنفسهم بأن يكونوا خلواً من مناجاة الله. وقد درجوا على الاجتماع لأداء الفرض العام، ثم في فترات النهار كان كل واحد منهم يمضي منفرداً إلى حيث يجد السكينة. تحت فيء شجرة أو بجانب صخرة، ليصلي إلى الرب، واقفاً أو ساجداً، ويلتمس منه الخلاص.
يروى عن صرامة أفسافيوس مع نفسه أن أميانوس العجيب جلس على صخرة مرّة وأخذ يقرأ آيات من الكتاب المقدّس كان أفسافيوس يفسّر غوامضها. وكان بعض الفلاحين يعمل في السهل الممتدّ تحت أقدامهما. فلفت المنظر انتباه أفسافيوس. أثناء ذلك قرأ أميانوس آية وانتظر تفسيراً لها. فطلب منه أفسافيوس أن يعيد قراءتها، فأجابه أميانوس: "إنك طبعاً لم تسمعني لأنك كنت مشغولاً بالنظر إلى الفلاحينّ" فانتبه أفسافيوس إلى نفسه وفرض على عينيه، مذ ذاك، ألا تتطلعا إلى السهل البتة أو تتنعّما بالنظر إلى بهاء السماء. كما فرض على نفسه قصاصاً ألا يمضي إلى الكنيسة إلا في طريق ضيّقة عرضها بمقدار راحة الكف، وأحاط حقويه بزنّار من حديد وجعل في عنقه طوقاً ثقيلاً جداً وربطه بالزنّار بسلسلة من حديد لكي يبقى رأسه منحنياً إلى الأرض بالقوة. وقد أقام على ذلك أربعين سنة. فلما سأله أكاكيوس الشيخ عن الفائدة التي يجنيها من هذا التدبير، أجاب إنها وسيلة ضد خداع الشيطان الرجيم. وأضاف: لكي أمنعه من محاربتي في الأمور الكبيرة كمحاولة سلبي العفّة أو البرارة أو إثارة الغضب فيّ أو تحريك الشهوة عليّ أو حملي على الانتفاخ بالكبرياء، أحاول أن أنقل القتال إلى هذا الميدان الضيّق الذي لا يجدي انتصار الشيطان فيه نفعاً وانخذاله يعرّضه للسخرية، فيتّضح، إذ ذاك، عدم اقتداره حتى في الصغائر. وإذ كنت على يقين أن هذه الحرب خالية من الأخطار لأن الإصابات فيها ليست جسيمة، فإنه ليس خطأ أن ينظر الإنسان إلى السهل أو أن يرفع عينيه نحو السماء، فقد وجّهت نظر العدو إلى حيث لا يستطيع أن يقتل ولا أن يجرح.