أكبر إهانة لـ أوباما
العلاقات الأمريكية السعودية قديمة ومتطورة، وقد بدأت باللقاء التاريخي بين الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود، وبين الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت - كان مصابا بالشلل، ويجلس على كرسي متحرك - على ظهر المدمرة الحربية الأمريكية كوينسي في البحيرات المرة المصرية صباح 14 فبراير 1945، ومنذ ذلك الحين بدأت الصداقة التي تصل إلى مستوى التحالف بين البلدين، ورغم حدوث خلافات في وجهات النظر في عدد من القضايا سواء الثنائية أو المتعلقة بالمنطقة خلال مسيرة العلاقات الطويلة، لكن الطرفان كانا يعملان على تجاوزها، والمضي في تعزيز العلاقات. في عهد أوباما توترت العلاقات في عدة ملفات على رأسها إيران وسوريا، فقد اهتم البيت الأبيض بحل الملف النووي الإيراني الشائك والتقارب مع طهران على حساب السعودية وبلدان الخليج، وفي سوريا لم يتخذ أوباما موقفا قويا إلى جانب المعارضة المدعومة من السعودية وتركيا وبلدان خليجية أخرى، وترك الأزمة تتعقد حتى وصلت اليوم إلى تحكم الروس فيها وتثبيت الأسد في السلطة، وفي العراق تسبب التخبط الأمركي منذ بوش الابن في سيطرة إيران على هذا البلد العربي وتحوله إلى دمية في يديها وصار مصدر قلق مجددا بسبب حكومته الطائفية المرتبطة بالتوجهات الإيرانية، وهناك المرارة السعودية من موقف واشنطن من الربيع العربي حيث لم تعمل على إسناد أصدقائها من الحكام الذين تساقطوا في أكثر من عاصمة عربية مما أثار المخاوف من فكرة التضحية الأمريكية السريعة بالحلفاء والأصدقاء، وأنهم ليسوا في مأمن معها. ويأتي الكونجرس اليوم ويعمق القلق من حقيقة النوايا الأمريكية بعد إصراره على تمرير قانون محاسبة السعودية بأي ثمن، وهو ما تم فعلا، وخطورة القانون أنه يوحي بالربط بين هجمات 11 سبتمبر، وبين السعودية حيث يوفر للناجين ولأقارب الضحايا سندا قانونيا لمقاضاتها كدولة وطلب التعويضات منها. بالطبع سيكون القضاء هو المحك والفيصل، وهنا سيكون الرهان على مقدار النزاهة والشفافية لديه بعيدا عن التسييس، في قبول الدعاوى أو رفضها، وفي حالة القبول ماذا سيكون حجم التعويضات التي يقررها، هل رمزية، أم يتأكد هاجس الابتزاز والاستنزاف؟. هل أمريكا سلطة تنفيذية ممثلة في البيت الأبيض، وسلطة تشريعية ممثلة في الكونجرس في وارد التخلي عن العلاقات الخاصة مع السعودية التي تعتبر الدولة المحورية في النطاق العربي، وواحدة من الدول الإقليمية المؤثرة في المنطقة، هل تتحمل أمريكا تهميش السعودية لصالح تعظيم دور إيران لتعود وتلعب دور شرطي المنطقة كما كانت تمارسه أيام حكم الشاه؟، هنا يجب الانتباه للمتغيرات الجديدة في المنطقة ودولها فلم تعد السعودية ودول الخليج هى نفسها الدول التي كانت قبل نصف قرن، فقد صارت دولا نامية وناهضة وقادرة على التأثير، وقد تمددت وتشعبت علاقاتها، وإيران لم تعد هى نفسها إيران الشاه المضمونة أمريكيا، فهى اليوم محكومة بنظام أشد سوء من نظام الشاه، ولن تكون ذلك التابع للأمريكان مهما قدموا لها من تنازلات، فلدى نظامها نزوعا قوميا إمبراطوريا قديما، وتسيطر عليه عقلية عنصرية عدوانية مع كل ما هو عربي، كما تظهر العقلية الدينية الطائفية المذهبية لتعمق الشقاق مع الجار العربي والمسلم. قد نكون نعطي الأزمة الحالية بين الرياض وواشنطن أكثر من أبعادها الحقيقية، ربما أعضاء الكونجرس هدفهم فقط ابتزاز بعض المال السعودي، أو هى لعبة سياسية انتخابية لترضية المتضررين من ضربات سبتمبر، فقد كان لافتا أن الكونجرس يريد إنجاز القانون في نفس الشهر "سبتمبر" الذي وقعت فيه الجريمة قبل 15 عاما، وهو ما تم فعلا يوم 28 منه. السناتور تشارلز شومر، وهو ثالث أكبر ديمقراطي في مجلس الشيوخ، قال إن إسقاط الفيتو الرئاسي هو أمر لا نتعامل معه باستخفاف، لكن كان من المهم في هذه الحالة أن يُسمح لأسر ضحايا 11 سبتمبر بالسعي لتحقيق العدالة حتى لو سبب هذا السعي بعض المضايقات الدبلوماسية. الملاحظة هنا أن السناتور يعتبر أن القانون قد يحدث بعض المضايقات الدبلوماسية، ويقصد في العلاقات الأمريكية السعودية، وربما هو تهوين من الأثر المتوقع على العلاقات بين البلدين، وربما كما قلنا أن المأمول من القانون ليس التخلي عن علاقات الصداقة أو التحالف مع الرياض إنما فقط ترضية ضحايا الهجمات واستثمار القانون في الصراع الانتخابي على الرئاسة وعلى المقاعد في الكونجرس بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري في انتخابات 8 نوفمبر القادم، وبالفعل أشار أوباما إلى عامل الصراع السياسي في تعقيبه على إسقاط الفيتو الرئاسي. الديمقراطيون لم يعد يعنيهم أوباما عندما يدعمون قانونا ضد رغبة رئيس ينتمي إليهم حزبيا، فقد انتهت فترة رئاسته الثانية، ولا يهمهم إحراجه أو حرقه فيما تبقى له من أشهر، فقد صار من الماضي، إنما عيونهم على دعم مرشحتهم هيلاري بألا يجعلوها في موقف صعب أمام الجمهوري ترامب إذا لم يكونوا قد مرروا القانون حيث لا يريدون أن يظهروا أقل حماسا من الجمهوريين في الوقوف بجانب أسر الضحايا. مع ذلك من المهم الحديث عن تكهنات أخرى، مثل أن تكون الأموال السعودية في أمريكا تغري الكونجرس على استنزافها وبوسائل قانونية، وليس بالسطو المباشر، عبر القضايا التي سيتم رفعها، وأن تهاوي أسعار النفط لم يعد يجعل السعودية ورقة ثمينة كثيرا، وأن اللوبي الصهيوني المسيطر والنافذ في الكونجرس يهدف من بعيد إلى ضغط السعودية لأقصى درجة لدفعها للمسارعة بالتطبيع مع إسرائيل، وبالتبعية ستجر معها دولا خليجية وعربية وإسلامية بما لها من نفوذ. مشكلة قانون "جاستا" أنه يفترض مسؤولية السعودية عن هجمات سبتمبر، وهذا خلل كبير وخطأ أكبر، فلا يمكن تصور أن يكون للسعودية كدولة أي دور بشأن الهجمات والمهاجمين، فالسعودية أكثر من تضرروا بعد أمريكا من تلك الهجمات، وهى مستهدفة من الإرهاب. وتحقيقات 11 سبتمبر لم تثبت أي دور رسمي للسعودية في الجريمة، وحتى الصفحات الـ 28 التي كانت منزوعة من التقرير ومفروض عليها السرية بأمر من الرئيس السابق بوش الابن لم يكن فيها ما يدينها بعد رفع السرية عنها قبل عدة أشهر. لكن مع ذلك وكما يقول الكاتب السعودي جمال خاشقجي فإنه على الرياض إجراء إعادة تقييم في الداخل لإزالة الأسباب التي قد تكون أدت لنيل القانون تأييدا واسعا في الكونجرس. من المهم أن تقوم السعودية بمراجعة شاملة داخلية جادة وفعلية سياسية وفكرية وثقافية وأمنية تزيل بها كل الشبهات التي تربط بينها وبين صعود أفكار وخطابات وتيارات التشدد والعنف، من المقلق مثلا أن تجد عددا كبيرا من المنتمين لمنظمات وجماعات العنف والإرهاب من الشباب السعودي، بطبيعة الحال هناك أسباب اقتصادية واجتماعية تدفع للغضب واعتناق الفكر المتطرف. أوباما رئيس ضعيف، عاجز، متخاذل، متردد، مُهان، يمارس الكونجرس الإذلال عليه في أواخر أيامه في الحكم عبر إسقاط نقضة لقانون العدالة ضد رعاة الإرهاب، مثلما سبق وأذله نفس الكونجرس عندما دعا نتنياهو رئيس وزراء الكيان الصهيوني للحديث أمامه رغم الأزمة التي كانت بين أوباما ونتنياهو ودون استشارته وعلى غير رغبته وكأنه رئيسا غير موجود. اليوم أسعد الأنظمة طربا بإسقاط فيتو أوباما هو النظام الإيراني الفاشي، والنظام السوري الدموي، والحكومة العراقية الطائفية.
هذا الخبر منقول من : وكالات