الحــركــه
قداسة البابا شنودة الثالث
الحركة في جسم الإنسان دليل علي الحياة. فالدم فيه يتحرك, والتنفس هو حركة شهيق وزفير, وأجهزة الجسد تتحرك, والقلب ينبض بالحركة. فاذا مات الإنسان ـ وكذلك الحيوان ـ توقفت حركته, ويقال إنه أصبح جثة هامدة لا حركة فيها.. إنما الحركة فيها نشاط وفيها حيوية.
** وعندما خلق الله الأجرام السماوية, جعل فيها عنصر الحركة, فالأرض تدور حول نفسها مرة كل يوم, وينتج عن ذلك النهار والليل. وتدور حول الشمس مرة كل عام ينتج عنها الفصول الأربعة كذلك الكواكب والنجوم تتحرك وتدور ويرصد علماء الفلك تحركاتها. والقمر أيضا في علاقته مع الأرض مما ينتج عن ذلك أوجه القمر خلال كل شهر.
والنبات أيضا تتحرك جذوره داخل الأرض, وتتحرك فروعه خارجها. وفي حركته ينمو, ويمتد جذعه إلي فوق ويعلو, وتحمل فروعه ثمارا أو أوراقا أو أزهارا..
** والإنسان الذي لا يتحرك كثيرا يصاب بالخمول. وأطرافه التي يتوقف تحركها تصاب بالشلل. ولهذا يحب الإنسان لجسمه أن يتحرك, عن طريق المشي أو الرياضة أو السباحة. كل ذلك لكي ينشط الجسد ويقوي ويتدرب الانسان علي دوام الحركة.
وما أجمل المثل القائل في الحركة بركة.
** الحياة الروحية أيضا مطلوب فيها الحركة وعدم التوقف. فخادم الله من المفروض أن يتحرك في كل مجال خدمته. وإن لم يتحرك ينتقده الناس ويصفوه بالتقصير, ويصير عبئا. حتي الناسك أو العابد, فانه أيضا يتحرك: إن كان في الوحدة أو الخلوة, يتحرك نحو الله. وإن كان في الخدمة يتحرك نحو الناس.
** الإنسان الروحاني يكون دائما نشيطا. وتتحرك روحه باستمرار, سواء في العبادة, أو في الاهتمام بكل من هم حوله, لكي يقودهم في طريق الخير. ويفعل ذلك في محيط أسرته أو في مجال أصدقائه.. ما اجمل ما قيل عن السيد المسيح إنه كان يجول يصنع خيرا, ويطوف المدن والقري يعلم ويشفي..
** التوبة هي أيضا حركة داخل القلب لتجديد الحياة. وهي أيضا ـ من الناحية العملية ـ حركة ينتقل بها التائب من حياة خاطئة إلي حياة بارة.. والصلاة هي أيضا حركة يتجه بها القلب والفكر واللسان إلي الله ليتحدث إليه.. إن الله ـ تبارك اسمه ـ يجذب الإنسان إليه. وهذه حركة من النعمة, تليها حركة استجابة من القلب البشري ليسلك حسب مشيئة الله.
** مفروض في الإنسان الروحي أن ينمو باستمرار في حياة الفضيلة والبر. وهذا النمو الروحي هو لون إيجابي من الحركة, به يمتد الإنسان البار نحو حياة الكمال النسبي الذي تبلغ إليه طبيعته البشرية, حسبما تستطيع من الجهاد, وحسبما تساعده النعمة الإلهية. ومهما وصل إلي درجات روحية, فانه يحاول أن يمتد إلي قدام ولا يتوقف. وهكذا تستمر حرارته وينمو ولا يصيبه الفتور.
** إن كان أحد فينا لا ينمو روحيا, فهذا بلا شك تعوزه الحركة المقدسة التي تدفعه نحو المثاليات.. وعن هذا النمو الروحي, قال أحد الأدباء الروحيين: اركض في الطريق نحو الله.. وإن لم تستطع أن تركض, إمش, وإن لم تستطع أن تمشي إزحف, ولكن حذار أن تتوقف..
ضع أمامك باستمرار أن تنمو, سواء في الصلاة, أو التأمل, أو القراءة الروحية, أو في خدمة الآخرين, أو في سائر التفاصيل الخاصة بحياة الفضيلة.
** أعرف أن الشيطان أيضا هو دائم الحركة, لا يهدأ من الجولان في الأرض والتمشي فيها, لكي يلتمس فريسة له بين البشر في أي موضع. فما دام هو دائم الحركة, ينبغي أن نواجهه بحركة مضادة لحركاته لكي نوقفها ونمنعها من الوصول إلي إدراك غايتها.
** لذلك ـ يا أخي ـ في جهادك الروحي ـ إن لم تستطع أن تتحرك, الجأ إلي من يحركك.. إلي مرشد روحي, أو إلي اجتماعات روحية فيها وعظ مؤثر أو توجيه له قوته. أو ابحث عن كتاب روحي له تأثيره العميق, أو كاست فيه تسجيل صوتي لإحدي العظات التي تمس حياتك. فكل هذه الأسئلة قد تحرك عاطفتك وتقودك إلي الخير, إن أحسنت اختيار نوعيتها. أو الجأ بالصلاة إلي نعمة الله فهي قادرة أن تدفعك إلي قدام في حياة الروح..
** من جهة تعاملنا مع الآخرين, قد يقابلك انسان يحتاج إلي معونة روحية, ويحكي لك عن متاعبه. والمفروض أن يتحرك قلبك نحوه, وأن تعمل ما يمكنك لأجله, وإلا يوبخك ضميرك..
هنا وأقول: كم من مساكين يطرقون أبوابنا, ونحن لا نتحرك لمعونتهم! وكم من محتاجين ـ ماديا أو نفسيا ـ ونحن نهملهم! وكل واحد منهم يشكو ويقول: لم أجد من يشعر بي, ولا من يهتم بمشكلتي! إذن يجب أن نتحرك نحو هؤلاء.. نتحرك قلبيا نشفق عليهم, ونتحرك أيضا من جهة العمل..
** الحياة الروحية يا اخوتي كلها حركة, سواء في هذا العالم أو في العالم الآخر, حتي الموت, وإن كان يتسبب في توقف حركة الجسد, إلا أن فيه حركة للروح ـ ذلك أن الروح البشرية ـ في حالة الموت ـ تتحرك راجعة إلي الله.
وقيامة الأموات هي أيضا حركة. إذ تتحرك الأرواح من مستقرها لكي تتحد بالاجساد. ثم تتحرك الأجساد القائمة من الموت لكي تقف أمام الله العادل في يوم الحساب. وبعد الحساب يتحرك الكل إلي مصيرهم الأبدي.
** والأبرار يتحركون إلي عشرة الملائكة, وإلي المجد الذي ينتظرهم مكافأة علي جهادهم للثبات في الفضيلة, بضبط النفس والانتصار علي كل حيل الشيطان وإغراءاته. وكل القلوب الطاهرة تنتظر هذه النهاية السعيدة, حيث ينال الأبرار أكاليل تناسب كل نوعيات تحركهم نحو الخير.
لذلك استعدوا من الآن بتهيئة قلوبكم وأفكاركم لذلك المجد العتيد. واملأوا قلوبكم بالحرارة الروحية, ومحبة الله ومحبة الخير, ومحبة السكني في السماء, وخلال هذه الحياة الأرضية التي نعيشها الآن اكنزوا لكم كنوزا في السماء من كل عمل صالح تعملونه وينتظركم هناك
|