يُخطأ البعض حينما يظن أن العقيدة أفكار وكلام وحوار وألفاظ مجردة، أو يحصرها في إطار طائفي ضيق، أو يحولها لفلسفة عقلية جدلية، لأن العقيدة المسيحية الحقيقية، لا تعتمد على مجرد فكر ومعرفة تنحصر في العقل ومتطلبات العصر، لأن أساس جوهرها هو الحق، ولا يظن الحق هنا بالمعنى الفكري للكلمة، أو أنه مجرد صدق، أو مجرد حقيقة، لأن الحق هو شخص المسيح الله الكلمة المتجسد، وأي نوع من أنواع الكلام عن العقيدة غير مرتكز على الحق الذي هو شخص المسيح الرب، فهو غريب عن المسيح ولا يصح ان يكون عقيدة !!!
فما هي العقيدة التي حسب الحق وما هي أساس قاعدتها !!!
العقيدة باختصار هي تعبير الكنيسة عن الحقائق الإلهية التي أعلنها المسيح الرب بفمه وأعماله، وهي مخطوطة في قلب الكنيسة بالروح القدس، وتخرج بصورة خبرة عميقة سجلها الآباء القديسين المحبين لله بأعمالهم ونطقوا بها بالروح القدس حسب الحق المُعلن في قلبهم وعقلهم المستنير بالنعمة….
والعقيدة بالطبع في هذه الحالة ترتكز على مصادر الإعلان الإلهي وتُعبِّر عن حقيقة مُعلنة من الله في المسيح، أي أنها باختصار تستعلن الحق الذي هو المسيح الرب من كلام فمه أي ما نطق به، لأن كلمته هي أنفاسه الخاصة التي هي حياة الكنيسة ….
إذن العقيدة الحقيقية في الكنيسة ليست صورة ورمز تُعبِّر عن الشعور الشخصي أو المشاعر الدينية أو تأملات الأشخاص الذين يؤلفون الكنيسة من شعب وشمامسة وكهنة وأساقفة ومطارنة وبطاركة، لأنها لو كانت مشاعر وأحاسيس وتأملات ومجرد عظات وأفكار لفقدت طبعها الدائم والمتين وأمكن تعديلها حسب ثقافة كل عصر ومتطلباته، وتختلف من شرح لشرح آخر ومن فكر لفكر آخر، بل وتدخل في صراع العقل الغير مستنير فتفقد قوتها عند الجميع وتخضع للتغيير وبالتالي تخرج عن كونها إعلان الحق، لأن الحق ثابت لا يتغير، أو ينكمش أو ينحصر حتى في فكرة ولفظة، إنما لكونه حق هو يزداد إعلان وكشف عن ذاته بلا توقف، بل يزداد اتساع وإشراق كلما مر الزمان عبر الدهور والأيام إلى أن يستعلن في كماله عند مجيء مخلصنا يسوع….
والعقيدة بطبعها ممتدة ومُسلَّمة من جيل لجيل، ومع تسليمها تزداد إشراق ووضوح، ويقول إقليمس الإسكندري (تنيح 215م) [ السيد (المسيح) هو قاعدة تعليمنا، ويبقى موجَّه معرفتنا بطرق مختلفة وفي أمكنة مختلفة بواسطة الأنبياء والإنجيل والرسل المطوبين ... ]، لذلك الكنيسة كواجب موضوع عليها إذ أنها مؤتمنة على التعليم، قبل إعلانها عن أي شرح او تفسير وإعلانه كعقيدة، عليها أن تتأكد – بمجمع اساقفتها وكهنتها وعلماءها الأتقياء – من ارتكازها على الكتاب المقدس أنفاس الله والتقليد الرسولي الثابت في الحق وإلا اعتُبِرَ مضمون هذه العقيدة المعلنة مجرد رأياً لاهوتياً (Theologoumenon) لا يُلزم المؤمنين في شيء…
ويلزمان أن نعلم أن الكنيسة لم يكن في غرضها وهدفها منذ العصر الرسولي أن تعلن ألفاظاً عقائدية تقننها، بل أتى هذا التقنين عن ضرورة وضعت عليها بسبب الهرطقات التي ظهرت بسبب عدو الخير ليقلق الكنيسة ويبدد إيمانها بالمسيح الرب، ليخسر الإنسان حياته الأبدية، لأن عدو كل خير منذ البدء كان قتالاً للناس، يريد أن الكل يهلك ولا يأتي لمعرفة الحق أبداً فيُشفى ويستنير وينحل من وثق الموت والفساد وينفك من أسره ويحيا في حرية مجد اولاد الله وينضم للكنيسة ويتذوق قوة خلاص المسيح الرب فيفرح ويبتهج ويحيا في سر التقوى ومحبة الله…
فالكنيسة خطت العقيدة وشرحتها بتدقيق شديد ونحتت ألفاظها وقننتها باختيار الروح في المجامع المقدسة، وهي على يقين أن التعبير البشري عاجز عن الإحاطة بسرّ الله الغير محصور لا في فكر ولا في كلمة أو لفظة أو جملة أو حتى في مؤلفات كتب العالم كله…
يقول القديس هيلاري أسقف بواتيه (المشهور بأثناسيوس الغرب، وهو من الآباء المعتبرين أعمدة في الكنيسة) وهو من القرن الرابع وقد اشترك في أعمال المجمع المسكوني الأول (325): [ إن شرّ الهراطقة والمجدفين يُرغمنا على القيام بأمور مُحرمة: أن نتسلق القمم المحظور تسلقها، أن نتكلم في مواضيع لا يُنطق بها، وأن نُقدم تفاسير ممنوعة. كان علينا أن نكتفي بأن نُتمم بالإيمان وحده ما أُمرنا به، أعني أن نسجد للآب وأن نُكرم الابن معه وأن نمتلئ من الروح القدس. ولكننا مُرغمون على أن نُطبق كلماتنا المتواضعة على الأسرار الأبعد من الوصف. إن خطيئة الآخرين تقودنا إلى خطيئة أعظم (وهي): التعبير عن الأسرار التي كان يجب أن نحويها في ديانة قلوبنا بقصور اللغة البشرية ] (في الثالوث2: 2)
فيا أحباء المسيح الذين يسعون إليه بكل قلوبهم لكي يدخلوا في حياة الشركة مع الثالوث القدوس، أدخلوا للعقيدة لا من مدخل الانحصار في اللفظ ولا من جهة إحياء الطائفية والتعصب وأننا الأفضل، بل أدخلوا إليها باستنارة الذهن وبقلب ممتلئ حب لله القدوس الحي، طالبين ملئ الروح لكي يفتح لكم كنز أسرار الله ليُستعلن في قلوبكم الحق الذي هو الله بشخصه، فتروا ما لا يُرى وتنضموا للآباء متحدين معهم في سر رباط الروح الواحد، روح الإلهام والنبوة وروح إعلان أسرار الله للحياة والمجد والفرح والمسرة، وتتميم مقاصد الله بإرادة صالحة، وأعلموا ان كل من دخل في معرفة الحق كنور وحياة فأنه يدخل في حرية مجد أولاد الله:
[ قال له يسوع أنا هو الطريق والحق والحياة ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي ] (يو14: 6)؛ [ فقال يسوع لليهود الذين آمنوا به إنكم أن ثبتم في كلامي فبالحقيقة تكونون تلاميذي وتعرفون الحق والحق يُحرركم ] (يو8: 31 – 32).