جوهر الحياة المسيحية على ضوء معرفة الله ومعرفة النفس
أن حياة المسيحية الحقيقية لا تعتمد على الشكل الخارجي للإنسان وتنفيذه للطقوس والعقائد وحفظة البنود المعلنة من خلال القوانين والمعرفة المسيحية كمعلومات فكرية جدلية !!!
فحياة المسيحي الحقيقية هي في الداخل، في داخل كيانه الشخصي، فهي باختصار شديد وأكثر تحديد، هي الحياة في الله …
أي أن المسيحي الحقيقي هو الشخص الذي حياته في الله، بمعنى أني لو قلت أني مسيحي حقيقي، يعني الله في داخلي أكثر من أي شيء آخر في الوجود، وسعيي كله أن ألتقية وأفتش عنه في الداخل وليس في الخارج، وذلك بسبب أن الكلمة صار جسداً وحل فينا، ونحن هياكل الله وروح الله يسكن فينا كهبة، وفي داخلنا طبيعياً – حسب الخلق – صورة الله المطبوعة في الداخل والذي أعاد شكلها الأصيل تجسد الكلمة واستعلانه في ملء الزمان …
الإنسان بطبيعة خلقه هو صورة الله، له كيان روحي مستمد من خالقه العظيم، وهذا هو سر حنينه الدائم إلى خالقه وعدم شبعه بآخر مهما ما كان مسرته فيه، ولكي نتعود نعيش في هذا المجد العظيم ونعود لأصل الصورة فينا لابد من أن ننزل إلى داخلنا، أي نقطع مسيرة الدخول لأعماق قلوبنا لنلتقي مع الله المطبوع سراً في داخل القلب بصورة مجيده، هذه التي وضعنا عليها تراباً على مر الأيام وأخفيناها حتى أننا في حالة قلق دائم واضطراب في هذا الزمان نحمل الأوجاع لأننا لم ندخل لهذا العمق ونعرف أنفسنا في جمال صورتها الحقيقية المخلوقة عليها والمطبوعة فيها !!!
فكل ما يتعب النفس أنها أخفت سرها وضاع معه حل مشاكلها وضيقاتها الكثيرة والتي تشعر أن ليس لها سبب محدد، لأن مهما ما بلغ الإنسان من مراكز أو معرفة عقلانية يظل يشعر بضيق يزيد كلما ابتعد عن حقيقة جوهره الأصيل !!!
وطبعاً الرجوع للنفس والعودة إليها ليس شيئاً سهلاً على الإطلاق، بل هو صعب للغاية، لأننا في الواقع أصبحنا غرباء عن أنفسنا، نجهل حقيقتها المخفية فيها !!
فمن السهل التعرف على العالم الخارجي والمحيط بنا، ومن السهل أيضاً التعرف على الحياة المسيحية من جهة الفكر والبحث والمعرفة بالدراسة والأفكار، لأن كل هذا يأتينا عن طريق الحواس والعقل، وكل شخص يستوعب حسب قدراته العقلية، أما من جهة الداخل فصعب للغاية لأنه لا يأتي على مستوى العقل أو الفكر أو القدرة على المعرفة والفهم إنما على مستوى اللقاء الحي في الداخل !!!
فالحياة المسيحية الحقيقية هي باختصار وتركيز: الرجوع إلى النفس للدخول بالنعمة في الله، فحضرة الله بملء نوره العظيم هو أعمق ما في الإنسان من عظمة ومجد، لأن الإنسان خُلق في هذه الحضرة وهي أساس دعوته وأصل حياته كلها، ونبع حريته وكمال سعادته الحقيقية، بل هي مصيره الأبدي الذي لا يقدر أن يحيا بدونه قط !!!
إذن فالمنهج الحقيقي والأصيل للمسيحي الحقيقي هي حياته الداخلية، واستمرار وجوده في الحضرة الإلهية على مستوى اللمس من جهة كلمة الحياة [ الذي كان من البدء الذي سمعناه الذي رأيناه بعيوننا الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة ] (1يو 1: 1)
والعائق الرئيسي الذي يفصل الإنسان ويشوه طبعه ويشوش فكره ويجعل النور الإلهي منطفئ فيه هو الأهواء التي هي أصل الخطايا وسبب تحركها فيه، لأنها سبب الانفصال عن الله وتشويه الطبع الإنساني الأصيل، والإنسان أن لم يتحرر من هذه الأهواء لن يستطيع أن يكتشف في داخله اللؤلؤة الكثيرة الثمن فيبيع كل شيء لاقتنائها حتى نفسه يحسبها رخيصة عنده من أجل هذه الجوهرة الثمينة !!!
1- تمهيـــــــــــــــــــد
دعـــــوة الإنســـــان العليـــــا
الكنيسة تعرف شخص يسوع المسيح، لأنه رأسها وهي جسده من لحمه وعظامه، فهو مُستعلن فيها، يتجلى فيها، ويحضر حضوراً سرياً فائقاً في كل أسرارها المقدسة …
والكنيسة كل عملها وشغلها الشاغل، إظهار وتمجيد واستعلان ربنا يسوع، وتقديمه إلهاً حياً محيياً من خلال سرّ الكلمة والإفخارستيا …
والكتاب المقدس في الكنيسة هو استعلان صوت المسيح الحي والمحيي، الذي نادى لعازر هلم خارجاً فَسَرت فيه قوة حياة تُقيم من الموت، وهو هو نفس ذات الصوت التي تنادي به الكنيسة أولادها بفم ربنا يسوع المسيح القائم من الموت، فقراءة الكلمة في الكنيسة سرّ قوة الحياة لكل من يسمع هذا الصوت بإيمان دون أن يرتاب فيه …
وعلى هذا الأساس نتقدم إلى سماع الكلمة من فم الله الذي نطق بها ولازال ينطق بها في كل زمان، وبالطبع زماننا هذا، والكتاب المقدس إذ بلغنا سره الإلهي وأصغينا لهذا الصوت المُحيي، سنجد أن لغته لغة حوار بين طرفين، أي بين شخصين، الله والإنسان، ومن صميم هذا الحوار – حوار المحبة – نجد اللذة المتبادلة والحب المتدفق الحاصر للإنسان ( محبة المسيح تحصرنا )، ومن صميم هذا الحب الفائق نجد الدعوة الإلهية لكل إنسان يقترب من هذا المجد الفائق : [ دعوة من الله للإنسان للتمتع بالشركة مع العريس السماوي، دعوة الوحدة والاتحاد والالتصاق كثمرة التجسد الإلهي وعمله الفائق ]
” و جعل يسوع يكلمهم أيضاً بأمثال قائلا: يُشبه ملكوت السماوات إنساناً ملكاً صنع عُرساً لابنه. وأرسل عبيده ليدعوا المدعوين إلى العُرس، فلم يريدوا أن يأتوا. فأرسل أيضا عبيداً آخرين قائلاً: قولوا للمدعوين هوذا غذائي أعددته ثيراني ومسمناتي قد ذبحت وكل شيء معد تعالوا إلى العُرس. ولكنهم تهاونوا ومضوا واحد إلى حقله وآخر إلى تجارته. والباقون أمسكوا عبيده وشتموهم وقتلوهم.
فلما سمع الملك غضب و أرسل جنوده وأهلك أولئك القاتلين وأحرق مدينتهم. ثم قال لعبيده أما العُرس فمستعد وأما المدعوون فلم يكونوا مستحقين. فاذهبوا إلى مفارق الطرق وكل من وجدتموه فادعوه إلى العرس. فخرج أولئك العبيد إلى الطرق وجمعوا كل الذين وجدوهم أشراراً وصالحين فامتلأ العرس من المتكئين.
فلما دخل الملك لينظر المتكئين رأى هناك إنساناً لم يكن لابساً لُباس العُرس. فقال له يا صاحب كيف دخلت إلى هنا وليس عليك لُباس العُرس فسكت. حينئذ قال الملك للخدام أربطوا رجليه و يديه وخذوه واطرحوه في الظلمة الخارجية هناك يكون البكاء وصرير الأسنان. لان كثيرين يُدعون وقليلين يُنتخبون. ” ( مت 22: 1 – 14 )
فالدعوة غالية جداً وكريمة جداً وثوب المدعوين هو شخص الكلمة المتجسد : ” لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح ( في المسيح ) قد لبستم المسيح ” ( غلا 3: 27 )
هذا هو ثوب البر المنسوج بعمل الله وحده بدم ربنا يسوع الذي سفك على عود الصليب، ثوب برّ مجاني مُهدَى من الملك نفسه بلا قيد أو شرط، لمن يقبل الدعوة فقط ويتوب ويعود للحضن الحلو ويكتسي بالنعمة …
” و لكن الآن في المسيح يسوع أنتم الذين كنتم قبلاً بعيدين صرتم قريبين بدم المسيح. لأنه هو سلامنا الذي جعل الاثنين واحداً ونقض حائط السياج المتوسط أي العداوة، مبطلاً بجسده ناموس الوصايا في فرائض، لكي يخلق الاثنين في نفسه إنساناً واحداً جديداً صانعاً سلاماً. ويُصالح الاثنين في جسد واحد مع الله بالصليب، قاتلا العداوة به. فجاء وبشركم بسلام انتم البعيدين والقريبين. لأن به لنا كُلينا قدوماً في روح واحد إلى الآب. فلستم إذاً بعد غُرباء ونزلاء، بل رعية مع القديسين وأهل بيت الله. مبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية. الذي فيه كل البناء مركباً معاً ينمو هيكلاً مقدساً في الرب. الذي فيه أنتم أيضاً مبنيون معاً مسكناً لله في الروح ” ( أف 2: 13 – 22 )
وما هي طبيعة الدعوة ؟
” تعالوا لأن كل شيء قد اُعد ” . لأن الله الآب قد أعد في المسيح لسكان الأرض تلك العطايا التي مُنحت للعالم بواسطته، التي هي غفران الخطايا، والتطهير من كل دنس، وشركة الروح القدس، والتبني المجيد له، وملكوت السماوات . ] ( تفسير لوقا للقديس كيرلس الكبير عظة 104 عن كتاب تفسير إنجيل لوقا للقديس كيرلس الإسكندري ص502 ترجمة د/ نصحي عبد الشهيد 2007 )
” مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح. كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة. إذ سبق فعيننا للتبني بيسوع المسيح لنفسه حسب مسرة مشيئته. لمدح مجد نعمته التي أنعم بها علينا في المحبوب. الذي فيه لنا الفداء بدمه غفران الخطايا حسب غنى نعمته. التي أجزلها لنا بكل حكمة و فطنة. إذ عرفنا بسر مشيئته حسب مسرته التي قصدها في نفسه. لتدبير ملء الأزمنة ليجمع كل شيء في المسيح ما في السماوات وما على الأرض في ذاك. الذي فيه أيضاً نلنا نصيباً مُعينين سابقاً حسب قصد الذي يعمل كل شيء حسب رأي مشيئته. لنكون لمدح مجده نحن الذين قد سبق رجاؤنا في المسيح الذي فيه أيضاً أنتم إذ سمعتم كلمة الحق انجيل خلاصكم الذي فيه أيضاً إذ آمنتم خُتمتم بروح الموعد القدوس. الذي هو عربون ميراثنا لفداء المقتنى لمدح مجده ” ( أف 1: 3 – 14 )
حينما نعي هذه الدعوة المقدسة المهيبة والمفرحة جداً لكل نفس، لن نتعجب أو نندهش من الذين باعوا كل شيء – بسهولة – ورضوا أن يخسروا كل ما للعالم وأن يحسبوه مع القديس بولس خسارة ونفاية من أجل أن يربحوا اللؤلؤة الواحدة الوحيدة الكثيرة الثمن، بل – نحن أنفسنا – سنبيع كل شيء بسهولة وبلا تردد، ونبغض الخطية فتسقط من تلقاء ذاتها دون معاناة أو صراع داخلي، إذ قد ربحنا الواحد الوحيد ربنا يسوع، الذي هو الكنز الخفي الذي للنفس المخبئ في داخلها، بل صار هو ثوبها النفيس الذي يستحيل أن تفرط فيه أبدا أو تطرحه عنها !!!
وفي ختام المقدمة لنقرأ ما قاله القديس مقاريوس الكبير :
[ الديانة المسيحية ليست إذن شيئاً عادياً " هذا السرّ عظيم " ( أف5: 32 )، لذلك فاعرف قدرتك وسموك لكونك دُعيت إلى الكرامة الملوكية " جنس مختار كهنوت ملوكي وأمة مقدسة " ( 1بط2: 9 )، لأن سرّ المسيحية هو غريب بالنسبة لهذا العالم. والمجد المنظور الذي للإمبراطور أو الملك ( الأرضي ) وكل غناه، إنما هو أرضي وفاني ومضمحل، وأما ذلك الملكوت وذلك الغنى السماوي فهو إلهي سماوي ومملوء مجداً، وهو لا يفنى ولا يضمحل لأن مثل هؤلاء المسيحيون يملكون مع الملك السماوي في الكنيسة السماوية " وهو البكر من الأموات " ( كو1: 18 )، وهم أيضاً أبكار، ولكن رغم أن هذه هي حالتهم وهم مختارون ومقبلون أمام الله، فإنهم يعتبرون أنفسهم أقل الكل وليس لهم أي استحقاق، وقد صار أمراً طبيعياً عندهم أن يعتبروا أنفسهم كلا شيء. ] (عظات القديس مقاريوس الكبير 27 : 4 صفحة 249، عن كتاب عظات القديس مقاريوس، الطبعة الرابعة – مؤسسة القديس أنطونيوس المركز الأرثوذكسي الآباء – نصوص آبائية 85)
2- مقدمـــــــــــــــــــــة
معرفـــــة الكتب وقـــــوة الله
الله والنفس الإنسانية :
+ الله هو تحديداً مصدر الحياة وسرّ حياتنا، هو الأول والآخر، الألف والياء، المبدأ والغاية، ومعرفته = حياة أبدية : [ هذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته ] (يو 17: 3)، والمعرفة هنا هي جوهر الإيمان، أي كقوة وعي إيماني تقربنا إلى الله وتُحضرنا أمامه كشخص حي وحضور محيي …
والحياة الأبدية التي تسري فينا بمعرفة الله، طبيعتها غير متغيرة وأحوالها دائمة، وكل من تسري فيه تنتعش روحه ويشعر بقرب الله منه في قلبه، ويحملها ذخيرة في نفسه يواجه بها كل لحظات حياته وبخاصة المعاكس منها فيعبرها بسلام عميق وبثقة الإيمان الحي …
الحياة الأبدية هي عينها الحضرة الإلهية، وهي نفسها تذوق العِشرة مع المسيح، بل هي حياة المسيح والآب، لذلك صارت شركتنا مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح، وصارت دعوة الرسل والتلاميذ ومن ثمَّ الكنيسة كلها على مرّ العصور بل وفي جيلنا هذا هي هي نفس الدعوة التي كُتبت لنا كما لكل جيل سابق أو حاضر أو لاحق: [ الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به، لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا، وأما شركتنا نحن فهي مع الآب مع ابنه يسوع المسيح ] ( 1يو1: 3 )
والسؤال المطروح اليوم : هل يمكننا أن نعرف على الله على هذا المستوى !!!
رغم من أن لنا إيمان بهذا الكلام، إنما للأسف عند كثيرين فكري نظري محصور في المعرفة البحثية وحبيس العقل، وليس واقع في حياتهم اليومية المُعاشة، ولا يشعرون بأن الحياة الأبدية تسري فيهم !!!
+ النفس الإنسانية جوهرة ثمينة، التي ظهرت في أول ظهور لها، في حالة بريق أخاذ من النقاوة والطهارة والقداسة التي تعكس مجد الله وبهاءه، إذ أنها صورته، لأنه خلقها على صورته ومثاله، ومعرفتها في حقيقتها هي معرفة صلاح الله واتساع محبته، إذ إنها تعكس صورته هوَّ … فهل يمكن أن نعرف أنفسنا على هذا المستوى ونلتقي بالله !!!
فرق بين معرفتين : إن أردنا أن نعرف الله ونعرف أنفسنا في عمق حقيقتها، لابد من أن نفرق بين معرفتين : معرفة الكتب، ومعرفة قوة الله التي تعطي معرفة حقيقية بالله الحي: [ فأجاب يسوع وقال لهم: أليس لهذا تضلون إذ لا تعرفون الكتب ولا قوة الله " (مر 12: 24)
1- معرفة الكتب :
" فتشوا الكتب لأنكم تظنون إن لكم فيها حياة أبدية وهي التي تشهد لي " (يو 5: 39)
فتشوا أتت في المعنى اليوناني لتدل على الفحص الدقيق الشديد المثابر للأسفار، والأسفار تشهد للمسيح الكلمة : [ لأنه اخذ من الله الآب كرامة ومجداً، إذ أقبل عليه صوت كهذا من المجد الأسنى: هذا هو ابني الحبيب الذي أنا سررت به. ونحن سمعنا هذا الصوت مقبلاً من السماء إذ كنا معه في الجبل المقدس. وعندنا الكلمة النبوية وهي أثبت، التي تفعلون حسناً أن انتبهتم إليها كما إلى سراج منير في موضع مظلم، إلى أن ينفجر النهار ويطلع كوكب الصبح في قلوبكم. عالمين هذا أولاً إن كل نبوة الكتاب ليست من تفسير خاص. لأنه لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس " ( 2بط 1: 17 – 21 )
ويعود القديس بطرس الرسول بموضوع البحث والتفتيش في الكتب وفي الزمان عن المسيح إلهنا الحي الحاضر معنا هكذا : [ الخلاص الذي فتش وبحث عنه أنبياء، الذين تنبأوا عن النعمة التي لأجلكم. باحثين أي وقت أو ما الوقت الذي كان يدل عليه روح المسيح الذي فيهم، إذ سبق فشهد بالآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها.] ( 1بط 1: 10و11 )
ولكن – يا إخوتي – معرفة الكتب في حد ذاتها لا تكفي إطلقاً، فيمكن أن يتعمق الإنسان في الكتب ويفحصها تماماً وبكل دقة، بل ويحفظها ويَدرسها ويُدرسها، ولكن ما المنفعة أن لم نبلغ لمعرفة الله كشخص حي، فاليهود كمثال عرفوا الكتب وتعمقوا فيها ودرسوها وشرحوها بدقة وتدقيق شديد، وصاروا متخصصين في البحث في الأسفار المقدسة وشرحها وتأويلها، بل وانشئوا مدرسة فلسطين لتعليم الأسفار ودراستها وشرحها، ومع ذلك مع هذه السنين كلها لم ينفتح ذهنهم على سرّ الحياة الأبدية الكائنة في الأسفار ليدركوا منها الأمور المختصة بالمسيح الإله الحي، والذي حينما أتى لم يعرفوه، وصارت معرفتهم حاجز يمنعهم عن الله، ولا عجب لأن العلم ينفخ، والله يقاوم المستكبرين بفكر قلوبهم !!!
والأسفار في حد ذاتها استعلان كامل للرب يسوع المسيح : [ ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب ] ( لو 24: 27 )
فيا إخوتي ، أن اعتمدنا على معرفتنا للكتب وحدها فقط وارتكزنا على الشق الأول من الآية، أي معرفة الكتب دون أن نبلغ الشق الآخر ( قوة الله ) ستبقى الكتب تكديس معلومات للفخر وحساب الذات وتُصبح كبرياء مميت للنفس تمنعها عن الحياة لله في المسيح، لأن العلم ينفخ أن لم تمسه قوة الله !!!
وهذه مشكلتنا اليوم، فبالرغم من معرفة الكتب والتعمق في دراستها وكثرة الأبحاث وتلال المراجع الضخمة، فقد أخفقنا في أن نسمع صوت الله في الأسفار لنحيا به، وأصبح الإيمان ضعيف بلا رؤية، وتهتز النفس أمام أي تعليم لأنها تقيسه على ما حصلته من فهم ومعرفة تربت فيها حتى صارت قناعتها الخاصة معتمدة على العلم حسب المنطق الذي تظنه أنه يتوافق مع الله، وبالطبع وعلى هذه الحال لا تثبت في الحق الذي لم يُستعلن بعد في القلب والذهن بقوة الله !!!
بل المشكلة الأكبر أنه بالرغم من التفتيش والبحث الدقيق والركض وراء التعاليم الإلهية بكل نشاط ومثابرة، قلة قليلة تسمع صوت الله وتسري فيها الحياة الأبدية، وذلك لأن كثيرين لم يكونوا على مستوى صوت الله في الأسفار فعثروا في صوت المسيح ولم يعرفوه :
” الحق الحق أقول لكم : إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة، بل قد أنتقل من الموت إلى الحياة ” ( يو5: 24 )
فلنحذر جداً، ونعرف أن ممكن معرفة الكتب، بدون قوة الله، وهي تؤدي إلى تقوية العقل وتنشيطه ليصير بارع في الفلسفة والحوار والمجادلة رغم صحة الكلمات ودقة التعبيرات التي لا غبار عليها، أو فيها أي خطأ، بل صحيحة تماماً، والكتب في معرفتها بدقة وتدقيق فيها منفعة عظيمة وهي توليد اشتياق في النفس للوصول لقوة الله لتحل عليها وتملكها، وبذلك تصير المعرفة هنا كدرجة أولية ترتقي بالنفس للدرجة الثانية وهي قوة الله …
2- المعرفة الشخصية لله – بقوة الله :
المعرفة الحقيقية لله، هي حس باطني ومعرفة مباشرة قلبية واعية لله الحي الذي يُظهر ذاته للنفس، وتؤدي إلى فرح عميق وسلام فائق، لأنها فيها لقاء حقيقي حي وشخصي جداً، واتصال مباشر واعي بالله …
الله إله حي وهو كاشف ومعلن نفسه من خلال الابن الوحيد الذي خبر : ” الله لم يراه أحد قط الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هُوَّ خَبَّر ” ( يو1: 18 )، فالله يكشف عن ذاته لنا شخص حي وحضور محيي وهذه هي قوة الله التي تُستعلن لنا، إذ يعطينا حياة أبدية حقيقية تسري في كياننا فنشعر بقوتها تسري فينا ولا نقدر أن نفحصها إذ تشدنا إليها بقوة وتسبينا ونسير أسرى حب الله ونحبة بكل القلب …
” فأجاب يسوع: إن أول كل الوصايا هيَّ: أسمع يا إسرائيل. الرب إلهنا ربٌ واحد. وتحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل فكرك، ومن كل قدرتك. هذه هي الوصية الأولى ” ( مر12: 29 و 30 )
اللقاء مع شخص المسيح الكلمة، هو لقاء لعازر الميت الذي سَرَت فيه قوة الحياة حينما سمع صوت الله الكلمة: [ لعازر هلم خارجاً ] …
أو هو لقاء نازفة الدم حينما لمست هدب ثوبه فبرأت في الحال …
أو هو لقاء التي أمسكت في ذات الفعل متلبسة بجريمتها، فخرجت مبرره، لا دينونة عليها …
أو هو لقاء السامرية عند بئر المياه والتي كشف الله أعماق قلبها وبررها فتركت جرتها وركضت تنادي بفرح لتعلن وتكشف أنها التقت بالله شخصياً …
هذه هي المعرفة الحقيقية لله الحي، معرفة شخصية فيها حياة ولا تحاج إلى برهان أو إقناع لأن فيها يقين قاطع داخلي بشهادة الروح القدس في القلب ( الروح يشهد لأرواحنا )، فهي حقاً معرفة تبرير وغفران قوي، وسلطان محبة يأسر القلب …
ونخرج من هذا اللقاء بيقين فرح لا ينقض قائلين : ” الذي سمعناه الذي رأيناه بعيوننا ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة فأن الحياة أظهرت وقد رأينا ونشهد ” ( 1يو )
ولنا أن نسال سؤال : كيف لنا أن نقول على منظر ما جميلاً ؟ أو قطعة موسيقية رائعة ؟ !!!
أبالبرهان ؟ أم بالقراءة وتفتيش الكتب ؟ أم بسؤال الناس ورأيهم الخاص ؟
بالطبع لأ ، لأننا نرى جمال المنظر بأعيننا، ونسمع الموسيقى بآذاننا، ونتلامس معهم كأمر واقع لا حاجة لأن يقنعنا بهما أحد، ولا فائدة من أن يُناقشنا أحد ليقنعنا لما فيهم من جمال !!!
فلو العالم كله تحدانا ووقف أمامنا ليقنعنا أن هذا ليس فيه جمال، لن نصدق إلا ما شعرنا به من خلال خبرة الرؤية والسمع، لأن هذا ما فحصناه على مستوى الخبرة الحقيقية في واقع حياتنا المعاش … وهذا كان موقف القديس أثناسيوس حينما قال : ” وأنا ضد العالم “
ولكن كثيرون منا لا يرون جمال المنظر الطبيعي أو جمال الموسيقى !!!
الكثيرون يمرون أمام شمس الغروب البديع، ولا ينظرون إليها، والذين لا يتذوقون جمال الموسيقى عددهم يفوق بكثير جداً عدد الصُم الحقيقيين .
لمـــــــــــاذا ؟!!! ذلك لأنهم لم يستعدوا داخلياً ولم يهيئوا أنفسهم لتقبل هذا النوع من الجمال، وبهذا يغلقون على أنفسهم باب عالم بكاملة !!! وهكذا بالنسبة لمعرفة الله ومعرفة النفس !!!
3- سرّ الله وسرّ الإنسان
س: من أنا ومن أنت ؟ من أين أتينا ؟ إلى أين نذهب ؟
سؤال مطروح للجميع، ومن منا يستطيع أن يجاوب !!!
مَن يعي نفسه ويكتشف حقيقتها يستيقظ فجأة ليرى الحقائق أمام عينيه ساطعة كشمس النهار، ويحيا حياة الهدوء والسلام العميق والسعادة في ملئها، وفي أشد الظروف قسوة يصبر ويعبرها بسلام ونظره معلق على مجد القيامة الذي لا يزول متيقن أن وراء الصليب قيامة …
في أعماقنا – إن دققنا – حنين وشوق عظيم وجوع لمعرفة الله …
لذلك نظل نفتش ولسان حالنا : أين الطريق وكيف نسير ؟
وأحياناً نريد أن نعرف أنفسنا ونفهمها ! لأننا نقع في حيرة من أمرنا إذ نجدنا تارة نريد أن نتوب ونقرب من الله وأحياناً أخرى نسير وراء الشهوة والخطية بكل جموح وعدم انضباط ، وأحياناً نبقى في حالة وسط لا نريد خطية ولا برّ، بل نبقى في حالة ضيق وقلق دون أن نفهم السرّ أو نعي سرّ هذا الضيق الغير مبرر والذي ليس له تفسير، وفي النهاية كلنا في داخلنا صارخين : ماذا نُريد ؟ وإلى أين نذهب ؟ وكيف نسير ؟
ونأن في داخلنا ونصرخ كيف نعرف أنفسنا ونفهمها ؟
ولكننا كثيراً ما نشعر بانقسام داخلي بين معرفتين، وهي إما أن نعرف الله فنكره أنفسنا ونصير في خصومه معها لأننا نجدها تحرمنا منه بجموحها وعدم قدرتها على الثبوت بدوام في حالة البرّ والتوبة ومخافة الله !!!
أو نعرف أنفسنا فنبتعد عن الله إذ نجده مانع عظيم أمام طموحنا ورغباتنا وأحلامنا التي نريد أن نُحققها في العالم الذي نعيش فيه، وقد نتخذ الآية حصن لنا وحجة دامغة :
” و قال للجميع إن أراد احد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم و يتبعني ” (لو 9: 23)
فنجد صعوبة في التوفيق بين المعرفتين، لذلك نجد أنفسنا أمام مفترق طرق :
1- إما أن نتخلى عن أنفسنا وأحلامنا ورغباتنا ونعرف الله
2- أو نتخلى عن معرفة الله ونتنازل عن وصاياه لنعرف أنفسنا ونجد حياتنا، ونحقق كل رغباتنا بشتى الطرق .
3- أو نقف في حالة وسط ونحاول أن نوفق بين الأمور ونمسك العصا من المنتصف …
4- أو نكون في حالة سلبية ولا مبالاة، ولا نتخذ أي قرار ونترك الأمور على ما هي ونتركها للظروف لتسير كيفما شاءت !!!
ولكن بعبارة واضحة مختصرة وصريحة يقول القديس الأنبا انطونيوس : ( من عرف نفسه عرف الله، ومن عرف الله يستحق أن يعبده بالروح والحق )
وهنا يكمُن سرّ الله وسرّ الإنسان، كيف ؟!!!
” فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه ذكراً وأنثى خلقهم. وباركهم الله وقال لهم أنموا وأكثروا واملئوا الأرض .. ” (تك1: 27-28 )
قبل السقوط نجد إن الإنسان – بطبيعة تكوينه وصورة الله المخلوق عليها – كان في حالة من الانسجام التام مع الله ومع نفسه، ولا يوجد تعارض بين رغباته وإرادته وإرادة الله، بل هناك انسجام واضح في لقاء حي مع الله والتعلَّم منه، يعني وحدة إرادة وطاعة محبة …
ويشرح القديس غريغوريوس النيصي سرّ حنين النفس وشوقها لله قائلاً :
[ إذا كان الإنسان قد دُعيَّ للحياة ليكون شريكاً في " الطبيعة الإلهية "، فلا بدَّ أن يكون تكوينه أساساً يؤهَّله لهذه المشاركة ...
كان من الضروري أن شيئاً من المماثلة الإلهية يُمزج بالطبيعة البشرية حتى تجعله هذه العلاقة يميل إلى ما تمُت إليه.. من أجل هذا وهب للإنسان كل السجايا الجديرة باللاهوت، حتى يتوق كل من هذه الفضائل ( الحكمة ، البصيرة ... الخ ) إلى مثيله في الله. ولأن الأبدية ملازمة للاهوتية على الإطلاق، كان لابُدَّ من أن لا تُحرم منها طبيعتنا، بل أن تُذوَّد بعنصر الخلود.
وبفضل هذه الهبة الممنوحة، نجدها – النفس – مشدودة دائماً إلى ما يفوق قامتها، يحدوها دائماً الحنين إلى الأبدية .
هذا ما تُشير إليه رواية خلق الإنسان في عبارة واحدة جامعة شاملة عندما تقول أن " الإنسان عُمل على صورة الله " (تك1: 26 ) ]
والقديس أثناسيوس الرسولي يعلّق على نفس الآية شارحاً معنى صورة الله في الرسالة عن الروح القدس قائلاً : [ يعني أن نفهم الإنسان باعتباره أبناً لله في الابن الحقيقي ]
من هنا نستطيع أن نعي، أنهُ ينبغي أن نقوم برحلة، وهي أن نغوص في داخل أنفسنا، ولنصغي لكلمات القديس مقاريوس الكبير : [ إن المسيحيين يعرفون جيداً أن النفس هي أثمن من جميع الأشياء المخلوقة، فإن الإنسان وحده هو الذي صُنع على صورة الله ومثاله... الإنسان هو أعظم قدراً... فهو وحده الذي سُرَّ به الرب ... فتأمل في كرامتك وقدرك العظيم، حتى أن الله جعلك فوق الملائكة، لأنه لأجل معونتك وخلاصك جاء هو بنفسه شخصياً إلى الأرض . ] ( عظة 15: 43 )
+ الإنسان موضوع سرور الله وسر المرض الإنساني
الحقيقة أن الإنسان موضوع سرور الله، وهو سر شبع ربنا يسوع الذي أظهره بمعنى بديع في الكتاب المقدس عند لقاؤه بالسامرية : فقال لها يسوع أعطيني لأشرب، لأن تلاميذه مضوا إلى المدينة ليبتاعوا طعاماً ، فبعد لقاء السامرية أتى التلاميذ بالطعام [ ... سأله تلاميذه يا مُعلم كُل . فقال لهم أنا لي طعام لآكل لستم تعرفونه أنتم، فقال التلاميذ بعضهم لبعض: ألعل أحد أتاهُ بشيء ليأكل. قال لهم يسوع : طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأُتمم عمله ] ( أنظر يوحنا 4: 31 – 34 )
فلننتبه لأننا أمام سر متبادل عظيم للغاية إن أدركناه بالقلب سنلقي أنفسنا على شخص المسيح الحلو ولن نصدق عدو الخير أو نتمسك بالخطية، بل سنتوب بسهولة وتسقط الخطية بكل سلطانها مهما ما تورطنا فيها أو ضعفنا وسقطنا بالرغم من خبرتنا مع الله، ونشبع بلقاء الرب المبدع والمريح للنفس فعلاً وعلى مستوى خبرة اللقاء الحي بشخصه الرائع، فهنا نحن أمام سر عظيم متبادل بين طرفين ، أي بين الله والإنسان، فالإنسان هو شبع الله وفرح قلبه وموضوع مسرته، والله أيضاً شبع الإنسان الحقيقي وفرح قلبه وسعادته الداخلية، ويُعبَّر عن ذلك القديس أغسطينوس قائلاً [ خلقتنا لأجلك (لذاتك)، وقلوبنا لن تجد راحتها إلا فيك ... سأطلبك ربي داعياً إياك، وسأدعوك مؤمناً بك، لأنك لنا كرزت. سيدعوك ربي إيماني؛ إيماني الذي وهبتني إياه، ألهمتني إياه في تجسد ابنك ] (اعترافات القديس أغسطينوس ترجمة برتي شاكر – الطبعة الثالثة ص 7)
من هنا نقدر أن نميز ونعي تمام الوعي، لماذا يُفتش الله عن الإنسان باستمرار وإصرار مهما كانت خطاياه فادحة وعيوبه خطيرة، وهذا ما نلاحظه في جلوسه مع الخطاة والأثمة، كما حدث مع المرأة الخاطئة والسامرية وغيرها، ونتحسس موضوعنا وسطهم، لأننا منهم …
وندرك أيضاً لماذا يُفتش الإنسان عن الله بحنين وشوق داخلي يظهر في كل الديانات !!!
فمنذ السقوط ونسمع قول الله بنداء يمس الإنسان من الدخل قائلاً: [ آدم أين أنت ] !!! (أنظر تكوين 3: 9)
وأيضاً نجد صوت الإنسان يصرخ في عبادة الله بطرق مختلفة، وأحياناً بصمت وحركة حنين وشوق سري في الأعماق، عله يجد الطريق، وهو يُعبر بطريقة ضعيفة بأنين داخلي [ أين أنت يا الله ] :
[ أين الطريق إلى حيث يسكن النور ] (اي 38 : 19)
[ صارت لي دموعي خبزاً نهاراً وليلاً إذ قيل لي كل يوم أين إلهك ] (مز 42 : 3)
[ ثم ذكر الأيام القديمة موسى وشعبه، أين الذي أصعدهم من البحر مع راعي غنمه، أين الذي جعل في وسطهم روح قدسه ] (اش 63: 11)
[ تطلع من السماوات وانظر من مسكن قدسك ومجدك أين غيرتك وجبروتك زفير أحشائك ومراحمك نحوي امتنعت ] (اش 63: 15)
وفي قمة صراخ الإنسان وعوزه نجد ما يذهلنا جداً، ففي وسط التفتيش المتبادل بين الله والإنسان، وفي صميم فشل الإنسان الأكيد للوصول إلى الله ومعرفته الحقيقية في حياة الشركة وعلى مستوى المعاينة بالرؤية، ربط الله بملء محبته المتدفقة نحو محبوبة الإنسان، مصيره بمصيرنا، ليحدث اللقاء، وتحدث الرؤيا، فنجد الله، أو بمعنى أدق الله يجدنا ويلتقي بنا مثل ما فعل مع السامرية : [ لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون لهُ الحياة الأبدية ] (يو3: 16)
نستطيع الآن أن نفهم ما هو سر المرض الإنساني على ضوء ما شرحناه سابقاً: فالإنسان المريض روحياً والمتعب في داخله – وهذا التعب ينعكس على كل أعماله التي تظهر قلق قلبه المستتر – هو إنسان تاهت منه نفسه وقد انغلقت على نفسها – انعزلت – وأخفت سرها، فتاه معها حل مشكلته الحقيقية المخفية فيه !!!
ويقول القديس مقاريوس الكبير [ أن العالم الذي تراه من حولك، ابتداءً من الملك حتى الشحات جميعهم في حيره واضطراب وفتنة، وليس أحد منهم يعرف السبب في ذلك، مع أن السبب هو ظهور الشرّ الذي دخل الإنسان ... وأعني به شوكة الموت ] (عظة15: 49)
لقد تشتتنا في هذا العالم المضطرب وعيشنا الجسدي، وحملنا كل هم وغم في أنفسنا، وانطمست المعالم الإلهية فينا، والموت أصبح يسري في داخلنا بسبب سلطان الأهواء الذي يعمل في أعماق قلبونا من الداخل، حتى صارت ثمارنا فاسدة [ كذب ونفاق وذات وكبرياء ... وغيرها من الأمور الناتجة من سلطان الخطية والموت ]، إننا نجد الإنسان بتاريخه الطويل والمتعب، قد انغمس في هموم الدنيا والخطية والشهوة وتعظم المعيشة، وتعظيم الذات التي أصابته بالعمى ولهته عن التفتيش الدائم عن الله القدوس مُحيي النفس، فقد نسى الإنسان نفسه ولم يعرف حقيقتها ولم يعرف مصيره: [ أعلم من أين أتيت وإلى أين أذهب. وأما أنتم فلا تعلمون من أين آتي ولا إلى أين أذهب ] (يو8: 14)
لقد ضاعت كرامة الإنسان وإنسانيته التي لن يقدر على تحقيقها إلا في الله وحده فقط، وضاعت في التشتت والتفتت والانقسام، وصار صراخه عبر التاريخ الإنساني كله: ما هو الحل ؟!!!
4- العودة للنفس ومعرفة الله
من المستحيل على أي إنسان مهما كانت إمكانياته ومهما ما بلغ من مقدرة وفكر جبار، بعد أن تشتت وانقسم على ذاته، أن يكون قادراً على أن يعود إلى نفسه ويتعرف على الله المنعكس على قلبه بحسب خلقته التي خُلق عليها، لأن الإنسان هو الوحيد الذي نال نفخة الله، لأن الخليقة كلها خُلقت بأمر من الله [ كن فكان ] أما الإنسان هو الوحيد، والوحيد فقط لم يخلقه الله بأمر، بل أخذ تراباً من الأرض ونفخ فيه فصار الإنسان نفساً حية … وبعد السقوط وخبرة أوجاع الخطية اختفى سر الإنسان وطُمست فيه ملامح الله وتاهت نفسه عن مصدر وجوده وحياته لأن الخطية أعمت عينيه وأضلته عن الحياة، لذلك حينما نُخطئ وعلى مستوى الخبرة نجدنا نُكمل الخطية وتسود علينا فتعمينا عن الحق وتفقدنا معرفة الله، ولا نستطيع أن نُبصره أو نرى حنانه ورأفته، فنبتعد أكثر ونصير أشد تيهاً مما كنا عليه، لأن الخطية تطرح النفس بعيداً في صحراء جفاف الموت، فأن لم تستفيق النفس سريعاً ومن فوق، أي بلمسة الله المُحيية، فحتماً ستصير كجيفة الجثة الميتة التي بلا روح، وكما قالت مريم عن لعازر الميت [ قد أنتن ] وخرجت منه رائحة الفساد والموت ويستحيل العلاج ويستحيل الشفاء، فالنفس تدخل في هذه الحالة إلى قبر الشهوة وتفقد كل شعور بالحياة ولا تدرك قيمتها ووضعها السليم، لأن الشيطان ضحك عليها وأفقدها توازنها وجعلها تحت سلطانه التي يجعلها تخاف على الخروج منه لأنها تعيش في وهم اسمه الخطية والموت ورفض الله !!!
وحينما يشعر الإنسان بأنين تحت ثقل الخطية ولكي يخرج منها ويتحرر من سطوتها فيُصيغ لنفسه معرفة خاصة ليتخلص من ثقل الخطية التي يحملها، فينشأ لنفسه منهج تدريبي ليتخلص من ثقل الضمير وتعب الخطية المُميت للنفس، ويظن أن هذه هي طريق الخلاص، وتنشأ عنده توبة مريضة تدخله يا إما في الكبرياء لو كانت إرادته قوية وانتصر على ذاته وكف عن فعل الشر، يا إما تدخله في حزن ضميره الإنساني الذي يصل به إلى الفشل واليأس من رحمة الله وحنانه الفائق !!!
ويقول القديس أثناسيوس الرسولي: [ لأن كل من يدير ظهره مبتعداً عن "كلمة" الله الكائن والموجود (في العالم) ويُصيغ لنفسه معرفة أخرى هي في الحقيقة ليست كائنة (ليس لها كيان حقيقي)، فإنه يسقط حتماً إلى العدم ] athanas., Contra Ar., 1: 7
والسؤال الذي سيُطرح ما هو المطلوب من الإنسان لكي يدخل في سر معرفة الله الحقيقية ويتخلص من الموت الذي ساد عليه بالخطية ؟!!!
في الحقيقة لن نعرف الله ولن نتحرر من الخطية إلا أولاً أن عرفنا الفساد الذي فيها وكم نحتاج لأن نتخلص من سيادتها، وهذا ما يجعلنا نصرخ للنجاة التي لن تكون إلا إذا التقينا معه وأن نراه، وأن أردنا أن نرى الله حقاً ، فلابدَّ من أن نراه حيث يكون سكناه ولا نبحث عنه بعيداً !!!؛ وأين يا تُرى مكان سكنى الله !!!
في الحقيقة الله لا يسكن إلا في هيكله الخاص والذي هو صنعة يديه هو لا صنعة إنسان، لأنه لا يسكن في هياكل مصنوعة بيد بشر، ونحن صنعة يديه ومقر سكناه الحقيقي، والذي شوهته الخطية وأفسدته ووضعت غشاوة على أعيننا فلا نُبصر الله ولا نشعره، ولكننا نحن إليه ونشعر أن هناك شيء عظيم جداً ينقصنا وتائه منا، لذلك نظل في قلق واضطراب عظيم كل أيام عُمرنا ولا يُشبعنا شيء في هذا العالم من مال أو جاه أو شهوة أو حتى خير نصنعه وأعمال حسنة نسلكها، أو تجربة حب نعيشها، لأننا نشعر أن كل هذا ناقص وغير مُشبع لأنفُسنا، بل هو جوع لنا أكثر ويُسبب حزن لنا عظيم مع كل اضطراب وعدم راحة، لأننا لم نجد سر شبعنا الحقيقي وراحة نفوسنا وهو الرب وحده !!!
وكيف يُمكننا أن نرى الله إذا لم تزول عن أعيُننا الغشاوة أو البرقع الحاجز للنور !!! وكيف يُمكننا أن نلتقي مع الله إذا لم نفتح قلبنا لاستقباله !!! لأن القلب هو مكان اللقاء الوحيد، وقد دلنا الرب يسوع بفمه الطاهر على الطريق لمعاينته ورؤيته الحقيقية حين قال : [ طوبى لأنقياء القلب فأنهم يُعاينون الله ] (متى5: 8)
ومن منا لم يحاول أن يُنقي قلبه بكل طريقة يراها ممكنه ولم يفشل فشل زريع !!!
لقد حاول الإنسان عَبر التاريخ الإنساني كله، أن يعود إلى نفسه ويُنقي قلبه، لكي تعود له الصورة الأولى من البراءة والحُرية، ولكنه ضلَّ الطريق وصار من تيه لتيه، ومن ضعف لموت، إذ أنه حينما عاد إلى نفسه، عاد بمعزل عن الله، وحاول أن يصلح نفسه بنفسه بكثير من الأعمال الحسنة لكي يُرضي الله الذي وضع معرفته في قلبه حسب ما توصل من معلومات، فسار إلى ضلالٍ أشد، لأن ما يجمعه الإنسان عن الله ويضع صورة له في عقله لكي يصل إليها، هذه هي الوثنية عينها، لأنه يحاول أن يصل للإله المصنوع في فكره الشخصي الذي وضعه في فكره كعلم ومعرفة عقلانية وليس الله الحي الذي يُعلن عن ذاته بنفسه، لذلك حاول الإنسان جاهداً أن يعود لله [ بعمل ] شخصي يقوم به، ففشل فشل شديد [ فكل أعماله وتقواه مرفوضة أمام الله ] وكان يستحيل بها الوصول لله الحي !!!
لأن النفس الميتة لا تستطيع أن تقوم من تلقاء ذاتها، فهل رأينا ميت يموت ويفسد ثم يقوم من تلقاء ذاته !!! هذا مستحيل مهما ما صنعنا له وأعطيناه من أشياء، بل ومهما ما وضعنا عليه أغلى العطور وأثمنها، بل وحتى لو تم تحنيطه في ناووس من الذهب والفضة والحجارة الكريمة، وهكذا هي أعمالنا، لأنها هي الناووس أو التابوت الخارجي الجميل الذي يحوي نتانة فساد نفوسنا الشقية في داخله، كقبور مُبيَّضة من الخارج ومن الداخل مملوءة عفونة وعظام نخرة يأكلها السوس !!!
ولكن الحل الحقيقي أتانا من فوق مُتجسداً [ والكلمة صار جسداً وحل فينا (حسب النص اليوناني) ] (يوحنا1: 14)، لقد عَبَرَ المسيح كلمة الله المتجسد الفرقة والعُزلة التي بين الإنسان ونفسه، وبين الإنسان والله، فقد وَحَدَّ الكل في نفسه مع الله، ويقول القديس أثناسيوس الرسولي: [ أنهُ منذ التجسد الإلهي لم يعُد الإنسان يُعرف بمعزل عن الله، ولا الله بمعزل عن الإنسان، لأن الكلمة صار جسداً ] وهذه الحقيقة التي يقولها القديس أثناسيوس الرسولي ليست فكرة نفرح بها ولكنها تحتاج لأن تتحقق فينا ونتذوقها على المستوى العملي بقبولنا بالإيمان لسرّ التجسد الإلهي على مستوى الخبرة !!!
وقبول تجسد الرب ليس هو مجرد الإقرار به، بل هو قبول تحولنا إلى صورة الابن بالروح القدس الذي يعمل في داخلنا سراً. وأيضاً قبولنا لمعمودية الرب وتحقيقها فينا بمعموديتنا التي تتجدد فينا بالتوبة، ومعموديتنا هي قبولنا مسحة يسوع لكي نصير مسيحيين ولكي يقودنا الروح القدس إلى البرية، وإلى الجلجثة والصليب، بل وإلى القبر لنموت مع المسيح الرب عن إنسانيتنا القديمة، وندخل في سرّ القيامة معه، وهي قيامة النفس التي هي القيامة الأولى، وننتظر بسهر على حياتنا خاضعين للنعمة مستعدين للقيامة الثانية والأخيرة، قيامة الجسد وتمجيده .
ومن صميم هذه العلاقة الجيدة في المسيح الرب نتذوق حضور الله في القلب، ومن هُنا نُدرك سرّ كرامتنا في المسيح، ويقول القديس مقاريوس الكبير: [ أعرف أيها الإنسان سموك وكرامتك وشرفك عند الله، لكونك أخاً للمسيح (من جهة أنه اتخذ بشريتنا )، وصديقاً للملك، وعروساً للعريس السماوي، لأن كل من استطاع أن يعرف كرامة نفسه، فأنه يستطيع أن يعرف قوة وأسرار اللاهوت، وبذلك ينسحق ويتضع أكثر .. ] (عظة27: 1)
5- ماذا نفعل بالتحديد
يقول القديس أغسطينوس: [ عُد إلى نفسك مما هو خارج عنها، ثم سلِّم نفسك إلى خالقك الذي بحث عنك ضائعاً، ووجدك ضالاً، وردك إليه... عُد إلى نفسك وكمل سيرك إلى خالقك ] وهنا يلزمنا شيئين:
أولاً العودة إلى النفس مما هو خارج عنها: أي ما هو ليس من طبعها الأصلي، أي كل ما هو دخيل عليها، وهناك مثل قوي يشرح لنا هذه الحقيقة وهو مثل الابن الضال، الذي عاد إلى نفسه بعد أن رأى المزلة التي يعيشها بعد ما أفلس من كل ما كان له من أبيه، ويقول الشيخ الروحاني القديس يوحنا سابا: [ لا يقدر إنسان أن ينظُر الحُسن الذي داخله، قبل أن يُهين ويرذل كل حُسن خارجه. ولا يُمكنه التمتع بالله قبل أن يحتقر العالم كله (طبعاً الشر والفساد وكل رغبة في غناه الزائل والاعتماد عليه) ] ويقول القديس مقاريوس الكبير: [ إن الكتاب المقدس يقول: " من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته "، وذلك من أجل حفظ كيان المحبة الجسدية، فكم يكون علينا إذا أردنا أن نشترك مع الله في حياة الحب الإلهي والعِشرة معه، يتحتم علينا أن نتجرد من كل حب العالم وكل الأمور الخارجية المنظورة ] ولنصغي لوصية القديس الأنبا أنطونيوس الكبير: [ وأنا أطلب إليكم باسم ربنا يسوع المسيح أن لا تتوانوا عن حياتكم وخلاصكم، ولا تَدعوا هذا الزمان الزائل يسرق منكم الحياة الأبدية، ولا هذا الجسد اللحمي الفاني يُبعدكم عن المملكة النورانية. ولا هذا الكرسي الفاني الهالك يُنزلكم عن كراسي محفل الملائكة. بالحقيقة يا أولادي إن نفسي لمندهشة، وروحي مُنزعجة، لأننا أُعطينا كُلنا الحرية أن نكون قديسين، ونحن يعمانا سكرنا بأوجاع هذا العالم ] فنحن رغم دعوتنا للقداسة في المسيح، لا نهتم بها ونشرب من كأس خمر العالم الذي يتسبب في الأوجاع الداخلية للنفس ويُدمرها تماماً، لأننا نمس فيه كل رجس ونجس وننجرف بتيار الفساد والشرّ ونشرب من نبع الغم ونحمل الهم والقلق ونحيا بالاضطراب في عدم سلام…
لذلك واجب علينا أن نعرف حالنا ونواجه أنفسنا بكل شجاعة تامة معترفين بهول مشكلتنا أمام الله وحده، وهذا يقودنا للشيء الثاني الذي ينبغي أن نعمله…
ثانياً: أو الشيء الثاني كما قال القديس أغسطينوس: [ سَلِم نفسك إلى خالقك ]: أي يستودع الإنسان نفسه في يد خالقه، اي يعطي نفسه ويقدمها لخالقه، أي بمعنى أدق بتسليم ذاته لله استسلاماً كاملاً لإرادته والخضوع له، أولاً يتركها (يترك نفسه) ليعمل الله فيها، متكلاً عليه طالباً أن يتدخل في حياته ليُصلحها ويقيمه إنساناً جديداً روحياً، ويثق فيه ثقة تامة مستودعاً نفسه في يد خالقه الأمين، قابلاً كل شيء من عنده، مطمئناً وغير قلق مما حدث وفيما سيحدث في حياته وما حوله، ويحيا دون قلق أو تزمر أو يأس، لا بمعنى ان يُبطل جهاده لحل المشاكل ودفع الأضرار بقدر إمكانه، بحسب ما وهبه الله من حكمة وفطنة، ومعالجة الأمراض وحسم المواقف بمشيئة روحية يقظة مستمدة من الله الحي بإلهام الروح…
عموماً القصد الحقيقي للاستسلام لإرادة الله هو: [ الرضا بكل النتائج النهائية – مهما كانت – بعد أن يبذل الإنسان قصارى جهده حسب حكمة الله، على أن يتحقق دائماً وباستمرار من إن إرادته وفق إرادة الله، ولا يعمل شيئاً بكبرياء أو حماقة أو تسرع واندفاع بمشيئته الخاصة، بدون معرفة مشيئة الله ] + وإذا كان هناك جهل بمشيئة الله وإرادته، فعلاجه في الإنجيل والصلاة المستمرة…
ملحوظة مهمة للغاية:
الخضوع لله والتسليم الكامل لمشيئته وتدبيره، هو في الواقع هبة ونعمة، لذلك فهو يحتاج إلى صلاة وتوسل مع ثقة الإيمان في نوال هذه الموهبة
+ كلمة في الختام +
عموماً إذا أردنا فعلاً أن نصل لهذه النتيجة، يلزمنا أولاً أن نعرف أنفسنا المُزيفة لنرفضها، أي لا بُدَّ أولاً من مواجهة النفس وكشف ضعفها وجهلها، ونقرّ بذلك معترفين أمام الله دون خوف من هول ما قد نكتشفه، ولنصغي لقول الله في هذه الحالة: [ لا تخف يا دودة يعقوب، يا شرذمة إسرائيل، أنا أُعينك يقول الرب، وفاديك قدوس إسرائيل ] (أش 21: 14)
ولننظر للابن الضال وكيف عاقبه أبوه:
عوض العقوبة = أعطاه قبله [ رآه أبوه فتحنن، ووقع على عنقه وقبله ] (لو15: 20)
عوض الفرقة = فتح له حضنه واحتضنه
يقول القديس مقاريوس الكبير: [ فلنقبل إذاً إلهنا وربنا – الشافي الحقيقي – الذي يستطيع وحده أن يأتي ويشفي نفوسنا... فأن طعامه وكساءه ومأواه وراحته، هي في نفوسنا، لذلك فأنه دائماً يقرع طالباً الدخول إلينا. فلنقبله إذن وندخله إلى داخل نفوسنا، لأنه هو طعامنا وشرابنا وحياتنا الأبدية ] (عظة30: 9)