محبة الله لنا 4
اهتمام الله بكل المحتاجين إلي حبه
بقلم قداسة البابا شنودة الثالث
تحدثنا في الأعداد الثلاثة الماضية عن محبة الله لنا... ونكمل اليوم حديثنا عن هذا الموضوع...
* لقد اهتم الله بالكل, وبخاصة أولئك الذين لم يكن أحد يهتم بهم.. فأولاهم حبا كانوا في مسيس الحاجة إليه.. ومنح حبه للمظلومين والمقهورين, وقال للتعابي: تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال, وأنا أريحكم (مت11: 28).
وكانت هذه النقطة هي من أبرز خواص رسالة السيد المسيح له المجد.. وقال في ذلك: روح السيد الرب علي, لأنه مسحني لأبشر المساكين.. أرسلني لأعصب منكسري القلب. لأنادي للمسبيين بالعتق, وللمأسورين بالإطلاق.. لأعزي جميع النائحين.. لأعطيهم جمالا عوضا عن الرماد, ودهن فرح عوضا عن النوح, ورداء تسبيح عوضا عن الروح اليائسة (إش 61: 1-3).
نعم, إنه رجاء لمن ليس له رجاء...
ومعين من ليس له معين -كما نقول في صلوات القداس الإلهي- عزاء صغيري القلوب, وميناء الذين في العاصف.. وهكذا كان يعطي الحب للذين لا يجدون حبا من أحد. وكان يذكر الذين ليس لهم أحد يذكرهم. وهو باستمرار الباب المفتوح, حينما تكون سائر الأبواب مغلقة. وسنضرب بعض أمثلة:
* الحب الذي قدمه الرب للعشارين المحتقرين من الناس:
كان العشارون منبوذين من المجتمع اليهودي, يرونهم عنوانا للظلم والبعد عن الروحانية. ولكن الله المحب أراد أن يرد لهم اعتبارهم, ويعيد إليهم كرامتهم, وبخاصة أمام الفريسيين المشهورين بالتدقيق في حفظ الوصايا.. فذكر مثل الفريسي والعشار. وكيف أن العشار في توبته وانسحاق قلبه, كان أفضل من الفريسي في كبريائه وافتخاره.. وكيف أن العشار خرج من الهيكل مبررا دون ذاك (لو18: 9-14).
وكان يحضر ولائم العشارين ويدخل بيوتهم. وبهذا يرفع من معنوياتهم ويجذبهم إليه.
وما كان يبالي بانتقاد الفريسيين والكتبة له (لو 15:2). حتي أنهم قالوا لتلاميذه: لماذا يأكل معلمكم مع العشارين والخطاة؟!.. أما هو فكان يجيب: لا يحتاج الأصحاء إلي طبيب بل المرضي.. لم آت لأدعو أبرارا بل خطاة إلي التوبة (مت9: 11-13). وكان يقول أيضا: يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب, أكثر من تسعة وتسعين لا يحتاجون إلي التوبة (لو 15:7).
حقا, ما أعمق اهتمام المسيح بالخطاة والمرضي.
إنه ما كان يتعالي عليهم أو يحتقرهم, كما كان يفعل الفريسيون, بل كان يدخل بيوتهم, كما دخل إلي بيت زكا رئيس العشارين, حتي تذمر الجمع قائلين إنه دخل ليبيت عند رجل خاطئ (لو 19:7). أما السيد فقد منح زكا الحب الذي تاب به.. وقال: اليوم حصل خلاص لأهل هذا البيت, إذ هو أيضا ابن لإبراهيم. بل قال إنه قد جاء ليطلب ويخلص ما قد هلك (لو 19:10).
عميقة جدا هذه العبارة.. لم يقل يخلص من قد ضل أو أخطأ, بل ما قد هلك..! إذن فحتي الهالك له رجاء, وله مكان في محبة الله يمكن به أن يخلص.. وليس فقط يخلص, بل إن الرب قد اختار أحد هؤلاء العشارين, ليكون واحد من تلاميذه الاثني عشر, وهو متي الذي كان جالسا عند مكان الجباية (مت 9:9).
أي حب هذا, هو حب الرب الذي قيل عنه:
المقيم المسكين من التراب, والرافع البائس من المزبلة, ليجلسه مع أشراف شعبه (مز113: 7, .
هذا هو تعامل الرب المملوء اتضاعا, مع المساكين والمحتقرين, مع الخطاة والعشارين, المنبوذين من المجتمع, أعطاهم فوق ما كانوا ينتظرونه منه بمراحل.. لقد أذاب قلوبهم بهذا الحب.. زكا مثلا, كانت أقصي أمنيته أن يراه. أما أن يقف الرب عنده, ويناديه باسمه, ويدخل إلي بيته, ويعلن أنه أيضا من أبناء إبراهيم.. فقد كان هذا فوق احتماله.. فأعلن توبته, وأعلن الرب خلاصه..
* طائفة أخري هي السامريون, وكان المجتمع اليهودي لا يعاملونهم (يو 4:9). وكيف عاملهم الرب بحب..
كان اليهود يحتقرونهم, ويرون أنهم غير مؤمنين.. وفعلا لم يكن إيمانهم سليما.. ولكن حتي هؤلاء, ما كانت محبة الرب بعيدة عنهم, ولا كان خلاصه مغلقا أمامهم. وإذا بالرب يشرح مثل السامري الصالح, الذي أظهر فيه كيف أن ذلك السامري كان أفضل في حبه من الكاهن واللاوي (لو10: 25-37). ورد بهذا المثل علي سؤال أحد الناموسيين من هو قريبي فأظهر له أن السامري أيضا قريبه..
وفي معجزة شفاء العشرة البرص, أظهر أن الوحيد الذي رجع فشكر كان سامريا.. وقال لهذا الرجل: الغريب الجنس إيمانك خلصك (لو17: 12-19).
إن محبة الله تشمل أيضا الغريب الجنس, وترفع معنوياته, وتفتح له باب الإيمان والخلاص.
ولم يكتف الرب بهذا من جهة السامريين, بل زارهم ودخل مدينتهم. ومعروفة قصة هدايته للمرأة السامرية, وحديثه معها عن الماء الحي, واجتذابها إلي التوبة وإلي الإيمان.. ثم بعد ذلك أهل مدينتها كلهم جاء إليه السامريون وسألوه أن يمكث عندهم. فمكث هناك يومين وآمن به كثيرون وقالوا: إن هذا هو بالحقيقة المسيح مخلص العالم (يو4: 5-42).
إنه بالحب قد خلص كثيرين من السامرة.
وقال لتلاميذه: ارفعوا عيونكم وانظروا الحقول: إنها قد أبيضت للحصاد.. أنا أرسلتكم لتحصدوا ما لم تتعبوا فيه (يو 4: 35, 38).. وهكذا لم ينس الرب السامرة في إرساليته لتلاميذه, بل قالوا لهم بعد القيامة وتكونون لي شهودا في أورشليم, وفي كل اليهودية, والسامرة, وإلي أقصي الأرض (أع 1:8).
* جميل أن يعرف كل إنسان أنه ليس منسيا من الله, ولو كان في أقصي الأرض.. وهذا يذكرنا بالأمم.
كان الأمم أيضا محتقرين من اليهود, لإنهم ليسوا أبناء لإبراهيم, وليسوا من شعب الله!! ولك الرب أظهر محبته لهم أيضا, من جهة المعجزات والإيمان..
يكفي أنه بالنسبة إلي قائد المائة الأممي الذي شفي الرب غلامه, أنه قال عنه: الحق أقول لكم: لم أجد ولد في إسرائيل كله إيمانا بمقدار هذا (مت 8:10).
ثم فتح بمحبته باب الملكوت أمام الأمم وقال: إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في ملكوت السموات (مت 8:11).
* كذلك نذكر محبة الرب للأطفال..
هؤلاء لم تكن لهم قيمة في المجتمع, بل للأسف كانوا يطردونهم أحيانا من حضرة المسيح. ولكنه في حب قال لهم: دعوا الأولاد يأتون إلي ولا تمنعوهم. لأن لمثل هؤلاء ملكوت السموات (مت 19:14). ووضع يديه عليهم وباركهم
وفي مناسبة أخري دعا ولدا وأقامه في وسط التلاميذ وقال: الحق أقول لكم: إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد, فلن تدخلوا ملكوت السموات (مت 18:3). وحامي عن هؤلاء الصغار, فقال: من أعثر هؤلاء الصغار المؤمنين بي فخير له أن يعلق في عنقه حجر الرحي ويغرق في لجة البحر (مت 18:6).
والرب احتضن الأطفال, ووضع يديه عليهم, وباركهم (مر10:16) (مر 9:36).
* وكما رفع معنويات الأطفال رفع معنويات النساء.
سمح للمرأة أن تنضم إلي جماعة تلاميذه.. ونسوة كثيرات كن يخدمنه من أموالهن (لو 8:3). وكان من بين من أقامهم من الأموات ابنة يايرس (لو 8: 54, 55). وقد شفي نازفة الدم, وقال لها إيمانك قد شفاك (لو 8:48). وكان يدخل بيت مريم ومرثا. وامتدح مريم قائلا إنها اختارت النصيب الصالح الذي لن ينزع منها (لو 10:42).
وتكفي المكانة العظيمة التي قدمها للقديسة العذراء
التي أصبحت جميع الأجيال تطوبها. ولما وصل سلامها إلي أليصابات, امتلأت أليصابات من الروح القدس, وارتكض الجنين في بطنها (لو1: 48, 41). وخاطب السيد المسيح أمه علي الصليب وجعلها أما روحية لتلميذه يوحنا (يو 19: 26, 27).
وبعد القيامة قيل إنه ظهر أولا لمريم المجدلية (مر 16:9).. وقال لها ولمريم الأخري اذهبا وقولا لإخوتي أن يمضوا إلي الجليل هناك يرونني (مت 28:10).
ولا ننسي دفاع الرب عن المرأة
دافع عن المرأة التي ضبطت في ذات الفعل, وأنقذها من الرجم (يو . ودافع عن المرأة التي بللت قدميه بدموعها ومسحتهما بشعر رأسها (لو 7). ودافع عن المرأة التي سكبت الطيب علي رأسه في بيت سمعان الأبرص. ولما احتج البعض قائلين: لماذا هذا الإتلاف. لإنه كان ما يمكن أن يباع هذا الطيب بكثير ويعطي للفقراء قال الرب: لماذا تزعجون المرأة؟! إنها قد عملت بي عملا حسنا.. إنما فعلت ذلك لأجل تكفيني بل طوبها قائلا: حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم, يخبر أيضا بما فعلته هذه تذكارا لها (مت26: 6-13).
نقطة أخري نقولها في محبة الله لنا. وهي:
* إن الله المحب يختار المحبين للعمل معه في الخدمة.
لقد أختار داود المحب, الذي من فرط محبته أشفق علي شاه وانتزعها من فم الأسد لينقذها (1صم 17: 34, 35).
وموسي, لما كان في بدء حياته قائدا قويا, يمكنه أن يقتل رجلا ويطمره في الرمل (خر 2:12).. في ذلك الوقت لم يختره الرب. إنما أخذه ودربه في عمل الرعي أربعين عاما, حتي وصل إلي الوضع الذي قيل عنه فيه وكان الرجل موسي حليما جدا أكثر من جميع الناس الذين علي وجه الأرض (عد 12:3).
واستخدم الرب موسي المملوء من الحب
الذي دافع عن مريم بعد أن تكلمت ضده. ولما ضربها الرب بالبرص, دافع عنها موسي وصرخ موسي إلي الرب قائلا: اللهم اشفها (عد12: 13, 1).
ودافع الرب عن الشعب لما أراد الرب إفناء ذلك الشعب بعد عبادته العجل الذهبي. وإذا بموسي المملوء محبة يتشفع فيه ويقول لله: لماذا يارب يحمي غضبك علي شعبك؟.. ارجع عن حمو غضبك واندم علي الشر بشعبك (خر32: 11, 12).
ووصلت المحبة بموسي, أنه قال للرب: والآن إن غفرت خطيتهم, وإلا فامحني من كتابك الذي كتبت (خر 32:32).
ذكرتني هذه العبارة بقول القديس بولس الرسول:
كنت أود لو أكون أنا نفسي محروما من المسيح, لأجل إخوتي وأنسبائي حسب الجسد (رو 9:3).
هذه المحبة العجيبة لم تكن موجودة عند بولس في أول عهده قبل أن يعرف المسيح, حينما كان اسمه شاول الطرسوسي, وكان مضطهدا للكنيسة, وكان ينفث تهديدا وقتلا علي تلاميذ الرب حتي إذا وجد أناسا من الطريق, رجالا أو نساء, يسوقهم موثقين إلي أورشليم (أع 9: 1, 2).. وكان يسطو علي الكنيسة. وهو يدخل البيوت, ويجر رجالا ونساء ويسلمهم إلي السجن (أع 8:3).
ولكنه لما عرف الرب المحب تحول إلي صورة المحبة هذه
وأصبح بولس الذي قال إن المحبة أعظم من الإيمان الذي ينقل الجبال (اكو 13: 2, 13).. أصبح بولس الذي يقول: استعبدت نفسي للجميع لأريح الكثيرين.. صرت للضعفاء كضعيف, لأربح الضعفاء. صرت للكل كل شئ, لأخلص علي كل حال قوما (1كو 9: 19-22). صار بولس الذي قال: متذكرين أني ثلاث سنين ليلا ونهارا, لم أفتر عن أن أنذر بدموع كل أحد (أع 20:31). نعم ينذر بدموع, وليس بعنف. ويقول أيضا في محبته للكل من يضعف وأنا لا أضعف؟! من يعثر وأنا لا ألتهب؟! (2كو 11:29).
نعم أن الرب أعد تلاميذه بالحب لكي يخدموا والذين كانوا عنفاء منهم, غيرهم إلي محبين.
نذكر مثالا آخر غير شاول الطرسوسي هو يعقوب ويوحنا, اللذين سماهما الرب بوانرجس أي أبني الرعد (مر 3:17). وقد كانا عنيفين في بادئ الأمر قبل أن يدربهما المسيح علي المحبة..
حدث مرة أن الرب لم تقبله قرية للسامريين. فلما رأي ذلك تلميذاه يعقوب ويوحنا, قالا: يارب, أتريد أن تقول أن تنزل نار من السماء فتفنيهم كما فعل إيليا أيضا.. فانتهرهما الرب وقال: لستما تعلمان من أي روح أنتما.. لأن ابن الإنسان لم يأت ليهلك أنفس الناس, بل ليخلص (لو 9: 52-56).
وإذا بيوحنا الذي قال تلك العبارة العنيفة, يتحول إلي يوحنا الحبيب أكثر تلميذ تكلم عن المحبة:
يكفي أنه هو الذي قال: الله محبة. من يثبت في المحبة, يثبت في الله, والله فيه (1يو 4:16). ويحكي التاريخ قصصا عجيبة عن محبته.
إن الله المحب, يريد أن يكون خدامه علي نفس صورته في الحب, وبنفس أسلوبه في الحب.. والذي لا تسكنه المحبة لا يصلح أن يكون خادما للرب..
|