في ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة
(غلا 4: 4)
ملء الزمان:
تعبيرٌ غريبٌ على آذان الإنسان وعقله. حسب الأصل اليوناني، ورد عدة مرات في العهد الجديد. على فم الرب نفسه حين قال: “قد كمل الزمان” (مرقس 2: 5). إنه زمان قد “سبق وأنبأ به الأنبياء” (أع 3: 18)، وهو زمان الوعد الذي “حضر يوم الخمسين” (أع 2: 1)، وهو زمان تحقيق المواعيد: “لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل: هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا” (متى 1: 22-23). وهو زمان ما يحدث من أحداث سبق الأنبياء فأخبروا بها.
وتحقيق النبوات حسب التعليم الرسولي في إنجيل متى بالذات (2: 15 و17 و23 – 3: 15 – 4: 14 – 5: 17 – 8: 17 – 12: 17 – 13: 35 – 35 – 21: 4 – 27: 9)، لا يعني حسب الفهم الشائع أن الاحداث تتم حسب النبوة، ليس هذا هو المقصود؛ لأن النبوة لم تصنع الحدث –هذا مذهب القدريين– بل جاءت كل النبوات سابقة للأحداث كلها، فصارت الأحداث هي التي تشرح النبوة وتؤكد تمامها.
النبوة رؤية سابقة للزمان وللأشخاص. والحبل البتولي جاء ببشارة وبعطاء الآب، سبق وأخبر عنه أشعياء، ولم يكن في النبوة عن الحبل البتولي تحديدٌ ليومٍ أو سنةٍ أو حتى اسم القديسة مريم، لكن لما جاءت البشارة، ظهر معنى النبوة.
لعل أفضل مثل على ذلك، هو طرد الباعة من الهيكل (يوحنا 2: 12-17)، فبعدما طرد الرب الباعة “تذكر تلاميذه أنه مكتوب غيرة بيتك أكلتني” (2: 17). ولم يركب الرب الجحش لكي تتم النبوة. لم تكن النبوة استعراضاً يتم، بل سبق النبي فرأى ذلك الدخول، وأخبر عنه، وظهر معنى النبوة بالحدث. ثم ليس حسب “القضاء والقدر”، بل حسب ما هو أعظم من القضاء والقدر، وهو “التدبير” الذي سبق خلق العالم (أفسس 1: 4).
هذا التدبير سابقٌ على خلق الزمان؛ لأن خلق الزمان مرتبط بخلق الكون وخلق الشمس والأرض. ومن الخطأ أن نظن أن الأيام “حُبلى بالأحداث”، بل الأحداث هي التي تلد الزمان والأيام.
يبقى أن نتذكر أن كلمة ملء = كمال = تحقيق.
لذلك يقول الرسول: “لتدبير كمال أو ملء الأزمنة”. الأزمنة تأتي إلى موعد، وهو يحين حين “يجمع (الآب) كل شيء في المسيح ما في السموات وما على الأرض” (أفسس 1: 10-11). فالحركة والعمل الإلهي المستعلَن في الزمان هو الذي يحرك الزمان، ولم تكن حركة الزمان بما فيه من أحداث، هي القوة المحركة، فلم يكن الرب يسوع ضحية الأيام والظروف والمناسبات حسب فكر “القدريين”، بل هو “الكائن على الكل الإله المبارك” (رو 9: 5)، هو الذي يعمل، وهو الذي يحرك الأحداث. وقد رأى الأنبياء هذا، وكُتبت النبوات في سطور قليلة جداً، بل من الوقائع المدهشة في قراءة الرب يسوع لنبوة أشعياء (61: 1-2)، أنه لم يقرأ عبارة النبي التي وردت بعد “لأنادي بسنة الرب المقبولة”، أي سنة اليوبيل التي يتم فيها إطلاق سراح الأسرى ونهاية كل الديون، ولكن الرب قصد أن يترك العبارة التي بعدها، والمتصلة بواو العطف: “وبيوم انتقام لإلهنا” (أش 63: 2)، ذلك لأنه لم يأت للإنتقام، بل للخلاص.
أرسل الله ابنه:
“الزمان الحاضر” (رو 3: 26)، هو الزمان الذي استُعلِن فيه الابن “ربٌّ واحد يسوع المسيح الذي به جميع الأشياء ونحن به” (1كو 8: 6)، في هذا الزمان الحاضر حدث ما يفوق كل تصور العقل عن المحبة.
جاء إلينا البِكر – خالق كل الأشياء في السموات وعلى الأرض.
الذي “الكل”، أي كل الخليقة “به”، والأهم “وله قد خلق الكل”؛ لأن الكل لأجله باقٍ.
فهو قبل كل الأشياء كإلهٍ
“وفيه يقوم الكل”، أي يبقى في الوجود (كولوسي 1: 15-17).
ثم توقفت حركة الزمان؛ “لأن فيه سُرَّ أن يحل كل الملء” (كولوسي 1: 19). لم يعد استعلان الله، حسبَ أزمنةٍ مثل الفصح أو المظال أو سائر الأعياد، ولذلك لما جاء “ملء الزمان”، واتحد اللاهوت بالناسوت، عَجَزَ الزمانُ عن أن يكون وسيطاً فاعلاً في هذا الاستعلان كما كان في العهد القديم.
لذلك السبب، بعد البشارة، يكاد الرسول يصرخ: “أتحفظون أياماً وشهوراً وأوقاتاً وسنين. أخاف عليكم أن أكون قد تعبت فيكم عبثاً” (غلا 4: 10). تلك هي “الأركان الضعيفة الفقيرة” حسب الترجمة البيروتية، أو تلك هي (المبادئ التي قامت عليها العبادة الزمانية)؛ لأن Τα στοιχεια هي Basic Principles وهي شريعة موسى التي وُصِفَت باسم “أركان العالم”، التي كانت أساس الاستعباد (غلا 4: 3) والسؤال الذي أثاره الرسول: “كيف ترجعون؟” إلى هذه الأركان، هو سؤالٌ استنكاري؛ لأن التحول الإيماني والحياتي الذي يتكلم عنه الرسول هنا (راجع مثلاً أفسس 1: 9 – لوقا 1: 16 – أعمال 3: 19)، أصبح هو الردة (2بطرس 2: 21-22) إلى الوراء.
جاء الابن مولوداً تحت الشريعة:
لو توقف الرسول عند هذه العبارة؛ لعادت الكنيسة إلى المجمع اليهودي، ولكن هكذا يجب أن نُسمع هؤلاء المقيمون في “برية السلفية” صوت الرسول الصارخ: “ليفتدي الذين تحت الشريعة. لننال التبني” (غلا 4: 5)، وليكن معلوماً أن:
فداءُ العبيد، لا يُعيد العبيد إلى مجتمع العبيد؛ لأن الكنيسة “جسد المسيح”، جسد الحر والفادي، والذي حرية يسوع تسري في كل أعضائه (1كو 12: 11-12).
لم يكن الفداءُ قاصراً على محو الخطايا، حسب التعليم الشائع، بل هو عطية التبني، تلك التي تجعل كل من نال هذه العطية يقول بالروح القدس: “أبَّا أيها الآب”؛ “لأنه بما أنكم أبناء أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخاً (صرخة الروح فينا ومعنا) يا أبَّا الآب”، فقد سقطت كل القيود، ولذلك يكمِّل الرسول: “إذاً لست بعد عبداً بل ابناً”.
حرية البنين:
من الصعب أن نَصِفَ الحريةَ للعبيد؛ لأن العبد يظن أن الحرية انفلاتٌ، وأن الوصايا قيودٌ، رغم أن كلمة “الوصية” هي أقرب ترجمة للكلمة العبرانية מצזאה لأن الوصية ليست هي الأمر Commandment بل الفهم والحكمة التي تؤدي إلى الحياة. فنحن لا زلنا نقول -حتى في العامية المصرية- إن الوصية = نصيحة حكمة = طريق حياة وسلامة. هكذا ما يجده الحر في مزمور 119 عن الشريعة أو الوصايا “المصباح للرجلين” ومحبة الوصية في هذا المزمور بالذات هي محبة الحياة.
* إن حرية البنين لها أساس واحد، وهو اتحاد اللاهوت بالإنسانية التي أخذها المخلِّص من أم النور القديسة مريم، ولذلك، الأناشيد التي تقال في شهر كيهك، تسبِّح نعمة الله الغنية التي تفوق الإدراك، وعلى هذا الأساس:
جاءت حرية الصلاة إلى أبَّا abba أيها الآب.
لم يعد لنا مواسم للصلاة ومواعيد لا تجوز الصلاة فيها إلَّا حسب التوقيت.
فتح لنا التجسد ينبوع الحياة الإلهية، فصرنا نأخذ منه في السرائر كل ما حدث في التدبير: الولادة من الروح القدس والماء (المعمودية) – مسحة الروح القدس (الميرون) – إبادة الموت وعربون الحياة (الإفخارستيا) – شركة في ميراث الملكوت (الإفخارستيا).
الإيمان بالمتجسد ودونية الإنسان:
يظل تجسد الله الكلمة أكبر تحدٍّ لكل ما ورثته الإنسانية من أفكار ومعتقدات عن دونية الإنسان. الأمثلة كثيرة: تحول الشخص إلى شيء في آلة انتاج، وحتى في الكنيسة يمكن أن يتحول الشخص إلى شيء، إذا غابت المحبة وساد التسلط وحلَّت الشريعة محل النعمة.
ولذلك، ليعلم الذين فرضوا أحكام الشريعة القديمة على أعضاء جسد المسيح من النساء بشكل خاص، أنهم لا يدركون أنهم وضعوا المسيح نفسه تحت ذات القيود. عندما قال الرب لشاول مضطهد الكنيسة: “لماذا تضطهدني؟” كان يعني أن الاضطهاد يمسَّه هو شخصياً؛ لأنه يمس جسده: “أما أنتم فجسد المسيح وأعضاؤه أفراداً” (1كو 12: 27).
نحتاج إلى ترجمة جديدة إلى لغة عربية رصينة لرسائل القديس بولس الى: رومية – غلاطية – كولوسي – عبرانيين، فقد غاب من الوعي الفصل الدقيق بين العهد الأول القديم والعهد الجديد الأبدي. العهد القديم، أو الأول لا زال يضع البرقع على وجوه كثيرين لكي لا يروا مجد المسيح. مع أن مجد موسى زائل (1كو 3: 12)، ولكن يبدو أن الرسول بولس كان يكتب نبوةً عندما كتب: “أُغلظت أذهانهم لأنه حتى اليوم – (يوم بقاء شريعة تطهيرات الجسد) – ذلك البرقع ذاته عند قراءة العهد القديم باق غير منكشف. وهنا يشدد الرسول: “الذي يبطل في المسيح” (2كو 3: 14-15). وعندما لا يأخذ المجمع المقدس للكنيسة القبطية قراراً يعلن فيه أن النساء أطهارٌ بسبب سكنى الروح القدس، يتم قول الرسول: “لأنه حتى اليوم حين يقرأ موسى، البرقع موضوع على قلوبهم. ولكن عندما يرجع إلى الرب يرفع البرقع” (2كو 3: 15). على أن من يرفع ذلك البرقع هو الروح “روح الرب”، فإذا كان الروح، الأقنوم الثالث قد تحول عندهم إلى مواهب وقوة و…. الخ؛ لذا يتعذَّرُ علينا أن نتغير إلى صورة مجد المسيح.
عندما تصبح الشريعة هي سقف الكنيسة، فإن دونية الإنسان تصبح هي قاعدة التعامل غير عابئين بأن السبت جُعِلَ للإنسان، ولكن عندما يصبح الإنسان مخلوقاً لأجل السبت، فإن الخدمة تصبح عبادة، والصلوات والأصوام لم تعد وسيلة، بل هدفاً.
وحتى قراءة الكتاب المقدس، لا تفلت من هذا الطوق؛ لأن
الابن يقرأ عن المحبة والشركة والنعمة وعمل الروح القدس، أما العبد، فإنه يبحث عن الدينونة وغضب الله وجهنم النار.
الابن يرى الدينونة ويفرح بالخلاص، أما العبد فيراها ويرتعب؛ لأنه لم ينل “روح الرب”.
الابن يعرف أن غضب الله هو رفض الله للشر، وعدم قبوله له، أما العبد فيظن أنه هو محور غضب الله.
جهنم هي مصير الأشرار، ولكن من صار واحداً مع المسيح، لا يفكر في جهنم، بل يفكر في الميراث الأبدي.
وعندما نقول نحن نحتاج إلى ترجمة عربية جديدة تكشف لنا عن المعاني الحقيقية في الكتاب المقدس، فالأمر لا يقتصر على الكتاب المقدس وحده، بل يمتد ليشمل الليتورجية أيضاً، فالقطعة الليتورجية الرائعة التي تجيء في نهاية القداس الباسيلي: “قُدنا إلى ملكوتك، أو اعطنا طريقاً لدخول الملكوت – “، والمقصود هنا اتحادنا معه في الإفخارستيا، تُرجمت بروح الشريعة إلى: “اهدنا إلى ملكوتك”، فأطاحت “الهداية” بالمعنى الفخم من وراء كلمات التقوى الليتورجية. أما “بروح يسوع”، فنحن في مجد الملكوت، ولا نحتاج إلى هداية؛ لأننا ورثة الملكوت والنعمة التي نحن مقيمون فيها (رو 5: 2). كل عام وأنتم بخير، الكنيسة كلها، والوطن كله، سائلين الخير والتقدم والسلام لمصر، ولأم الشهداء.