مثل عُمَّال الكرم
نصُّ الإنجيل
مَثَلُ ملكوتِ السَمواتِ كَمَثَلِ ربِّ بيتٍ خَرَجَ عِندَ الفَجرِ ليستأْجِرَ عَمَلَةً لِكَرْمِه . فاتَّفَقَ معَ العَمَلَةِ على دينارٍ في اليومِ وأَرسَلَهُم إلى كَرْمِه . ثُمَّ خَرَجَ نَحْوَ الساعةِ التاسِعَةِ فرأَى عَمَلَةً آخرينَ قائِمينَ في الساحةِ بطَّالينَ .
فقالَ لَهُم : " اذهبوا أَنتُم أَيضاً إلى كَرْمي , وسأُعطيكُم ما يحِقُّ لكُم." فذهبوا . وخَرَجَ أَيضاً نحوَ الظُهرِ ثُمَّ نحوَ الثالثةِ بعدَ الظُهرِ , ففَعَلَ مِثلَ ذلِكَ . وخرَجَ نَحوَ الخامِسَةِ بعدَ الظُهرِ , فلقِيَ أُناساً آخرينَ قائميَن هُناك .
فقالَ لهُم : " ما لَكُم قائمينَ هَهُنا طَوالَ النهارِ بطَّالينَ ؟ " فقالوا لَـهُ : " لمْ يستأجِرْنا أَحَد ." قالَ لهُم : " اذهبوا أَنتُم أَيضاً إلى كرمي ." ولمَّا جاءَ المساءُ قالَ صاحِبُ الكَرْمِ لِوكيلهِ : " أُدعُ العَمَلَةَ وادفعْ لهُم الأُجرةَ مُبتدِئاً بالآخِرين مُنتَهياً بالأَوَّلين ."
فجاءَ أَصحابُ الساعَةِ الخامِسَةِ بعدَ الظُهر وأَخَذَ كُلٌّ مِنهُم ديناراً . ثُمَّ جاءَ الأَوَّلونَ فظنُّوا أَنَّهُم سيأْخُذونَ أَكثَرَ مِنْ هؤلاءِ . فأَخَذَ كُلٌّ مِنهُم أَيضاً ديناراً. وكانوا يأَخذونَهُ ويقولونَ متذمِّرين على ربِّ البيتِ : " هؤلاءِ الذين أَتَوا آخِراً لم يعمَلوا غيرَ ساعةٍ واحِدةٍ , فساويتَهُم بنا نحن الذين احتملْنا عِبءَ النهارِ وحرَّهُ ." فأَجابَ واحِداً مِنهُم :
" يا صديقي ما ظَلَمتُكَ. أَلَمْ أَتَّفق معَكَ على دينار ؟ خُذْ مالَكَ وانصرِفْ . فهذا الذي أَتى آخِراً أُريدُ أَنْ أُعطيَهُ مِثلَكَ . أَفما يحِقُّ لي أَنْ أَتصرَّف بمالي كما أَشاء ؟ أَمْ عينُكَ حَسودٌ لأَنِّي كريم ؟ " (متى 20/1-15).
الفكرة الأساسيَّة الواردة في هذا المثل
إنَّ الفكرة الأساسيَّة الواردة في هذا المثل هي أنَّ الله يدعو جميع المسيحيين إلى أن يكونوا عُمَّالاً في كنيسته, ولا يستثني أحداً منهم. وهذا ما أشار إليه المثل عندما ذكر أنَّ صاحب الكرْم خرج عدَّة مرَّات ليبحث عن العمَّال.
وكما أنَّ صاحب الكرْم كافأ عمَّاله فكذلك يُكافئُ الله كُلَّ من يُلبِّي دعوته ويعمل في كنيسته. وتكون المكافأة لا على قَدْرِ الإنتاج الذي يحقِّقه المسيحي, بل على قَدْرِ طاعته له تعالى وثقته بكلامه. وإليكم إيضاح هذه الفكرة.
الكرْم هو الكنيسة التي أسَّسها يسوع
تحدَّث يسوع في مطلع المثل عن ملكوت الله. إنَّ ملكوت الله يعني في هذا المثل الكنيسةَ التي أسَّسها يسوع .
إنَّ الكنيسة تحتاج إلى عُمَّالٍ كثيرين لكي تنتشر في العالم, وتتوطَّد بين الشعوب, وتنقل إليهم الإيمان القويم بألوهيَّة السيّد المسيح وعمله الفدائي, وتعلِّمهم ممارسة الفضائل الإلهيَّة, وأسماها المحبَّة لله وللآخرين, وتقوِّي في قلوبهم التمسُّك بالأخلاق الصالحة وحفظ وصايا الله بدقَّة.
ولذلك فإنَّ كُلَّ مسيحي مدعوّ إلى أن يكون عاملاً في كنيسة الله ليجعلها تنمو وتزدهر وتأتي بثمارٍ طيِّبة.
العمَّال في كرْم الكنيسة ومواقيت دعوتهم إلى العمل
إنَّ العمَّال المدعوِّين إلى أن يعملوا في كرْم الكنيسة هم جميع أفراد الشعب المسيحي. فهم الكهنة والرهبان والراهبات والمُرسَلون والمرسلات والعلمانيُّون والعلمانيّات الأتقياء الذين يُجاهدون في المؤسَّسات والمنظَّمات والأخويَّات الكنَسيَّة.
فمنهم من يدعوهم الله إلى العمل في كنيسته وهم في مطلع حياتهم, فيعملون فيها طَوال الحياة, ومنهم من يدعوهم وقد بلغوا سنَّ الشباب فيعملون فيها سنواتٍ طِوالاً, ومنهم من يدعوهم وقد تخطَّوا الأربعين, أو جاوزوا الستِّين, أو أضحوا شيوخاً فيعملون فيها بضْعَ سنوات أو في السنوات الأخيرة من أعمارهم. إنَّهم على مثال العمَّال الذين جاؤوا للعمل في الكرْم منذ الفجر أو عِنْدَ الضحى أو عندَ الظهر أو عندَ العصر أو قُبيل الغروب.
مكافأة عمَّال الكرْم
إنَّ الله يُكافئ كُلَّ مسيحي يُلبِّي دعوته ويعمل في كنيسته. ولكنَّه لا يتصرَّف مع المسيحيين كما يتصرَّف ربُّ العمل مع العمَّال الذين يعملون في معمله.
إنَّ ربَّ العمل يُحاسب عُمَّاله على قدْرِ إنتاجهم. فمن أنتج كثيراً نال أُجرةً أوفر. فالمقياس البشري لتحديد مقدار الأُجرة المستحقَّة هو مقدار الإنتاج الذي يُقدِّمه العامل لربِّ العمل.
لا شكَّ في أنَّ القوانين الاجتماعيَّة السائدة اليوم في كثيرٍ من بلدان العالم تأخذ بعين الاعتبار حاجة العمَّال المتزوِّجين, فتأمر ربَّ العمل بدفع علاوةٍ ماليَّةٍ خاصَّة. إلاَّ أنَّ المقياس الأساسي لتحديد الأجرة يبقى دوماً مقدار الإنتاج الذي يحقِّقه العامل.
إنَّ الله لا يتصرَّف على هذا النحو مع المسيحيين الذين يعملون في كنيسته. فهو لا يحتاج إلى كميَّة الإنتاج. إنَّه الإله الغنيُّ القدير, ولا حدود لغِناه وقدرته.
إنَّ مقياس المكافأة عِندَه هو طاعة المسيحيين لإرادته تعالى وثقتهم بكلامه. إنَّ العمَّال الذين كانوا بطَّالين في الساحة حتى قُبيلِ الغروب نالوا مكافأةً كريمة لم يكونوا يتوقَّعونها لأنَّهم وثِقوا بربِّ العمل, وأطاعوا كلمته, ولبَّوا دعوته فوراً, ولم يُناقشوه في مِقدار الأجرة.
كَرَمُ ربِّ الكرْم وعَدلُه
لقد ظهر ربُّ الكرْمِ عند محاسبة عُمَّاله أنَّه إنسانٌ كريمٌ وعادلٌ على السواء.
1- فقد تبيَّن كرَمه عندما أعطى ديناراً لكُلٍّ من العمَّال الذين لم يعملوا في كرْمه إلاَّ بضْعَ ساعاتٍ فقط. هكذا يُكافئ الله المسيحي المكافأة السنيَّة عندما يسمع نداءه تعالى ويلبِّي دعوته فوراً من دون تأخيرٍ أو جدال.
2- وقد تبيَّن عدل ربِّ الكرْم أيضاً عندما دفع ديناراً لمن عملوا النهارَ كلَّه في كرْمه بموجب الاتفاق الذي عقده معهم, كما ردَّ بحزمٍ على تذمُّر كُلِّ حسودٍ احتجَّ على كرَمِه. وهكذا فإنَّ الله الإله الكريم هو عادِلٌ أيضاً, ولا يحرم أحداً مكافأة تعبه.
3- غير أنَّه وهو السيِّد المُطلق لا يرضى بأن تتطاول عليه خليقته وتناقشه الحساب فيما يُقرِّر أو يفعل. كما أنَّه لا يرضى بأن يحسُد الناس بعضُهم بعضاً بسبب كرَمِه. قال لواحدٍ من الذين احتجُّوا عليه: " أَما يجوزُ لي أَنْ أَتَصرَّفَ بمالي كما أَشاء ؟ أَمْ أَنتَ حَسودٌ لأَنِّي أَنا كريم ؟"
واجب طاعة المسيحيين لله وثقتهم به
نستنتج من ذلك أنَّه يجب على المسيحيين أن يلبُّوا دعوة الله بطاعةٍ كاملة, ويثقوا بكرَمه الفيَّاض, ويتخلَّوا عن حساباتهم الضيِّقة التي تؤدِّي بهم إلى الحسد. فالله يكافئ من يُطيعه ويثق به أفضل مكافأة في الملكوت السماوي لأنَّه الحُبُّ اللاَّ محدود.
التطبيق العملي
1- إنَّ لكَ كَكُلِّ إنسانٍ مسيحيِّ دعوةً للعملِ في الكنيسة. فهل فكَّرت في الدعوة الخاصَّة التي وجَّهها الله إليك؟ هل عرفتها؟ هل لبَّيت هذه الدعوة؟
2- إنَّ الروح القدس الساكن في قلبك يُكلِّمك في هدوء التأمُّل والصلاة, ويدعوك إلى أن تسمع صوته الإلهي وتُصغي إلى إلهاماته. فإذا سمعت صوته فلا تُقسِّ قلبك, بل أصغِ إليه لتعرف ما يطلبه منك وما يدعوك إليه لتعمله. إنَّ استسلامك إلى إلهامات الروح القدس يخطُّ لك الطريق الذي يجب أن تسلكه لكي تُنَفِّذ مطالب الدعوة التي يُحدِّثك عنها.
3- ومتى عرفت دعوتك للعمل في الكنيسة فلا تتردَّدْ أبداً, بل كُن شُجاعاً, ولا تُقِم أيَّ حِسابٍ مع الله, بل لبِّ الدعوة بجرأة وسرعة وثقة. فإنَّ الله إله كريم يُكافئك أكثر بكثير مِمَّا يستحقُّه عملك.
4- واعلمْ أنَّ العمل في الكنيسة واسعٌ جدَّاً. يكفيك أن تسمع صوت الروح القدس. فهو يدلُّك على العمل الذي يدعوك إليه لتمجِّد الله وتساند الكنيسة. فهناك الكهنوت, والرهبانيَّة, والإرساليَّات, والعمل المسيحي, والأخويَّات, وخدمة البؤساء.