|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
عظة البابا لمناسبة عيد انتقال السيدة العذراء
بقلم: بندكتس السادس عشر تحتفل الكنيسة اليوم بإحدى أهم أعياد السنة الليتورجية المكرسة لمريم الكلية القداسة: عيد الانتقال. في ختام حياتها الأرضية، انتقلت مريم بجسدها ونفسها إلى السماء، أي إلى مجد الحياة الأبدية، إلى ملء وكمال الشركة مع الله. يناسب هذا العام الذكرى الستين لإعلان البابا بيوس الثاني عشر هذه العقيدة، وأود أن أقرأ رغم أنها معقدة بعض الشيء صيغة إعلان العقيدة. يقول البابا: "بهذا الشكل إن أم الله المعظمة، المتحدة بشكل سماوي بيسوع المسيح منذ الأزل وباختيار مسبق مماثل للحبل بها بلا دنس، ولعذريتها في أمومتها الإلهية، ولاتحادها السخي في عمل الفادي الإلهي الذي حمل النصر على الخطيئة ونتائجها، نالت في الختام، كتتويج سامٍ لامتيازاتها أن تُحفظ من فساد القبر، وبعد الغلبة على الموت ارتفعت نفسًا وجسدًا إلى مجد السماوات، حيث تشع ملكة عن يمين ابنها، ملك الدهور الذي لا يموت" (Cost. ap.Munificentissimus Deus, AAS 42 (1950), 768-769). هذا هو كنه إيماننا بانتقال العذراء: نحن نؤمن أن مريم، مثل المسيح ابنها، قد تغلبت على الموت وهي منتصرة في المجد السماوي في كلية كيانها، "نفسًا وجسدًا". يساعدنا القديس بولس في القراءة الثانية اليوم أن نلقي بعض النور على هذا السر انطلاقًا من واقع محوري في تاريخنا البشري وفي إيماننا: أي واقع قيامة المسيح الذي هو "بكر المائتين". إذ نغوص في سره الفصحي، نضحي شركاء في انتصاره على الخطيئة وعلى الموت. وهنا السر المدهش ومفتاح الواقع البشري بأسره. يقول لنا القديس بولس أننا جميعًا متحدون في آدم، الإنسان الأول والعتيق، ولنا جميعًا الإرث البشري الواحد: الألم، الموت، الخطيئة. ولكن إلى جانب هذا الواقع الذي يمكننا أن نراه وأن نعيشه كل يوم، يضيف بولس أمرًا جديدًا: نحن لسنا فقط ورثة هذا الكيان البشري الذي بدأ مع آدم، بل نحن منخرطون أيضًا في الإنسان الجديد، في المسيح القائم، وعليه فإن حياة القيامة حاضرة فينا منذ الآن. الانخراط الأول هو انخراط في الموت، انخراط يولد الموت. الانخراط الثاني، الجديد، المعطى لنا في المعمودية، هو انخراط يهب الحياة. استشهد من جديد بالقراءة الثانية. يقول القديس بولس: "عن يد إنسان أتى الموت فعن يد إنسان أيضا تكون قيامة الأموات، وكما يموت جميع الناس في آدم فكذلك سيحيون جميعا في المسيح، كل واحد ورتبته. فالبكر أولا وهو المسيح، ثم الذين يكونون خاصة المسيح عند مجيئه. ثم يكون المنتهى حين يسلم الملك إلى الله الآب بعد أن يكون قد أباد كل رئاسة وسلطان وقوة" (1 كور 15، 21 - 24) ما يقوله بولس الرسول عن كل البشر، تقوله الكنيسة في تعليمها المعصوم عن مريم، بشكل أكثر دقة: تندرج أم الله في سر المسيح بشكل عميق لدرجة أنها تضحي شريكة في قيامة ابنها بكل كيانها، انطلاقًا من ختام حياتها الأرضية؛ تعيش ما ننتظره نحن في نهاية الأزمنة عندما سيهزم "العدو الأخير"، الموت (راجع 1 كور 15، 26)؛ تعيش مريم في ما نتلوه في قانون الإيمان "نترجى قيامة الموت والحياة في الدهر العتيد". وعليه، يمكننا أن نتساءل: ما هي جذور هذا الانتصار على الموت الذي نرى استباقه في مريم؟ الجذور تقوم في إيمان عذراء الناصرة، كما يشهد نص الإنجيل الذي سمعناه (لو 1، 39 - 56): إيمان هو طاعة لكلمة الله واستسلام كامل للمبادرة والعمل الإلهيين، بحسب ما يعلن رئيس الملائكة. الإيمان، إذًا، هو عظمة مريم، كما أعلنت بفرح أليصابات: مريم هي "مباركة بين النساء"، و "مباركة ثمرة بطنها" لأنها "أم الرب"، ولأنها تؤمن وتعيش بشكل فريد التطويبة الأولى، تطويبة الإيمان. تعترف أليصابات بهذا الأمر بفرحها وبفرح الجنين الذي يرتكض في أحشائها: "طوبى للتي آمنت بأن سيتم ما قيل لها من قبل الرب" (الآية 45). أيها الأصدقاء الأعزاء! لا نكتفينّ بالاعجاب بمريم وبمصيرها، كما ولو كانت شخصًا بعيدًا جدًا عنا: لا! نحن مدعوون للنظر إلى ما أراده الرب بحبه لنا أيضًا، لمصيرنا النهائي: أن نعيش في الإيمان في شركة كاملة بالحب معه، فنعيش بهذا الشكل حقًا. في هذا المجال، أود أن أتوقف على بعد من أبعاد الصيغة العقائدية، حيث يجري الكلام عن الانتقال إلى المجد السماوي. ندرك جميعًا اليوم أننا بالحديث عن السماء لا نشير إلى موضع ما في الكون، إلى نجمة أو إلى ما شابه ذلك: كلا. نحن نشير إلى واقع أسمى بكثير يصعب وصفه من خلال مفاهيمنا البشرية المحدودة. من خلال تعبير "السماء" نريد أن ندل إلى الله، إلى الله الذي صار قريبًا منا والذي لا يتخلى عنا ولا حتى بعد الموت، بل هو يحفظ لنا مكانًا لديه ويهبنا الحياة الأبدية؛ نريد أن نقول أن في الله مكان لنا. لكي نفهم بشكل أفضل هذا الواقع، فلننظر إلى حياتنا عينها: نحن جميعنا نختبر كيف أن الشخص البشري، عندما يموت، يستمر في البقاء بشكل ما في ذاكرة وقلب الذين عرفوه وأحبوه. يمكننا أن نقول أن جزءًا من هذا الشخص يستمر في البقاء، ولكنه كـ "ظل" لأن بقاءه في قلب أحبائه سينتهي. أما الله فلا يزول أبدًا ونحن جميعًا موجودون بقوة حبه. نحن موجودون لأنه يحبنا، لأنه فكر بنا ودعانا إلى الحياة. نعيش في فكر وحب الله. نحن موجودون بكل واقعنا، ليس فقط كظل. إن هناءنا ورجاءنا وسلامنا يرتكزون على هذا الأمر بالتحديد: على الله، على فكره وعلى حبه. لن يبقى منا مجرد "ظل" ذواتنا"، بل فيه وفي حبه الخلاق، نحن محفوظون ونلج بكل حياتنا، بكل كياننا في الأبدية. إن حبه هو الذي يغلب الموت ويهبنا الحياة الأبدية، وهذا الحب هو الذي نسميه "سماء": الله هو كبير لدرجة أن هناك مكان عنده لنا أيضًا. والإنسان يسوع، الذي هو في الوقت عينه الله، هو بالنسبة لنا ضمانة أن الإنسان والله يستطيعان أن يتواجدا سوية وأن يعيشا أبدًا الواحد في الآخر. هذا يعني أن كل منا لن يستمر في الوجود في جزء من ذاته، إذا جاز التعبير، منسلخًا عن باقي كيانه الذي يلبس الفساد؛ بل يعني بالحري أن الله يعرف ويحب كل الإنسان، كل ما نحن عليه. والله يقبل في أبديته ما يكون الآن وجودنا من ألم وحب، رجاء فرح وحزن، وما ستضحيه هذه الوقائع. كل الإنسان، كل حياته، يأخذها الله على عاتقه ويطهرها ويدخلها في الحياة الأبدية. أيها الأصدقاء الأعزاء، أنا أعتقد أن هذا الأمر هو حقيقة يجب عليها أن تملأنا فرحًا عميقًا. المسيحية لا تعلن فقط خلاصًا ما للنفس في موضع مستقبلي مجهول، حيث يزول هذا العالم الذي كان عزيزًا علينا؛ بل تعد بالحياة الأبدية، "حياة العالم العتيد": ما من شيء مما كان عزيزًا علينا سيفسد، بل سيجد ملئه في الله. قال الرب يومًا أن شعر رؤوسنا نفسه هو معدود (راجع مت 10، 30). العالم النهائي سيكون ملء واكتمال هذه الأرض، كما يقول القديس بولس: "الخليقة نفسها تئن لكي تتحرر من عبودية الفساد للدخول في حرية مجد أبناء الله" (روم 8، 21). ولذا نفهم كيف أن المسيحية تهب رجاءً قويًا في مستقبل نير وتفتح الدرب نحو تحقيق هذا المستقبل. نحن مدعوون كمسيحيين لكي نبني هذا العالم الجديد، لكي نعمل حتى يضحي يومًا عالم الله، عالم يتخطى كل ما نستطيع أن نبنيه بأنفسنا. في مريم المنتقلة إلى السماء، المشتركة بالتمام في قيامة ابنها، نتأمل تحقيق الخليقة البشرية بحسب "عالم الله". نصلي إلى الرب لكي يجعلنا نفهم ثمن حياتنا لديه؛ وأن يقوي إيماننا بالحياة الأبدية؛ وأن يجعلنا أبناء الرجاء، الذين يعملون من أجل بناء عالم منفتح على الله، رجالاً ممتلئين حبورًا، يعرفون أن يروا جمال عالم المستقبل في وسط أكدار الحياة اليومية، ويعيشون في هذه الثقة مؤمنين وراجين. آمين. |
|