مِذود القديس فرنسيس الأسيزي
الأب فراس لطفي الفرنسيسكاني
كيف اكتشف القديس فرنسيس فكرة المذود؟
سؤال يجيب عليه أحد المختصِّين في تاريخ العصور الوسطى بجامعة القديس أنطونيوس البادواني الحَبريّة في روما، الأب بييترو ميسَّا.
إذا أردنا معرفة الأحداث التي جرت في حياة القديس فرنسيس لا بدَّ من العودة إلى مصادر موثَّقة، وفي حالتنا هذه، إلى كتابات القديس نفسه، أو إلى الكتابات التي كتبها آخرون. وتعتبر الوثيقة التي كتبها توماس من تشيلانو،
بمناسبة إعلان قداسة فرنسيس عام 1228م، أي بعد مرور عامين على وفاته؛ هي الأقدم، يحدِّثنا فيها الكاتب عن فرنسيس في قرية كريتشو، المكان الذي جسَّد فيه فكرة المذود.
ولقد ورد في هذا النص أنه في عام 1223م أراد فرنسيس :" أن يتذكّر الطفل الذي ولد في بيت لحم،
كي يعيش بشكل حسّي المعاناة التي قاساها المولود الجديد (يسوع) في ظروف ينقصها كل ما هو ضروري؛ وكيف أنه وُضع في مذودٍ حقير ممدَّداً على التبن بين حمار وثور".
كان فرنسيس مدفوعاً بروحانيةٍ يمكن تسميتها "الواقعية المسيحية"، أي تلك النظرة التي تعطي الاحترام اللازم للجسد والتي تتعارض مع من يبالغ بإعلاء شأن الروح على حساب الجسد،
كتلك البدع التي كانت سائدة العصر آنذاك (الكاتاريين، على سبيل المثال الذين كانوا يؤمنون بأنّ الروح ينتمي إلى عالم القداسة، أما الجسد فإلى عالم الشرّ).
ولكي يحقِّق فرنسيس رغبته، طلب من رجلٍ في قرية كريتشو أن يُعيره مغارته مع الحمار والثور. وفي ليلة عيد الميلاد توافد سكان القرية إلى ذلك المكان بالشموع والمشاعل،
وأقيمت هناك ذبيحة القداس الإلهي. وتذكر المصادر التاريخية أن فرنسيس، بما أنه كان برتبة شماس إنجيليّ، قام بقراءة الإنجيل المقدس، ثمَّ "ألقى على الحاضرين عظة، تحدّث فيها بكلماتٍ رقيقةٍ عذبة مشيداً بالمولود الإلهي، الملك الفقير، وبمدينة بيت لحم الفقيرة".
لم يكن في مذود فرنسيس سوى الثور والحمار والمعلف. أما مريم ويوسف فلم يكونوا هناك.
وكأني به قصد أن يترك لنا المكان فارغاً لنملأه نحن بحضورنا. وكان الجمهور يشارك في القداس ويصغي لفرنسيس عظته عن يسوع طفل بيت لحم. لقد كان مذوداً "إفخارستياً" بامتياز!
ولكن، كيف تمّ الانتقال من ليلة الميلاد في قرية كريتشو سنة 1223م إلى المذود الذي نعرفه اليوم؟
كان لِما قام به فرنسيس في تلك الليلة صداه الكبير،
لدرجة أن كريتشو أصبحت ذات أهمية كبرى في تاريخ الفرنسيسكان. ولقد كتب توماس من تشيلانو: "أصبحت كريتشو وكأنها بيت لحم الجديدة".
وبسرعة كبيرة تمَّ بناء مصلّى صغير في ذلك المكان، حيث رُسمَت مشاهد ميلادية معبِّرة عن ذلك الحدث الفريد. وفي وقت قصير انتشرت عادة عمل المذود في كلّ مكان: يكفي على سبيل المثال لا الحصر، أن نذكر الهدية الرائعة (مجسَّم يمثّل المذود) التي قدمها أرنولفو دي كامبيو إلى البابا نيكولاو الرابع الفرنسيسكاني في أواخر القرن الثالث عشر،
لتوضع في كنيسة مريم الكبرى في روما، ويمكننا اليوم التأمل بروعة جمالها في متحف البازيليك نفسه. وقد قام أرنولفو دي كامبيو بعمل المذود في عام 1291م، في الحقبة التي لم يعد فيها تواجد يذكر للحضور اللاتيني الغربي في منطقة فلسطين، مع سقوط آخر حملة صليبية في المنطقة كان قد قادها جوفاني من عكّا. وبدأت تظهر، وبشكل بديهي وتلقائي، الحنين والرغبة عند الغرب في تجسيد ذكرى الأماكن المقدسة.
وفي عام 1581م تمّ للمرة الأولى وبشكل علني إعلان كريتشو على أنها أول مذودٍ في التاريخ، وكان ذلك على يد الفرنسيسكاني الإسباني خوان فرنسيسكو الذي كان يقطن دير آراشيلِّي في روما.
ولكن هل كان لهذا علاقة في اختراع فرنسيس لفكرة المذود ولقائه بالسلطان المُسلم الملك الكامل؟
لا نجد في المصادر الفرنسيسكانية صلة مباشرة بين الحدثين (أي مذود كريتشو وحدث لقاء فرنسيس بالملك الكامل)، لكن فرنسيس اختار عيش الحدثين اللذين يبدو وكأنهما في حالة من التناقض فيما بينهما: المذود الإفخارستيّ في كريتشو عام 1223م ولقائه مع السلطان الملك الكامل الذي كان الأخ الأكبر والخليفة للسلطان الشهير صلاح الدين الأيوبي.
وكما صار المذود اليوم رمزاً للهوية المسيحية، صار لقاء فرنسيس بالسلطان رمزاً للحوار (الأول من نوعه) بين الأديان.
ويمكننا القول أن المذود ولقاء قديس أسيزي بالسلطان، حدثان ينتميان إلى الخبرة المسيحية التي عاشها فرنسيس في حياته آنذاك. لقد عرف فرنسيس كيف يجمع بين الهوية والحوار بطريقة فريدة لا مثيل لها، تماماً كما علّم البابا الراحل يوحنا بولس الثاني؛ الرجل ذو الهوية الثابتة، وصاحب المبادرات الشجاعة في الحوار،
كتلك التي حملت اسم "روح أسيزي". وهذا ما اقترحه البابا الحالي بنديكتس السادس عشر أيضاً، بأسلوبه الخاص، في محاضرته في جامعة راتيسبون في ألمانيا، وخلال زيارته التاريخية إلى تركيا.
وأخيراً، كيف تقيّم، باعتبارك دارساً للتاريخ، الجدل الحالي (على الأخص في أوروبا) المذود والرموز الدينية الأخرى؟
وللإجابة على هذا السؤال، ينبغي علينا، قبل كلّ شيء، أن نعرف ونفهم واقع ماضينا وحاضرنا، بتعقيداته وتناقضاته، بعيداً عن الشعارات. إذ لا وجود لحوار بدون هوية، كما يشهد بذلك مثال فرنسيس الأسيزي. فإيمانه الذي جعله يحتفل بليلة الميلاد في مغارة كريتشو، هو نفسه الذي دفعه للقاء السلطان آنذاك.
إذن فالمشكلة تكمن اليوم في الجمع بين الهوية والحوار، تماماً كما فعل فرنسيس نفسه. ولم تكن صدفة، تلك التي دعت البابا الراحل يوحنا بولس الثاني لجعل أسيزي، مدينة القديس فرنسيس، مكان إشعاعٍ ونبوءة ترمز للمصالحة بين الهوية والحوار؛
لأن فيها عاش القديس فرنسيس خبرته المسيحية.
وخلاصة القول، أنّ ما يقترحه القديس فرنسيس اليوم هو "هوية سمحاء"، أو بعبارة أخرى إيماناً ناضجاً يمكنه أن يكون مضادّاً حيوياً لكل تعصّب يحاول تعميم الجزء على حساب الكلّ. ويكمن عامل التحدّي هنا في إيجاد نقاط علاّم تساعدنا على عيش كلّ ما قلناه سابقاً، ويمكن للمذود أن يكون وبحقٍ إحدى تلك العلامات النادرة.